وتعقَّب الحافظ ابن حجر أيضًا الشيخُ صالحٌ الفُلاَّنيُّ فقال (كما في "الرسالة المستطرفة" ص ٥ - ٦): "وفيما قاله الحافظ ابن حجر من الفرق بين بلاغات الموطأ ومعلَّقات البخاري: نظر، فلو أمعن الحافظُ النظر في الموطأ كما أمعن النظر في البخاري لعلم أنه لا فرق بينهما، وما ذكره من أن مالكًا سمعها كذلك، غيرُ مسلَّم، لأنه يذكر بلاغًا في رواية يحيى مثلًا أو مرسلًا، فيرويه غيرُهُ عن مالك موصولًا مسندًا.
وما ذكَرَ من كون مراسيل الموطأ حجةً عند مالك ومن تبِعَه دون غيرهم: مردودٌ بأنها حجة عند الشافعي وأهلِ الحديث، لاعتضادها كلِّها بمسندٍ ذكره ابن عبد البر والسيوطي وغيرُهما.
وما ذكره العراقي أن من بلاغاته ما لا يعرف: مردودٌ بأن ابن عبد البر ذكر أن جميعَ بلاغاته ومراسليه ومنقطعاته كلَّها موصولةٌ بطرق صحاح إلا أربعة، فقد وَصَل ابن الصلاح الأربعة بتأليف مستقل وهو عندي وعليه خطه، فظهر بهذا أنه لا فرق بين "الموطأ والبخاري"، وصَحَّ أن مالكًا أوَّل من صَنَّف في الصحيح، كما ذكره ابن العربي وغيرُه".
مكانة "الموطأ" وصعوبة الجمع بين الفقه والحديث:
- تأليفُ الحديث وجمعه في كتاب على الأبواب الفقهية، لا ينهض به إلا فقيه يدري معاني الأحاديث، ويفقه مداركها ومقاصدها، ويميز بين لفظ ولفظ فيها، وهذا النمط من العلماء المحدِّثين الفقهاء يُعَدُّ نَزْرًا يسيرًا بالنظر إلى كثرة المحدثين الرواة والحفاظ الأثبات، إذ الحفظُ شيء والفقه شيء آخرُ أميَزُ منه وأشرف، وأهم وأنفع، فإن الفقه دِقَّةُ الفهم للنصوص من الكتاب والسنَّة - عبارةً أو إشارةً، صراحةً أو كنايةً - وتنزيلها منازلها في مراتب الأحكام، لا وَكسَ ولا شطط، ولا تهوُّر ولاجمود.
وهذه الأوصاف عزيزةُ الوجود في العلماء قديمًا فضلًا عن شدة عزتها في الخلف المتأخر، ويخطئُ خطأ مكعبًا من يظن أويزعم أن مجرد حفظ الحديث أو اقتناء كتبه والوقوف عليه، يجعل من فاعل ذلك فقيهًا عارفًا بالأحكام الشرعية ودقيق الاستنباط. قال محمد بن يزيد المستملي: سألت أحمد بن حنبل عن - شيخه - عبد الرزاق - صاحب
1 / 18