النفس، رقيق الجانب، خطيبًا مصقعًا، متبحرًا في العلوم معقولًا ومنقولًا، مطّلعًا على دقائق الشرع وغوامضه، تبحّر في العلوم، وتحرّى في نقل الأحكام، وحرّر المسائل، وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكره الرُّكبان، بحيث إن علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته.
وله في الأصول والفروع قوة كامة، وقدرة شاملة، وفضيلة تامة، وإحاطة عامّة، وفي حسن التعليم صناعة لا يقدر عليها غيره، وكان إذا اجتمع بأهل العلم وجرت المباحثة في فنّ من فنون العلم لا يتكلم قط، بل ينظر إليهم ساكتًا، فيرجعون إليه بعد ذلك، فيتكلم بكلام يقبله الجميع، ويقنع به كل سامع، وكان هذا دأبه على مرور الأيام، لا يعتريه الطيش والخِفّة في شيء كائنًا ما كان.
الحاصل أنه كان من عجائب الزمن، ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمةَ إجماع، والاعترافُ بفضله ليس فيه نزاع.
وكان على مذهب أبي حنيفة في الفروع والأصول، ولكنّه كان غير متعصِّب في المذهب، يتتبع الدليل، ويترك التقليد إذا وَجد في مسألة نصًّا صريحًا مخالفًا للمذهب، قال في كتابه "النافع الكبير": (ومن مِنَحه - أي منح الله سبحانه - أني رُزقت التوجُّه إلى فن الحديث وفقه الحديث، ولا أعتمد على مسألة مالم يوجد أصلها من حديث أو آية، وماكان خلاف الحديث الصحيح الصريح أتركه، وأظن المجتهد فيه معذورًا، بل مأجورًا، ولكني لست ممّن يُشوّش العوام الذين هم كالأنعام، بل أُكلّم الناس على قدر عقولهم ...) . انتهى. وقال بُعَيْدَ ذلك: (ومن مِنَحه أنه جعلني سالكًا بين الإفراط والتفريط، لا تأتي مسألة معركة الآراء بين يديّ إلاَّ أُلهمت الطريق الوسط فيها، ولست ممن يختار التقليد البحت بحيث لا يترك قول الفقهاء وإن خالفته الأدلة الشرعية، ولا ممّن يطعن عليهم، ويهجر الفقه بالكلية) . انتهى.
وقال في "الفوائد البهيّة" في ترجمة عصام بن يوسف: (ويُعلم أيضًا أن الحنفي لو ترك في مسألةٍ مذهبَ إمامه بقوة دليل خلافًا لا يخرج به عن ربقة التقليد، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد، ألا تري أن "عصام بن يوسف"
1 / 56