أتخيلك الآن يا صديقي وقد استبد بك الغضب تهز قدميك الصغيرتين الناعمتين في عصبية وتقول لنفسك: ولكنها لا تملك شيئا ، حتى حريتها لا تملكها، إن كل شيء في يدي، أنا الرجل! أعرف ذلك، أعرف أن القانون معك، والناس يقفون في صفك، لأنك الرجل، ولكني أنا لست معك، حتى لو أوثقت قيدي ووضعتني في بيتك وغلقت دوني الأبواب لن أكون معك، لأنني سأجلس في سجني أفكر فيه، وأعيش له، وأحبه أكثر وأكثر، حتى أموت.
لا تسخر يا صديقي، أعرف أنك لا تعترف بشيء اسمه الحب، وكيف تعترف بشيء لا تحسه ولا تفهمه؟ لكني أعترف به، بل لا أومن بشيء آخر في الحياة.
كان ذلك منذ ثلاثة شهور في حفل رأس السنة الجديدة، وحينما رفع رأسه وثبت عينيه في عيني دارت الدنيا من حولي بكل ما تحتويها، رأيت الرجال والنساء يرقصون وينسابون بعضهم وراء بعض كالأشباح الخافتة، وسمعت أصواتهم وضحكاتهم تصل إلى أذني كأنها آتية من عالم بعيد جدا.
أما أنت فقد نسيتك تماما، نسيت ملامحك، نسيت أنني رأيتك من قبل، نسيت وجودك إلى جانبي، ونسيت أنني تزوجتك وعشت معك في بيت واحد ثمانية أعوام كاملة!
يا إلهي! أهكذا يضيع الزمن بحوادثه وأيامه ولياليه؟! أهكذا يفقد العقل ذاكرته ووعيه؟! أهكذا يفقد الحس ماضيه؟ كيف؟ كيف تتلاشى ثمانية أعوام كاملة من حياتي أمام لحظة قصيرة عابرة؟
ولكن كان هناك بحر، بحر في عينيه عميق، عميق ليس له قرار، وعالم في نظراته واسع، واسع ليس له مدى، رأيت الدنيا حوله تافهة باهتة ضيقة.
وعرفني، كأنما التقطت نظراته نظراتي كالمغناطيس، عرفني، وفهمني، وأحس بس وأنا أدخل عالمه وأغرق في بحره، وانتشلني في رفق، وضمني في حنان، وتركت له نفسي يحميها، يرعاها، يربت عليها، وأحسست بدموع حارة في عيني، دموع غريبة، ليست كتلك الدموع التي بللت وسادتنا.
ووضعت رأسي على صدره وبكيت، وبكيت بفرح، ورفع رأسي إليه ونظر في عيني وابتسم، وحلقت بي ابتسامته في أجواء غريبة، إنها تحكي له قصصا وقصصا، وتروي لي تجارب وتجارب، وأخذني بين ذراعيه وقبلني فضاع وجودي في وجوده، وتلاشى كياني في كيانه.
ثم أفقت، فتحت عيني فوجدتني أعود إلى حفل رأس السنة الجديدة كأنما بعد غيبة طويلة، ورأيت الرجال والنساء يرقصون ويمرحون، ورأيتك تملأ الكرسي الكبير وتنام وأنت جالس، وذراعاك متراخيتان إلى جوارك وقدماك الصغيرتان الدقيقتان تهتزان.
اغفر لي يا صديقي العزيز، اغفر لي صراحتي وصدقي، أنا لا ألومك ولا أعاتبك، فأنت ضحية مثلي، ضحية وهم كبير يعيش فيه الناس ويعيشون فيه بإصرار وعناد.
Halaman tidak diketahui