ومما أذكره مثالًا لهذه السِّمَةِ الساميةِ في كتبه: الكتابُ الكبيرُ الذي سمَّاه "ظفر الأماني في شرح مختصر السيد الجُرجاني"، في علم المصطلح الحديثي ومن أكبر ما أُلِّف فيه، فقد هالني حين حققته واعتنيت به لطبعه كثرةُ النقول فيه من مصادر بعيدة متباينة المواضيع والعلوم.
فتراه ينقل الجملة والجملتين، والكلمةً والكلمتين، ثم يُعَرِّحُ على كتاب آخر فينقل منه الصفحة أو نصفَها أو مثيلها، ثم ينتقل إلى كتاب آخر لا يُظَنُّ ولا يَرِدُ إلى الذهن أن يكون فيه الجملةُ التي يلتقطها منه، وتكون هي في موضعها الذي أثبتها فيه كحجرة الخاتم الثمينة في الخاتم النفيس.
فللَّه دَرُّه ما أعلمَهُ بالنصوص ومظانها وغيرِ مظانها، وما أصبرَهُ على نقلها وأنقَدَه لاختيارها، والكتبُ أغلبها لديه مخطوطة!
وإذا كان هذا شأنَه في الكتاب الكبير الضخم فلا يستغرب أن يكون هكذا شأنُه أيضًا في الكتب الصغيرة والرسائل اللطيفة، كرسالته: "تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار"، وهي من آخر ما اعتنيت بخدمته وتقديمه للطبع، فهذه الرسالةُ على لطافتها حجمًا، نَقَل فيها من مصادر مخطوطة ما سمعتُ بأسماءِ كثيرٍ منها فضلًا عن رؤيتها، في الفقه الحنفي وفي غيره، فقد كان لديه مكتبة عامرة جامعة، تستجيبُ لكل علم يريدُ تحقيقَهُ والتأليفَ فيه.
فهذا الرجل إمامٌ في العلم، وإمام في كثرة التآليف المفيدة المتقنة، مع قِصَر العمر، فقد عاش تسعًا وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وخلَّفَ أكثر من خمسة عشر ومئةِ كتاب ورسالة، في مواضيع شتى في المنقول والمعقول، شرحًا أو تحشيةً أو تأليفًا مبتكرًا مستأنفًا.
ولو حُسِبَتْ أيامُ حياته، وقُسِّمَتْ على صفحات مؤلفاته، لأتت بالمدهش العجاب، من وفرة ما يصنِّفُه كلَّ يوم، فأين وقتُ المطالعة والتفكير والنسخ والتسويد والتبييض إن كان لديه تسويد، والأكل والشرب والنوم والأسفار عنده؟
ولكنَّ هناك أناسًا آتاهم الله تعالى المواهبَ النادرة الفَذَّة، والقدرةَ العجيبة الباهرة عل احتواء العلم، وتحقيقه، وتدوينه عَذْبًا مُضيئًا وَضِيئًا، من شعاع الخاطر إلى رأس
1 / 45