Kenang-kenangan Goethe
تذكار جيتي
Genre-genre
وهناك سمة أخرى تتصف بها مؤلفات جيتي جميعها وترتبط بهذه السمة التي أشرنا إليها، وتلك هي التفكك وقلة التماسك، فكتبه كلها ما كبر منها وما صغر وما تم سواء في هذه السمة.
وكثيرا ما اجتمع الكتاب الواحد من مقطوعات متفرقة كتبت في أوقات متباعدة واتسقت في آخر على غير نسق.
وإذا كان الكتاب رواية فأنت ترى فيها أشخاصا لا خلل في رسمهم وتمثيلهم ولكنك لن ترى فيها حوادث متلاحقة ولا فصولا متناسقة، ويغلب على أشخاص رواياته أن يكونوا رجالا أو نساء عرفهم وعاشرهم ونقلهم من الحياة إلى الرواية بتصرف قليل أو بغير تصرف، فعمله في تكوينهم عمل التذوق وصدق الملاحظة لا عمل الإنشاء والاختراع، فكل شخص في رواياته نموذج معهود في الدنيا لمن يلتفتون إليه.
وسبب هذا التفكك في كتب جيتي يرتبط كما قلنا بتلك الطبيعة التي وقفت همه على لمس الحقيقة المباشرة وتملي الحياة الجميلة في إبانها، أو تلك الطبيعة التي جعلته يأخذ الدنيا شيئا شيئا والزمن ساعة ساعة ويستمتع بما بين يديه ويدع كل مطلوب إلى أوانه حتى يجيء أوانه؛ فهو على ثقة من قطاف الساعة وامتلاء كل جزء من أجزاء الزمن بثمرته وحصاده، وهو لا ينصب لجمع الحقائق والمحاسن بل تجتمع عنده الحقائق والمحاسن فلا يتكلف للقطها إلا أن يفتح لها وطابه، وقد قيل في أضاحيك السكارى أن سكرانا منهم نام في موضعه على الأرض وأبى أن يسعى إلى بيته لأن بيته سيسعى إليه لا محالة في هذه الأرض الدائرة! فإذا جازت المقارنة فجيتي كذلك يجلس في ساعته الحاضرة ولا يتعداها إلى غيرها انتظارا لغيرها هذا أن يدور إليه في هذا الزمن الدائر، ولكنه يفعل ذلك لفرط الوعي واليقظة لا لفرط السكر والغفلة، ولك أن تسميه كسلا كما تشاء، ولكنه كسل الشبع والطمأنينة لا كسل الفاقة والإعياء. •••
ومؤلفات جيتي عديدة لا يتسع المجلد الكبير للكتابة عليها كلها فضلا عن الرسالة الصغيرة، فلا محل هنا لتفصيل نقدها واستيفاء البحث فيها، وإنما نجتزئ بأشهرها وأدلها عليه وأقربها إلينا نحن الشرقيين، وما قصدنا التعريف بمؤلفاته كما قصدنا التعريف بفنه ونفسه، فإذا أبلغنا في هذا القصد ففي ذلك كفاية.
آلام فرتر
ينم جيتي على نفسه في أولى الرسائل التي كتبها فرتر؛ فإن فرتر الذي يقول لنا في تلك الرسالة: «ما الإنسان؟ وكيف يجرؤ على مؤاخذة نفسه؟» ثم يقول لنا: «أريد أن أنعم بالحاضر وليذهب الماضي حيث ذهب.» إنما هو جيتي بعينه الذي لا يرى الإنسان إلا ألعوبة في يد القدر ولا يطلب من الحياة إلا ما تعطيه حين تعطيه، وكلما تقدمنا في القراءة سطرا عرفنا جيتي من وراء فرتر وعرفنا أنه هو الذي يتسلى عن المصائب والآلام بقراءة الشعر الإغريقي القديم، فكل مصيبة استطاع أن يحيلها «إلى شعور فني» فهي مصيبة ذاهبة ومحنة مقبولة، وقصة فرتر كلها إن هي إلا لوعة أحالها إلى «شعور فني» فاطمأن واستراح.
لسنا نعني بهذا أن أشخاص القصة هم أشخاص الحياة في كل صفة وكل واقعة؛ فمن البداهة أن فرتر غير جيتي في شيء واحد على الأقل وهو أن فرتر انتحر وجيتي لم ينتحر ولا فكر في الانتحار قط تفكير الجد والعزيمة! نعم إنه كان يحادث «شارلوت» وخطيبها في البقاء والخلود ليلة الوداع التي فارقهم بعدها، ونعم إنه حدثنا في ترجمة حياته عن الخنجر الذي كان يصوبه إلى صدره ليلة بعد ليلة ليرى هل يسعه أو لا يسعه أن يدفعه قيراطين اثنين إلى قلبه كما قال! ولكنك تقرأ هذا الحديث في ترجمته فتعرف على الفور أنها تجربة فنية أخرى لا أكثر ولا أقل، وإنه كان يفعل ذلك وكل ما في ذهنه مثال العاهل العظيم «أوتو» الذي طعن نفسه بالخنجر بعد عشاء بهيج مع صحبه وحاشيته، فهي تجربة تمثيل ومداعبة تخييل، ولا يمكن أن تكون غير ذاك.
إنما أوحى إليه أن يختم حياة فرتر بالانتحار أمران: أحدهما ضرورة النهاية الفاجعة في القصة المحزنة، والآخر - والأهم - هو انتحار صديقه أورشليم الذي كان معه في «فتزلار» بلدة شارلوت؛ فقد خطر لجيتي أن يكتب القصة على أثر سماعه بالخبر، ثم أرجأ كتابتها بضعة أشهر حتى تهيأت نفسه للشروع فيها فأتمها على فترات في أسابيع قليلة، وجاء بطلها من ثم يحكي جيتي في أول السيرة ويحكي أورشليم في ختامها.
على أن أورشليم لم ينتحر للحب وحده وإنما انتحر للفضيحة وإيصاد أبواب العلية في وجهه وفساد الصلة بينه وبين رئيسه، وطول عزلته من جراء ذلك كله وإقباله في تلك العزلة على قصص الشقاء ومباحث الموت والانتحار يناجيها ويتعزى بها ولا يناجي أحدا من أصدقائه في علة كمده وحزنه ولا يلتمس العزاء عند أحد، فحزن جيتي عليه لغيبته وانفراده واتخذ فجيعته ختاما لقصته يعرب فيه عن حزنه على صديقه وعلى نفسه.
Halaman tidak diketahui