وتسللت إلى الخارج دون أن يحس بها أحد، ودون أن تستأذن أباها، إنها أول مرة في حياتها تخرج من البيت بدون إذن، ولكن هل يجب أن تستأذن قبل الموت؟ ومشت في الطريق كالتائهة، ووصلت إلى كوبري الجامعة، وألقت على من حولها نظرة وداع حزينة، وسارت في خطى بطيئة على الكوبري وهي تحاول ألا تفكر في شيء، إنها ستموت، ويجب أن تموت، لا لتعاقب نفسها، ولكن لأن الحياة سخيفة، ليس لها معنى، والناس أيضا كلهم سخفاء؛ فهم يخلقون بطريقة سخيفة، وفي لحظة تافهة سريعة، والموت بالطبع أحسن من الحياة، وأحسن من الناس، والآخرة لا بد جميلة، والله يعرفها جيدا ويعرف أنها بريئة، ولا شك في أنه سيدخلها الجنة، لأنها ليست ساقطة، لقد عاشت متدينة دائما.
وعند منتصف الكوبري وقفت، ونظرت إلى الماء بقوة غريبة كأنها تتحدى الحياة، وصعدت على سور الكوبري، ثم ألقت بنفسها في الماء .
آه، تحركت سهير، استيقظت من نومها عندما صاحت، وفتحت عينيها: ما هذا؟ أين أنا؟ ونظرت حولها، ورأت المكتب وساعة المنبه عليه تشير إلى الثامنة، كيف؟ لقد قضت الليل كله على الأريكة، ورفعت جسمها عن الأريكة وهي تدلك ظهرها من وجع السلك، ورأت الكتاب بجوارها ما يزال مفتوحا عند آخر صفحة وقفت عندها قبل أن يغلبها النوم، وتأملت الصفحة، ثم ابتسمت لنفسها وهي تغلق الكتاب بهدوء.
لست أنا
كان الحفل صاخبا زاخرا بالضجيج، ناس يروحون، وناس يجيئون، ناس يتكلمون، وناس لا يسمعون، راقصة ترقص، ومطربة تغني، رجال يصفقون ويقهقهون ويترنحون، ونساء يتبخترن في ملابسهن البراقة الهفهافة، وكل منهن تنظر إلى فستان الأخرى من طرف خفي.
الكل مشغول، الكل منهمك، الموسيقى تصدح، والفرح يبدو على الجميع، إلا أنا.
كنت أجلس كالعجائز في ركن غير بعيد، أحاول أن أخفي حذائي القديم تحت الكرسي الذي أجلس عليه، وأجتهد ألا تصدر مني حركة قد تلتفت إليها «سنية» زميلتي في المدرسة منذ عشرة أعوام، وأخذت ألوم نفسي، وأعنفها، لماذا حضرت هذا الحفل؟ كان يمكن أن أعتذر، أو لا أعتذر، فمان كان أحد سيذكر هذا أو ذاك، لكني جئت لأسري عن نفسي بالنظر إلى الناس والأنوار والطرب، وكنت قبل أن أرى «سنية» سعيدة بما أرى، أجلس وسط جمع من الناس لا يعرفونني ولا يدقق أحد منهم في منظري، وكدت أنسجم تماما مع هذا الجو المرح لولا وقوع نظري بغتة على سنية تسير مع بعض صديقاتها، كانت تلبس ثوبا أنيقا للسهرة وترفع شعرها إلى أعلى في تسريحة جذابة.
كانت تلمع وتبرق، وكل ما فيها يلمع ويبرق.
وأخفيت رأسي بين رءوس المدعوين أتظاهر بأنني أفتح حقيبتي وأخرج المنديل وأدخله، ثم أخرجه وأدخله عشرات المرات وأنا أضيع الوقت بإطراقي حتى تمر «سنية» بجواري.
ومرت سنية ولم ترني، كانت مشغولة بالحديث مع صديقاتها، وتنهدت بارتياح، فكم يكون خجلي لو رأتني ورأت فستاني الأجرب الذي أخرج به في الصباح والظهر والمساء، ووجهي الكالح الباهت الذي بقعته طبقة من المساحيق الرخيصة؟
Halaman tidak diketahui