Kenang-kenangan Goethe
تذكار جيتي
Genre-genre
إلا أن طلاب العودة إلى البساطة في ذلك الزمن كانوا مقلدين فلم يسلموا من غلطات التقليد التي لا محيص عنها؛ فكان الصواب الفني عندهم وقفا على الأقدمين فلا يصيب الشاعر ولا المصور ولا الموسيقي إلا على نمط واحد هو نمط أولئك الأقدمين، كأنما الصحة الفنية ضرب آخر من الصحة الحسابية كما قال بعض النقاد، فمسألة الحساب لا تصح إلا بجواب واحد وصورة الفنان كذلك لا تصح إلا على مثال واحد! ومن ثم جاءت القيود وكثرت الشروط، ولما أوشكوا أن يبرأوا من هذا الخطأ الجديد صدمتهم حرب «الثلاثين» في القرن السابع عشر فباءوا إلى فترة طويلة من الإعياء وضعف الثقة والركود.
خرجت البلاد الألمانية بعد حرب «الثلاثين» منهوكة العزم موهونة الرأي، فأقفرت المدن الحرة التي ظهرت فيها طلائع الاستقلال والنشاط، وخربت المزارع وكسدت التجارة، واشتد طغيان الأمراء كما يتفق أحيانا في أعقاب الحروب الطوال الجوائح، فانكسرت النفوس وفترت الهمم وران على الأمة شك وبيل في كل ما هو جرماني وكل ما هو بسبيل من الجرمانية، وراجت بينها محاكاة الأجانب ولا سيما الأمة الفرنسية التي كانت يومئذ في أوج عمرانها وبذخ سلطانها، وكان بلاطها قدوة الملوك والأمراء في الآداب والأزياء والسموت، فبطل الكلام بالألمانية في مجالس العلية والسروات حتى أصبحت الخطابة بها وصمة لا تليق بالرجل المهذب النبيل، وأضر هذا التقليد ضرره الذي لا ريب فيه ولكنه لم يخل من فائدة حسنة وتمهيد صالح؛ إذ كان الأدب الفرنسي في ذلك العصر حيا بمبتكراته ومنقولاته عن قدماء الإغريق، فانتفع به الألمان وكان له بينهم أثر حميد. ثم كثرت الترجمة من كل لغة لها أدب وكتابة حتى اللغات الشرقية، فنقلت مأثورات من لغات الإنجليز والأسبان والطليان، ونقلت مأثورات من العربية والفارسية والهندية، وكان لذلك كله أثره المنظور في توسيع النظر وتعديل المقاييس والآراء.
ثم تماسك الألمان وراجعتهم الثقة وبدرت بينهم بوادر الوحدة والعصبية، فكتبوا ونظموا في الأدب الرفيع باللغة الألمانية وتعلقوا بأساطيرهم القديمة وأقبلوا على جمعها واقتباسها، واشتط بعضهم فشنوا الغارة على كل أجنبي حديث! بل اجترأ بعضهم فلم يحفل بقيود الأدب القديم: تلك القيود التي كان لها السلطان النافذ قبل ذاك.
ويرجع الفضل في النهضة الألمانية الحديثة إلى أدباء كثيرين لا يسعنا ذكرهم في هذا المقام أجمعين، فحسبنا أن نذكر منهم من كان أقربهم إلى جيتي عهدا وصلة بالسمع أو بالعيان، وهم جوتشيد منقي التمثيل في ألمانيا من السخائف والكثافات، و«لسنغ» الداعية الموفق إلى أسلوب الإغريق وأسلوب الابتكار، وونكلمان مؤرخ الفن القديم بوحي من روح العلم وروح الأدب، و«فيلاند» مطلق الخيال الألماني ومسدد خطاه ونافحه بحرارة الجنوب، و«كلوبستك» ملتون الألمان، وهردر الذي نهج بجيتي على النهج القويم في فهم اليونان وشكسبير والعودة إلى مآثر التيوتون، وكلهم سابقون لجيتي في الميلاد بزمن قصير.
على أن المدرسة أو الطريقة التي لا يحسن بنا أن ننساها في هذا المقام هي المدرسة التي عرفت باسم الزوبعة وراجت في إبان نشأة جيتي أيما رواج، سميت باسم رواية تمثيلية للأديب «كلنجر»، ودلت تسميتها هذه على حقيقة ما ترمي إليه؛ فهي مدرسة جامحة لا تذعن لقيد قديم ولا حديث، ورواية «جوتز» التي ألفها جيتي في شبابه هي إحدى ثمار هذه المدرسة بغير خلاف. •••
هذه لمحة عاجلة - بل عاجلة جدا - عن تاريخ الحرية الفنية في الأمة الألمانية إلى عهد جيتي؛ وهي بمثابة تصوير اتجاه النهر دون تصوير فروعه وقنواته ومدنه، وربما حدث في مجاري الأنهار أن يتفرع عليها الجدول فيسبقها إلى الأمام أو يكر راجعا إلى الوراء، فبينما النهر الأصيل متجه إلى الشمال إذا بفرعه الكبير أو الصغير يتجه إلى الجنوب.
وهذا الذي حدث في نهر الآداب الألمانية من بداية ينبوعه، فبقيت فروع منه في وادي المجاز حين تدفق مجراه إلى وادي الصراحة، وقامت مدائن منه على فرعين: أحدهما مجازي وثانيهما صريح! وما من أسلوب إلا رجع مرة بعد مرة على تفاوت في القوة والغزارة، فظهرت المجازية في عهد جيتي بليغة الرسالة أحيانا عزيزة الأنصار، وجاءت في هذه المرة تحوم حول الكنيسة وتنادي بأن الفن لم يزهر قط بمعزل عن كفالة الدين، ويرجع غير ذلك الأسلوب في ذلك العهد الحافل بالنقائض والبدوات، إلا أن شيئا واحدا تقوله في جميع هذه الأحوال وأنت على ثقة من الصواب، وهو أن الأغاني والأساطير القومية وأحاديث الأبطال الغابرين كانت تصاحب النهر أبدا في كل مجرى وكل قناة، وشيئا آخر تقوله أيضا وأنت على ثقة من الصواب: وهو أن جيتي كان سليل هذه العناصر جميعها؛ ففيه مشابه بارزة أو غير بارزة من قديمها وحديثها: يشبهها شبه الابن بآبائه وأجداده لا شبه المحاكي المفتون بمن يحاكيه، وفرق بين الشبهين جد بعيد، فإذا جاء الولد على آسال آبائه وأجداده فأنت لا تقول عنه إنه يحاكيهم ويتعمد مشابهتهم، بل ربما جاز لك أن تقول إنهم ينتسبون إليه كما تقول إنه ينتسب إليهم. •••
وبعد فمن تمام الكلام في هذا السياق أن نعرض لحالة القصة والتمثيل قبل أيام جيتي بلمحة أخرى؛ لأنه ساهم في القصص وأصلح في التمثيل غير قليل وألف للمسرح واشتغل زمنا بإدارته.
فأما القصة فقد كتب فيها بعض الأدباء النابهين كتابة لا بأس بها بعد حرب الثلاثين، واتخذ لها من الفروسية العارمة المقتحمة موضوعا يناسب القلاقل والمخاطر التي كانت فاشية في تلك الأيام، ثم ركدت فترة ريثما استوعبت الأذهان القصص المنقولة عن اللغات الأجنبية من طراز «روبنسون كروزو» الإنجليزية و«دون كيشوت» الإسبانية وروايات النخوة التي اشتهر بها إقليم بروفنس (Provence)
في فرنسا، فتهيأ المقلدون لمحاكاتها وكثرت الكتابة القصصية وأخذت في التقدم، وهي مع هذا لا تسلم من عيوب الطريقة المجازية التي تلتزم المغزى والعبرة في كل رواية وفي كل نادرة، كأنما القصة عمل «وعظي» مقصود لهذا الغرض وليست عملا فنيا تجيء فيه العظات اتفاقا أو لا تجيء على الإطلاق، ونشأ جيتي فأدرك القصة الألمانية وهي على هذه الحال تتراوح بين العظات والفنون.
Halaman tidak diketahui