لهذا السبب لم تكن لدينا «كلاسيكيات» شرقية - أعني قطعا تظل قيمتها محفوظة على مر الزمان - كما هو الحال في موسيقى باخ وموتسارت التي مر عليها قرنان من الزمان أو يزيد، ولا زالت تحتفظ بمكانتها إلى اليوم، بل إن من المؤرخين الموسيقيين من يؤكد أن تقدير الناس لها يزداد باطراد! فموسيقانا الشرقية هي موسيقى «موسمية»، والأغلبية العظمى من مقطوعاتها لا تعيش أكثر من موسم، ثم تختفي غير مأسوف عليها؛ فقد استنفدت أغراضها، وعاشت بقدر ما بذل فيها من جهد!
والعنصر الأخير، وهو القالب أو الصورة، يكاد يكون مفقودا بدوره؛ فالغناء الشرقي التقليدي كان يعرف قالبا ثابتا: هو البدء بالليالي، ثم الموال أو «الدور»، وقد تسبق ذلك «تقاسيم» من الآلات الموسيقية القليلة التي تصاحب الغناء. ولكن هذا في واقع الأمر لا يمكن أن يعد قالبا بالمعنى الصحيح، بل هو شكل تقليدي لا يحتاج إلى تحليل أو دراسة، ولم تكن الموسيقى عندئذ في حاجة إلى ما هو أعمق من ذلك.
على أن الافتقار إلى دراسة القالب الموسيقي يتجلى أوضح ما يكون في الموسيقى الشرقية الحديثة، أعني تلك التي تحرص على أن تقتبس بعض الألحان أو طرق التلحين الغربية، مع إبقائها على كثير من الألحان الشرقية ذات الطابع التقليدي؛ ففي هذه الموسيقى «المهجنة»، نجد اللحن الشرقي يتلو اللحن الغربي فجأة، والمقام الشرقي بما فيه من «ربع صوت» يجاور السلم الغربي مباشرة، دون أية محاولة لتيسير الانتقال بينهما، بل دون بحث مشكلة ما إذا كان المزج ذاته ممكنا. والحق أن الأذن الخبيرة لتجد مثل هذا الانتقال المفاجئ غير مستساغ في معظم الأحيان، وخاصة لأنه يتم دون أية محاولة لدراسة القالب الموسيقي، والمشاكل التي تنجم عن مزج نظامين مختلفين في قطعة موسيقية واحدة.
وللموسيقى الشرقية التقليدية صفة ذات دلالة نفسية بالغة، وتندرج تحت موضوع القالب الموسيقي الذي نحن بصدده. تلك الصفة أطلق عليها اسم «الرجوع الدائم إلى القرار»؛ فمن المعروف أن لكل سلم موسيقي أو مقام قرارا، هو النغمة الرئيسية التي يسمى السلم باسمها. ومن صفات القرار أنه يبعث شعورا بالاكتفاء إذا ما انتهى اللحن إليه؛ لهذا كانت الموسيقى الغربية تحرص على أن تقف عند القرار، والأصوات المتوافقة معه، في ختام القطعة فحسب، أو في ختام جزء هام منها، وذلك عرف متبع في القالب الموسيقي الغربي منذ القدم. أما الموسيقى الشرقية - في صورها التقليدية بوجه خاص - فهي ترجع إلى القرار في كل فقرة قصيرة من فقراتها. ويستطيع القارئ أن يتصور المقصود بصفة الرجوع الدائم إلى القرار، إذا استرجع ما يحدث في غناء الليالي والمواويل التقليدية. فبعد كل فقرة من الفقرات، يشعر المستمع بالراحة والاكتفاء، إذا ما أنهاها المغني بما يسمى «قفلة» صحيحة، وعندئذ يردد المستمع وراءه كلمة: «آه» (إذا سمح المجال!) ويكون هذا الترديد عادة من نفس الطبقة التي قفل بها المغني فقرته الغنائية، وهذه الطبقة ذاتها هي القرار. ومثال آخر لهذه الصفة، في التقاسيم التي تعود إلى قرار المقام كلما أنهت فقرة من فقراتها. بل إن هذه الصفة لتتمثل بصورة أوضح في الموسيقى الريفية المصرية، المعروفة باسم موسيقى الأرغول؛ ففي الأرغول أنبوبتان، إحداهما تعزف صوتا واحدا متصلا، هو القرار، والأخرى تعزف اللحن الذي يعلو وينخفض، ولكنه ينبغي أن يكون ذا صلة وثيقة بصوت الأنبوبة الأخرى، وأن يعود إليه بين آن وآخر ليعزف الاثنان القرار سويا، علامة على اكتمال فقرة موسيقية.
فالقالب الذي تتخذه هذه الأشكال الموسيقية التقليدية في الشرق، هو أن يكون اللحن مجموعة من الدورات القصيرة المقفلة، التي ينتهي كل منها انتهاء تاما بقرار المقام. أما الموسيقى الغربية فتتخذ صورة حركة دائمة، ساعية إلى هدف ما، لا تبلغه إلا في النهاية القصوى مرة واحدة، ثم تنتهي القطعة. أي إن الحالة النفسية المصاحبة للموسيقى في الحالة الأخيرة، هي حالة انتظار دائم، وتتبع مثابر للموسيقى، التي تصل إلى ذروتها في النهاية عندما تتجمع كل خيوط الفرقة الموسيقية وتياراتها، وتتحد كلها لتساهم في الخاتمة الكاملة. أما الحالة النفسية المصاحبة للموسيقى في الحالة الأولى، فهي حالة توقع الاكتفاء والانتهاء في كل لحظة من اللحظات. ويظل المغني أو العازف يدور حول نغمة القرار، ويعد بها مستمعيه، وسرعان ما يلبي رغبتهم، فيصل إليها، وعندئذ تنطلق أصواتهم معبرة عن الرضا، مرددة نفس النغمة: «آه!» وتظل هذه الدورات تتكرر طوال اللحن. والذي لا شك فيه أن الرغبة المستمرة في الشعور بالاكتفاء، والسعي إلى تحقيقه في كل فقرة قصيرة، تنم عن نوع من نفاد الصبر، ومن الرغبة في المتعة العاجلة السهلة. ولست أريد أن أنزلق في تفسيرات ذاتية خالصة بعد هذه التحليلات الموضوعية التي أوضحت بها خصائص الموسيقى الشرقية، غير أن مثل هذا التفسير لا يكف عن أن يفرض نفسه على الذهن؛ فتذكير العازف أو المغني للمستمع دائما بقرار اللحن، ورغبة الأخير في الانتهاء إليه، وتعبيره عن رضاه عندئذ ... كل ذلك ينم عن عدم القدرة على تتبع الموسيقى كوحدة واحدة، أو التمشي مع الألحان في تقلباتها وتطوراتها الطويلة، والتفكير فيها لذاتها، لا من حيث هي وسيلة لراحة الذهن عندما يصل إلى نهاية صوتية ترضيه.
ولهذه الصفة نتيجة هامة، تحكمت في تحديد طبيعة المستمع الشرقي؛ فالمستمع الشرقي يبحث دائما عن النشوة العاجلة، وعن الطرب المستمر في الألحان، إنه لا يبذل جهدا في الفهم أو التعمق؛ فكل ما يسمعه بسيط، سطحي، وكل ما يقدم إليه سهل الهضم، بل إن الفنان الذي يطربه يقدم إليه في كل لحظة ما يبعث الاكتفاء في نفسه، فهو لا يطالبه بالمثابرة على تتبع لحن طويل إلى نهايته، بل يقدم إليه اللحن على أجزاء صغيرة، كل منها مكتف بذاته، وكل منها وحدة كاملة لها نهايتها الخاصة، وما على المستمع إلا أن يترقب هذه النهاية التي سرعان ما تأتي إليه، فيتم رضاؤه، ولكن على حساب التمتع الفني الصحيح. ومن هنا كان ذلك الطابع الخاص الذي ينفرد به المستمع الشرقي: فهو لا يملك القدرة على الاستماع المنتبه الدقيق، وليست به حاجة إليه، بل إنه يبدي إعجابه بلا تحفظ، كيفما شاء، وحينما يشاء، ويستطيع أن يهتف أو يصرخ كما يروق له ؛ فهو ليس بالمستمع الهادئ الرزين، الذي يحترم الموسيقى ويتابعها بكل حواسه إلى أن تنتهي، وعندئذ يبدي إعجابه كما يشاء، وإنما هو مستمع صاخب، يدأب على التعليق والمقاطعة، ولا يعرف الاتزان إليه سبيلا. وأوضح أمثلة على ذلك، تلك الحفلات الغنائية الطويلة، التي يظل المستمعون خلالها في صراخ وهتاف دائمين، ويظهرون رضاءهم في أي وقت، وبأية كيفية، تحلو لهم. ومثل هذا الجو التشنجي الصاخب هو في الحق سبة في وجه الفن الصحيح، وهو إذا كان يصلح لحلقات الذكر أو حفلات «الزار»، فإنه أبعد ما يكون عن مجال الموسيقى، ذلك الفن الرفيع، الذي يبعث في النفس الهدوء والسكينة، والذي يفسده أي صخب، وتشوهه أقل ضوضاء.
ولست أرمي من ذلك إلى أن ألوم جمهور المستمعين وحدهم؛ ففي الحق أن طبيعة الألحان التي تقدم إليهم مسئولة إلى حد بعيد عن طريقة استماعهم إليها، والقالب الذي تتخذه تلك الألحان بما فيه من سعي إلى إرضاء المستمع إرضاء رخيصا، هينا، سريعا، هو الذي أدى إلى ضياع القدرة على الاستماع الهادئ العميق لدى الجمهور المتذوق للموسيقى الشرقية.
وهكذا يبين لنا من العرض السابق: أن عناصر اللغة الموسيقية الأربعة تتخذ في الموسيقى الشرقية صورة هزيلة فيها كثير من العيوب، بل إن من هذه العناصر ما لا يتمثل في تلك الموسيقى على الإطلاق. وقد يرى القارئ في هذا النقد شيئا من القسوة، غير أن القسوة تظل دائما مستحبة طالما أن فنا أساسيا كالموسيقى يظل على هذه الحال من التخلف، بل من البدائية! أما من يرى فيه شيئا من التجني فلا أدعوه إلا إلى أن يفكر في هذه التحليلات بطريقة علمية موضوعية، وأن يدع جانبا كل العوامل الانفعالية الذاتية، وعندئذ فمن المحتمل إلى حد بعيد أنه سيلمس هذه النقائص بنفسه، ويساهم بدوره في بذل الجهود لتلافيها.
مشكلة الموسيقى في مصر
لا جدال أن في مصر شعورا بالضيق من قصور الموسيقى الحالية وأفقها المحدود، وهذا الشعور، الذي يتزايد على الدوام، يتمثل بصورة ظاهرة في تلك المناقشات الحامية التي تدور في الصحف في أيامنا هذه، وهي المناقشات التي تتراوح الآراء فيها بين الدعوة إلى التجديد التام، وبين الرجوع إلى الماضي الذي يصفه أنصار هذا الرأي بأنه ماض «مجيد».
Halaman tidak diketahui