الرامَهُرْمُزِي، في كتابه "المحدِّث الفاصِل بين الراوي والواعي" (ص ٥٦٠)، بسنده عن أنس بنِ سِيرين، قال: "أتيتُ الكوفة، فرأيتُ فيها أربعةَ آلافٍ يطلبون الحديث، وأربعَ مئةٍ قد فَقهُوا". انتهى.
وفي هذا ما يدل على أن وظيفة الفقيه شاقةٌ جدًا، فلا يكثُرُ عدَدُه كثرةَ عَدَدِ النَّقَلَةِ الرواة، وإذا كان مثلُ (يحيى القطانِ)، و(وكيع بن الجراح)، و(عبدا الرزاق)، و(يحيى بن معين)، وأضرابِهم، لم يجرؤوا أن يخوضوا في الاجتهاد والفقه، فما أجرأ المدَّعين للاجتهاد في عصرنا هذا؟! مع تجهيل السلف بال حياءٍ ولا خجل، نعوذ بالله من الخذلان.
وإنما أكثرت من هذه الوقائع، لأولئك الحفاظ الكبار والمحدثين الأئمة، التي تبين منها أن الحفظ شيء، والفقه وفهم النصوص شيء آخر، لأن عددًا من الناس في عصرنا، يخيَّل إليهم أن كثرة الكتب التي تَقذِفُ بها المطابع اليوم، ووفرة الفهارس التي تُصنَعُ لها: تجعل (الإجتهاد) أمرًا ميسورًا لمن أراده، وهو خيال باطل، وتوهم خادع.
فالحفظ العجيب الذي كان عليه هؤلاء المحدثون الأكابر في القرون الأولى الزاهرة، مع سيلان أذهانهم المسعفة - وليست كالكتب الجامدة الصماء - والبيئة التي كانت تجيش فيها من حولهم حلقات التحديث والتفقيه، والسماع والتدريس ووفرة المحدثين والفقهاء، كل ذلك لم يخولهم أن يجتهدوا ويغالطوا أنفسهم فصدقوا مع الله ومع أنفسهم، ومع الناس.
ولم يكونوا بحال من الأحوال أقل ذكاء من (المتمجهدين) في هذا العصر، بل كانوا أهل ذكاء مشهور، وفطنة بالغة، ووعي شديد وانقطاع للعلم، ولكنهم لم يدخلوا أنفسهم فيما لا يحسنون، واقتصروا على ما يحسنون فحُمِدَتْ سِيرتُهم، وعَظُمَتْ مكانتهم في النفوس، ودل ذلك على حُسن إسلامهم وفَهمهم لواقعهم، فرحمة الله تعالى عليهم ورضوانه العظيم.
قال الحافظ الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (٨١: ٢): "وليُعلم أن الإكثار من
1 / 24