وإني لأتعجَّبُ كيف نَقَل تلك النقول من مكامنها، وهي في بطون الكتب البعيدة عن الأيدي والأنظار، التي لا فهارس لها ولا أدلةً على مضامِينها، وإني أتصور أنَّ بينه وبين تلك النقول شعاعًا مرشدًا إليها ومغناطيسًا دالًا عليها أصدَق الدلالة وأدقِّها.
نعم الأمرُ كذلك في تصوري، وذلك الشعاع والمغناطيس هو الذَّهنُ الفريدُ المتقد، العجيب، الذي أكرمه الله به، فهو يرشده إلى كل شاذة وفاذة في الباب، فتراهُ يُوردُها في تأليفه دِراكًا تباعًا، حتى كأنه قد استظهرها حفظًا، وتمثَّلها لفظًا.
وقد صار طابَعُ الوَلُوع بالتحقيق والتدقيق، وترجيح الراجح وتضعيفِ الواهي في المسألة: عفويًا في حجاه وسِمَةً بارزة في جميع كتبه ومؤلفاته، فقد أَلِفَ واستلذَّ التحقيق واستطعمه حتى صار طبعًا في خاطره وتفكيره، وأُوتيَ الصبرَ عليه، على أنه لم يَسلم من الخطأ الذي ما تنزه عنه إلا الأنبياء الكرامُ عليهم الصلاة والسلام، الذي عصمهم الله تعالى بفضله وكرمه.
وكنتُ في أول أمري لمَّا أُطالعُ في كتابه المتميز المفيد: "الفوائد البهية في تراجم الحنفية"، وأراه يقول في تراجم من يترجمهم: (وقد طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا، وكتاب كذا) .
كنتُ أقول هذا القول على التجوُّز، أي أنه يتصفح الكتاب وينظر فيه بالإجمال، لأن الكتب التي يذكر مطالعته لها كثيرة جدًا جدًا، وبعضها في مجلدات كبار، فهي إلى ندرة وجودها، وأنها من المخطوطات: واسعةٌ متسعة، لا يَصبُر على قراءة الكتاب الواحد منها أمثالُنا! إلا إذا دَفَعَتْه إلى ذلك رغبة حبٍّ وشوق، أو إلزام أتاه من فوق.
فلما قرأتُ جملةً من كتبه، واستنرتُ بتآليفه ومداركه العالية عملًا بوصية شيخي الإمام العلامة المحقن محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، تبيَّن لي أن قوله: (طالعت من كتبه كتاب كذا، وكتاب كذا....): حقيقةٌ لا تجوُّز فيها، وأنها مطالعةُ العالم الذكي اللوذعي الذي يفهم ويعي، ويحفظ ما قرأ وطالع.
ويكون ما قرأهُ من سنين بعيدة منصوبًا بين عينيه، ففي كثير من المواضِع والموضوعات، التي يكتبُ أو يؤلفُ فيها، تجدُهُ ينقلُ الكلمة القصيرة الصغيرة من الكتاب الطويل الكبير، فانبهرتُ من حَذَاقته وزكانته وشدةِ استيعابه للموضوع، الذي لا يصلُ إليه المطالعُ المطَّلعُ في مَظِنَّتِه إلى بصعوبة، تراهُ هو قد تناوله بسهولة ويُسر وانسجام.
1 / 44