مقدمة
1 - حول مفهوم البرودة
2 - اللمسيات (حاسة اللمس)
3 - الأثر النفسي والصحي للحرارة والبرودة على الإنسان
4 - تطور صناعة التبريد وطرائقها
5 - التهوية والتكييف بوساطة الملاقف
6 - التهوية بوساطة المراوح
7 - طرائق ومواد العزل الحراري للأبنية
الملاحق
المراجع والمصادر
مقدمة
1 - حول مفهوم البرودة
2 - اللمسيات (حاسة اللمس)
3 - الأثر النفسي والصحي للحرارة والبرودة على الإنسان
4 - تطور صناعة التبريد وطرائقها
5 - التهوية والتكييف بوساطة الملاقف
6 - التهوية بوساطة المراوح
7 - طرائق ومواد العزل الحراري للأبنية
الملاحق
المراجع والمصادر
التبريد في التراث العلمي العربي
التبريد في التراث العلمي العربي
تأليف
سائر بصمه جي
مراحل تطور مفاهيم البرودة وتطبيقاتها وإسهامات العلماء العرب والمسلمين فيها مع تحقيق بعض المخطوطات العلمية المتعلقة بالموضوع
مقدمة
يعد تاريخ العلم تاريخ أعمال الإنسان الحضارية، وهو في الوقت نفسه تاريخ العمل على ديمقراطية المعرفة الإيجابية،
1
وقد تلمس الباحث توماس كوهن
Th. Kuhn
دور تاريخ العلم فقال: «إذا كان العلم هو مجموع الوقائع - النظريات والمناهج المجتمعة في المؤلفات الشائعة - فالعلماء هم الرجال الذين جهدوا بنجاح، أو بدون نجاح، لإضافة هذا العنصر أو ذاك إلى هذا المجموع الخاص. والتطور العلمي يصبح السياق المجزأ الذي أضيفت بواسطته هذه العناصر، منفصلة أو ممتزجة، إلى الأساس المشترك الذي يشكل في نمو مستمر التقنية والمعرفة العلميتين. وتاريخ العلم يصبح قواعد الضبط التي ترسم من جديد وبوقت واحد هذه الإسهامات المتعاقبة والعوائق التي أخرت تراكمها.»
2
لذلك استطاع أن يحدد لمؤرخ العلم مهمتين:
3
الأولى تحديد الشخص الذي توصل للنظرية أو القانون، واللحظة التي اكتشف فيها (أي تحديد الزمان والإنسان)، والثانية هي وصف وتفسير كتل الأخطاء والأساطير والخرافات التي كبحت تراكم العناصر المكونة للمذهب العلمي العصري (أي تحديد المعيقات التي منعته من الوصول لما وصلنا إليه).
وهذا ما دأبنا عليه في كتابتنا لتاريخ الفيزياء في الحضارة العربية والإسلامية؛ فنحن نبذل كل جهدنا لتحديد العلماء العرب والمسلمين الذين أسهموا في كل علم من العلوم الفيزيائية، ثم نحاول أن نبحث في المعيقات التي منعت استمرار تطور الفيزياء في البلاد العربية والإسلامية.
ويأتي كتابنا هذا (التبريد في التراث العلمي العربي) مكملا للمشروع الذي بدأناه منذ عام 2005م، وهو أن نوثق ونحلل ونقارن كل الإسهامات العلمية العربية والإسلامية في مجال الفيزياء.
وكما هي الحال في نشأة العلوم، فإن علم البرودة لم ينشأ وترس قواعده بسرعة، بل استغرق الأمر آلاف السنين حتى وصل إلى الحال التي نعرفها عليه اليوم، بل ونتج عنه فروع معرفية أخرى تغوص في أعماق درجات الحرارة المنخفضة، وهو ما نجده في علم التقريس
Cryogenics
الذي يدرس «درجات الحرارة الشديدة الانخفاض، ويشمل تطوير أساليب التوصل إلى تلك الدرجات، والحفاظ عليها، واستخدامها في الأبحاث العلمية والصناعية»،
4
والذي يرتكز عليه علم فيزياء الناقلية الفائق وتطبيقاته في مجالات الطاقة.
والأسئلة التي نطرحها في كل مرة: هل كان للعلماء العرب والمسلمين أي إسهام في هذا العلم؟ وإلى أي مدى خرجوا عن التقليد اليوناني في هذا المجال؟ وما تأثير أفكارهم الجديدة على الفكر العلمي الأوروبي لاحقا؟
أما بشأن الإجابات عن تلك الأسئلة فإن القارئ سيجدها في كل فصل من فصول تاريخ علم البرودة؛ فقد كان للعلماء العرب والمسلمين إسهامات فيه، وسيجد أن تلك الإسهامات كانت غائبة لزمن طويل، وأنه سيكون من الإجحاف أن نقفز في تاريخ علم البرودة وغيره من العلوم من التاريخ اليوناني إلى النهضة الأوروبية، دون المرور على ما قدمه العلماء العرب في هذا المجال.
يغطي العمل توثيقا لما قدمته البشرية في مجال البرودة والتبريد منذ أقدم العصور حتى نهاية القرن التاسع عشر.
إنني أرجو أن أكون قد وفقت في تحقيق أهدافنا من هذا العمل؛ بأن نسلط الضوء على كل ما وصلنا إليه من إسهامات علمية عربية وإسلامية في علم البرودة وتطبيقاته.
والله ولي التوفيق.
د. سائر بصمه جي
حلب، 2020
الفصل الأول
حول مفهوم البرودة
مقدمة
لطالما تلازمت ظاهرة البرودة مع الحرارة، وما إن بدأ العلم يفرق بين كمية الحرارة ودرجة الحرارة في القرن الثامن عشر بشكل واضح، حتى بدأ مصطلح «البرودة» يختفي من لغة الفلاسفة الطبيعيين في القرن التاسع عشر.
1
لقد بددت النار الظلمة وقضت على البرد؛ مع إزالة العتمة أصبح الإنسان سيد نصف اليوم، ومع القضاء على البرد قهرت جميع البيئات الجغرافية ذات المناخ القاسي.
2
البرودة هي وجود درجة حرارة منخفضة، وخصوصا في الغلاف الجوي؛ حيث إننا نشعر كأننا نرتجف في كل أوصالنا. ولا شك أن ظاهرة البرودة شعر بها الناس منذ أن ظهروا على وجه البسيطة؛ فالبشر، بخلاف الكثير من الكائنات الحية، لا يدثر جلودها فراء يحميها من الحر والقر؛ لذلك كان لا بد من اللباس، وعندما كان لا يكفي اللباس كان لا بد من المسكن، وعندما كان لا يكفي المسكن فكان لا بد من النار للتدفئة بها.
ولعل أحدث اختراق توصل إليه العلماء في مفهوم التجمد هو تمكنهم من تجميد الماء عند درجة الغليان؛ فقد اكتشف باحثون من معهد ماساتشوستس للتقنية الأميركي في عام 2016م أن الماء المحصور داخل أنابيب كربون نانوية بإمكانه فعليا التجمد عند درجة حرارة عالية تتسبب في الوضع الطبيعي بوصوله إلى حالة الغليان. تشبه أنابيب الكربون النانوية في بنيتها الأنابيب المعتادة، لكن قطرها يقاس بالنانومتر الذي يعادل جزءا من مليون جزء من الميليمتر، أو أصغر بنحو مائة ألف مرة من قطر شعرة الإنسان. إن أنابيب الكربون النانوية التي استخدمت خلال تجارب معهد ماساتشوستس قطرها أكبر قليلا فقط من عرض عدد قليل من جزيئات الماء. ولأن الماء المحصور ضمن أنابيب الكربون النانوية يمكنه الوصول إلى حالة تجمد صلبة في درجة حرارة أعلى بكثير من الأوعية الأخرى، فإن هذا الاكتشاف قد يقود إلى ابتكارات مثل أسلاك مليئة بالجليد توجد ضمن درجة حرارة الغرفة. وقد نشرت نتائج البحث في دورية «نيتشر نانوتكنولوجي».
3
سنتعرف في هذا الفصل على إسهامات العلماء والفلاسفة من كل الحضارات في محاولاتهم لتفسير وفهم ظاهرة البرودة في الطبيعة.
المبحث الأول: اليونانيون
لفتت ظاهرة البرودة انتباه العلماء اليونانيين، وشعروا بضرورة دراستها كما شعروا ببرودتها. وقد بحث في مفهوم البرودة كل من أرسطو وأبولونيوس البرجاوي وجالينوس وبرقليس ومفيدروس. وقد كانت لهم آراء متباينة في تحديد مفهوم البرودة. كما عرف كل من اليونانيين والرومان القدماء أن الماء المغلي مسبقا سيبرد بسرعة أكبر من الماء المعتاد غير المغلي، لكن لم يعرفوا لماذا.
4 (1) أرسطو (القرن 4ق.م.)
حاول أرسطو أيضا أن يفسر سبب حدوث التجمد في المادة اعتمادا على نظريته في العناصر الأربعة؛ فالحرارة والبرودة عنصران فاعلان في المادة، والعنصران الآخران اليبوسة والرطوبة منفعلان، لكنه يشير إلى أن زيادة أو نقصان العنصرين الأخيرين تتحكم في مدى تأثير العنصرين الأولين، ويضرب لذلك مثالا هو: عندما نريد شواء مادة ما فإن نسبة الرطوبة فيها تعيق من تأثير الحرارة أو البرودة عليها.
قال: «إن علة انفعال الهيولى هي اثنتان؛ الفاعل المحرك، والفاعل الحاصل عنه في المنفعل الذي هو صورة المنفعل نفسها. ولما كان ها هنا إنما هو الحر أو البرد، وذلك أن البرد يعرض للهيولى إذا فقدت الحر، وكان ظاهرا من أمر هذا الفعل الذي هو الجمود أنه يبس ما، فقد يجب أن نبتدئ بذكر اليبس؛ أعني كيف يكون عن هاتين القوتين الفاعلتين؛ أعني الحرارة والبرودة وما الأشياء التي تلقى هذا العرض منها، فأقول: إن كل جسد منفعل فإنه لا يخلو من غلبة اليابس عليه أو الرطب اللذين هما الأرض والماء. ولما كان هذان الأسطقسان باردين، وجب أن يكون كل كون فيه من القوى الفاعلة القوة الباردة، والباردة تفعل في المكونات، إما بالذات ففسادا، وإما بالعرض فقد تعين على الكون، مثل منعه من الاشتواء وتجميده الجسد الرطب بعد انقضاء الطبخ. والفساد يفعله في المكونات بجهتين أيضا؛ إما بالعرض، وذلك بأن يجمع الحرارة في عمق الشيء حتى يحرقه ويشتت أجزاءه؛ وإما بالذات، وذلك بأن يفسد الحرارة الغريزية التي في الشيء فيعرض من ذلك انتقاص اتصال أجزاء المكون بخروج الرطوبة الطبيعية عن الشيء لمكان زوال الحرارة الطبيعية.»
5
وقد حاول أرسطو أن يفسر أيضا عملية التجفيف التي تحدث بسبب البرودة، كما هو حدوثها عند الحرارة، فالبرودة تحيط بالجسم فتحبس الحرارة الداخلية فيه وتجعله يتخلص من رطوبته، وهو ما يلاحظ في حالة جفاف الثوب في الأيام الباردة: «والأشياء الرطبة تجف إما من البرد وإما من الحر. أما جفوفها من البرد فمن أجل أن البرد يحصر الحرارة في باطن الشيء فيعمل في الرطوبة التي فيه فيجف ذلك الشيء، كما يعرض للثوب الذي يجف من البرد؛ وذلك أن الشيء ذا الرطوبة اليسيرة إذا صعدت البرودة فيه إلى الحرارة الموجودة قويت فجففته. وأيضا فإنه يعرض للحرارة عندما تضاده البرودة فتتحلل من الشيء وتطلب المكان الخاص بها، وعند تحللها من ذلك الشيء تتحلل الرطوبة الموجودة فيه؛ فأما الجفوف الذي يكون من قبل الحر فبالذات، وذلك كالأشياء التي تجف من حرارة النار المحيطة بها.»
6
كتب أرسطو عن أثر مبيمبا
Mpemba’s Effect (أي تجمد الماء الحار أسرع من الماء البارد) قبل أن يصفها كل من جيوفاني مارلياني
G. Marliani (توفي 1483م) وفرنسيس بيكون
F. Bacon (توفي 1626م) ورينيه ديكارت
R. Descartes (توفي 1650م)، ولم تكن مطروحة في المجتمع العلمي الحديث في القرن العشرين إلى أن جاء تلميذ تانزاني من المدرسة الثانوية في عام 1969م يدعى مبيمبا وأعاد طرحها من جديد على الباحثين.
7
طبعا الظاهرة كانت معروفة، ويستخدمها المصريون القدماء والهنود وغيرهم من الشعوب من أجل الحصول على ماء بارد أو الجليد في أثناء الصيف.
قال أرسطو لدى محاولة تفسيره لسبب تشكل البرد «وأما السبب الثاني عنده فهو أن الهواء الذي تتكون منه الأمطار في أوقات البرد هو هواء أحر من الذي تتكون منه في زمان الشتاء، فيكون الماء الذي يتولد عنه ساخنا، والماء الساخن أسرع للجمود وقبول البرد من الماء البارد. ويستشهد على ذلك أنه متى سخن أحد الماء ثم وضعه في موضع بارد كان قبوله للبرد أسرع. والسبب في ذلك عنده أن الضد يقوى فعله عند حضور ضده، فإذا سخن الماء وأدني من الجسم البارد قوي فعل الجسم البارد فيه لمضادة الحرارة له.»
8
وقد عزا أرسطو السبب في تجمد الماء بأشكاله كافة إلى برودة المكان الذي يقع فيه، وإلى الوقت البارد؛ حيث إن الثلج والجليد يتشكلان شتاء وليلا من ناحية الوقت، وسبب تشكل كل منهما هو قرب الشمس وبعدها عن الأرض. ويرى أرسطو أن الثلج يختلف عن الجليد بسبب اختلاف حالة المادة الأولية لكل منهما؛ فالأول ينتج عن الماء المتجمد والثاني عن البخار المتجمد.
قال أرسطو: «والماء لا يجمد إلا في الموضع الذي فيه يتكون السحاب، وهذا الموضع يهبط منه ثلاثة أجسام تكوينها وقوامها بالبرد: الماء والثلج والبرد. والموضع الذي دونه يهبط منه جسمان أيضا، كما قلنا، وهما الجليد والندى، وعلتهما وعلة الثلاثة التي تهبط من المكان الذي فوق هذا علة واحدة وهي البرد، وإنما يختلفان في ذلك بالأقل والأكثر في العلة والمعلول؛ وذلك أن على كليهما الزمان البارد والمكان البارد، وأما المطر والثلج فزمان الشتاء، وأما الندى والجليد فزمان الليل، وعلة كليهما قرب الشمس وبعدها. وأما اختلافها في المعلول، أما مخالفة المطر للندى فبالكثرة والقلة، وأما مخالفة الثلج للجليد فمن قبل الهيولى؛ وذلك أن الثلج هو ماء جامد، وأما الجليد فهو بخار جامد. والدليل على هذا سخافة هذا وكثافة ذلك، وأن السخافة إنما تكون مخالطة الحرارة أجزاء البخار الذي كان من شأنه أن يتكاثف حتى يصير ماء، فتمنعه تلك الأجزاء الحارة الهوائية التي فيه من أن يصلب كما يصلب الثلج.»
9
ويستنتج أرسطو من ذلك مدى تأثير الحرارة والبرودة على حالات الأجسام؛ فمن آثار البرودة الأخرى مساهمتها في تشكل المواد الأخرى مثل المعادن، كما أنها تساعد في عملية هضم الطعام في فصل الشتاء بشكل أفضل من فصل الصيف. «وقد يدل أيضا دلالة عظيمة على أن الحرارة والبرودة فاعلتان؛ فكل واحدة منهما توجد سببا لكون الأجسام وفسادها ... وأما البرودة فتتولد عنها المعادن، ويفسد بها النبات إذا عرض له الذبول، والحيوان إذا شاخ ... والبرودة تسخن بالعرض؛ ولذلك نجد الاستمراء والانهضام في الشتاء أجود وأقوى.»
10 (2) أبولونيوس التياني (القرن 1م)
بحث بليناس أو أبولونيوس التياني
Apollonius of Tyana (توفي 100م) في سبب حدوث الاعتدال في حرارة الجسم عندما يختلط الحار مع البارد، حيث يأخذ كل واحد منهما من الآخر ويؤثر كل منهما في الآخر حتى يصلا إلى حالة التوازن في الحرارة. «وأقول أيضا إن الحر إذا أصاب البرد أسخنه، فسخن البرد وبرد الحر فبرد؛ فإذا برد الحر وسخن البرد اعتدلا، فامتزجا وضعفا جميعا وانقلب كل واحد منهما عن كيانه.»
11
كما بحث أبولونيوس في أسباب تشكل الثلج والجليد بطريقة تختلف عن طريقة أرسطو، حيث إن بخار الهواء يرتفع من باطن الأرض نحو الأعلى بسبب وجود الحرارة بداخله، لكنه ما إن يصل فإنه يخسر تلك الحرارة؛ عندها يتكاثف ويمكن أن يعود بهيئة مطر، لكن إذا ازدادت درجة البرودة تجمد ذلك الماء وأصبح ثلجا.
الأمر نفسه ينطبق على الجليد؛ حيث تصل البرودة إلى عمق الماء فتحيله إلى الجليد، حيث قال: «إذا صعد البخار من أسفل الأرض فصار إلى العلو عرض له البرد في الهواء، فانسل الحر منه وهو الذي طيره إلى العلو، ولم يعرض له الرياح فتعصره فيرجع ماء، لكنه ثقل لخروج الحر منه فرجع بخارا مجتمعا قد لصق بعضه ببعض فأفرط عليه البرد من الهواء، فجمده فانحدر سائلا، وسمي ذلك الجامد ثلجا. وكذلك أقول على الجليد؛ إذا أفرط البرد في الهواء اتصل بالماء لأنه من شكله؛ فإذا وصل البرد إلى عمق الماء بطنت الحرارة المستجنة في الماء، وكانت هي التي تذيبه وتمنعه من أن يجمد فيصير حجرا، فإذا وصل إليه البرد العارض من الهواء بطنت الحرارة فيه واشتدت برودته، فجمد الماء وسمي ذلك الجامد جليدا.»
12 (3) جالينوس (القرن 2م)
ميز كلاوديوس جالينوس
K. Galen (توفي 200م) بين الجسمين الحار والبارد حسب غلبة الكيفية التي بداخله؛ فإذا كانت كيفية البرودة هي الغالبة نقول عندها إن الجسم بارد والعكس صحيح. هذه الفكرة تستند في أساسها على نظرية أرسطو في العناصر الأربعة ولم تخرج عنها بجديد؛ فقد جاء في كتاب «جوامع الإسكندرانيين لكتاب جالينوس في العناصر» أن جالينوس قال: «اسم الحار واسم البارد يجريان على معنيين؛ أحدهما كيفية الحرارة والبرودة بمنزلة ما يقول إن هذا الجسم حاله حال حارة أو حال باردة، والآخر الجسم الذي فيه تلك الكيفية؛ إلا أن هذا الجسم إما أن يكون فيه تلك الكيفية التي يوصف بها وحده، وإما أن يكون يخالطها فيه ضدها، وإما وحدها؛ فبمنزلة الحرارة في النار التي ليس معها برودة، وبمنزلة البرودة في الماء التي ليس معها حرارة، وما كان من الأجسام على هذا فيقال إنه في غاية الحرارة أو البرودة؛ وذاك أن كل شيء خالص محض لا يخالطه ضده فهو الغاية، وأما الكيفية التي يخالطها ضدها فبمنزلة ما في جميع الأقسام المركبة، وكل واحد من هذه يوصف بالحرارة والبرودة على أحد وجهين؛ إما بالأغلب، وإما بالمقايسة بينه وبين آخر من جهة الأغلب. وإذا كانت الحرارة فيه أكثر من البرودة فيقال من هذا الوجه حار، وإذا كانت البرودة عليه أغلب فيقال من هذا الوجه إنه بارد. أما من جهة المقايسة فإذا قيس بجسم آخر فوجد أشد حرارة منه فقيل من هذا الوجه إنه حار، أو وجد أنه أشد حرارة من هذا الوجه إنه حار، أو وجد أنه أشد برودة منه فقيل إنه بارد.»
13 (4) برقليس (القرن 5م)
في المسائل الطبيعية التي ناقشها برقليس
(توفي 485م) طرح تساؤل عن الدليل على أن الحرارة والبرودة قوتان فاعلتان، والرطوبة واليبوسة مفعولان بهما، فأجاب بمثال تطبيقي: «إنا إذا وضعنا أيدينا على جسم حار يؤلمنا حره، وكذلك إذا وضعنا أيدينا على جسم بارد آذانا برده. وأما الجسم المفرط اليبس إذا وضعنا أيدينا عليه لم يؤلمنا، وذلك كحجر إذا وضعنا أيدينا عليه لم يؤلمنا يبسه كما يؤلمنا حرارة النار وبرودة الثلج. وكذلك الشيء الندي الرطب إذا نحن وضعنا أيدينا عليه لم يؤثر فينا كأثر الحر والبرد؛ فإن قال قائل: ما بال العفص قد يخشن اليد ويقبضها؟ فنقول: إنه إنما يفعل ذلك فينا ويقوى لمكان البرد، ولولا ذلك لم يظهر منه هذا الفعل.»
14
ثم ناقش في مسألة أخرى حالة التنافر والتضاد التي نجدها بين الحرارة والبرودة، وهي الحالة التي لا تظهر بين الرطوبة واليبوسة، ويعود السبب في ذلك حسب رأيه إلى قوة وجود الحرارة والبرودة في النار والماء، في حين لم تكن الرطوبة واليبوسة بهذه القوة؛ لذلك لم تكن حالة التنافر بين الأخيرتين مماثلة لحالة الحرارة والبرودة. ويحدث أن يتنافر الهواء والأرض إذا وجدت قوة تدعم أحدهما وتقويه على الآخر.
قال: «ما بال الماء والنار إذا هما تلاقيا تنافرا وتضادا، والهواء والأرض قد يماس أحدهما صاحبه ولا يتنافران بينهما ولا يتضادان إذ هما متضادان؛ وذلك أن الهواء حار رطب والأرض باردة يابسة؟ فنقول: إن النار إذا لاقت الماء أو ماسته نافرته منافرة شديدة، ولا يخلو إما أن يقهرها وإما أن تقهره. وأما الهواء والأرض وإن اختلفا وتضادا فإنهما لا يتنافران؛ لأن الحرارة التي في النار قوة فاعلة، والبرد في الماء قوة فاعلة أيضا، واليبس في النار قوة مفعولة، والرطوبة في الماء قوة مفعولة أيضا؛ فإذا تلاقى الماء والنار نافرت النار الماء لقوة الحرارة الفاعلة فيهما، ولأن القوتين الفاعلتين - أعني الحرارة والبرودة - أقوى في النار والماء من القوة بين المنفعلتين - أعني الرطوبة واليبس اللتين في النار والماء - لذلك كانت منافرتهما ومضادتهما شديدتين، ولأن القوتين المفعولتين في الهواء والأرض أكثر من القوتين الفاعلتين، أعني الحر والبرد، لذلك لم تكن منافرتهما كمنافرة النار والماء اللذين فيهما القوتان الفاعلتان أغلب. ونقول أيضا إن الهواء والأرض قد يتضادان في مكان ما؛ لما فيهما من القوتين الفاعلتين؛ أعني الحر والبرد، ولكن لأن هاتين القوتين اللتين في الهواء ليستا بكثيرتين؛ لذلك لم تظهر منافرتهما كمنافرة النار والماء. وقد يتنافر الهواء والأرض، والأرض والهواء، إذا حركهما محرك من خارج فأضاف قوة فعله إلى فعلهما، فإذا أضيفت قوة الفاعل الذي في الهواء والأرض تنازعا وتضادا؛ وذلك لأن الهواء إذا دفعه دافع سمع له صوت أزال الحجر، وكذلك الحجر إذا وقع في الهواء أثر في الهواء فعلا قويا وهرب كل واحد منهما من صاحبه.»
15 (5) المفيدروس (القرن 5م)
كرر المفيدروس الألديري
Olympiodorus the Elder (كان حيا في القرن 5م) مقولة من سبقه لدى المقارنة بين الحرارة والبرودة فقال: «الحرارة والبرودة من الكيفيات الأول فاعلة قوية، والرطوبة واليبوسة ضعيفة منفعلة، بمنزلة المادة لتلك. وعلى هذا المثال توجد إذا قرنت اثنين مع اثنين، وواحدة مع واحدة؛ فالحرارة من الكيفيتين الفاعلتين أكثر فعلا، والبرودة أقل. ومن الكيفيتين المنفعلتين فاليبوسة أكثر انفعالا وأشبه بالمادة، والرطوبة أقل.»
16
لكن لدى المقارنة بين الحرارة والبرودة من ناحية القوة والشدة فإن الحرارة أقوى؛ لأنها تستطيع أن تجمع أجزاء المادة المتجانسة كالذهب الخالص، أو تفرق أجزاء المادة المختلفة مثل مزيج الذهب والفضة، بينما البرودة يمكنها أن تجمع بين المواد سواء كانت متجانسة الأجزاء أو غير متجانسة.
قال في ذلك: «إن الحرارة أقوى من البرودة، إن الحرارة يمكن فيها أن تصل وتفرق. وأما الاتصال فالأشياء المتساوية في النوع بمنزلة الذهب مفردا على حدته والفضة على حدتها. وأما التفرقة ففي الأشياء المختلفة في النوع؛ وذلك أن الذهب الذي خالطته الفضة إذا خلص بهر وصار إبريزا واعتزلت الفضة في ناحية. وأما البرودة فيمكن فيها أن تصل بين المتساوية في النوع والمختلفة، ويدل على ذلك أن الضفادع تجمد مع الماء في كون الجليد، وأما أن تفرق فليس يمكن فيها.»
17
و«للحرارة والبرودة أيضا أن كل واحدة منهما تقبل وتحيل، وتجفف وترطب، وتصلب وتلين.»
18
واتفق مع من سبقه على أن قدرة الحرارة والبرودة وفاعليتهما لها تأثيرها على كل ما هو موجود في الحياة، «إن الحرارة والبرودة فاعلتان؛ لأن كل واحدة منهما توجد سببا لكون الأجسام وفسادها؛ ذلك لأن الحرارة يتولد عنها الحيوان ويغتذي، والأجسام التي فيها تهيؤ للاحتراق تحترق. وأما البرودة فتتولد عنها المعادن، ويفسد بها النبات إذا عرض له الذبول، والحيوان إذا شاخ. والحرارة أيضا تبرد بالعرض؛ ولهذا نجد الاستمراء والنضج في الصيف أقل. والبرودة تسخن بالعرض؛ ولذلك نجد الاستمراء والانهضام في الشتاء أجود وأقوى.»
19
وكان المقصود بمصطلح النهوءة عند المفيدروس الأثر الذي تحدثه البرودة: «أما النضج ففعل الحرارة، وأما النهوءة ففعل البرودة. وكل واحد من هذين يكون على جهات شتى؛ إما لحفظ الشيء القابل له مع نوعه، وإما لعدم نوعه.»
20
و«النهوءة إنما تكون مع استحالة نوع الشيء القابل لها، كالذي يعرض في الأشياء التي تحمص، وإما مع حفظ نوعه، وذلك يكون إما للأجسام النامية، كالذي يوجد في ثمار الأشجار التي لا تنضج، وإما للأجسام غير النامية. وهذا الصنف أيضا إما أن يكون للنهوءة، وحدوثه متى غلبت الحرارة على المادة؛ وإما متى عدم الشيء، وحدوثه يكون إذا لم تقهر الحرارة المادة.»
21
وقد تناول المفيدروس حالة الجمود أو التجمد الذي يعرض لحالة المادة، فيكون إما بسبب تحول المادة الرطبة إلى جليد أو بسبب تأثير كيفية الرطوبة التي توجد في المواد. وقد يكون هذا التجمد ناجما عن اختلاف نسب الكيفيات الأخرى في المواد، كأن تزداد نسبة الحرارة مع اليبوسة أو تزداد نسبة البرودة لوحدها أو اليبوسة لوحدها.
قال المفيدروس: «أما أسباب الجمود التي من جهة المادة فاثنان؛ وذلك أن الجمود يظهر بعرض؛ إما للأشياء الرطبة بمنزلة الماء إذا صار جليدا، وإما بمنزلة الأشياء التي فيها رطوبة بمنزلة المعدنيات. وأما الأسباب فثلاثة؛ أحدها الحرارة مع اليبوسة، والثاني البرودة وحدها مفردة، والثالث اليبوسة وحدها مفردة.»
22
ثم يشرحه من خلال مثال الفخار: «إن جمود الفخار في ابتداء الأمر بالبرودة ثم يجمد بآخره بالحرارة؛ ولهذه العلة لا يتحلل؛ وذلك لسببين؛ أحدهما أن جموده منه لما كان من كيفيتين متضادتين قويتين لا يمكن فيه أن ينحل ولا واحدة منهما ... والسبب الثاني أن جمود الفخار ليس عن البرودة والحرارة معا فقط، لكن بسبب تبخر الرطوبة وانفشاشها عنه أيضا؛ ولهذه العلة نجد المنافذ التي تنجذب فيها هذه الرطوبة لطافا رقاقا لا يمكن أن ينفذ فيها لغلظه؛ ولذلك لا ينحل به الفخار.»
23
المبحث الثاني: العلماء العرب والمسلمون
حفل المعجم العربي بمختلف أنواع الألفاظ التي تصف البرد والبرودة التي تعرض لها العربي في مختلف البيئات التي عاشها؛ فقد جاء في أول معجم عربي (كتاب العين) للفراهيدي (توفي 170ه/786م): «برد يبرد برودة، وبردت الخبز بالماء: صببته عليه فبللته، واسم ذلك الخبز المبلول البريد والمبرود، تطعمه النساء للسمنة، وتقول: اسقني شربة أبرد بها كبدي. وبرد القر وأبردوا: صاروا في وقت القر آخر النهار. وبردت الماء تبريدا. وبرد عليه حق كذا وكذا درهما؛ أي لزمه ذلك. والبرود: كحل تبرد به العين من الحر.»
24
وعند أبي هلال العسكري (توفي 395ه/1005م): «البرد والقر سواء. والقر البارد. والسبرة شدة البرد . غداة سبرة: شديدة البرد. وفي الحديث: إسباغ الوضوء في السبرات. وشيبان وملحان شهرا قماح، وهما اللذان يقال لهما كانون وكانون. وسميا بذلك لبياض فيهما من الصقيع. وسميا شهرا قماح لأن الإبل إذا وضعت رءوسها فيهما للشرب آذاها برد الماء فقمحت؛ أي رفعت رءوسها. ومنه قوله تعالى:
فهم مقمحون .»
25
وقد فصل لنا الثعالبي (توفي 429ه/1038م) في كتابه «فقه اللغة وسر العربية» مختلف الحالات التي تتعلق بمفهوم البرودة فقال: «القفقفة لمن يجد البرد الشديد.»
26 «فإذا انحدر من بلاد البرد إلى بلاد الحر قيل: قطع قطوعا وقطاعا، ويقال: كان ذلك عند قطاع الطير.»
27
و«في تفصيل الرياح: فإذا كانت باردة فهي الحرجف والصرصر والعرية، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحرور والسموم، فإذا كانت حارة وأتت من قبل اليمن فهي الهيف، فإذا كانت باردة شديدة تخرق الثوب فهي الخريق، فإذا ضعفت وجرت فويق الأرض فهي المسفسفة، فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم، وقد نطق بها القرآن.»
28
و«في تفصيل كمية المياه وكيفيتها عن الأئمة إذا كان الماء باردا منتنا، فهو غساق بتشديد السين وتخفيفها، وقد نطق به القرآن؛ فإذا كان حارا فهو سخن، فإذا كان شديد الحرارة فهو حميم، فإذا كان مسخنا فهو موغر، فإذا كان بين الحار والبارد فهو فاتر، فإذا كان باردا فهو قار، ثم خصر ثم شنان.»
29
أخيرا يقال من باب الاستعارة «دبت عقارب البرد»؛
30
ولذلك يقال في العامة العربية «لسعه البرد» وكأن البرد عقرب يلسع، أو «كسر سم الماء» وكأن الماء الشديد البرودة مسموم، وينكسر سمه بإضافة ماء دافئ له.
أما في تكملة المعاجم العربية لدوزي: «برد: أصابه البرد، هبطت حرارته (بوشر)، وصار باردا (بوشر). وتبرد (بوشر) وبرد (مجازا): خدر (بوشر). وبردت همته: فترت وخمدت وقل عزمه (بوشر). وبرد عليه الضرب: هدأ عليه ألم الضرب (ألف ليلة 2: 226).
برد على: تكلم بما لا طائل تحته (فوك).
برد (بالتضعيف) همته: أخمدها وفترها، وفل من عزمه أيضا (بوشر). وبرد الخلق: هدأهم وأزال غضبهم (بوشر). وتبرد (الكالا)، ومطر البرد، نزل البرد (بوشر)، وتكلم بما لا طائل تحته (فوك). وبرد الملك: ثبته، وبرد عنه: أهمله (محيط المحيط).
بارد له: أساء استقباله وقابله بفتور، وكلح في وجهه (بوشر).
أبرد: برد (فوك). ابرد إلى فلان، به: أرسله إليه بالبريد. ففي مملوك (2: 37): أبرد إلى ابن هشام بالكتاب، وأبرد إلى فلان شيئا: أثقل عليه وكلفه ما لا طاقة له به، ففي ابن عباد (2: 160، وانظر 3: 220): أبرد إلى ما ناء أي أثقلني بما ينوء بحمله الإنسان، وفرض علي من المال ما أدى بي إلى الخراب. وأبرد: قال شيئا باردا (المقري 1: 609 مع تعليق فليشر على المقري ص204).
تبرد: ذكرها فوك بمعنى صار باردا.
وتبرد عليه: قال شيئا باردا (فوك). تبارد: تكلف البرودة، وفعل وقال سخفا. وتبارد على فلان: قال له كلاما تافها أو باردا وعبث به باللغو من الكلام. وتبارد على الناس: تناولهم بالسخرية والعبث (بوشر).
انبرد: سحل بالمبرد (فوك).
استبرد: طلب البرد (تاريخ البربر 1: 153). واستبرد فلانا: استحمقه ووجده باردا (معجم الإسبانية 66).»
31
كم الألفاظ والعبارات العربية الواصفة للبرودة ومختلف حالاتها لا تقارن بنظيرتها في الحرارة؛ فالعربي الأصيل الذي أنجب لغته عاش في حر بيئته أكثر مما عاش في بردها؛ لذلك جاءت أوصافه للحر أكثر مما كانت للبرد.
على العموم سنجد للعلماء آراء تختلف عن اللغويين في ظاهرة البرودة؛ فقد حاولوا تفسيرها ومعرفة الأسباب الناجمة عنها. ويرى الباحث زكي نجيب محمود أن العلم القديم كله - سواء عند اليونانيين أم في العصور الوسطى عند العرب - كان علما كيفيا؛ أي على خلاف العلم الحديث الذي يزيد اهتمامه بالجانب الكمي؛ فقد كانت البرودة حقيقة مستقلة عن الحرارة؛ وذلك لأنهما مختلفتان في الكيف، أما في العلم المعاصر فتعتبر البرودة درجة من درجات الحرارة، ولا اختلاف بين الطرفين إلا من الناحية الكمية.
32 (1) جابر بن حيان (القرن 3ه/9م)
عرف جابر بن حيان (توفي 199ه/815م) الحرارة بأنها غليان المادة وانتشارها في كل الجهات، كأنها انتقال من المركز إلى المحيط، أما البرودة فهي بحسب جابر: «حركة الهيولى من محيطها إلى مركزها.»
33
وهكذا تتعاكس حركة المادة المبردة بعكس حركة المادة المسخنة، ولو كان في مصطلحات جابر «الدرجة» لذكر لنا بأن البرودة هي درجة من درجات الحرارة التي تختلف بكم الوحدة لا أكثر، لكنه أراد أن يبين الفارق بين الحرارة والبرودة من ناحية الحركة؛ فالحركة من المحيط إلى المركز في المادة تعني الانكماش والتقلص، في حين أن الحركة من المركز إلى المحيط وفي كل الجهات تفيد معنى التمدد.
ثم يحاول جابر أن يعمم بطريقة استقرائية فيعرفنا بعلم البرودة
Cold science
بأنه: «العلم بجوهرها وأثرها وما تأثرت به على التفصيل، وبأثرها على الجملة.»
34
ولعل هذا أول وأقدم تعريف موثق لعلم البرودة يحدد من خلاله جابر ما يقوم عليه؛ فهو يتطلب:
فهم حقيقة البرودة وسبب حدوثها.
معرفة أثر البرودة على الأجسام جملة وتفصيلا.
من ناحية أخرى يمثل وضع هذا التعريف أولى خطوات الخروج على الفكر الأرسطي؛ إذ نجد جابر لا يقحم أي دور لنظرية العناصر أو الكيفيات الأربع في تأسيس علم البرودة، وإنما أراده علما قائما بشكل خاص على السببية والأثر والنتيجة. (2) إبراهيم النظام (القرن 3ه/9م)
طبق إبراهيم بن سيار النظام (توفي 231ه/845م) نظريته في الطفرة (أي حركة القفز مع الارتفاع وتجاوز المراحل بين بداية الحركة ونهايتها) على عدد من الظواهر الطبيعية ليثبت صحتها وعمومية أثرها. ومن الظواهر التي طبقها عليها البرودة؛ فإذا أخذنا شيئا باردا وقمنا بإتلافه لدرجة أننا لم نعد نشعر ببرودته التي كان عليها سابقا، عندها نفترض أن هذه البرودة قد اتحدت بوساطة الطفرة مع البرودة الموجودة في الأرض. ولكن باعتبار البرودة عرضا من الأعراض الذي يمكن أن يزول بطبيعة الحال، فلا يمكن أن يزول بالطفرة على أنه شيء متحرك. وقد رد النظام على ذلك بأنه لا يعرف إلا عرضا واحدا هو الحركة، بينما كافة المظاهر الأخرى في الشيء فهي أجسام؛ أي لونه ورائحته وسخونته وبرودته وخفته وثقله ولينه أو خشونته، وكذلك أبعاده الثلاثة؛ فهي كلها أجسام؛ وعلى ذلك فإن مفهوم السخونة ليس شيئا يمكن إبداله بضده؛ أي البرودة؛ فجميع الصفات إنما هي أخلاط جسمية في جوهر واحد لا يمكن إبدالها بغيرها، وإنما هي قائمة بكاملها في الوقت نفسه. وقد يبدو لنا ظاهريا وجود أشياء ساخنة فقط أو باردة فقط ، إلا أن هذه الظاهرة يمكن تفسيرها بأن الصفات المضادة إنما هي مستترة أو كامنة في هذا الجوهر؛ وعلى هذا فإن صفة «البرودة» موجودة في العنصر على أنها جسم، ولكنها تداخلت مع بقية الأخلاط وتمازجت معها لدرجة لم نشعر بها بحواسنا.
35 (3) الكندي (القرن 3ه/9م)
يعرف الكندي (توفي256ه/873م) البرودة بأنها «هي علة جمع الأشياء من جواهر مختلفة، وتفريق الأشياء التي من جوهر واحد.»
36
وهو كما نلاحظ تعريف معدل من تعريف المفيدروس الذي سبق ووضع عليه مثال الذهب والفضة. (4) الفارابي (القرن 4ه/10م)
يعرف أبو نصر الفارابي (توفي339ه/950م) الجسم البارد أنه: «ما يركب إليه جسم بارد ويخلطه به، أو أن يبرده الهواء أو الثلج.»
37
وهذا يعني أن البرودة صفة مكتسبة للجسم وليست متأصلة فيه كما يقول النظام، لكنه لا يشرح مفهوم البرودة بحد ذاته؛ ثم يؤكد على فكرة البرودة المكتسبة من خلال مصطلح «التعديل»؛ فهو: «كسر حرارة الحار بأن يبرد قليلا ويخالط حرارته برودة، فتحصل من ذلك حرارة بمقدار ما من كيفيته، ومن شدته وضعفه.»
38 (5) ابن بشرون (القرن 4ه/10م)
حاول أبو بكر بن بشرون (كان حيا عام 390ه/1000م) أن يشرح طبيعة العلاقة القائمة بين الحركة والحرارة والبرودة، طبعا بالاعتماد على النظرية الأرسطية، ليستنتج أن السبب الرئيس لتولد الحرارة هو الحركة، وهذا يعني أن البرودة تعني بشكلها الظاهري عدم الحركة.
فقال: «واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء ويعقد رطوبتها، والحار منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها، وإنما أفردت الحر والبرد لأنهما فاعلان، والرطوبة واليبس منفعلان، وعلى انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكون، وإن كان الحر أكثر فعلا في ذلك من البرد؛ لأن البرد ليس له نقل الأشياء ولا تحريكها، والحر هو علة الحركة. ومتى ضعفت علة الكون، وهو الحرارة، لم يتم منها شيء أبدا، كما أنه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثم برد أحرقته وأهلكته.»
39 (6) إخوان الصفا (القرن 4ه/10م)
حاول إخوان الصفا تقديم رؤية جديدة بعيدة عن نظرية أرسطو في العناصر؛ حيث إن وجود الحرارة في بعض الأجسام ناجم عن تحرك أجزاء مادتها، كما أن سبب البرودة هو سكون تلك الأجزاء المادية. وهو تفسير معقول ومقبول منطقيا لكونه يستند إلى النظرية الذرية التي كان يعارضها أرسطو. يقول إخوان الصفا: «وأما الحرارة في بعض الأجسام، فهي من أجل غليان أجزاء الهيولى وفورانها بالحركة الخفيفة، وأما البرودة في بعضها فهي من أجل سكون تلك الأجزاء، أو جمود ذلك الغليان.»
40
من ناحية أخرى يتقارب فهم وتفسير إخوان الصفا من فهم جابر لظاهرة البرودة، لكنهم لا يضعون جهة تأثير البرودة على الجسم كما وضعها جابر بأنها من المحيط إلى المركز. (7) ابن سينا (القرن 5ه/11م)
يعرف ابن سينا (توفي 427ه/1037م) البرودة - وفق المفهوم الأرسطي - بأنها: «كيفية فعلية تفعل جمعا بين المتجانسات وغير المتجانسات لحصرها الأجسام بتكثيفها وعقدها اللذين من باب الكيف.»
41
ثم يعيد ابن سينا قول أرسطو في البرودة وتأثيرها على الأجسام؛ فالبرودة كيفية فعلية تؤثر في جميع الأجسام المتجانسة وغير المتجانسة، حيث تقوم بتكثيفها وعقدها إلى بعضها بعضا.
42
قال ابن سينا: «الكيفيات الملموسة الأولى هي هذه الأربعة؛ اثنتان منها فاعلتان، وهما الحرارة والبرودة، ولكونهما فاعلتين ما تحدان بالفعل بأن يقال إن الحرارة هي التي تفرق بين المختلفات وتجمع بين المتشاكلات، كما تفعله النار؛ والبرودة هي التي تجمع بين المتشاكلات وغير المتشاكلات كما يفعل الماء. واثنتان منفعلتان، وهما الرطوبة واليبوسة، ولكونهما منفعلتين ما تحدان بالانفعال فقط.»
43
ويشير من ناحية أخرى إلى أن ظاهرتي الحرارة والبرودة تلازمان ظاهرتي الخفة والثقل؛ فالجسم الذي يسخن يكتسب الحرارة ويصبح أخف، وبالعكس فإن الجسم إذا تبرد يصبح أثقل؛ إذن «الحرارة والبرودة لازمتان منعكستان على الخفة والثقل؛ فالمادة إذا أمعن فيها التسخين خفت، فإذا خفت سخنت؛ فلا خفيف إلا وهو حار، ويعرض لها إذا بردت بشدة أن تثقل، وإذا ثقلت بشدة أن تبرد؛ فلا ثقيل إلا وهو بارد، فيكون الحر والبرد منعكسين على الثقل والخفة، كالإشفاف وغير ذلك مما يوجد في الثقيل والخفيف.»
44
ويرى ابن سينا أن الجسم نفسه قد يكون باردا أو ساخنا ذاتيا، فيبرد أو يسخن نفسه وما يحيط به؛ «الجسم الذي له طبيعة مبردة أو مسخنة، فإنه يبرد ذاته أو يسخنها بطبيعته، ويبرد أيضا ما يجاوره ويتصل به أو يسخنه.»
45
وفي المقابل لا يمكن أن يكون الجسم نفسه حارا وباردا في الوقت نفسه؛ لأن «الحرارة والبرودة ليستا من الكيفيات التي بها يستعد الجوهر لانفعال ما ... وذلك لأن الحر ليس استعداده للبرد لأنه حار، كيف والبرد يبطل الحر؟ وما دام هو حارا فيمتنع أن يصير باردا؛ فالحر يمنع وجود البرد، لا أن يعد له المادة، بل المادة مستعدة بنفسها لقبول البرد المعدوم فيها، لكنه يتفق أن يقارن تلك الحالة وجود الحر الذي يضاد البرد ويمانعه ويستحيل وجوده معه.»
46
وفي حديثه عن مفهوم «النهوءة» الذي سبق وتحدث عنه المفيدروس وكيف أن الجسم الرطب يكون مستعدا لتتحقق فيه حالة النهوءة حيث تقف حائلا أمام تأثير الحرارة، يقول ابن سينا: «فإن تبقى الرطوبة غير مبلوغ بها الغاية المقصودة، مع أنها لا تكون قد استحالت إلى كيفية منافية للغاية المقصودة، مثل أن تبقى الثمرة نية، أو يبقى الغذاء بحالة لا يستحيل إلى مشاكلة المغتذي، ولا أيضا يتغير، أو يبقى الخلط بحاله لا يستحيل إلى موافقة الاندفاع، ولا أيضا يفسد فسادا آخر؛ فإن استحالت الرطوبة هيئة رديئة تزيل صلوحها للانتفاع بها في الغاية المقصودة، فذلك هو العفونة. والنهوءة يفعلها بالعرض مانع فعل الحر، ومانع فعل الحر هو البرودة.»
47
إذن «النهوءة مادتها جسم رطب، وفاعلها برد أو عدم حر، وصورتها بقاء الرطوبة غير مسلوك بها إلى الغاية الطبيعية؛ فصورتها عدم النضج، وغايتها الغاية العرضية التي تسمى الباطل.»
48
كذلك فقد عاد ابن سينا وناقش حالة الجمود أو التجمد التي تعرض للمادة التي سبق وأن ناقشها المفيدروس، لكن بشيء من التفصيل والتوضيح وفق مفاهيم الحركة والسكون والتمدد والتقلص ؛ فإذا كان حجم المادة يعتريه الزيادة في حال تعرضه للحرارة، فإن حجم المادة سيقل لدى التعرض للبرودة، وما بين التمدد والتقلص تتعرض المادة للتكاثف والتخلخل.
قال ابن سينا: «قد قيل إن اللهيب والغليان لما كان كل واحد منهما إفراط حرارة، وكان الجمود إفراط برد، وكان الجمود خاصة البارد والرطب، فكذلك اللهيب والغليان خاصة الحار اليابس ... وذلك لأن الغليان ليس لإفراط حر، بل إن كان ولا بد فهو حركة تعرض للرطب عن الحر المفرط؛ ولا اللهيب إفراط الحر، بل إضاءة تعرض عن إفراط الحر في الدخان؛ فإن سمي اشتداد الحر لهيبا فلا مضايقة فيه. والجمود ليس إفراط برد، بل أثر يعرض من إفراط البرد لا في كل جسم بل في الرطب. ولا الجمود ضد الغليان؛ لأن الغليان حركة إلى فوق، وتضادها الحركة إلى أسفل إذا كانت تضعه، فأما الجمود فليس هو حركة؛ فلعل الواجب أن يجعل الجمود اجتماع المادة إلى حجم صغير مع عصيان على الحاصر المشكل، والغليان انبساطها إلى حجم كبير مع ترقق وطاعة لحصر المشكل؛ فإن كان كذلك الخلاف بينهما ما بين التكاثف والتخلخل.»
49
ثم ينتقل بنا ابن سينا في كتابه «الإشارات والتنبيهات» إلى مرحلة جديدة، وهي تدوين جملة من الملاحظات الرصدية الخاصة بظاهرتي الحرارة والبرودة، وسيساعدنا أحد أتباعه - وهو نصير الدين الطوسي (توفي 672ه/1274م) - في شرح وتحديد مقصده من كل ملاحظة دونها. (أ) الحالات الحدية للمادة
يضع لنا ابن سينا أربع حالات حدية يمكن أن تبلغها المادة حسب تعرضها للحرارة والبرودة.
قال ابن سينا إن «الجسم البالغ في الحرارة بطبعه هو النار، والبالغ في البرودة بطبعه هو الماء، والبالغ في الميعان هو الهواء، والبالغ في الجمود هو الأرض.»
50
وقد علق نصير الدين الطوسي على هذه العبارة بقوله إن ابن سينا «بدأ بالنار، فنبه بقوله «البالغ في الحرارة» على كون الحرارة كيفية تشتد وتضعف، لا صورة تقوم بجوهرها الذي لا يختلف. وأشار بقوله «بطبعه» إلى مصدر تلك الحرارة؛ أعني الصورة النوعية. وأورد القضية في صيغة تدل على مساواة طرفيها ليعلم أن هذا القول مميز للنار عما سواها، ومعرف لماهيتها.»
51
ويتابع الطوسي شرحه فيما يتعلق بالبرودة فيقول: «وأما برودة الماء فقد ذهب قوم كثير - منهم الشيخ أبو البركات
52
من المتأخرين - إلى أن الأرض أبرد من الماء لأنها أكثف، وإن كان الإحساس ببرودة الماء لفرط وصوله إلى المسام والتصاقه بالأعضاء أشد، كما أن النار أسخن من النحاس المذاب، مع أن الإحساس به أشد.»
53 (ب) الحالات النسبية
ثم يعقد ابن سينا مقارنات بين حالات المادة؛ فالهواء مقارنة بالماء ألطف، ويمكن للماء بلوغ حالة الهواء إذا تم تبخيره وتغيير حالته.
قال ابن سينا: «والهواء بالقياس إلى الماء حار لطيف، يتشبه به الماء إذا سخن ولطف.»
54
وقد علق الطوسي أن ابن سينا قال «والهواء بالقياس إلى الماء حار»، ولم يقل «إنه حار مطلقا»؛ لأنه بالقياس إلى النار ليس بحار؛ إذ كان البالغ في الحرارة هو النار. ولم يمكن أن يقول «بالقياس إلى الأرض» لأنه لم يبين بعد كيفيتها الفعلية. واستدل على حرارة الهواء بأن الماء يتشبه به، إذا سخن ولطف، أن تخلخل. وتشبهه به تبخره وتصاعده في حيزه، لا تكونه هواء؛ لأن ذلك لا يكون تشبها. والبخار هو أجزاء صغيرة مائية كثيرة مختلطة بالهواء. ووجه الاستدلال أن الحرارة تقتضي الخفة واللطافة، والبرودة تقتضي الثقل والكثافة. وبالتجربة، فإن ما هو أسخن فهو أخف وألطف، وما هو أبرد فهو أثقل وأكثف. ولو لم يكن الهواء أسخن من الماء، لم يكن أخف وألطف منه، لكنه أخف وألطف، فهو أسخن.»
55
كذلك فإن «الأرض إذا خليت وطباعها، ولم تسخن بعلة، بردت.»
56
فعلق الطوسي: «وهذا الاستدلال على برودة الأرض، وهو ظاهر. والعلة المسخنة هي أشعة العلويات، ثم المسخنات السفلية، كالرياح الحارة وغيرها.»
57
وقال ابن سينا: «وإذا خمدت النار وفارقتها سخونتها، تكون منها أجسام صلبة أرضية يقذفها السحاب الصاعق.»
58
فعلق الطوسي: «يريد إثبات يبوسة النار، واستدل عليها بالصاعقة؛ فإنها - على ما قال ها هنا - تتولد من أجسام نارية فارقتها السخونة، وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكاثفة.»
59 (ج) الحالات العكسية
من شأن التغيرات الفيزيائية السير باتجاهين، فيمكننا تحويل الماء إلى بخار بتسخينه، ويمكن تحويل البخار إلى الماء من خلال تكثيفه على سطح بارد، ولا يمكن أن نفسر ظاهرة التكاثف على أنها ارتشاح للماء من داخل الوعاء إلى خارجه. وقد أدرك ابن سينا طبيعة هذا التغير عندما كان يتحدث عن الطبيعة المادية المشتركة بين الهواء (بخار الماء) والماء نفسه، فقال: «قد يبرد الإناء بالجمد، فيركبه ندى من الهواء، كلما التقطته مد إلى أي حد شئت، ولا يكون ليس إلا في موضع الرشح. ولا يكون عن الماء الحار، وهو ألطف وأقبل للرشح، فهو إذن هواء استحال ماء.»
60
هنا علق الطوسي تعليقا مطولا على هذه الإشارة بأن ابن سينا يشير فيها ضمنا إلى وجود طبيعة مادية مشتركة بين بخار الماء والماء، ومثال التكاثف معروف للناس؛ لذلك أورده ابن سينا ليسهل فهمه. وفي شرح الطوسي لفتة مهمة، وهي أن تشكل طبقة بخار الماء على السطح البارد يوقف عملية التكاثف حتى يتم إزالتها؛ ومن ثم تعود وتتشكل طبقة جديدة من الهواء المحيط. وفي حال كان الوعاء حارا فإن عملية التكاثف تتوقف.
لكن الطوسي أخطأ عندما رفض احتواء الهواء في الصيف على بخار الماء، فنحن نعلم حاليا أن محتوى بخار الماء في الهواء عندما تكون نسبة الرطوبة 100٪ تتفاوت من 190 جزءا من المليون في درجة الحرارة (−40° مئوية) إلى 42000 جزء في المليون في درجة الحرارة (30° مئوية).
61
وهذا يعني عكس ما قال؛ أي إن هواء الصيف يحوي على بخار ماء أكثر من هواء بقية الفصول.
قال الطوسي: «يريد إثبات الكون والفساد في العناصر، والاستدلال به على اشتراكها في الهيولى، فنقول: تغيرات الأجسام بصورها لا تقع في زمان؛ لأن الصور لا تشتد ولا تضعف، بل تقع في آن، وتسمى فسادا أو كونا، كما مر ... والشيخ بدأ بالازدواج الذي بين الهواء والماء؛ لأن الكون والفساد بينهما أظهر من الباقية. وهو يشتمل على نوعين؛ أحدهما تكون الهواء من الماء، والثاني عكسه. وكان الأول مشهورا لكثرة المشاهدة؛ فإن انفصال الأبخرة عن الأجسام الرطبة - عند تأثير الحرارة فيها، وانتقاصها بسبب ذلك - ظاهر. فإن قيل: البخار يشتمل على أجزاء مائية، قلنا: نعم، وعلى أجزاء هوائية أيضا لم تكن فيه؛ لأن الهواء لا يستقر في الماء، بل حدث وانفصل بالغليان وغيره. فلشهرة هذا النوع لم يذكره الشيخ.
وأيضا ثبوت نوع واحد من النوعين المتعاكسين يكفي في إثبات كون الهيولى مشتركا، وهو يدل على جواز وجود النوع الآخر؛ فلذلك اقتصر الشيخ من هذا الازدواج على نوع واحد، وهو بيان تكون الهواء ماء، فاستشهد عليه بشيئين:
أحدهما:
الندى الحادث على ظاهر الإناء إذا برد بالجمد، وأشار إليه بقوله: «قد يبرد الإناء بالجمد فيركبه ندى من الهواء.» وذلك لأن الندى الذي يوجد هناك إما أن يتكون من الهواء، وهو المطلوب، وإما ألا يتكون منه، بل إما أن يجتمع من الهواء الطائف به على ما ذهب إليه منكرو الكون والفساد بين الهواء والماء، كالشيخ أبي البركات وغيره، أو يترشح مما في داخله. والأول باطل؛ لأن الهواء الطائف بالإناء لا يمكن أن يشتمل على أجزاء كثيرة من الماء خصوصا في الصيف؛ فإن الأجزاء المائية - إن كانت باقية - فقدتنا جدا، لفرط حرارة هوائية، ولا تبقى مجاورة للإناء. وعلى تقدير بقائها هناك، يلزم أحد ثلاثة أشياء:
إما نفاد تلك الأجزاء إذا تواتر حدوث الندى بعد تنحيته من الإناء مرة بعد أخرى، فيقع حصوله على الإناء مع كون الإناء بحاله الأولى.
وإما تناقصها، فيكون حصوله في كل مرة أنقص مما كان قبلها.
وإما تراخي أزمنة حصولها، فيكون بين كل حصولين زمان أطول مما بين حصولين قبلهما. وذلك على تقدير أن تجتمع الأجزاء التي تكون في هواء أبعد من الإناء إليه، مع أن ذلك بعيد جدا؛ لأن تلك الأجزاء الصغيرة - مع جذب حرارة الهواء إياها - لا تتمكن من خرق حجم كبير من الهواء.
ولكن الوجود يخالف جميع ذلك؛ لأنا نرى حدوث الندى مرة بعد أخرى على وتيرة واحدة، بشرط أن ينحى من الإناء ما حدث عليه، ويكون الإناء على حاله من التبرد. وأشار الشيخ إلى ذلك بقوله «كلما لقطته، مد إلى أي حد شئت».
وقيل على ذلك: إن كانت برودة الإناء مقتضية لفساد الهواء المحيط بالإناء، فوجب أن يصير كل ذلك الهواء ماء، ولا محالة يسيل الماء حينئذ، ويتصل به هواء آخر، ويصير أيضا ماء، إلى أن يجري الماء جريانا صالحا. وإذ ليس كذلك، فعلم أنه حدث من أجزاء مائية قليلة المدد.
وأجيب عنه بأن جرم الإناء، لصلابته، لا يتكيف بالكيفيات الغريبة سريعا، وعند التكيف تحفظ الكيفية بطيئا؛ فإذا ألحت عليه القوة المكيفة اشتد تكيفه بها فوق ما يشتد تكيف غيره.
ولذلك ربما توجد الأواني الرصاصية المشتملة على المائعات الحارة أسخن من تلك المائعات؛ فالإناء المذكور لشدة تبرده يفسد الهواء الطائف به، والماء، لسرعة تكيفه بالكيفيات الغريبة يحيله الهواء الطائف به ظاهره عن برودته الشديدة سريعا، فلا يفسد الهواء ما دام على سطح الإناء ماء، أما إذا تنحى عنه، واتصل الهواء بالسطح، عاد إلى فساده.
والثاني:
ويقال: الندى يترشح مما في داخل الإناء، وهو أيضا باطل لوجوه:
أحدها:
أن الندى قد يوجد من غير أن يكون فيه ماء، بل بسبب وجود الجمد الذي لم يتحلل بعد.
والثاني:
أن ذلك يقتضي ألا يوجد الندى إلا في موضع الرشح، لكن ليس الحكم ألا يوجد إلا في موضع الرشح مطابقا للوجود؛ فإنه يوجد فوق ذلك الموضع. وأشار الشيخ إلى هذا الوجه بقوله «ولا يكون ليس إلا في موضع الرشح»، فدل على قوله؛ على أنه لم يمنع وجود الندى عن الرشح، بل منع اختصاصه بكونه من الرشح فإن هذه الصيغة تفيد هذه الفائدة.
والثالث:
أن الماء إذا كان حارا، وجب أن يوجد الرشح أيضا، بل ينبغي أن يكون الرشح أكثر؛ لأن الحار ألطف وأقبل للرشح لرقة قوامه، وليس كذلك. وأشار إلى ذلك أيضا بقوله «ولا يكون ذلك من الماء الحار، وهو ألطف وأقبل للرشح». ولما بطل الوجهان، صرح بالنتيجة وقال: «فهو إذن هواء استحال ماء».»
62 (8) البيروني (القرن 5ه/11م)
أراد أبو الريحان البيروني (440ه/1048م) أن يستشف رأي معاصره الأصغر سنا منه، ابن سينا، في مسألتين تتعلقان بالبرودة، هما تقلص الأجسام لدى تعرضها للبرودة وطوفان الجليد على سطح الماء، ولا يغرق مع أنه أصلب من الماء. الواقع، لقد أراد البيروني من خلال هاتين المسألتين أن يقيم الحجة على عدم قدرة النظرية الأرسطية على تفسير الظواهر الفيزيائية؛ ولذلك فإننا نجد ابن سينا يضيق ذرعا بالبيروني ، فيطلب من تلميذه أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعصومي (توفي 460ه/1060م) أن يتابع الرد على البيروني. (أ) مسألة البيروني الأولى
قال فيها البيروني متسائلا: «إذا كانت الأجسام تنبسط بالحرارة وتنقبض بالبرودة، وكان انصداع القماقم الصياحة وغيرها لأجل ذلك، فلم صارت الآنية تنصدع وتنكسر إذا جمد ما فيها من الماء إلى آخر الفصل.»
63
فرد عليه ابن سينا: «إن من نفس المسألة يمكن أن يخرج لها جواب؛ فإنه كما أن الجسم لما انبسط عند التسخن طلب مكانا أوسع فشق القمقمة، كذلك الجسم إذا انقبض عند التبرد وأخذ مكانا صغيرا كاد أن يقع الخلاء في الإناء، فشق وانصدع لاستحالة ذلك؛ ولهذا من الطبيعة وجوه غير هذا، وهي العلة لأكثر ما يقع من هذا، ولكن فيما ذكرنا كفاية في الجواب.»
64
لكن البيروني اعترض على هذا الجواب وقال: «لو كان الانصداع في القماقم إلى داخلها لأوشك أن يكون ما ذكرت، ولكن الأمر على خلافه، فإنها تنصدع إلى خارجها كالذي يكلف حمل ما لا يطيق ولا يسع.»
65
هنا طلب ابن سينا من تلميذه المعصومي أن يرد على البيروني فقال له: «أما اعتراضك على انصداع القمقمة أنه يجب أن تنصدع إلى داخل إن كان لأجل الخلاء فخطأ؛ وذلك أن علة الانصداع حاصلة من داخل؛ لأن الماء إذا تماسك وجمد في القمقمة وكاد يبقى بينه وبين القمقمة مكان خال، تشوق ذلك المكان إلى متمكن لاستحالة كونه خاليا، فأوجب ذلك التشوق الطبيعي صدع القمقمة؛ على أنه لا فرق في الحس بين الصدع الحادث من داخل ومن خارج، وفي كلا الحالين يكون من خارج أكبر وأفتق؛ لكون السطح الخارج أعظم من الداخل. وعلى أن البرودة المفرطة في الأجرام إذا سرت يبستها وقبضتها، وأحدثت فيها شقا كما يظهر في شدة البرد من الانشقاق في الأرض في الجمد.»
66
ملخص الحوارية السابقة أن البيروني قال: إذا كانت الأشياء تتمدد بالحرارة وتتقلص بالبرودة، فلم تنصدع القوارير إذا جمد الماء فيها؟
فأجاب ابن سينا أن التقلص يستدعي إحداث خلاء أو فراغ ما في الوعاء، ولما كان إحداث الخلاء محالا فقد سبب ذلك تصدع الإناء وكسره. ونحن نعلم حاليا أن الماء الصافي يبلغ كثافته الدنيا في الدرجة (4° مئوية)، فإذا هبطت برودته عن هذه الدرجة ازداد حجمه، وكذلك إذا سخن وزادت حرارته على (4° مئوية) تمدد؛ لذلك يعود سبب تصدع الإناء إلى ازدياد الحجم بالتجمد. ومن الطريف اعتراض أبي الريحان على جواب ابن سينا؛ إذ لو كان السبب في التصدع هو الخوف من ظهور الخلاء للزم أن يكون الانصداع إلى الداخل، ولكن الأمر على خلافه، وهو أن الانصداع يقع في الخارج.
إنه عندما تزداد برودة الماء يجمد ويزداد تمدده، ويبدأ بترتيب بلوراته من جديد من السطح ونحو العمق؛ نظرا لقلة كثافة بلورات الجليد. كما أن البلورات المتجمدة تشغل حيزا أكبر من الحيز الذي كانت تشغله من قبل.
67
وهو ما يفسر لنا انكسار القنينة عند تجمدها. (ب) مسألة البيروني الثانية
تساءل البيروني: «لم صار الجمد يطفو على الماء وهو أقرب إلى الأرضية لتراكم البرودة فيه وانحجاره؟»
68
فأجابه ابن سينا: «ذلك لأن الماء عند جموده تنحصر فيه أجزاء هوائية تمنعه من السروب إلى الأسفل.»
69
أيضا تدخل المعصومي عندما لم يقتنع البيروني بالجواب المقتضب لابن سينا فقال: «أما طفو الجمد على الماء، مع كونه أبرد، فلأجزاء هوائية تخللته. وربما كان من الجمد ما يرسب، إذا كان مستحصفا صلبا قليل أجزاء الهواء. والدليل على أن في الجمد أجزاء هوائية أنه يحتمل الرص، وما لم يكن في الجرم منافذ كثيرة فيها هواء متخلل فلا يمكن أن يرص. وأما قولك متى يحصل فيه الهواء فإنه يحصل وقت الجمد؛ لأن الهواء البارد هو الذي يجمده. وأما حديث الحباب فلو نفخ طافيا على الماء لم يرسب، وطفا للأجزاء الهوائية فيه؛ فأما إذا لم ينفخ فإنه يكون حكمه حكم الماء الخارج. وأما قولك كيف يدخل الهواء الآنية المضمومة الرأس فيجب أن يعلم أن للهواء مسلكا من ذلك، ثم إن كان لا يدخله هواء قط لم يجمد ذلك الماء أيضا. وفي كتاب «الآثار العلوية»، إذا نظرت فيه شفاء عن هذه الشكوك. والله أعلم.»
70
وخلاصة الحوار السابق أن البيروني قال: لماذا يطفو الجليد على الماء مع أنه أجزاء صلبة كأنها حجر؟
فأجاب ابن سينا أن الماء عندما يتجمد تنحصر فيه أجزاء هوائية تمنعه من الرسوب إلى أسفل. وهذا السؤال يتعلق بشكل مباشر بالمسألة السابقة، حيث إن كثافة المادة تنقص والحجم يزداد، فيطفو الجليد على الماء نظرا لتأثير دافعة أرخميدس عليه.
طبعا جواب ابن سينا لم يكن كافيا، لكن فيه شيء من الصحة؛ حيث إن الهواء المنحل في الماء إذا جمد الماء يعطي فقاعات أو حبابا هوائيا ينحصر فيه. وإذا سخن الجمد أو نفذ إليه شعاع شمسي سكنته حبات ماء سائل يقال له باللغة العربية «سيع» تقع في قاعدة التبلور الصلب؛ فإذا برد الجليد مرة أخرى انتقل «السيع» المتولد في الشقوق الدقيقة نحو الجانب الأقل برودة على حين بخاره - وقد انعزل في الجليد - يأخذ شكل نجم ثلجي. وكما نعلم فإن الهواء المنحل في الماء السائل أغنى بالأكسجين وبالغازات النادرة وبغاز الفحم من هواء الجو.
71
يقول الباحث عبد الكريم اليافي: «إن الماء لا يجمد مع مادة أخرى كانت ما كانت، ما عدا حمض الفلور والأمونياك، وعندئذ ينشأ ما نستطيع أن ندعوه الجمد المدوف. ويتجمد الماء الملح ببطء شديد كأن التجمد يتحامى القطرات الملحة؛ فإذا ذاب وانساع غدا الماء الذائب أو السيع ماء عذبا، وهذه إحدى الطرائق في تحلية الماء الملح. ونلاحظ هنا استعمال البيروني لفظ الجمد، وهو لفظ عام يطلق على الماء الجامد؛ ويميز العلم تسعة أشكال له؛ فمنه الجليد والثلج والبرد والصقيع والضريب والخشف أو الخشيف وغير ذلك. ويتبع شكل الجمد مقدار الضغط الواقع عليه أيضا، وإنما ذكرنا هذه الألفاظ لبيان سعة اللغة واستطاعتها تلقي المصطلحات الحديثة التي نترك اختيار مقابلها للباحثين المشتغلين في هذا المجال.»
72
لقد كانت الحوارية السابقة إحدى أرقى النقاشات العلمية العربية في مجال الفيزياء؛ فالهدف منها هو الوصول إلى الحقيقة وليس أي شيء آخر، وهي تذكرنا بحوار جرى بعد 900 سنة بين ألبرت أينشتاين
A. Einstein (توفي 1957م) ونيلز بور
N. Bohr (توفي 1962م)، وذلك في النصف الأول من القرن العشرين، حول مفاهيم النسبية العامة والميكانيك الكمومي.
73
أخيرا؛ فقد حاول البيروني أن يفسر لنا سبب ازدياد شدة الجو البارد في آخر الفصل فيقول: «ولا يتعجبن متعجب من قوة البرد عند آخره واهتياجه عند انصرافه؛ فإن ذلك للحر مثله، كما سنذكر، ويوجد أمثاله في الطبيعيات المعتادة كالسراج؛ فإنه إذا قرب من الانطفاء العارض له من فناء مادة الدهن توقد واشتد ضوءها دفعات متواليات شبيهة بالاختلاج.»
74 (9) أبو رشيد النيسابوري (القرن 5ه/11م)
أعاد أبو رشيد النيسابوري (توفي نحو 440ه/1048م) مناقشة السبب في تصدع الوعاء الذي يتجمد فيه الماء، وقد اعترض وحاول أن يفند قول من يفسر سبب تصدع الإناء أنه نتيجة تقلص الماء وحدوث خلاء شديد يؤدي إلى دخول الهواء من الخارج.
قال النيسابوري: «وثالثها هو أنهم قالوا: قد علمنا أن الجرة إذا جمد ما فيها فإنها تنكسر، وإنما وجب ذلك لأن الماء بالجمود يجتمع، فيكاد يخلو الموضع، فتنشق الجرة ليدخل الهواء إلى ذلك الموضع؛ ولهذا يكون انشقاقها في وقت جمود الماء.»
75
وقد ذكر النيسابوري أن تفسيرهم غير صحيح؛ لأنهم لم يأخذوا بعين الاعتبار عوامل أخرى هي وجود مادة أخرى غير الماء داخل الجرة، مثل السمن، أو اختلاف المادة المصنوعة منها الجرة؛ فالجرة المصنوعة من النحاس تختلف عن المصنوعة من الطين.
لذلك يمكننا تفسير تصدع الإناء - حسب النيسابوري - بسبب ازدياد ثقل وكثافة الماء بعد تجمده؛ هذا الثقل يجعل الوعاء يتصدع تحت تأثير قوة ثقله. على سبيل المثال: إذا كان لدينا قطعة قماش رقيقة ووضعنا عليها شيئا من الطحين فإنها لا تتأثر بقوة ثقله ، لكننا إذا وضعنا عليها مجموعة من الأحجار فإنها ستتمزق بتأثير ثقل الأحجار.
قال النيسابوري: «وأما ما قالوه من حديث الجرة فباطل؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يفترق الحال بين أن يجمد الماء في الجرة وأن يجمد السمن فيها، ولا بين أن تكون الجرة من طين وأن تكون من شبة أو نحاس أو رصاص لأجل ما ذكروه من العلة.
ثم ما ذكروه من الاجتماع والانقباض لا معنى له، وعلى مذهبهم العالم ملاء، فكيف يتأتى الاجتماع والانقباض أشد مما كان إلا أن نزيد بذكر المداخلة؛ فهو أبين فسادا من الأول.
ثم إن العلة في انكسار الجرة فلأن الماء يثقل بالجمود؛ لأنه تحصل فيه اعتمادات، فيحصل تأثير تلك الاعتمادات على صفحة الجرة فيفرقها؛ فكون سبيل ذلك سبيل كر من ثوب رقيق، فإنه إذا حصل فيه الدقيق لا ينفتق، ولو جعل بدل الدقيق الأحجار فإنه ينشق لما في الأحجار من الثقل.»
76
ثم يضع النيسابوري فرضا آخر لتصدع الوعاء، هو حصول تداخل بين أجزاء الطين وأجزاء الماء، فعندما يحدث تجمد للماء فإنه يتقلص وحالة من التوتر والتدافع بين هذه الأجزاء تؤدي في النهاية إلى التصدع.
قال النيسابوري: «ويمكن أن يقال إنه إنما ينشق لأن الماء يتداخل فيما بين أجزاء الطين فتلتزق أجزاء الماء بأجزاء الطين، فإذا جمد الماء - وقد تشبث بأجزاء الطين - فقد يحصل هناك انقباض وتشنيج بأن تتدافع بعض الأجزاء إلى البعض عند الجمود، فيحصل هناك تفريق وانشقاق.»
77
والدليل على صحة فرضيته السابقة ما نراه من تشقق في الطين عندما يجف في الأراضي الزراعية. «وهذا ظاهر بين في الطين الرطب إذا جف ويبس، فإنه ينشق لما يحصل هناك من الانقباض والانزواء. ولأجل أن الماء إذا تداخل بين أجزاء الطين، وهي تراكيب أجزاء الجرة، فإذا ضرب الهواء عليها فرقها، وهذا ظاهر أيضا فيما نشاهده من الأجسام مما يحصل فيها من الانشقاق عند ضرب الهواء البارد عليها، فيجوز أن يكون كل واحد من هذه الأشياء علة، ويجوز أن تكون العلة واحدة منها، ويجوز أن تكون العلة في بعض المواضع كذا وفي بعضها كذا، والله المستأثر بعلم ذلك.»
78
وقد طرح سؤال آخر: «قالوا قدر عرفنا أن جرة لو كان فيها ماء ثم جمد الماء كله لكانت الجرة تنكسر وتنشق، وإنما تنكسر لأجل أن الماء بالجمود تنقبض أجزاؤه؛ فلو لم تنكسر الجرة لكان هناك خلل لأنه قد لا يحصل عند جمود الماء فيه هواء، غير أنه لما لم يجز الخلل انكسرت الجرة عند جمود الماء فيه.»
79
فأجابهم النيسابوري مؤكدا أن السبب الرئيس لتصدع الوعاء هو ازدياد ثقله بعد تجمده وتأثيره في نقطة محددة منه تكون بداية التصدع، لكن هذا التأثير يتلاشى عندما يكون الوعاء ثخينا ومادته صلبة متماسكة. «اعلم أن انقباض أجزاء الماء عند الجمود لا يصح على قولهم؛ لأن الماء إذا لم يكن جامدا لا تتخلل أجزاؤه أماكن فارغة كما لا تتخلل إذا جمد، فعلى أي وجه يكون منقبضا؟ فإن قالوا بأن يصير أقل مما كان فقد أبطلناه فيما تقدم، ثم يقال لهم ليست العلة في انكسار الجرة ما ذكرتموه، بل لأجل أن الهواء إذا برد فإنه يكون كثير الاعتماد لأنه يكون كثير الحركة، ويتبين ذلك من حاله فيؤثر في ذلك الكسر بما فيه من الاعتماد مع ما يحصل في الماء من الثقل والاعتماد على موضع منه عند اجتماع أجزائه بالجمود، فيكون التأثير أكثر من أن تكون أجزاء منبسطة، وأن يكون ما فيه من الثقل كالمنقسم على كل الجرة؛ فلذلك يؤثر في انكسار ذلك الموضع، ولو كان الأمر على ما ذكره لكان لا فرق بين الحديد والزجاج في الانكسار إذا جمد فيه الماء كله، ومعلوم أن الآنية إذا كانت شديدة الصلابة وكانت ثخينة غليظة فإنها لا تنكسر، وإن جمد الماء فيها فقد بان أن يكون دلالة على جواز الخلاء أولى.»
80 (10) مؤيد الدين الطغرائي (القرن 6ه/12م)
قد يكون غريبا أن يأخذ الكيميائي مؤيد الدين الطغرائي (توفي 513ه/1119م) بنظرية أرسطو في تعاطيه مع ظاهرتي الحرارة والبرودة، مع أنه يعتمد على الأسس العلمية التي وضعها جابر قبل ذلك بنحو 300 سنة.
قال الطغرائي: «وأما البرودة فإنها ضد الحرارة في التعريف والفعل، فنقول إن البرودة كيفية من شأنها جمع المختلفات وتفريق المؤتلفات عكس الحرارة كما ذكرنا؛ وذلك أنها إذا سلطت على المركب من جسمين أحدهما حار يابس والآخر حار رطب؛ فإنها تجمع بينهما وتخلطهما ببعضهما بعضا، ولا تزال مع ذلك تفرق الأجزاء المؤتلفة من كل منهما وتبددها وتنشرها، فما دامت البرودة مسلطة على مثل ذلك المركب الذي ذكرنا فإنها تختلط الأضداد التي فيه بعضها ببعض، وتنشر أجزاء كل منهما بالتفريق والتبديد بحيث يستحيل قل أحدهما على الآخر ويمنع جمع أجزاء أحدهما مع بعضها بعضا؛ مثال أن الجسم الدهن عقب انحلاله بالحرارة عند التبريد يتحقق فيه اجتماع أجزائه وانضمام بعضها، بل إن الجسم القابل للتكليس والاحتراق إذا كان ملاصقا للجسم البارد الرطب كالماء فإن الحرارة إذا سلطت عليه لا تقدر أن تتمكن من فعلها فيه، وإنما ذلك لأن الحرارة تريد أن تفكك أجزاءه والبرودة التي مسته تزيد فيه جمع أجزائه وإبقاءه على حالة التركيب؛ وبذلك يتضح أن البرودة وفعلها ضد فعل الحرارة، والحرارة ضد البرودة في الفعل؛ فإن النار العنصرية المشاهدة لا تحرق شيئا إلا بشرط ألا تمسه برودة أصلا؛ وذلك كله يشد لما ذكرناه.»
81 (11) ابن باجة (القرن 6ه/12م)
ناقش ابن باجة (توفي 533ه/1138م) التضاد في فعل الجسمين الحار والبارد نظريا؛ فالجسم الذي نراه حارا كان في سابق عهده باردا، والمادة التي لديها استعداد لاكتساب الحرارة يكون لديها أيضا استعداد لقبول البرودة. ويعزو ابن باجة السبب في حدوث التضاد بين الحار والبارد إلى المستقيم؛ فهو عنصر هندسي متمم وليس تاما مثل الدائرة.
قال ابن باجة: «فأما الحار وقوة البارد، فإن وجوده حارا هو سبب كونه باردا بالقوة، ومن أجله كان ذلك لأن نسبة الحار والبارد إلى المادة نسبة واحدة؛ فمن الجهة التي تقبل الحار؛ فمن تلك الجهة تقبل البارد بعينها، وهما متغايران. ولو قبلتهما معا لما بقي هنالك تغاير أصلا، وإنما كانا متغايرين لأن المادة التي لهما تقبل الاستقامة، والمستقيم هو السبب الأول في التضاد؛ لأن المستقيم هو متمم وليس بتام بذاته؛ فلذلك له وسط وطرفان لأنه متصل، وكل متصل فهو ذو أجزاء - إلا أن هذا القول يليق بالنظر في سبب وجود الأضداد - وليس للقوة المتحركة التي هي له معنى يكون به أكثر أو أقل، إلا أن تكون في جسم أعظم أو أصغر.»
82 (12) ابن ملكا البغدادي (القرن 6ه/12م)
يقرن هبة الله ابن ملكا البغدادي (توفي 560ه/1165م) بين مفهومي الحرارة والبرودة والضوء والظلام، معتبرا أن البرودة بمثابة الظلام، مع اختلاف واحد بينهما أن للبرودة أثرا فعالا؛ فالجسم البارد يبرد ما يجاوره في حين أن الظلام لا يجعل الأشياء التي يقع عليها ذات لون أسود. «إن البرودة ليست من المعاني الوجودية، وإنما هي معنى عدمي بالقياس إلى الحرارة كالظلمة للنور. وما قالوا حقا؛ لأن الأعدام لا تفعل، فإن الظلمة لا تحيل غيرها إلى طبعها، والبرودة تفعل؛ فإن البارد يبرد كما أن الحار يسخن.»
83
ولتفسير ظاهرة تكاثف الماء التي تحدث حول كأس بارد، افترض أبو البركات وجود أجزاء لطيفة مائية، وهو ما نسميه حاليا بخار الماء، وهي التي تكون محيطة بالإناء البارد وتتكاثف على سطحه الخارجي؛ فما يحدث هو أن جزيئات بخار الماء الموجودة في الهواء تكون حارة، وعندما تلامس السطح البارد للإناء فإنها تفقد حرارتها وتبرد وتثقل فتنزل على أطراف الوعاء، ومع تراكم الكثير من الجزيئات التي تبردت تتشكل قطرات الماء.
الفكرة التي كان ابن ملكا محقا فيها، بخلاف ابن سينا والطوسي، هو أن الهواء لا يحوي في معظمه بخار الماء، وإنما كميته قليلة، وهي تتغير من فصل لآخر، وما يتكاثف على السطح البارد هي القريبة منه، التي تنقص من تلك الكمية إذا ما استمرت عملية التكثيف.
رأي ابن ملكا السابق أورده لنا مؤلف مجهول في إحدى المخطوطات التي عثرنا عليها في معهد المخطوطات في طوكيو: «فإنه زعم (أي ابن ملكا) أن في الهواء الطائف بالإناء أجزاء لطيفة مائية، لكنها لصغرها وجذب حرارة الهواء إياها لم تتمكن من خرق الهواء والنزول إلى الإناء، فإذا برد الإناء الذي عليه زالت السخونة من أجزاء المائية الصغيرة فتكثفت وثقلت فنزلت واجتمعت على الإناء، وهذا أيضا لأن الهواء الطائف بالإناء لا يمكن أن يشتمل على أجزاء كثيرة مائية، لا سيما في الصيف؛ فإن حرارة الهواء تبخرها وتصعدها، وعلى تقدير بقاء شيء من تلك الأجزاء يلزم أحد أمور ثلاثة؛ إما نفادها، وإما تناقصها، وإما تراخي أزمنة حدوثها، والكل خلاف الواقع؛ وذلك لأن تلك الأجزاء إما على قرب من الإناء أو على بعد منه، فإن كانت على قرب منه فإما أن ينزل الكل دفعة فيلزم نفادها في مرة واحدة، أو ينزل شيئا فشيئا على التساوي فيلزم نفادها وانقطاعها إذا تواتر نزولها، ولها بعد التسخين مرة بعد أخرى مع بقاء الإناء بحالته الأولى، أو على التناقص فيلزم تناقصها، وإن كانت على بعد منه يلزم تراخي الأزمنة لبعد المسافة، واعترض على ذلك:
أولا لجواز أن يلحق تلك الأجزاء مد، أما أبخرة الأرض فإنها متجددة دائما فيما وراء الإناء، فلا يلزم شيء من تلك الأمور الثلاثة.
وأما ثانيا فبأنه يجوز أن يتحرك الأبعد إلى المكان الأقرب في زمان حركته إلى الإناء مثلا، وإذا تحرك إلى الإناء ما كان على بعد ربع ذراع منه تحرك الذي على بعد نصف ذراع منه إلى مكان ما كان على بعد الربع، وهكذا فلا ينفد ولا ينقص بتراخي أزمنة النزول.
وثالثا بالنقص بوجهين؛ الأول أنه إن كانت برودة الإناء مقتضية لانقلاب الهواء المحيط به ماء للزم أن يصير الهواء المحيط بذلك الماء أيضا ماء بسبب برودة الماء، وكذلك الهواء المحيط بذلك الهواء إلى أن يجري به جريانا صالحا، والمشاهدة تكذبه. والثاني أنه لو كان برودة الإناء سببا لانقلاب الهواء ماء لوجب أن تركيب الندى في جميع سطح الإناء بلا فرجة، وإن كان جميعه في غاية البرودة والهواء أيضا متصلا بجميعه فيلزم اتصال القطرات بعضها ببعض، وليس كذلك، بل الراكب على سطح الإناء قطرات منفصلة كحبات متفرقة. وأجيب عن الأول بأن جرم الإناء لصلابته يغير تكيفه بالكيفيات الغريبة، وعند تكيفه يشتد تكيفه بها ويحفظها بطنا؛ ولذلك ربما يوجد الأواني الرصاصية المشتملة على المايعات الحارة أسخن من تلك المايعات؛ فالإناء المذكور لشدة تبرده يفسد الهواء المحيط به، والماء يضعف تبرده وسرعة تكيفه بالكيفية الغريبة تحيله الهواء المحيط به غير برودته سريعا فلا يفسد الهواء ما دام على سطح الإناء ماء. وأما إذا تأخر عنه واتصل الهواء بالسطح عاد إلى فساده. وعن الثاني بأنه لا يلزم من إحالة جزء من سطح الإناء الهواء الملاصق به إلى الماء إحالة كل جزء منه ما يلاصقه لجواز أن يكون للبرد المحيط شرط لا يوجد في كل جزء منه وإن لم نعلمه.»
84 (13) ابن رشد (القرن 6ه/12م)
يعتبر ابن رشد (توفي 595ه/1198م) أن الحرارة والبرودة ظاهرتان مؤثرتان في وجود الأشياء على ما هي عليه من بنية وشكل. ويكون تأثير الحرارة في تكوين الأجسام أكبر من تأثير البرودة التي تأتي في المقام الثاني الذي يقتصر على تعديل نسب الحرارة.
قال ابن رشد: «إنه قد تبين هنالك أن الحرارة والبرودة هما الكيفيتان الفاعلتان في الكون التي تحرك المكون إلى أن يكون ذا قوام وشكل وصورة، وأن الحرارة هي التي تفعل ذلك أولا وبالذات، والبرودة ثانيا وعلى القصد الثاني. وإنما كان ذلك كذلك لأن الحرارة هي التي تفعل في المكون الخلط أولا، ثم الطبخ ثم النضج والتمام والقوام والشكل، وذلك بعد أن نفى الفضلة التي لا تصلح أن تكون جسدا لذلك المكون عنه. وهي في هذا المعنى تستعين بالبرودة؛ لأن الحرارة التي تفعل هذا هي حرارة مقررة معدلة، وتعديلها يكون بالبرودة. وأكثر ما تستعين بالبرودة لإصلاح ما يلحق فعل الحرارة من الرخاوة، والتليين الذي يلحق عن فعلها في المكون؛ فهي بالبرودة تصلح لهذا المعنى.»
85
ثم حاول ابن رشد توضيح أن علاقة التضاد التي بين الحرارة والبرودة ليست مباشرة على مستوى المفاهيم، وإنما على مستوى الأجسام؛ فالجسم الحار عندما يصرف الحرارة عنه فهو يحل مكانها البرودة، والعكس صحيح. «والأضداد لا تقبل بعضها بعضا، وإنما يقبلها الحامل لها على جهة التعاقب، مثال ذلك أن الحرارة لا تقبل البرودة، وإنما يقبل البرودة الجسم الحار بأن تنسلخ عنه الحرارة ويقبل البرودة، وبالعكس.»
86
أما عن كيفية تسبيب الشمس للحرارة والبرودة في الجو فإن العملية تتم كما يأتي: عندما تميل أشعة الشمس مبتعدة نحو الجنوب فإن حرارتها تنخفض في الشمال؛ الأمر الذي يدفع بالمواد ذات الطبيعة المائية للتشكل مثل الأمطار، وعندما تصعد هذه الأشعة من الجنوب فإنها تسخن الشمال، وهكذا دواليك تتكرر الحالة؛ فإذا كان الشمال باردا كان الجنوب ساخنا والعكس صحيح.
قال ابن رشد: «إن الشمس إذا انحدرت إلى الجنوب قل تسخينها في الشمال، فغلبت طبيعة الأسطقس المائي لغلبة البرودة، فاستحال الهواء ماء وكانت الأمطار، وإذا صعدت من الجنوب اشتد تسخينها في الشمال فتتأيد طبيعة النار والهواء، ويكون فعلها هذا دورا ويتعادل؛ أعني إذا كان البرد في جهة الشمال استحرت جهة الجنوب وبالعكس؛ أي إذا برد الجنوب استحر الشمال؛ ولذلك يكون شتاؤنا وصيفنا في جهة الجنوب؛ أعني في الأقاليم التي بعدها من الشمس من تلك الجهة بعد أقاليمنا، والصيف بعكس ذلك ها هنا، ويكون عنها في هاتين الحركتين جنسان من البخار؛ أحدهما دخاني وهو حار يابس، والآخر حار رطب أو بارد رطب.»
87 (14) فخر الدين الرازي (القرن 7ه/13م)
رد الإمام فخر الدين الرازي (توفي 606ه/1209م) على ابن ملكا بجعله البرودة أحد معاني عدم وجود حرارة بالمطلق، وقد أكد على فكرة أن البرودة درجة من درجات الحرارة التي يمكن الإحساس بها.
قال الإمام: «منهم من جعل البرودة عدم الحرارة. وهو خطأ؛ لأنا نحس من البارد بكيفية مخصوصة، فذلك المحسوس ليس عدم الحرارة؛ لأن العدم لا يحس به، ولا الجسم، وإلا لكان الإحساس بالجسم حال حرارته إحساسا بالبرودة.»
88
وقال في موضع آخر: «[من القدماء] من جعل البرودة عدما للحرارة، وهو باطل؛ لأن الجمود والتكثيف والسيلان والترقيق أفعال ثبوتية متقابلة، ولا يمكن استناد الواحد منها إلى الجسمية المشتركة، ولا إلى أمر عدمي لامتناع استناد الأثر الوجودي إلى المؤثر العدمي، فلا بد من كيفيتين ثبوتيتين لتكونا مصدرين للأفعال المتقابلة، [ولو قيل] المؤثر في التكثيف هو الجسمية المشتركة بشرط عدم الحرارة [فليس هذا] بأولى من أن يقال المؤثر في التسييل الجسمية بشرط عدم البرودة.»
89
وقد علق الطوسي على قول الرازي السابق: «أقول في قوله «العدم لا يحس به» نظر؛ لأن الأمر العدمي إذا كان مقتضيا لأمر غير ملائم، يحس به من جهة مقتضاه، كتفريق الاتصال، والجوع، والعطش؛ فإن كانت البرودة عدم الحرارة وكانت الحاسة محتاجة إلى حرارة تعدل مزاجها، فعدم تلك الحرارة يقتضي أمرا غير ملائم فيها فيحس به. ولم يقل أحد إن عدم الحرارة هو الجسم، حتى يكون الإحساس بالجسم إحساسا بالبرودة، والحق أن البرودة كيفية ضد الحرارة، فإن مقتضياتها، كالتكاثف والثقل وأمثالهما، ضد مقتضيات الحرارة، كالتخلخل والخفة وأمثالهما.»
90
أما عن الفرق بين الجسم الحار ونظيره البارد، فالجسم الحار هو ما نشعر به من حرارة من النار أو على ما نجده من خصائص في بعض الأغذية والأدوية.
وتوجد طريقتان للاستدلال من خلالهما على درجات الحرارة والبرودة؛ إحداهما تجريبية والأخرى قياسية. ويعتبر الاستدلال على الحرارة والبرودة باللون أضعف هذه الطرائق؛ إذ يوجد حواس أخرى يمكنها أن تساعدنا مثل الذوق والشم، ويمكن من خلال ملاحظة تغير حالة الجسم الذي يتعرض للحرارة، حيث تبدو عليه أمارات التكاثف في حالة البرودة أو التخلخل في حالة الحرارة.
قال الإمام: إن «[الحار] قد يقال على ما يحس بحرارته وسخونته كالنار، وقد يقال على ما لا يكون كذلك، بل يكون ظهور تلك الكيفية منه موقوفا على ملاقاته لبدن الحيوان؛ وذلك مثل الأغذية والأدوية التي يقال لها إنها حارة، وكذلك البارد. [ثم] لمعرفة الحرارة والبرودة علامات على هذا الوجه يجمعها طريقان؛ [أحدهما] التجربة [والآخر] القياس، وذلك من وجوه؛ [فإنهم] تارة يستدلون باللون وهو أضعف الطرق وتارة بالطعم وتارة بالرائحة وتارة بسرعة الانفعال وعسره؛ وذلك لأن المتخلخل أسرع انفعالا مما يلاقيه من المتكاثف؛ وذلك لضعف جرمية المتخلخل وقوة جرمية المتكاثف، [وإذا كان كذلك] فالأجسام إذا تساوت في القوام ثم تفاوتت في قبول الحرارة من فاعل واحد، فالذي هو أقبل وجب أن يكون في طبيعته أحر؛ لأنه لما كانت نسبة الفاعل إليها واحدة وقبول الجسم للأثرين واحدا، فلولا اختصاص الأشد قبولا لذلك بما يعاضد الخارجي لم يكن الأثر الحاصل فيه أقوى من الحاصل في صاحبه، [وأما إذا تفاوتت المنفعلات] في القوام فالأقوى قواما إن انفعل بسرعة دل على أن فيه ما يقتضي تلك الكيفية، وأما الأضعف فلا يدل بسرعة انفعاله على شيء لاحتمال أن يكون ذلك لضعف قوامه، [ومما يستدلون به ] حال الاشتعال والجمود وهو أيضا على ما قلنا فان.»
91 (15) سيف الدين الآمدي (القرن 7ه/13م)
كرر الآمدي التعريف الأرسطي للبرودة دون أن يضيف إليه أي شيء: «وأما البرودة فما كان من الكيفيات يجمع غير المتشاكلات ويفرق المتشاكلات.»
92 (16) شهاب الدين التيفاشي (القرن 7ه/13م)
ذكر لنا أحمد بن يوسف التيفاشي (توفي 651ه/1253م) في كتابه «سرور النفس بمدارك الحواس الخمس» كل ما وصل إليه من آراء وأفكار وأشعار وقصص وظواهر تتعلق بالبرد والبرودة، لكننا سنتناول ظواهر البرودة التي رصدها بنفسه ثم نورد ما قيل في ظاهرة البرودة من آراء؛ فعندما أراد أن يصنع طبخة مكونة من السبانخ والبيض طلب من خادمه أن يكسر البيض بعد أن هيأ السبانخ في الوعاء، فلم يستطع الخادم أن يكسر البيض من شدة تجمده؛ فقد أصبح كتلة من الحجر، وعندما ضرب بالبيضة الجدار انكسر حرفه ولم تنكسر البيضة، لكنه تمكن بعد ذلك من تقشيره بالسكين بصعوبة، ثم وضعها في النار ومع ذلك لم تنضج بسهولة. وعندما حدث بعض أهل حران بالقصة قالوا له إنهم أحيانا يقدحون بالبيض فيخرج منه شرار.
قال التيفاشي: «أنا أحكي ما شاهدته بنفسي لا ما أرويه عن غيري، وهي أني لما رحلت إلى الشرق، وعكت بحران في زمن الشتاء، واحتجت إلى عمل مزورة باسفاناخ (سبانخ) وبيض، فطبخ الاسفاناخ وأخذ الغلام بيضا ليكسرها ويعملها في المزورة، فاستعصى كسرها، وأنا أستحثه، فاعتذر بأن البيض لم يكسر، فاستشطت غضبا، فناولني البيضة وقال: اكسرها أنت. فضربت بها جانب الصحفة ضربا خفيفا، على العادة في كسر البيض، فلم تنكسر، فتابعت الضرب وقويته فلم تنكسر، فضربت بها الحائط على أنها تتلف والحائط من طوب كبير له دهر طويل، فصادفت حرف طوبة، فانكسرت الطوبة والبيضة صحيحة، فبهت ونظرت إلى موضع الضربة في البيضة فإذا في القشرة التي لها شقاق خفي كالشعرة، فأدخلت رأس السكين فيه وقلعت القشرة فإذا بالبيضة جامدة، فقلت: ألقها في المزورة. فألقاها ثم غرف المزورة، وإذا ببياض البيضة قد نضج بعض النضج وهو جامد، والصفرة جامدة لينة لم تعمل النار فيها شيئا ، فحدثت بذلك بعض أهل حران، فأخبرني أن البيض عندهم يقدحون به الزناد في الشتاء، فيظهر منه الشرار كحجر الزناد، ويجمد عندهم كل مائع، ولا يشربون الماء إلا بعد أن يسخن. ودخلت آمد في الشتاء فوجدت الثلج يتراكم على الطرق حتى يسد الشوارع، وهم يمشون على الأسطحة ويعبرون الشوارع فوق الثلج.»
93
ثم يحدثنا عن ظاهرة التصاق اليد بالقضيب الحديدي، وهي ظاهرة نشعر بها أحيانا عندما نتناول صيفا مكعبات الجليد الباردة أو نضع ألسنتنا على سطوح معدنية (حديد، ألمنيوم) باردة جدا. طبعا لم يقدم لنا التيفاشي سبب الظاهرة، وهو أنه عندما يكون اللسان أو اليد محاطا بالرطوبة فإن هذه الرطوبة تتكون من الماء (في حالة اللسان تزيد نسبته عن 99,5٪). وعلى الجانب الآخر فإن الأجسام المعدنية الباردة خاصة تعتبر ناقلا ممتازا للحرارة، وعند التصاق اللسان أو اليد بالمعدن البارد فإن البرودة تنتقل بسرعة من المعدن إلى اللسان، ومع أن الجسم يضخ الدم بسرعة للسان لتدفئته، لكن انتقال البرودة من المعدن تكون أسرع، فيتجمد اللعاب الذي يحيط باللسان مما يشكل رابطا جليديا بين اللسان والجسم المعدني البارد. طبعا يمكن فك هذا الارتباط بتدفئة العضو بالنفخ عليه أو بسكب الماء الدافئ فوقه، وهو ما لم يفعله التيفاشي؛ لذلك بقيت أجزاء من جلده على القضبان الباردة.
قال التيفاشي: «وسرت من جزيرة ابن عمر
94
إليها ستة أيام بلياليها لم أشاهد شمسا من السحب ولا أرضا ولا جبلا ولا واديا ولا شجرة ولا مدرة إلا بالثلج، وكنا نعبر على الأنهار وهي جامدة، ونستقي إذا أردنا الماء ونطبخه في القدور فنرى أعلاه جامدا وأسفله الذي يلي النار ذائبا؛ وأخبرت أن أقفال الحديد تنضم أرياشها لشدة البرد حتى تفتح باليد. قال: وأما أنا فوضعت يدي على شباك حديد في مدرسة فوجدت كلذع النار، فرفعت يدي وقد بقي شيء من جلدة كفي وأناملي على قضبان الحديد.»
95 (17) ابن كمونة (القرن 7ه/13م)
يعيد سعيد بن منصور بن كمونة (توفي 683ه/1284م) ما سبق أن طرحه ابن سينا والطوسي وابن ملكا، ولم يقدم لنا أي شيء جديد يتعلق بتعريف البرودة؛ فقد قال: «والبرودة ليست عدم الحرارة؛ لأنها محسوسة، ولا شيء من العدم كذلك، بل التقابل بينهما تقابل التضاد، وتأثيرها على خلاف تأثير مقابلها.»
96 (18) أيدمر الجلدكي (القرن 8ه/14م)
في البداية نجد أن عز الدين أيدمر الجلدكي (توفي بعد 760ه/بعد 1360م) يكرر ما قد طرحه السابقون من أفكار حول مفهوم البرودة فيقول: «وأما البرودة فليست هي عدم الحرارة؛ لأنها محسوسة بالذات، ولا شيء من العدم كذلك، بل التقابل بينهما تقابل التضاد، وعلى حكم الميزان الحق، وتأثيرها على خلاف تأثير مقابلها.»
97 «وأما البرودة فهي أصل في السكون وفي الوجود الأول قبل خلق المخلوقات، فكان أثرها - بإذن الله تعالى - أثر موجود بالذات.»
98
لكنه بعد ذلك يثير مسألة مهمة، ألا وهي: أيهما يوجد قبل الآخر؛ الحرارة أم البرودة؟
فيستعرض آراء من قال إن الحرارة توجد قبل البرودة ومن قال العكس، لكنه يرجح أن البرودة توجد قبل الحرارة لاعتقاده أن الأصل في وجود الأشياء هو السكون، والسكون يناسبه البرودة أكثر من الحرارة. ويحتمل أن الحرارة والبرودة توجدان معا في الوقت نفسه بقدرة الخالق تبارك وتعالى. «وقد اختلفت العلماء في تحقيق وجود الفاعلين اللذين هما الحرارة والبرودة أيهما سبق وجوده على وجود الآخر؛ فقال بعضهم: إن الحرارة أولى بالتقدم في الأولية. وقال آخرون: بل البرودة أولى بالتقدم؛ لأن البرودة لازمة للأولية بالذات فلها الأولية؛ لأن الحرارة عارضة على البرودة بالحركة ، ولأن الحركة حادثة على السكون. قلت: فإن رجعنا إلى أصل الكون وحدوثه فيمكن تقدم الفاعل الكائن من مبدأ الحركة الأولى، وإن رجعنا إلى أصل السكون فيغلب الظن وجود البرد اللازم له حيث خلا من وجود الحركة فيكون سابقا على الفاعل للحرارة، ويمكن أن الله تعالى أوجدهما دفعة واحدة فقال لهما - تعالى - كونا فكانا، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون؛ فهما متقابلان متضادان بعظمته وقوته واختياره ومشيئته.»
99
كما أدرك الجلدكي وجود حرارة كامنة في الماء هي التي تمكنه من الجريان والبقاء في الحالة السائلة وإلا لتجمد، فقال: «اعلم أن الماء لا يخلو من الحرارة، ولو تخلت الحرارة عنه لجمد وصار باردا يابسا، وإنما الحرارة موجبة للحركة؛ ففي الماء من الحرارة بقدر ما فيه من الجريان، ولكنه لما كان معدودا من البسائط الأربع حكم عليه بحكم الأغلب؛ وبهذا المعنى يتقرر أن البسائط على الحقيقة [هي] الطبائع الأربع.»
100 (19) عضد الدين الإيجي (القرن 8ه/14م)
ينقل الإيجي عن الآخرين قولهم بأن البرودة هي عدم وجود حرارة في الأجسام التي تقبل الحرارة، لكن البرودة محسوسة فلا يصح أن نقول عنها إنها عدم، حتى إنها تزيد وتنقص دون المساس ببنية المادة، والأولى أن نقول إن البرودة مضادة للحرارة.
قال الإيجي: «البرودة قيل عدم الحرارة عما من شأنه أن يكون حارا احترازا عن الفلك؛ فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة، ويبطله أنها محسوسة، والعدم لا يحس. لا يقال المحسوس ذات الجسم؛ لأن البرد يشتد ويضعف ويعدم وذات الجسم باقية، بل الحق أنها كيفية مضادة للحرارة الأولى في الحرارة، كما أن الملموسات سميت أوائل المحسوسات لما عرفت كذلك الكيفيات الأربع؛ أعني الحرارة وما يقابلها، والرطوبة واليبوسة سميتا أوائل الملموسات لثبوتها للبسائط العنصرية، وتحصل المركبات منها بتوسط المزاج المتفرع على هذه الأربع، وإنما لم يذكر في العنوان البرودة، مع كونها مذكورة في هذا المقصد، لوقوع الاختلاف في كونها وجودية.»
101 (20) ابن خلدون (القرن 9ه/15م)
عرف ابن خلدون (توفي 808ه/1406م) البرودة على أنها طبع من الطبائع التي تعمل على تجفيف الأشياء وتجميع ما فيها من رطوبة، على عكس فعل وتأثير الحرارة.
قال ابن خلدون: «واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء ويعقد رطوبتها، والحار منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها، وإنما أفردت الحر والبرد لأنهما فاعلان، والرطوبة واليبس منفعلان، وعلى انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكون، وإن كان الحر أكثر فعلا في ذلك من البرد؛ لأن البرد ليس له نقل الأشياء ولا تحركها والحر هو علة الحركة. ومتى ضعفت علة الكون، وهو الحرارة، لم يتم منها شيء أبدا، كما أنه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثم برد أحرقته وأهلكته؛ فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل ضد على ضده ويدفع عنه حر النار.»
102 (21) الأحمد نكري (القرن 12ه/18م)
قد يكون القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (توفي في القرن 12ه/18م) آخر من ناقش مفهوم البرودة من العلماء العرب والمسلمين، إلا أننا نجد في كتاباته بعض التكرار لأقوال السابقين؛ فهو يعرف البرودة بأنها: «كيفية من شأنها تفريق المتشاكلات وجمع المتخالفات.»
103
ويعرف التكاثف على أنه انخفاض في حجم الجسم المتكاثف دون أن تنفصل عنه أجزاؤه. ويمكن أن يحدث التكاثف عن اندماج بين أجزاء المادة بحيث يلفظ ما فيه من شوائب، ويمكن أن يطلق مصطلح التكاثف على المادة ذات القوام السميك.
قال الأحمد نكري: «ينقص مقدار الجسم من غير أن ينفصل عنه جزء. وقد يطلق على الاندماج، وهو أن تتقارب الأجزاء بحيث يخرج ما بينها من الجسم الغريب كالقطن الملفوف بعد نقشه الخارج عنه الهواء، وقد يطلق على غلظ القوام.»
104
وقد أثار الأحمد نكري مسألة معالجة مفهوم العلم ذهنيا، ويضرب على ذلك مثال الحرارة أو البرودة؛ فما قد نتصوره عن الأشياء في أذهاننا قد يختلف عن حقيقته؛ فلن يكون لقولنا إن الجسم بارد إلا إذا قمنا بلمسه وتأكدنا أنه بارد بالفعل؛ لذلك يجب ألا نعول على التصور أو الصورة الذهنية فقط في العلم. وهذه الفكرة كان يؤخذ بها في أوروبا جديا؛ فقد كانت الدراسات العلمية تسير جنبا إلى جنب مع الدراسات التجريبية، وحتى يومنا هذا مهما بلغت النظرية الفيزيائية من القوة الرياضية فإن لم تؤكدها التجربة فإنها ستبقى مجرد حسابات على ورق.
قال الأحمد نكري في مدخل العلم: «والوجود العلمي يسمى وجودا ذهنيا وظليا وغير أصيل، أما تسميته بالوجود الظلي على المذهب الثاني فظاهر، وأما على المذهب الأول فلأن مرادهم أنه وجود كوجود الظل في انتفاء الآثار الخارجية المختصة بالوجود الخارجي، كما أن الوجود فيما وراء الذهن يسمى وجودا عينيا وأصيليا وخارجيا؛ فإن قيل إن العلم بالأشياء بأعيانها ممتنع فإنه يستلزم كون الذهن حارا باردا مستقيما معوجا عند تصور الحرارة والبرودة والاستقامة والاعوجاج؛ لأنه إذا تصورت الحرارة تكون الحرارة حاصلة في الذهن ولا معنى للحار إلا ما قامت به الحرارة، وقس عليه البرودة وغيرها. وهذه الصفات منفية عن الذهن بالضرورة، وأيضا فإن حصول حقيقة الجبل والسماء مع عظمهما في الذهن مما لا يعقل جعلنا نقول إن الحاصل في الذهن صورة وماهية موجودة بوجود ظلي لا بهوية عينية موجودة بوجود أصيل، والحار ما تقوم به هوية الحرارة؛ أي ماهيتها الموجودة بوجود عيني لا ما تقوم به الحرارة الموجودة بوجود ظلي، فلا يلزم اتصاف الذهن بتلك الصفات المنفية عنه، والممتنع في الذهن حصول هوية الجبل والسماء وغيرهما من الأشياء؛ فإن ماهياتها موجودة بوجود خارجي يمتنع أن يحصل في أذهاننا، وأما مفهوماتها الكلية وماهياتها الموجودة بالموجودات الظلية فلا يمتنع حصولها في الذهن؛ إذ ليست موصوفة بصفات تلك الهويات، لكن تلك الماهيات بحيث لو وجدت في الخارج متشخصة بتشخص جبل الطور وسماء القمر مثلا لكانت بعينها جبل طور وسماء قمر، ولا نعني بعلم الأشياء بأعيانها إلا هذا.»
105
المبحث الثالث: الأوروبيون
تأخرت البحوث الأوروبية المتعلقة بالبرودة إلى القرن 17م؛ فقد أجرى العلماء أنفسهم تجارب أخرى قام بها أدمي ماريوط
E. Marriott (توفي 1668م) تتعلق بزيادة حجم الماء عند التجمد والوزن النوعي للجليد. واكتشف دانيال غبرييل فهرنهايت
D. G. Fahrenheit (توفي 1736م) عام 1721م ظاهرة فرط التبريد في المياه؛ أي بقاء الماء سائلا عند درجات حرارة أقل من درجة التجمد.
106
حتى في أواخر القرن الثامن عشر فإن السؤال بشأن طبيعة البرودة لم يحل؛ ففي الطبعة الثانية من الموسوعة البريطانية في عام 1778م نقلت أنه لم يكن يوجد اتفاق على هذا السؤال، إلا أنها أيدت افتراض استقلال البرودة عن الحرارة، وهو ما قاد إلى نوع من المناقشة كالآتي مثلا: «إذا سخن جسم، فإن البرودة يجب أن تفر منه.» هذه الطريقة في التفكير بقيت وحتى جمعت قوتها في الطبعة الثالثة من البريطانية، المنشورة في نهاية القرن. مؤلف المقالة عن الحرارة هناك اعترف بقدر كبير من الارتياب في المعرفة الحالية، واعتقد أن الطريقة الأفضل للمواصلة كانت «صياغة مبادئ معينة صحتها مثبتة من ظواهر الطبيعة الواضحة، والتفكير فيها بإنصاف بقدر ما يمكننا.»
107
والواقع أننا لو أجرينا مقارنة بسيطة بين ما طرحه العلماء الأوروبيون وما طرحه العلماء العرب والمسلمون من معالجات لمفهوم البرودة في القرن 17م، سنجد مدى تفوق الفكر العلمي العربي من ناحية الأصالة ومحاولة التوسع في فهم ظاهرة البرودة. (1) جيوفاني مارلياني (القرن 15م)
كان يوجد في الأوساط العلمية الأوروبية في عصر جيوفاني مارلياني نقاش حول كيفية تبريد الأشياء؛ ففي عام 1461م أكد مارلياني أنه لاحظ تجريبيا أن الماء الساخن يتجمد أسرع من الماء البارد. وقد ذكر في تجربته أنه استخدم أربع أونصات (113,398 غرام) من الماء البارد جدا وأربع أونصات من الماء المغلي، وقال إنه وضعهما خارجا في أوعية مماثلة في يوم شتاء بارد. ولاحظ في نهاية المطاف أن الماء المغلي جمد أولا، لكنه لم يتمكن من شرح آليات كيف حدث ذلك.
108
والواقع أن الأمر سيستغر ق حوالي 500 سنة حتى يتمكن العلماء من تفسيرها في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي ستعرف باسم «أثر مبيمبا»،
109
لكن مع ذلك فقد هيمن الفكر الأرسطي على تفكير جيوفاني مارلياني وكتاب العصور الوسطى الآخرين، وكانت تلك إحدى العقبات الرئيسة في تطوير المفهوم الحديث لدرجة الحرارة.
110 (2) فرنسيس بيكون (القرن 17م)
لقد أودى البرد بحياة فرنسيس بيكون بسبب إسرافه في استخدام الثلج للمحافظة على اللحم؛
111
فقد أراد تجريب كيفية وقاية الثلج للأجسام الحيوانية من العفونة في جسم دجاجة مذبوحة لساعتها، فسرت إليه قشعريرة لم تمهله غير أيام.
112
ويبدو أن سبب موته هو إصابته بالتهاب رئوي بسبب البرد الشديد في أثناء الاختبار، لكن هذه الرواية لا تبدو أنها الرواية الوحيدة؛ إذ يوجد رواية أخرى تقول إنه مات بسبب جمعه بعض النباتات في طقس سيئ.
113
المعرفة العامة بأن الماء الحار قد يتجمد أسرع من البارد (أو أثر مبيمبا) كانت منتشرة في عصر بيكون؛ ففي عام 1620م كتب إن «الماء الدافئ قليلا يتجمد بسهولة أكثر من الماء الشديد البرودة.»
114
وقد كان يعتبر أن هذه العملية تهيئ المادة لقبول البرودة أكثر.
115
وقد لاحظ أن «البرودة تكمش كل مادة وتضيقها، فنجد أنه في موجات الصقيع الشديد تتساقط المسامير من الجدران، وتتشقق الأشياء البرونزية، ونجد الزجاج الذي كان ساخنا ثم تعرض للبرودة المفاجئة ينشرخ وينكسر. والهواء بالمثل ينكمش بأقل تبريد إلى حيز أصغر.»
116
طبعا لا يستثني هنا بيكون الماء المبرد إلى درجة التجمد الذي يزداد حجمه لدرجة أنه يحطم الوعاء الذي يحويه، ولم يكن يوجد بداخله فراغ كاف لتمدده.
وقد كتب في مذكراته: «إن الحرارة والبرودة يدا الطبيعة التي تعمل بشكل رئيس؛ فالحرارة متاحة بالنسبة لنا في النار، ولكن للبرودة يجب علينا الانتظار حتى تأتي أو نسعى وراءها في الكهوف العميقة أو الجبال العالية، وعندما يتم كل شيء لا يمكننا الحصول عليها في أي درجة كبيرة، بالنسبة لأفران النار فهي أكثر سخونة بكثير من الشمس في الصيف، ولكن الأقبية والتلال ليست أكثر برودة بكثير من الصقيع في فصل الشتاء.»
117 (3) غاليليو (القرن 17م)
عبر غاليليو غاليلي
Galileo Galilei (توفي 1642م) عن وجهة نظره عن مفهوم البرودة قائلا: إن «البرودة لا شيء سوى غياب الحرارة.» وهو بذلك يرفض المنظور الأرسطي بأن الحرارة والبرودة كانتا خاصتين متميزتين يمكن تعريف كل منهما بشكل منفصل.
118 (4) ديكارت (القرن 17م)
قال رينيه ديكارت
R. Descartes (توفي 1650م) بعد طرح بيكون بقليل: «تبين التجربة أن الماء الذي بقي على النار يتجمد أسرع من الماء الآخر.»
119 (5) بيير غاسندي (القرن 17م)
كان بيير غاسندي
(توفي 1655م) مقتنعا بفكرة الذرة، وأن الحرارة والبرودة تعدان مظهرين مميزين للمادة؛ فالذرات الباردة اعتبرها رباعية الأسطح، وعندما تخترق ذلك السائل سوف يصبح صلبا بطريقة ما.
120
نظرية غاسندي كانت ميكانيكية ومعقدة، فيها تكون «الذرات التي تحوي على مقادير من الطاقة
calorific » تسبب الحرارة بتهييج جسيمات المادة المعتادة، ثم افترض غاسندي أيضا وجود «جسيمات
frigorific »؛ حيث إن أشكالها ذات الزوايا وحركتها البطيئة جعلتها مناسبة لسد مسامات الأجسام؛ وبالتالي تخمد حركات الذرات.
121 (6) جين مورين (القرن 17م)
اعتبر الفيزيائي الفرنسي جين بابتيست مورين
J. Morin (توفي 1656م) في كتابه «
Astrologia Gallica » أو «علم التنجيم الغالي» أن الحرارة والبرودة «كميتان متضادتان» أو «متعاكستان»، وأنهما تعودان إلى «التشابه والاختلاف»، بحيث إن الفلاسفة قبل قرن لم يمكنهم تدميرهما، إنما استطاعوا مزجهما معا، كما في المزيج، وقد يضعف «المتضادان» السائدان بعضهما بعضا، ويغدو الأقل بينهما محسنا، حيث يمكن قياس الكثافتين بميزان الحرارة، وزوج «المتعاكسين» هو ذو شدة أكثر على السائدين في المزيج. بالنسبة لمورين قد لا يكون هناك صيغة لكمية البرودة والحرارة، مع ذلك ثمة فكرة تظهر عندما يناقش أن ضعف كمية الماء قد ينتج ضعف التأثير. ربما بإمكاننا أن نقدر وجهة نظر نضج مورين إذا اعتبرنا أنه يأخذ بنظرية السيال الحراري
Caloric
بدلا من الحرارة.
122 (7) روبرت بويل (القرن 17م)
أجرى روبرت بويل
R. Boyle (توفي 1691م) في أكاديمية ديل شمنتو تجارب على المخاليط المتجمدة، وقد أراد بويل استبعاد الحقيقة الإيجابية للبرودة، لكن كان عليه أن يعترف بعدم قدرته على العمل على هذا النحو بأي طريقة حاسمة بعد اعتبارات صادقة وشاملة.
123 (8) إسحاق نيوتن (القرن 18م)
استطاع إسحاق نيوتن
I. Newton (توفي 1727م) في عام 1701م، أن يقدر بعض درجات الحرارة العليا من درجة غليان الزئبق، وقد أنجز ذلك بواسطة القانون الذي وضعه وسمي باسمه «قانون نيوتن للتبريد»
Newton’s Law of Cooling ،
124
والذي ينص على أن «الجسم الساخن يفقد الطاقة الحرارية إلى محيطه (الهواء) بمعدل زمني يتناسب طرديا (وخطيا) مع الفرق في درجة الحرارة بين الجسم ومحيطه.»
125
وقد سمح له هذا القانون باستنتاج درجات الحرارة الابتدائية من مقدار الوقت الذي تأخذه الأشياء الساخنة لتبرد حتى درجات حرارة أخفض معينة قابلة للقياس. قانون نيوتن للتبريد لا يمكن اختباره مباشرة في المجال البيرومتري؛ لأن ذلك سيتطلب بيرومترا مستقلا.
126
كما كان نيوتن قادرا على تقدير درجة الحرارة العليا، مثل «الحرارة الحمراء أو درجة التوهج»، وذلك بمراقبة الأوقات التي تتطلبها الأجسام للتبريد إلى درجة حرارة يمكن قياسها على ميزان حرارته، مع أن مقترحه من أجل مقياس معياري لموازين الحرارة لم يكن كافيا جدا، إلا أن اكتشاف نيوتن لقانون التبريد في الأجسام الصلبة ومراقبته لثبات درجة الحرارة في الانصهار وإحداث الفقاعة في أثناء الغليان كان ذا أهمية رئيسة من أجل تطوير موازين الحرارة.
127
الخلط بين درجة الحرارة والحرارة كان حاضرا في ذهن نيوتن، الذي شاطره إياه بويل، كدليل من موضوع مقتبس، الذي افترض فيه بأن درجة الحرارة يجب أن تكون كمية تتماثل مع الوزن والطول أو الوقت. بالفعل، إن الفشل بالتمييز بين هذين المفهومين كان يتم مواجهته كثيرا حتى الفترة الثانية من القرن الثامن عشر حتى تمكن جوزيف بلاك أخيرا من التفريق بين كمية الحرارة ودرجة الحرارة.
128
أعاد جوزيف فورييه
J. Fourier (توفي 1830م) صياغة قانون نيوتن للتبريد وفق المعادلة التفاضلية الآتية:
حيث: : هي الطاقة الحرارية، وتقاس بالجول. : هو معامل نقل الحرارة (المفترض مستقل عن
هنا)، يقاس بوحدة : هي مساحة سطح نقل الحرارة، تقاس بوحد . : هي درجة حرارة سطح الجسم الداخلية. : هي درجة حرارة الوسط المحيط؛ أي درجة الحرارة المناسبة بعيدا عن السطح. : تعتمد على زمن التدرج الحراري بين الوسط والجسم.
لكن للقانون شروطا يجب مراعاتها عند التطبيق، منها:
أن يكون الهواء حول الجسم انسيابيا في حالة إن كان متحركا.
عدم تغير السعة الحرارية النوعية للجسم أثناء التبريد.
ألا يكون الفرق (د) بين الجسم ومحيطه كبيرا.
لذلك قال فورييه بأن قانون نيوتن للتبريد لا يكفي دراسته بشكل مباشر. ويستذكر بأن تجارب نيوتن تشمل الأجسام في تيار الهواء ولا يميز بين توصيل الحرارة وإشعاعها . إيمان فورييه بأن ظواهر الحرارة المشعة هي من فرع منفصل من العلم هو الذي قاده للتأكيد بعدم قابلية تطبيق قانون نيوتن مباشرة.
129 (9) جورج ريتشمان (القرن 18م)
وضع جورج وليم ريتشمان
G. W. Richmann (توفي 1754م) صياغة لتبريد مزيج؛ فحسب صياغة ريتشمان إذا كانت
هي فرق درجة الحرارة بين الجسم البارد والهواء، و
نقص درجة الحرارة في فترة زمنية
t ، وفرق درجة الحرارة بين الجسم البارد والهواء بعد
فترات زمنية
t
هي : وكمية التبريد في
nth
فترة زمنية هي .
130 (10) جوزيف آدام براون (القرن 18م)
الإثبات الأول على أن الزئبق يمكن في الحقيقة تجميده أتى من عمل جوزيف آدام براون
J. A. Braun (توفي 1768م)، أستاذ الفيزياء في أكاديمية سانت بطرسبورغ؛ فقد كان الشتاء بين عامي 1759-1760م قاسيا جدا، حيث سجل درجات حرارة تصل إلى 212° ديليسل
Delisle
131
في كانون الأول، وهي تساوي إلى:
C°41.3− ، أو
F°42.4− . عندها أسرع براون لاغتنام تلك الفرصة ليصنع أكبر درجة من البرد الصناعي الذي يمكن إنتاجه في أي وقت، مستعملا «خليط تجميد»
132
من
Aqua Fortis (حمض النتريك،
HNO
3 ) مخلوطا مع الثلج؛ وبذلك تمكن من تجميد الزئبق عند الدرجة «−300° مئوية» تماما؛ وبذلك تأكد لبراون أنه يمكن معاملة الزئبق مثل أي سائل آخر.
133 «إلى اليمين» صورة توضح تجربة «الانكسار-المزدوج» لبيكتيت؛ فالشرارة التي أشعلت في بؤرة المرآة الأخفض تسببت في انفجار بالون كلور-هيدروجين في بؤرة المرآة العلوية. في تجربة تشبه أكثر بيكتيت، وضعت كرة نحاس ساخنة في البؤرة الأخفض فسببت لبالون هيدروجين-أكسجين مسود في البؤرة العلوية أن ينفجر (مصدر الصورة اليمنى والتعليق:
Chang, Hasok, Inventing Temperature, p. 165 ). «إلى اليسار» مكونات تجربة بيكتيت (مصدر الصورة اليسرى:
http://www2.ups.edu/faculty/jcevans/Pictet’s
20experiment ). (11) مارك أوغسط بيكتيت (القرن 19م)
وسط مجتمع علمي مشوش ولدت تجربة أخاذة بدت كأنها إثبات مباشر لحقيقة البرودة، وقد ولدت خلافا جعل المناقشة الحاسمة والباقية في نفي البرودة من أنطولوجيا الكون. كانت التجربة أصلا من عمل رجل الدولة والفيزيائي السويسري مارك أوغسط بيكتيت
M. A. Pictet (توفي 1825م)؛ حيث أعد بيكتيت مرآتين معدنيتين مقعرتين تبعدان بعضهما عن بعضا ب: 3,6 أمتار، وتواجهان بعضهما بعضا، ووضع ميزان حرارة حساسا في بؤرة إحدى المرايا؛ ثم وضع جسما ساخنا (لكنه غير متوهج) في بؤرة المرآة الأخرى، ولاحظ أن ميزان الحرارة بدأ يرتفع مباشرة. بعدها صنع تجربة بمرايا منفصلة بمسافة 20,7 مترا أظهرت عدم وجود تأخر زمني يسبب التأثير، استنتج بيكتيت أنه كان يلاحظ إشعاع الحرارة بسرعة عالية جدا (مثل مرور الضوء)، ولكن بالتأكيد ليس سبب التوصيل البطيء هو الهواء.
134
أعيد استنساخ تجربة بيكتيت عن إشعاع وانعكاس البرودة، وذلك من قبل الباحثين جيمس إيفانس
J. Evans
وبريان بوب
B. Popp
في المجلة الأمريكية للفيزياء في عام 1985م، وفيها يصفان (الصفحة 738): أن «أكثر الفيزيائيين، لدى رؤيتها مثبتة للمرة الأولى، يجدونها مفاجئة وحتى محيرة.» ومن خلال عملهما هذا، أعاد كل من بوب وإيفانس إلى الوعي الإشعاع والانعكاس الواضحين للبرودة بوصفها ظاهرة حقيقية مدركة، لكنهما مع ذلك لم يعتبراها كمظهر لأي حقيقة إيجابية للبرودة.
135 (12) بيير بريفوست (القرن 19م)
ابتكر بيير بريفوست
(توفي 1839م) مفهوم التبادلات في عام 1791م لشرح سلسلة التجارب التي تبدو أنها تنطوي على وجود سوائل باردة غير قابلة للوزن (سيال بارد)، على غرار وجود سوائل مسئولة عن نقل الحرارة وغير قابلة للوزن (سيال حراري). وقد توصل بريفوست من التجربة الشهيرة لبيكتيت للقول بأن الأجسام كافة تطلق وتستقبل حرارة مشعة في جميع الاتجاهات، بصرف النظر عن درجات حرارتها النسبية؛ فإذا كان لدينا جسمان بدرجتي حرارة غير متساويتين يتبادلان حرارة مشعة، في أثناء كل تبادل للجسم الأبرد يتلقى حرارة أكثر مما يبعث حتى يتحقق التوازن الذي يكون فيه كلا الجسمين بدرجة الحرارة نفسها. عند توازن الجسمين يستمر تبادل الحرارة المشعة، لكن الآن عند معدل متساو. انعكاس البرودة هو مجرد ظاهرة فقط، ويتلقى ميزان الحرارة حرارة مشعة أقل مما انتقاله إليه من دورق الثلج؛ لذلك يسجل هبوطا في درجة الحرارة.
136 (13) توماس أندروس (القرن 19م)
في عام 1867م قام الفيزيائي الاسكتلندي توماس أندروس
Thomas Andrews (توفي 1885م) بدراسة جدية وعملية لكل السبل التي تساعد في التوصل لإسالة الغازات. وقد بين، مستعينا بالتغيرات المرافقة لثبوت درجة الحرارة واستخدامه لغاز الكربونيك، وجود ما يسمى ب «درجة الحرارة الحرجة»، وهي الدرجة التي لا تمكن إسالة الغاز عند أية درجة حرارة أعلى منها بوساطة الضغط مهما كان قدره. وفسر حالة «الغازات الدائمة» بأن درجات حرارتها أقل مما يمكن تحقيقه بأية طريقة معروفة سابقا.
137
وحتى يتأكد العلماء من صحة فرضيته قاموا بالبحث عن وسائل تحقق درجات حرارة منخفضة جدا، مثل:
138 (1)
الاستفادة من ظاهرة التمدد الأديباتي لغاز مضغوط بشكل عال، والذي يسبب تبريده، بشرط أن يحدث التمدد عند درجة حرارة تقل عن حد معين (وهو ما يسمى بأثر جول-كلفن). (2)
الاستفادة من ظاهرة التبخر السريع للحالة السائلة لغاز تحت إسالته سابقا، وإحداث التبريد. (3)
الاستفادة من خفض درجة حرارة الغاز عندما يبذل الغاز عملا خارجيا.
وقد أثبتت التجارب نجاح الوسائل السابقة مجتمعة أو متفرقة لابتكار وسائل لإسالة الغازات عن طريق التبريد، وهو الأمر الذي سيفتح بدوره بابا جديدا في الفيزياء لا يزال السعي فيه حثيثا، وهو ظاهرة الناقلية الفائقة في المعادن
Superconductivity
التي تصبح فيها المقاومة الكهربائية منخفضة إلى درجة الصفر. (14) اللورد كلفن (القرن 20م)
سعى اللورد كلفن وليم طومسون
Lord Kelvin (توفي 1907م) للوصول إلى أقصى درجة يمكن الحصول عليها في البرودة، وتوصل إلى أن قيمتها «−273,15 درجة مئوية»، وسميت بالصفر المطلق. وقد وضع بناء على ذلك مقياسه المعروف.
139
أما أقصى درجة برودة تم التوصل إليها في عام 2007م (بعد 100 عام من وفاة كلفن) هي 177 نانو كلفن (1نانو = 910، وصفر الكلفن = −273,16° مئوية).
140
الفصل الثاني
اللمسيات (حاسة اللمس)
مقدمة
نستخدم حاسة اللمس
Touch
لاستكشاف حرارة وبرودة الأجسام، أو مدى نعومتها وخشونتها، كما أننا نستشعر بها الضغط والألم. ويخصص لكل نوع من الفئات الوظيفية السابقة مستقبلات خاصة بها. وعندما تثار بمثير خارجي فإن النبضات العصبية في الأعصاب الجلدية تتحرك، وتمر هذه النبضات عبر الحبل الشوكي إلى جذع الدماغ؛ ومن ثم تصل للدماغ لتحدث عنده عملية الإدراك.
1
نتعرف من خلال حاسة اللمس على الأشياء لدى ملامستها، فنتعرف إلى شكل وصلابة الأشياء بوساطة هذه الحاسة. ونشعر بالدفء والبرودة والألم والضغط من خلال لمسنا للأشياء. ويوجد داخل أنسجة الجسم ألياف عصبية عائمة تجعلنا نشعر بالألم. ويسمى اللمس والدفء والبرودة والألم الحواس الجلدية. وكان يعتقد أن اللمس يشكل إحدى الحواس الخمس الخارجية. أما الآن فإنها تعتبر حاسة عامة؛ لأن أعضاء اللمس توجد في جميع أجزاء الجسم.
2
في الواقع إنه عندما نلمس الأشياء فإننا لا نشعر بحرارتها، وإنما نشعر بمعدل ناقليتها (موصلتها) الحرارية؛ لأن جميع الأجسام الموجودة في مكان واحد لها درجة الحرارة نفسها تقريبا، والإحساس أن المعادن أسخن أو أبرد لدى لمسها غير صحيح، وإنما سبب هذا الإحساس هو ناقليتها الحرارية العالية؛ حيث إنها تنقل الحرارة من أو إلى الجسم عندما نلمسها فيتهيأ لنا أنها أبرد أو أسخن.
3
الأعصاب التي تشعر بالحرارة والبرودة والألم ليست موزعة في الجسم بشكل متساو. ويمكن معرفة ذلك بتمرير آلة معدنية مدببة على الجلد. وهذه الآلة أبرد من الجلد، ولكن الجلد يشعر ببرودتها في بعض المناطق دون الأخرى، بينما تشعر الأجزاء الأخرى بضغطها على الجلد فقط دون الشعور ببرودتها. وتجعل بعض الأشياء الجلد يميز بين الحرارة والألم واللمس في آن واحد. ومثال على ذلك المكواة الحارة؛ فإنها عندما تلامس الجلد تجعل الإنسان يشعر بهذه الأحاسيس الثلاثة في آن واحد.
4
ما يميز حاسة اللمس عند الإنسان هو مقدرتها على اكتشاف مستويات مختلفة من حرارة نسبية:
بارد، فاتر، دافئ، محرق. وكذلك فإن حس الضغط يمكنه أن يسجل مستويات مختلفة؛
5
لذلك فإن استخدام هذه الحاسة على أنها «مقياس» للحرارة والبرودة يعد كيفيا وليس كميا، وقد يتسبب في بعض الأحيان إلى حدوث اللبس؛ فكلنا يعرف تجربة وضع ثلاثة أوعية أحدهما بارد والثاني حار والثالث فاتر، فإذا غمسنا إحدى اليدين في الماء البارد والأخرى في الحار يخبرنا كل واحدة بما تشعر، إلا أننا إذا قمنا بتغطيس كلتا اليدين في الوقت نفسه في الماء الفاتر فإن كل يد ستخبرنا بعكس ما أخبرتنا به في الحالة الأولى؛
6
ولهذا لا يمكننا اعتبار حاسة اللمس «أمينة» في نقل الإحساس المحيط بنا، وهو ما دعا إلى ظهور مقاييس وموازين الحرارة.
وفق أحدث الأبحاث العلمية التي تحاكي وتتفوق على حاسة اللمس عند الإنسان، فقد توصل باحثون من معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)
وجامعة نورثيسترن إلى تجهيز روبوت بحساس لمسي أكثر دقة من إصبع الإنسان بمائة مرة.
7
سنطلق مصطلح «اللمسيات
Tactilelogy »
8
على دراسة الظواهر المؤثرة على حاسة اللمس، وذلك على غرار المصطلحين: السمعيات
Audiology
الخاص بحاسة السمع، والبصريات
Optics
الخاصة بحاسة البصر.
يعود تاريخ دراسة هذه الحاسة إلى جهود اليونانيين، لكننا سنجد الإسهام الأكبر من نصيب العلماء العرب والمسلمين، في حين أن العلماء الأوروبيين وفي القرن السابع عشر لم يقدموا ما هو جديد؛ فقد ذكر غاليليو (توفي 1642م): أن «حاسة اللمس أكثر مادية من الحواس الأخرى، ولكنها تنشأ من صلابة المادة فيبدو أنها مرتبطة بالعنصر الأرضي.»
9
المبحث الأول: اليونانيون
لم يهتم العلماء والفلاسفة قبل أرسطو بدراسة هذه الحاسة، مع أن أغلبهم كان يعتبر اللمس الحاسة الأولية الرئيسة التي نشأت عنها الحواس الأخرى؛ إذ لم يحاول إنباذوقليس وديمقريطس وأتباعهما من الطبيعيين أن يفسروا وظيفة حاسة اللمس بأكثر مما قالوه عن الإحساس بشكل عام، بأنه انفعال مادي آلي يحدث بين أعضاء الحس والأبخرة المنبعثة من الأجسام. ومع أن أفلاطون تعرض لشرح الكيفيات الملموسة، فإنه لم يعن بدراسة طبيعة عضو اللمس مثل اللاحقين.
10 (1) أرسطو (القرن 4ق.م.)
لعل أول تقدم علمي في دراسة حاسة اللمس أنجزه أرسطو، لكنه لم يتمكن من الحصول على نتيجة حاسمة؛ وذلك لقلة معرفته بالجهاز العصبي، ولقلة التجارب التي قام بها، إضافة لدقة عضو اللمس وصعوبة الكشف عنه.
11
يعود الإحساس عند الإنسان بحسب أرسطو إلى حاسة اللمس، فهي أولى الحواس؛ إنها تميز بين الحار والبارد، كما أنها تميز بين اليابس والرطب.
12
وقد نبه أرسطو إلى أن اللمس لا يتم إلا بالملامسة المباشرة؛ وبذلك تكون حاسة اللمس الحاسة الوحيدة التي تستجيب إلى المحسوس إذا وضع على العضو المدرك مباشرة، وأيد قوله هذا بأننا إذا وضعنا الشيء على القرنية فإنها لا تبصر.
13
ونجد في مكان واحد من كتاب «النفس» يذكر أرسطو بأن حاسة اللمس هي الحاسة الوحيدة الضرورية وغير المستغنى عنها للحفاظ على الحيوان، ثم في مكان آخر يعتبر أن حاسة الذوق شكلا من اللمس؛ لذلك فهي ضرورية أيضا لوجود الحيوان.
14
يبدأ أرسطو بالتساؤل حول ضرورة وجود اللحم حتى تقوم هذه الحاسة بعملها، بمعنى هل يوجد أي دور للعضلات في حاسة اللمس؟
قال أرسطو: «ما يقال عن الملموس يمكن أن يقال عن اللمس؛ ذلك أنه إذا لم يكن اللمس حاسة واحدة بل أكثر من حاسة واحدة، بل أكثر من حاسة، فمن الضروري أن تكون الملموسات كثيرة. ولكن السؤال الذي نضعه أولا هو: أهناك حواس كثيرة للمس أم حاسة واحدة؟ وأيضا فما عضو اللمس؟ أهو اللحم؟ وفي الكائنات [التي لا لحم لها] ما يشبه اللحم؟ أم إنه ليس شيئا من ذلك، وإنما كان اللحم فقط متوسطا، وكان عضو الحس الأول في الحقيقة عضوا باطنا آخر؟
ويظهر مع ذلك أن كل إحساس فهو إحساس بتضاد واحد؛ فللبصر مثلا هو البياض والسواد، وللسمع الحاد والثقيل، وللذوق المر والحلو. أما الملموسات فإنها على العكس تشمل متضادات كثيرة؛ الحار والبارد، واليابس والرطب، والصلب واللين، وما إلى ذلك .»
15 «ومن جهة أخرى، هل عضو الحس باطن أم لا، وإنما هو اللحم نفسه مباشرة؟ لا يمكن استخلاص أي دليل واضح على أن الإحساس يحصل مع الملامسة في وقت واحد؛ لأنه إذا مددنا حول اللحم غشاء فإنه يوصل الإحساس عند الملامسة، ومع ذلك فمن الواضح أن عضو الحس ليس في هذا الغشاء، بل إذا اتحد الغشاء مع اللحم اتحادا طبيعيا كان الإحساس أسرع؛ لذلك يظهر أن هذا الجزء من الجسم كأنه هواء محيط بنا إحاطة طبيعية.»
16
ويقرر أرسطو أخيرا أن حاسة اللمس شاملة؛ إذ يمكنها تحسس الحار والبارد، واليابس والرطب، والأملس والخشن، والصلب واللين؛
17
لذلك فإن الإحساس اللمسي يعتبر أحد أنواع الانفعال؛ إذ إن المحسوس، أي الفاعل، يخرج عضو الحس - وهو الجزء الذي به اللمس - من القوة إلى الفعل.
18 (2) جالينوس (القرن 2م)
اشترط جالينوس وجود اتصال لإدراك كل أنواع الحس، وهو لا يقصد من ذلك الاتصال المباشر إلا للجلد وحسب، وإنما قرر أن اللسان يستجيب إلى ملامسة الرطوبة الموجودة عليه، والشم لملامسة مزيج الهواء وطبائع الروائح، والسمع لملامسة حركة الهواء.
19
كما ميز بين بين أنواع مختلفة من اللمس ولم يربطها بأعضاء أو بأعصاب مختلفة؛ لذلك كان جالينوس يقطع الأعضاء كاملة في تجاربه، ولم يكن له إلى التجربة على أوتار فردية سبيل؛ لذلك نراه لا يميز بين الأعصاب الناقلة لأنواع الحس المختلفة، إلا أنه خص نوعا من الأعصاب - باستثناء أعصاب الحركة وأعصاب الحس العادية - بنقل الحس من الأحشاء الداخلية.
20
المبحث الثاني: العلماء العرب والمسلمين
تناول عدد من العلماء العرب والمسلمين حاسة اللمس منذ القرن 4ه/10م، وقد كانت لهم آراء متعددة؛ فمنهم من وافق اليونانيين الرأي ومنهم من خالفهم. (1) إخوان الصفا (القرن 4ه/10م)
لقد تأثر إخوان الصفا بما طرحه أرسطو وأفلاطون في كتابه «طيماوس» لشرح الكيفيات الملموسة، وذلك في إطار حديثه عن الإحساسات العامة للجسم.
21
وقد قرر إخوان الصفا أن حاسة اللمس تدرك عشرة أنواع: «الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة واللين والصلابة والرخاوة والخفة والثقل.»
22
إلا أن ما يميز شرح إخوان الصفا هو وصفهم لكيفية إدراك القوة اللامسة للحرارة والبرودة، حيث تنقل الأعصاب الأثر من الجسم إلى مركز الحاسة في الجبهة الأمامية للدماغ للقيام بالتصرف المناسب، وفي حال كانت درجة حرارة الجسم مقبولة فلن تتغير الاستجابة عندها، لكن يستحيل أن يتشابه جسمان في كل الصفات؛ إذ لا بد وأن تختلف بعضها عن بعض.
قال إخوان الصفا: «أولا هو أن مزاج بدن الحيوان في دائم الأوقات يكون على قدر ما من الحرارات والبرودات؛ فإذا لاقاه جسم آخر فلا يخلو أن يكون ذلك الجسم أشد حرارة من البدن أو أشد برودة منه، أو مساويا له في ذلك؛ فإن كان أشد حرارة منه زاد سخونة ما عند ملاقاته له، وإن كان أبرد منه زاد برودة ما، فتحس القوة اللامسة بذلك التغيير والاستحالة، فتؤدي خبرها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ. وإن كان ذلك مساويا لمزج البدن في الحرارة والبرودة جميعا فلا يغير منه شيئا ولا يؤثر فيه، ولا تحس القوى بشيء، ولكن لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون أخشن من البدن أو ألين منه، فتحس القوة بذلك التغيير والاستحالة. وإن كان مساويا أيضا في هاتين الصفتين، فلا يؤثر فيه شيئا، ولا يقع الحس فيه، ولكن لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون أشد صلابة من البدن أو أشد رخاوة منه، فيؤثر فيه، فتحس القوة بذلك التغيير. وقلما يوجد جسمان متساويان في هذه الصفات الست من الحرارة والبرودة واللين والخشونة والصلابة والرخاوة.»
23
وقد أدرك إخوان الصفا أن حاسة اللمس تكون أكثر حدة في أيدينا؛ لأن مستقبلات اللمس أو الأعصاب الحسية شديدة التركيز هنا، وخصوصا في أطراف الأصابع؛ فالإنسان يملك في المتوسط مائة من أطراف الأعصاب في كل 1سم
2
على كل من أطراف الأصابع، في المقابل ينتشر خمسة أطراف في كل 1سم
2
في الأجزاء الأقل حساسية من جسم الإنسان.
24
قال إخوان الصفا: «القوة اللامسة مجراها في عامة سطح بدن الحيوان الرقيق الجلد، ولكنها في الإنسان أظهر وخاصة في الأنملة.»
25
لكن «القوة اللامسة التي باليدين هي المتولية أمر الملموسات بالإدراك والتصرف فيها وتمييز بعضها عن بعض، وبإتيان أخبارها إلى القوة المتخيلة. ونسبتها إلى الشمس كنسبة إحدى أخواتها التي تقدم ذكرها.»
26 (2) مسكويه (القرن 5ه/11م)
تناول أبو علي مسكويه (توفي 421ه/1030م) في مقالته عن «النفس والعقل» الأخطاء التي يمكن أن تقع بها حاسة اللمس، وهذا واحد من أقدم النصوص التي تشير إلى عدم أمانة حاسة اللمس في قياسها لحرارة أو برودة الأجسام. قال: «وكذلك الأمر في اللمس لمن يألف الأشياء الخشنة إذا لمس لينا، وكذلك حال اليد التي تكون حارة إذا لمست ما هو دونها في الحرارة وجدته باردا؛ فأما من تكون يده باردة فإنه يجد ذلك بعينه حارا.»
27 (3) ابن سينا (القرن 5ه/11م)
صحح ابن سينا بعض آراء أرسطو، فتوصل لنتائج أدق من نتائج أرسطو. ولعل مرد ذلك إلى أن معرفة ابن سينا وخلفيته العلمية كانت أغزر من معرفة أرسطو؛ فهو طبيب قرأ واستفاد من آراء الكثير من الأطباء والمشرحين الذي جاءوا بعد أرسطو أمثال جالينوس.
28
تتميز حاسة اللمس عند ابن سينا بأنها «تعين على معرفة أن الهواء المحيط بالبدن مثلا محرق أو مجمد.»
29
ومن الأمور التي تحسها هذه الحاسة «الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة والملاسة والثقل والخفة ... فالحرارة والبرودة كل منهما يحس بذاته، لا لما يعرض في الآلة من الانفعال بها.»
30
أما عن آلية اللمس فيشرحها لنا ابن سينا بأنها مزيج من العضلات والأعصاب، وليس العضلات لوحدها أو الأعصاب لوحده.
قال ابن سينا: «ومن الخواص التي للمس أن الآلة الطبيعية التي يحس بها وهي لحم عصبي أو لحم وعصب تحس بالمماسة، وإن لم يكن بتوسط البتة، فإنه لا محالة يستحيل عن المماسات ذوات الكيفيات، وإذا استحال عنها أحس، ولا كذلك حال كل حاسة مع محسوسها. وليس يجب أن يظن أن الحساس هو العصب فقط، فإن العصب بالحقيقة هو مؤد للحس اللمسي إلى عضو غيره وهو اللحم. ولو كان الحساس نفس العصب فقط لكان الحساس في جلد الإنسان ولحمه شيئا منتشرا كالليف، وكان حسه ليس بجميع أجزائه بل بأجزاء ليفية فيه، بل العصب الذي يحس اللمس مؤد وقابل معا ... فبين إذن أن من طباع اللحم أن يقبل الحس؛ فإن كان يحتاج أن يقبله من مكان آخر ومن قوة عضو آخر توسط بينهما العصب.»
31
والنص السابق يخالف فيه ابن سينا أرسطو الذي يعتبر فيه عضو اللمس هو القلب، وأن اللحم وسط للمس مثل الهواء بالنسبة للإبصار. «ومن خواص اللمس أن جميع الجلد الذي يطيف بالبدن حساس باللمس ولم يفرد له جزءا منه؛ وذلك لأن هذا الحس لما كان طليعة تراعي الواردات على البدن التي تعظم مفسدتها إن تمكنت من أي عضو وردت عليه، وجب أن يجعل جميع البدن حساسا باللمس. ولأن الحواس الأخرى قد تتأدى إليها الأشياء من غير مماسة ومن بعيد، فيكفي أن تكون آلتها عضوا واحدا إذا ورد عليه المحسوس الذي يتصل به ضرر عرفت النفس ذلك فاتقته وتنحت بالبدن عن جهته؛ فلو كانت اللامسة بعض الأعضاء لما شعرت النفس إلا بما يماسها وحدها من المفسدات.»
32 (4) ابن ماسويه (القرن 5ه/11م)
يقرر ابن ماسويه (توفي 469ه/1076م) أن طريقة إدراك الحرارة والبرودة يكون عن طريق اللمس الموضعي، والدليل على ذلك أننا قد نلمس أجسامنا.
قال ابن ماسويه: «ومتى قيل إنهما مدركان لمسا فالمراد به ملامسة المحل؛ لأن اللمس لا يقع إلا بين الجسمين، ويكفي في إدراكهما كل محل فيه حياة من دون الحاجة إلى حاسة مخصوصة. وإذا أدركناهما بمحل الحياة فإنما ندركهما في غيره فيفارق الألم الذي يدرك بالحياة في محلها. يبين ذلك أن أحدنا لا يتبين حرارة بعض بدنه إلا بأن يلمسه ببعض آخر. والمحموم إنما يدرك بالحياة حرارته؛ لأنه تجاوره أجزاء فيها نارية فيدرك حرارتها. وقد يجوز أن يقال إنها توجب التفريق فيجد ألما؛ فلهذا يقع له إدراك ذلك.»
33 (5) ابن باجة (القرن 6ه/12م)
يعرف ابن باجة حاسة اللمس بأنها القدرة على معرفة الملموس، ومهما تعددت أشكال الجسم الملموس (حار، بارد، خشن، ناعم ...) فإن وظيفة هذه الحاسة تبقى واحدة بالتعرف إليها. هذه الحاسة تعم كل أنحاء الجسم، وهي موجودة في كل حيوان حي.
قال ابن باجة: «اللمس هو القوة على إدراك الملموس. والملموس قد يظن به أنه أصناف كثيرة، فتكون قوة اللمس أصنافا كثيرة، إلا أنها في موضوع واحد. وهذه الحاسة شائعة في بدن الإنسان، وليس لها عضو مخصوص كما لسائر الحواس، بل لها قابل محدود النوع في كل حيوان، وهو اللحم أو ما يقوم مقامه فيما لا لحم له؛ فإن الجلد ليس فيه الحاس الأول؛ لأنه إذا كشط أحس اللحم ليس بأنقص من إحساس الجلد، بل هو أحرى أن يظن به أنه أشد لمسا. وهذه الحاسة، على ما تقدم، هي التي لا يخلو منها حيوان، وبها يكون الحيوان حيوانا؛ ولذلك متى فقدت هذه الحاسة ارتفع معنى الحيوان عن ذلك الشخص. ولا تخلو [من] أن يكون لها لمس. ولما كانت الملموسات، على ما تبين في الثانية من الكون والفساد، يرجع كلها إلى الحار والبارد والرطب واليابس، وكان هذان التضادان ليس يرجع أحدهما إلى الآخر، فإن كل حس فإنه لمتضادين.»
34
ولتفسير آلية الإحساس باللمس يعتبر ابن باجة أن هذه الحاسة تتصف بالاعتدال، وهي صفة تخص الجلد وحده، وعندما قال جالينوس وغيره إن آلة حاسة اللمس هي اليد فقد كان يقصد جلد اليد الذي يتصل بالأعصاب مع الدماغ.
قال ابن باجة: إن «المعتدل هو بوجه ما ولا واحد من الطرفين بالقوة؛ فلذلك كانت آلة اللمس معتلة من الحار والبارد والرطب واليابس؛ ولذلك لما ظن جالينوس أن اليد هي آلة اللمس حكم بأن جلدة اليد هي المعتدلة بين الأطراف. فنقل ما للجسم الذي فيه القوة اللامسة إلى بعض آلات اللمس، وهذا الجسم الحار الغريزي. ولما لم يكن فيه الاعتدال لذلك وصلته الأجسام التي يسميها جالينوس عصبا؛ لأنها تأتي بالبرودة النفسانية من الدماغ؛ ولذلك فأي عضو لم يتصل به سيل من الدماغ لم يكن فيه لمس؛ ولذلك لا يلمس الكبد ولا الكلى ولا العروق الضوارب وهي مملوءة من الروح الغريزي.»
35 (6) ابن ملكا البغدادي (القرن 6ه/12م)
قدم ابن ملكا رأيا مخالفا لمن سبقه بأن حاسة اللمس تعم جميع أنحاء الجسم، لكن عملية إدراك الملموسات تتم في النفس وليس في الدماغ كما قال معظم الدارسين لها.
قال ابن ملكا: «فأما حس اللمس فإنا نراه يكون بجميع سطح البدن وأكثر أجزائه الباطنة والظاهرة، ونشعر منه بمثل ما شعرنا به من الإبصار والسمع من أن المدرك له هي النفس التي ذات الواحد منا، وإنها تدرك الملموس حيث يلاقيه العضو اللامس لا محالة.»
36 (7) ابن رشد (القرن 6ه/12م)
يصرح ابن رشد ويميز قطعيا أن اللمس والذوق أساسيان لوجود الحيوان، في حين أن بقية الحواس ليست بأهميتهما؛ كونها لا تؤثر على حياته بشكل كبير.
37
ويعتبر ابن رشد أن حاسة اللمس هي أقدم الحواس، وقد تنفرد بها بعض الكائنات دون الحواس الأخرى كما هو الحال في حيوان الإسفنج البحري، والكائنات المتوسطة الوجود بين النبات والحيوان حيث يشترك معها بعض الحواس. واللمس حاسة ضرورية لوجود الحيوان؛ إذ لولاها لأفسدته الأشياء التي من خارج وخصوصا عند حركته.
38
حاسة اللمس ندرك من خلالها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما يتولد عنها من الصلابة واللين، وهذا يعني أنها تدرك المتضادات من المحسوسات بخلاف ما عليه الحال في حاستي السمع والبصر. وآلة حاسة اللمس هي اللحم كما تبين له بالتشريح؛ وبذلك يرد ابن رشد على ثاميسطيوس
Themistius (توفي 390م) وأرسطو في كتاب «النفس» من أنه لا يحس بالأشياء بوساطة اللحم.
39
قال ابن رشد: «وهذه القوة هي القوة التي من شأنها أن تستكمل بمعاني الأمور الملموسة، والملموسات كما قيل في كتاب «الكون والفساد» إما أول، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ وإما ثوان، وهي المتولدة عن هذه كالصلابة واللين، وهذه القوة لما كانت إنما تدرك هذه الملموسات على نحو ترتيبها في وجودها فهي تدرك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أولا وبالذات، وتدرك الكيفيات الأخرى المتولدة عن هذه بتوسط هذه؛ ولهذه العلة بعينها لزم أن تكون هذه القوة تدرك أكثر من تضاد واحد بخلاف ما عليه الأمر في البصر والسمع؛ وذلك أنه لما كانت إنما تدرك هذه الملموسة على نحو كنهها في وجودها، وكانت كل واحدة من هذه الكيفيات تقترن به كيفية أخرى كالحرارة التي تقترن بها اليبوسة والرطوبة، كان إدراكها لهذه القوى معا.»
40 (8) فخر الدين الرازي (القرن 7ه/13م)
لم يضف الإمام فخر الدين (توفي 606ه/1210م) على ما سبق وذكره السابقون فيما يتعلق بحاسة اللمس.
قال الإمام: «ذكروا أن قوى اللمس أربع: الحاكمة بين الحار والبارد، والحاكمة بين الرطب واليابس، والحاكمة بين الصلب واللين، والحاكمة بين الأملس والخشن. وزاد بعضهم الحاكمة بين الثقيل والخفيف، وذلك بناء على أن القوة الواحدة لا تصدر عنها أفعال مختلفة. [قالوا] لكن هذه القوى لانتشارها في البدن ظلت قوة واحدة، ولا استحالة في أن تكون الآلة الواحدة آلة للقوتين، كما أن الرطوبة الجليدية فيها قوة باصرة وقوة لامسة. [و]قالوا من خواص قوة اللمس أن حاملها هو الواسطة، ومن شروط الواسطة خلوها عن الكيفية التي تؤديها حتى تنفعل عنها انفعالا جديدا فيقع الإحساس به المدرك للحرارة والبرودة، مثلا يجب ألا يكون موصوفا بهما، وليس ذلك لأجل أنه لا حظ له منهما؛ لأنه مركب من العناصر الأربعة، فهو إذن لأجل أن تكون الكيفيات فيه إلى الاعتدال حتى يحس بالخارج عنه؛ فالأقرب إلى الاعتدال أشد إحساسا، ولم تكن العناصر الأربعة البسيطة معتدلة الكيفيات، لم تكن لها قوة اللمس؛ فليس لها حياة أصلا.»
41 (9) عبد اللطيف البغدادي (القرن 7ه/13م)
وجد عبد اللطيف البغدادي (توفي 628ه/1231م) أن حاسة اللمس أقوى حاسة في عملية الإدراك، وأصدق ما يمكن الاعتماد عليه بين الحواس، لكننا سبق ووجدنا كيف أن مسكويه أشار إلى عدم أمانة وصدق هذه الحاسة؛ نظرا لاختلاف الإحساس الذي تعطيه لدى لمس الماء الحار ثم الماء البارد.
قال عبد اللطيف البغدادي: «وكل واحد من الحواس له عضو خاص به هو آلة له ما خلا حاسة اللمس؛ فإنها سارية في الجلد بأسره، وفي كثير من اللحم الكائن تحته، وبالجملة في كل ما أنبت فيه عصب الحس. وهذه الحواس على طبقات؛ فأولها ما يدرك من محسوسه أعراضه القارة فيه والمتصلة به، وذلك عند مباشرته له كحاسة اللمس في إدراك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخفة والثقل واللين والصلابة والملامسة والخشونة ونحو ذلك، وهذه الحاسة عامة للحيوان ومقدمة على سائر الحواس، وهي أثبت معرفة وأقوى إدراكا وأصدق حكما.»
42
كما يؤخذ على البغدادي أنه صنف كل ما يحس باللمس تحت باب واحد، أما جالينوس فيبدو أقرب إلى الحقيقة العلمية التي نعرفها نحن اليوم؛ فقد قرر جالينوس أن اللمس والحرارة والبرودة تدرك بشكل مباشر، إلا أن الصفات الأخرى كالليونة واليبوسة والصلابة والرطوبة تحتاج إلى وظيفة أعلى من التنبيه المباشر للعصب؛ فهي أحد أعمال الذهن الذي يصدر حكمه بناء على الخبرة. وقد بين العلم المعاصر أنه توجد ثلاث صفات أساسية للمس هي الحرارة والبرودة والألم، ولكل واحدة منها أعضاؤه وأعصابه الخاصة، أما بقية الحواس فإنها ترتكز على عملية نفسية معقدة تتناول الأحاسيس الأولية بالتحليل والتركيب.
43 (10) سيف الدين الآمدي (القرن 7ه/13م)
كرر سيف الدين علي بن محمد الآمدي (توفي 631ه/1233م) ما قاله السابقون في تعريف الحرارة دون أية إضافة؛ إذ قال: «وأما قوة اللمس فعبارة عن قوة منبثة في كل البدن، من شأنها إدراك ما ينفعل عنه البدن من الكيفيات الملموسة، وهي الحرارة والبرودة واليبوسة.»
44 (11) الأبهري (القرن 7ه/13م)
كذلك فقد كرر حسين بن معين الدين الميبدي (890ه/1485م) في شرحه لكتاب «هداية الحكمة» لأثير الدين مفضل بن عمر الأبهري (توفي 663ه/1264م): «واللمس هو قوة في العصب المخالط لأكثر البدن. وذهب الجمهور إلى أنها قوة واحدة، وقال كثير من المحققين، ومنهم الشيخ، إنها الأربعة الحاكمة بين الحرارة والبرودة، وبين الرطوبة واليبوسة، وبين الخشونة والملاسة، وبين اللين والصلابة، ومنهم من زاد الحاكمة بين الثقل والخفة.»
45 (12) نصير الدين الطوسي (القرن 7ه/13م)
كرر نصير الدين الطوسي (توفي 672ه/1274م) في المسألة الخامسة من بحثه عن الملموسات ما قاله السابقون عن العلاقة بين الحرارة والبرودة واللمس معتبرا أنها أساسية، في حين أن بقية الملموسات من خشونة ونعومة وغير ذلك فهي ثانوية؛ فقال: «فمنها أوائل الملموسات وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والبواقي منتسبة إليها.» وقد علق جمال الدين الحلي (توفي 726ه/1325م) على ذلك بقوله: «لما كانت الكيفيات الملموسة أظهر عند الطبيعة لعمومها بالنسبة إلى كل حيوان قدم البحث عنها. واعلم أن الكيفيات الملموسة إما فعلية أو انفعالية أو ما ينسب إليهما؛ فالفعلية كيفيتان هما الحرارة والبرودة، والمنفعلة اثنتان هما الرطوبة واليبوسة، ونعني بالفعلية ما تفعل الصورة بواسطتها في المادة، وبالمنفعلة ما تنفعل المادة باعتبارها. وإنما كانت الأوليان فعليتين والأخريان منفعلتين وإن كانت المادة تنفعل باعتبارهما؛ لأن الأوليين تفعلان في الأخريين دون العكس، وأما باقي الكيفيات الملموسة كاللطافة والكثافة واللزوجة والهشاشة والجفاف والبلة والثقل والخفة، فإنها تابعة لهذه الأربعة.»
46 (13) التفتازاني (القرن 8ه/14م)
إضافة لما سبق وذكره الآخرون طرح سعد الدين التفتازاني (توفي 793ه/1390م) أن حاسة اللمس تستوجب التماس بين الجلد والشيء الملموس، فالشيء البعيد عن التماس مع الجلد لا يمكن للحاسة إدراك هل هو نافع أم ضار.
قال التفتازاني: «أما الحواس الظاهرة فمنها اللمس، وهي قوة تأتي في الأعصاب إلى جميع الجلد وأكثر اللحم والغشاء، ومن شأنها إدراك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة والملاسة ونحو ذلك، بأن ينفعل عنها العضو اللامس عند المماسة بحكم الاستقراء، ولأنها لو أدركت البعيد أيضا لم يحصل التمييز بين ما يجب دفعه وما لا يجب فيفوت الغرض من خلق اللامسة؛ أعني دفع الضارب وجلب النافع، واللامسة للحيوان في محل الضرورة كالغاذية للنبات.»
47 (14) الأحمد نكري (القرن 12ه/18م)
آخر من تناول الحديث عن حاسة اللمس هو الأحمد نكري في معجمه «دستور العلماء»، فقد جمع كل الأقوال بدءا بابن سينا والطوسي وغيرهم ممن لم يذكرهم، لكن ما أضافه هو أن هذه الحاسة مركبة من العناصر الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار)، لكن طبعا دون أن يحدد نسبها؛ وهذا يعني أن لها أربع كيفيات (حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة). ويعود ويؤكد على فكرة أن حساسية هذه الحاسة تبلغ ذروتها في نهايات الأصابع، وهو ما أثبته العلم الحديث.
قال الأحمد نكري: «واعلم أن اللمس لما كانت ذات كيفيات لكونها مركبة من العناصر الأربع فبقدر ما يقرب من التوسط الاعتدالي يكون إدراكه؛ فكلما كان أقرب كان إدراكه أكثر لكون تأثره من الكيفيات أكثر. ولما كان قوة اللمس في الجلد من بين الأعضاء أكثر، ثم في جلد البدن من سائر الجلود، ثم في جلد الكف، ثم في جلد الراحة، ثم في جلد الأصابع، ثم في جلد أنملتها، كان كل من تلك الأعضاء أعدل مما دونها على الترتيب.»
48
الفصل الثالث
الأثر النفسي والصحي للحرارة والبرودة
على الإنسان
مقدمة
يعد وجود الحرارة أو التخلص منها أمرا ضروريا لكل الكائنات الحية بشكل عام، وللإنسان بشكل خاص، فالحرارة تؤثر على الدورة الدموية بتمديدها لجدران الأوعية الشعرية والشرايين، فيسري فيها الدم سريانا تاما، ويصل لأقصى جهة من جهات الجسم.
1
وعندما يريد الجسم أن يتخلص من الحرارة الزائدة تنفتح المسام الجلدية بسبب الحرارة فيخرج العرق طارحا معه الفضلات الضارة من الجسم، ويبدأ بالتبرد وتخفيض درجة حرارة الجسم.
وقد يخطر ببال أحدنا أن يتساءل: أيهما يؤثر أكثر على صحة الإنسان؛ ارتفاع درجة الحرارة أم انخفاضها؟ الواقع أن ارتفاع درجة الحرارة يؤثر أكثر من انخفاضها، وهو ما نلاحظه من قدرة البشر على استيطان الأماكن الباردة في شمال وجنوب الكرة الأرضية الباردة أكثر من المناطق الحارة على خط الاستواء.
2
إن ما يتحكم في استجابتنا لدرجات الحرارة والبرودة هو النواة الخارجية للمهاد؛
3
وهو منطقة صغيرة جدا من المخ وقريبة من مقدمة الرأس؛ حيث إنه حساس جدا لمستويات الغلوكوز، لدرجة أنه إذا أتلف تماما فإن المريض يعاني في تلك الحالة انخفاض حرارة الجسم.
4
تتغير درجة حرارة الجسم بشكل محدد فتكون في قمتها قبل منتصف الليل بقليل، ثم تنزل خلال الليل إلى حدها الأدنى في الصباح الباكر حوالي الخامسة تقريبا، ثم ترتفع ارتفاعا ملحوظا بين الساعتين 8-10 صباحا، ويزداد ارتفاعها تدريجيا خلال اليوم حتى تصل إلى أقصاها قبيل منتصف الليل.
5
وتؤثر الرطوبة في الصيف على الإنسان، فعندما ترتفع درجة الحرارة والرطوبة النسبية، يشعر الناس بعدم الارتياح للجو المحيط بهم، إضافة للإحساس باللزوجة؛ وذلك بسبب عدم تبخر العرق الذي يفرزه الجلد؛ لذلك يتم اللجوء للمكيفات وأجهزة تقليل الرطوبة صيفا للتخلص من بخار الماء الموجود في الهواء. وفي الشتاء يكون الهواء الدافئ داخل المبنى جافا، وتنخفض الرطوبة النسبية بشكل كبير؛ ولذلك تستخدم أجهزة الترطيب لنشر بخار الماء في الهواء.
6
ثمة مصطلحات محددة تربط بين الحرارة وجسم الإنسان؛ ففي مجال العمارة البيئية يستخدم مصطلح الراحة الحرارية ليشير إلى الحالة التي يشعر فيها الإنسان بارتياح ورضا فيما يتعلق بالبيئة الحرارية الموجود فيها؛ وبذلك يحدث انزعاج لدى الإنسان عندما ترتفع أو تنخفض درجات الحرارة عن حدود معينة.
7
يتغير مزاج الإنسان تبعا لمدى تعرضه لضوء الشمس؛ إذ يغلب عليه الاكتئاب عندما لا يتعرض لضوء الشمس أكثر من ثلاث ساعات يوميا، ويخف اكتئابه عندما يحظى بست ساعات من ضوء الشمس في اليوم، ثم بتسع ساعات، وأخيرا باثنتي عشرة ساعة من ضوء الشمس يوميا كما يتضح من أنصاف الدوائر (مصدر الصورة والتعليق: مجلة العربي، العدد 323، الكويت، 1985م، ص121).
وفي مجال الأحياء يستخدم المصطلحان «حار الدم
Blood Warm » و«بارد الدم
Cold Blood »، لكنهما مضللان بعض الشيء؛ فهما لا يصلحان بوصفهما قاعدة تطبق على كل الكائنات الحية؛ فسمك الشبوط البطريخي الصحراوي «بارد الدم» مثل بقية الأسماك، لكنه يعيش في الينابيع الحارة، ودمه حار في الواقع، بينما الخفاش المسبت
8
شتاء فهو «حار الدم» لكن درجة حرارة جسمه أبرد بكثير.
9
يقصد ب «بارد الدم» أن حرارة جسم الكائن الحي قابلة للتغير حتى تقارب حرارة الوسط المحيط بها. وهذا يعني وقوع هذه الحيوانات تحت رحمة بيئتها؛ فإذا تجاوزت الحرارة الخارجية حدودا معينة فقد يهلك الحيوان أو أن يستسلم ولا يحرك ساكنا؛ وهذا ما يدفع ببعض الحيوانات للمرور بحالة سبات عندما يشتد انخفاض أو ارتفاع درجة الحرارة في الوسط الخارجي.
10
ويصنف البشر - أحيائيا - بأنهم من ذوي الدم الحار؛ حيث إن حرارة أجسامنا تبقى ثابتة طوال اليوم والسنة، ولا تتأثر بحرارة الوسط الخارجي، وقد نقول إننا نشعر بالبرد شتاء
11
وبالحر صيفا، ولكن في الحقيقة تكاد تكون درجة الحرارة نفسها دائما، ما دمنا بصحة جيدة.
12
عندما يكون الطقس حارا جدا، تحدث أشياء كثيرة مختلفة:
13 (1)
تبدأ الغدد العرقية بالإفراز؛ حيث إن الغدد العرقية تعمل على ترشيح الماء من الأوعية الدموية المحيطة بها، وعندما يتبخر العرق تنخفض حرارة الجسم. (2)
يزداد معدل التنفس، حيث تزداد كمية الهواء الداخلة إلى الرئتين والخارجة منها، وهو ما يؤدي إلى خفض حرارة الدم المنتشر في مساحة داخلية كبيرة من الجسم. (3)
انخفاض معدل حركة الجسم؛ حيث إن وضعيات السكون يقلل من إنتاج الحرارة في الجسم.
بالمقابل قد لا يستطيع الإنسان أن يعيش طويلا إذا هبطت درجة حرارة جسده عن 30,44 درجة مئوية، أو ارتفعت عن 37,77 درجة مئوية، وبطبيعة الحال فإن الجسم الحي مزود بآليات لتزويد الحرارة بنفسه، وتنتظم حرارته من خلال الأوعية الدموية الجلدية والغدد العرقية؛ لذلك فإن الإنسان يستطيع تحمل التبدلات القصوى في الحرارة لمدد زمنية محدودة.
14
طبعا تساهم الحركة العضلية في تدفئة الجسم في الطقس البارد، وبهذه الطريقة توفر العضلات 90٪ من حرارة الجسم. من جهة أخرى، يعمل التعرق على تبريد الجسم في الطقس الحار. تعمل هاتان التقنيتان بشكل متوازن للمحافظة على توازن حرارة الجسم، وغني عن القول أن سرعة ودقة أداء هذا النظام لا يمكن مقارنتها بأنظمة التبريد التي يطورها الإنسان في كل لحظة.
15
سنتابع في هذا الفصل مراحل دراسة الأثر النفسي والصحي للحرارة والبرودة على الإنسان، وذلك من خلال النصوص التي عثرنا عليها.
المبحث الأول: الحضارات القديمة
يرى الباحث جون تايلور أن أحد أسباب بقاء الإنسان هو أنه كان أفضل تجهيزا من بقية الكائنات الأخرى التي انقرضت؛ وذلك لأنه كان مزودا بجهاز داخلي لتنظيم الحرارة يسمح لجهازها العصبي أن يبقى دافئا، حتى لو كانت درجة حرارة البيئة الخارجية منخفضة كثيرا. واليوم يدفئ الإنسان نفسه من خلال الارتعاش ويرطب نفسه بالتعرق؛ وبذلك يمكن لمخه أن يحتفظ بأفضل درجة حرارة ملائمة. والواقع أن منظم الحرارة هذا موجود داخل المخ نفسه، وهو ما يجعله شديد الحساسية للتغيرات في حرارته، وقد أثبت هذا المنظم كفاءته وفعاليته بالحفاظ على حياة الإنسان. ومن ناحية أخرى فقد أتاح له ذلك أن يتفرغ مخه للتركيز على المهام الشاقة الأخرى مثل كسب الرزق أو حتى مجرد البقاء.
16
لقد حمى الإنسان القديم نفسه من الحر والقر في الجو بابتكاره الملابس من مختلف أنواع المواد، لكن قبل أن نتحدث عن الملابس لا بد أن نذكر فضل الإبرة والخيط التي لا نعرف من أول من صنعها؛ فقد أحدثت هذه الأداة البسيطة والصغيرة ثورة في قدرة البشرية على التكيف مع بيئات ذات درجات حرارة منخفضة جدا؛ إذ اعتمد البشر لعشرات الآلاف من السنين على العباءات الجلدية والملابس التي حيكت بطريقة بدائية؛ وذلك حتى يبقوا أحياء في فصول شتاء العصر الجليدي. كما تمكن الناس، من خلال الإبرة أيضا، من حياكة الملابس ذات الطبقات. وهي ملابس داخلية مكونة من ثلاث طبقات؛ الأولى محكمة على الجسم، ثم توجد طبقة وسطى توفر دفئا إضافيا وبعض الحماية من الرياح، وأخيرا طبقة خارجية مكونة من سترة ذات قلنسوة وبنطال واقيين من الرياح. وقد استخدم هذا النوع من اللباس منذ ثلاثين ألف سنة على الأقل من قبل المتزحلقين على الجليد والبحارة وحاملي الحقائب الظهرية، والفضل في ذلك كله يعود للإبرة الصغيرة.
17
وفي العصر البرونزي كانت الملابس المنسوجة شائعة الاستعمال بين الناس، ويبدو أن صناعة الملابس (أي الحياكة والنسج) كانت سابقة في المناطق التي تميل إلى البرودة؛ لكون الناس يحتاجون فيها لوقاية أنفسهم من البرودة، أما البلاد التي تميل إلى الحر فكانت الحاجة فيها للملابس أقل، ولعل هذا ما يفسر بقاء سكان بعض المناطق الحارة، مثل جنوب السودان والحبشة وإفريقية، عراة في الغالب.
18
وللتخفيف من أثر الحرارة كان يستعان بتصنيع الملابس من ألياف نباتية محددة مثل الكتان
Flax
والقنب والخيش
Burlap ؛ فالثياب المصنوعة من الكتان تخفف من أثر الحرارة صيفا على الجسم حتى يومنا هذا، وقد كانت تستعمل منذ عام 1760ق.م. في صنع ثياب الملكة «شيبتو» - زوجة «زمري ليم» ملك ماري وابنة «ياريم ليم» ملك مملكة «يمحاض أو حلب حاليا» - وكانت هذه الملكة ترسل لبناتها الست الملابس الكتانية الصيفية المصبوغة بالأحمر والأصفر والأزرق.
19
المبحث الثاني: اليونانيون
افترض كلاوديوس جالينوس
K. Galen (توفي 200م) أن تأثير المناخ على مزيج أو خلط سوائل الجسم سيحدد عندها «صفة» أو «مزاج الشخص». وهكذا فإن جسد وروح سكان الشمال البارد والرطب كانوا هائجين ومتوحشين، في حين أن أولئك الناس الذين في الجنوب الجاف والساخن كانوا مسترخين ووديعين، بينما عاش الناس في المنطقة المعتدلة بصفات متفوقة فيما يتعلق بالفكر والقرار الجيدين،
20
مثل اليونانيين طبعا، وربما الرومانيين.
21
المبحث الثالث: العلماء العرب والمسلمون
وقى العرب أنفسهم بعدة أشكال من حر الصيف وقر الشتاء، وقد كانت تشمل هذه الوقاية أرجاء الجسد كافة من الرأس حتى أخمص القدمين.
فقد كانوا يرتدون على رءوسهم العمامات التي تعرف ب «تيجان العرب»
22
التي لبسها السادة والزعماء في الجاهلية والإسلام، وكانت العمامة تعرف باسم آخر هو العصابة. ويذكر ابن قتيبة فوائد العمامة بقوله: «قيل لأعرابي إنك تكثر لبس العمامة، فقال: إن شيئا فيه السمع والبصر لجدير أن يوقى من الحر والقر.» وقال أبو الأسود الدؤلي عن العمامة: «جنة في الحرب، ومكنة من الحر، ومدفأة من القر، ووقار في الندى، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي بعد عادة من عادات العرب.»
23
كما أن العرب في البادية كانوا يتلثمون بالعمامة لوقاية أنفسهم من وهج الشمس وريح السموم والغبار، وشدة البرد في الشتاء، أما سكان المدن فلم يكونوا يلجئون لذلك نظرا لبيئتهم المختلفة.
24
ومما كان يلبسه العرب للوقاية من حر الشمس والمطر «البرنس»، وهو قلنسوة واسعة يغطى بها العمامة، وكانت تسمى أيضا «الصوامع» كما في شعر بشر بن أبي خازم:
تمشى بها الثيران تردي كأنها
دهاقين أنباط عليها الصوامع
25
أما الرداء، وهو الملحفة والوشاح، فقد كان يستخدم كمظلة من وهج الشمس، كما يقول عبيد بن الأبرص:
وفتيان صدق قد ثنيت عليهم
ردائي وفي شمس النهار دحوض
26
في الواقع يتأثر الإنسان، وغيره من الكائنات الحية، بنوعين من الحرارة:
إحداهما خارجية: مصدرها الوسط الخارجي.
والأخرى داخلية: مصدرها جسمه.
بخصوص الحرارة الداخلية، يبدو أن العرب كانوا متأثرين بنظرية جالينوس حول هذه الحرارة، ولم يبحثوا في كيفية تشكلها على أنها نتيجة للاتحاد بين الهواء أو أحد عناصر الهواء (الأكسجين) والطعام المهضوم.
بشكل عام ميز الأطباء العرب بين عدة أنواع من الحرارة التي تظهر في جسم الإنسان: (1)
حرارة طبيعية: يقول ابن رشد في تعريفها: «إن الحرارة الطبيعية فعلها في الأشياء المنفعلة التي شأنها أن تصير إلى التمام هذا الطبخ أولا ثم النضج ثم الهضم؛ وذلك أنه ظاهر أن الهضم هو التمام الكائن لفعل الحرارة الغريزية في الهيولى الملائمة، وهذا التمام هو الصورة والطبيعة، وهذا كله ظاهر بالتصفح والاستقراء في الأشياء الطبيعية والصناعية.»
27 (2)
حرارة عرضية: يقول ابن رشد في تعريفها: «أما الحرارة العرضية فكالعفونة وكالحرارة التي تعرض لبعض الأشياء من خارج حتى تصير سخنة بالفعل، وعلى هذا الوجه أيضا توجد البرودة العرضية.»
28 (3)
الحرارة الغريزية: يقول هبة الله بن ملكا البغدادي فيها: «وهذه الحرارة توجد في بدن الحيوان عن نفسه وصرته التي بها، هو حيوان في روحه وبوساطة الروح في أعضائه؛ فمحلها الأول من بدن الحيوان الروح، والثاني الأعضاء التي تخللها الروح؛ فهي في الأعضاء من الروح، وفي الروح من النفس، وبها تتصرف القوى النفسانية في المواد البدنية والأغذية الواردة إليها فتطبخها وتحيلها وتمزجها وتشبهها وتعقدها وتعيدها خلفا عما يتحلل من الأعضاء وزيادة للنمو.»
29 (4)
الحمى: تعرف الحمى حديثا بأنها «ارتفاع في درجة الحرارة المركزية، بحيث تتجاوز 37,5° صباحا و37,8° مساء، وذلك عند شخص في وضعية الراحة منذ ربع ساعة على الأقل، وصائم منذ ساعتين على الأقل.»
30
طبعا لم يكن لدى القدماء معايير يمكنهم من خلالها تحديد قيم لحرارة الحمى، لكنهم بذلوا جهدهم بتقديم كل ما أمكنهم من معلومات تتعلق بها؛ فهم يعتبرونها تبدأ من القلب وتنتشر إلى أنحاء الجسم كافة؛ فقد قال حنين بن إسحاق في تعريفها: «الحمى حرارة خارجة عن المجرى الطبيعي تنبعث من القلب وتجري في العروق الضوارب إلى سائر أعضاء البدن؛ تضر بأفعالها.»
31
وقال ابن سينا: «الحمى غريبة، تشتعل في القلب وتنبت بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق في جميع البدن، فتشتعل فيه اشتعالا لا يضر بالأفعال الطبيعية، لا كحرارة الغضب والتعب.»
32
وقد أحصينا خمسة وستين نوعا من أنواع الحمى التي درسها الأطباء العرب الكبار،
33
نذكر منها: حمى استحصاف البدن، والحمى البلغمية، والحمى الدائمة، وحمى الدق، والحمى الدموية، وحمى الربع، وحمى الروح، والحمى الزمهريرية، وحمى السهر، وحمى شطر الغب، وحمى الشمس ، والحمى الصفراء، وحمى العرض، وحمى العفونة، وحمى الغب، وحمى غشيية خلطية، وحمى غشيية دقيقة رقيقة، والحمى الغدية وحمى محرقة، وحمى مطبقة، وحمى مواظبة، وحمى نائبة، وحمى وبائية، وحمى الورم، وحمى اليوم.
نشير أخيرا إلى أنه ثمة اعتقاد عام بين بعض المؤرخين بأن العرب المسلمين خسروا معركة بواتييه
(والتي تعرف أيضا باسم بلاط الشهداء) في جبال البيرينيه عام 732م يعود لكونهم «صحراويين» معتادين على الحرارة، فلم يحتملوا البرد ولا الطبيعة الجبلية الوعرة بما فيها من غابات ووديان، لكن الباحث محمد السماك يرى أن هذا غير صحيح بدليل وجود الكثير من أسماء المدن والآثار والعادات والتقاليد التي انتشرت هناك وكشفت عنها البعثات الأثرية،
34
والتي تدل على توطن المسلمين هناك منذ زمن بعيد وتأقلمهم مع البيئة التي انتقلوا إليها من الأندلس، والأخيرة ليست صحراوية وإنما تعج بالمساحات الخضراء الشاسعة. (1) أبو بكر الرازي (القرن 4ه/10م)
يذكر أبو بكر الرازي (توفي 320ه/924م) حالة الألم واللذة التي تعتري الشخص عندما ينتقل من حجرة باردة إلى أخرى حارة أو العكس، ولن يعود لحالته الطبيعية إلا بدخول لفحة هواء معتدلة وبشكل تدريجي. وهذ يعني ضرورة الانتقال التدريجي من المنطقة الحارة إلى الباردة، وإلا فقد يتأذى الإنسان من الانتقال المفاجئ.
قال أبو بكر: «إن رجلا يكون في دار ليست باردة إلى حد أن يرتعد من البرد ولا حارة إلى حد أن يسيل عرقه، وقد ألف جسده تلك الدار فلم يحس فيها حرا ولا بردا، ثم تعرضت الدار فجأة لحرارة بحيث إن الرجل يحس فيها ألما شديدا غير محتمل من أثر الحر، ثم يبدأ نسيم معتدل يدخل شيئا فشيئا في تلك الدار، فيجد الرجل الذي تألم من الحر بسبب خروجه عن الطبيعة التي كان فيها لذة من ذلك الاعتدال بسبب رجوعه إلى الطبيعة، وذلك إلى أن يعيده ذلك الاعتدال إلى حالته الأولى التي لا برد فيها ولا حر؛ فإن استمر الاعتدال حينئذ فإنه يبدأ يتألم من ذلك البرد الذي وجد فيه لذة؛ لأنه يخرج عن الطبيعة من الجانب الآخر. وإذا أخذت الدار تسخن بعد ذلك البرد فإن الرجل يبدأ يجد ثانية لذة من ذلك الحر؛ لأنه يرده إلى الطبيعة، فإلى أن يعود إلى حالته الطبيعية يجد لذة.»
35 (2) ابن الفقيه (القرن 4ه/10م)
يذكر ابن الفقيه أحمد بن محمد الهمذاني (توفي نحو 340ه/نحو951م)
الصحة العامة في المدن، وضرورة توجهها نحو المشرق حتى تدخلها أشعة الشمس. وهذا وعي بيئي وصحي وعمراني مبكر في تخطيط المدن العربية.
قال ابن الفقيه: «فكل مدينة موضوعة في جهة المشرق فهي أشد اعتدالا وأقل أسقاما؛ لأن الشمس تصفي تلك المياه التي تجري فيها:
والمدن الموضوعة بإزاء المغرب يكثر أمراض أهلها؛ لأن مياههم كدرة متغيرة، وهواءهم غليظ؛ لأنه يبقي تلك الرطوبات فيغلظ مياههم.
والمدن الموضوعة على جهة الجنوب يكون مياهها حارة كدرة متغيرة مالحة؛ فمن ذلك تسخن في الصيف وتبرد في الشتاء، وأبدان أهلها تكون رطبة لينة لما يتحلب إلى البدن من الرطوبات من رءوسهم، وتكثر نساؤهم الإسقاط بسبب الرطوبات، ولا يقدرون أن يكثروا الطعام والشراب لضعف رءوسهم؛ لأن كثرة ذلك تغم دماغهم وتغيره، وقليلا ما يعرض لهم الحميات الحارة.
والمدن الموضوعة في جهة الشمال وعلى إزائه مياهها يابسة رطبة ثقيلة النضج، وأهلها أقوياء أشداء عراض الصدور دقاق السوق، رءوسهم صحيحة يابسة، وأعمارهم طويلة لصحة أبدانهم وكثرة فضول الرءوس.»
36
وقد كشفت دراسة نرويجية حديثة نشرت عام 2015م أن دورة نشاط الشمس تؤثر على مدى طول عمر المولود الجديد وتؤثر في خصوبة المرأة. وأوضح العلماء من جامعة التكنولوجيا في النرويج، حسب موقع «روسيا اليوم» أن ارتفاع النشاط الشمسي في لحظة الولادة يخفض فرصة الوصول إلى مرحلة البلوغ. وتوصل العلماء إلى هذا الاستنتاج بعد دراستهم للمعطيات الإحصائية لأعمار آلاف الأشخاص الذين عاشوا في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر. واستند العلماء في استنتاجهم من دراستهم للمعطيات الإحصائية خلال الفترة 1676-1878م التي حصلوا عليها من أرشيف الكنائس، وشملت 8600 مواطن نرويجي من مختلف الأعمار والجنس والحالة الاجتماعية والاقتصادية. وبعد مقارنتهم لهذه المعطيات بالمعلومات المسجلة عن النشاط الشمسي، توصلوا إلى علاقة ثابتة تفيد بأن الذين ولدوا في لحظة ارتفاع النشاط الشمسي عاشوا 5,2 سنوات أقل من الآخرين. وتوصلت الدراسة إلى أن التعرض لأشعة الشمس لفترة طويلة قد يسبب انحطاط حمض الفوليك (فيتامين ب) الذي يسبب نقصه الإصابة بأمراض مختلفة والوفاة المبكرة.
37
استند ابن الفقيه في أفكاره السابقة على ما طرح اليونانيون؛ فقد سبق وتكلم أبقراط وقسطوس (أو فسطوس) حول اتجاه البناء وأثره الصحي على ساكنيه.
قال ابن الفقيه: «قال أبقراط في كتاب «الأهوية والمياه والبلدان»: ما كان من الأمصار مقابل شرق الشمس فرياحه سليمة وماؤه عذب؛ فإن هذه المدينة قليلا ما يضرها تغيير الهواء. وكان يقول إن المياه التي تنبع من مواضع مشرقة ومن تلاع ورواب أفضل المياه وأصحها، وهي عذبة، وبلدانها أصح البلاد، ولا تحتاج إلى كثرة مزج الشراب، ولا سيما الشرقي والصيفي؛ لأنها تكون براقة طيبة الريح اضطرارا. وقال فسطوس في كتاب «الفلاحة»: أصلح مواضع البنيان أن يكون على تل أو كبس وثيق ليكون مطلا، وأحق ما جعلت إليه الأبواب والأفنية والكوى مشرقا واستقبال الصبا؛ فإن في ذلك صلاح الأبدان لسرعة ضلوع الشمس وضوئها عليهم، وأن توسع البيوت ويرفع سمكها، وتكون أبوابها إلى المشرق؛ لأن ريح الجنوب أشد حرا وأثقل وأسقم.»
38 (3) إخوان الصفا (القرن 4ه/10م)
أشار إخوان الصفا إلى تأثر الناس بطبيعة المنطقة التي يسكنونها أو ينشئون فيها. ولا يشمل التأثير الحالة النفسية، بل يتعداها إلى طريقة التفكير وطبيعة العمل واللغة والعادات.
قال إخوان الصفا: «إن أهوية البلاد والبقاع تختلف بحسب اختلاف تصاريف الرياح الأربع ونكباواتها،
39
وبحسب مطالع البروج عليها، ومطارح شعاعات الكواكب عليها من آفاقها، وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط، واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وألوانهم ولغتهم وعاداتهم وآرائهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وتدابيرهم وسياساتهم، لا يشبه بعضها بعضا، بل تنفرد كل أمة منها بأشياء من هذه التي تقدم ذكرها لا يشاركها فيها غيرها. مثال ذلك أن الذين يولدون في البلاد الحارة ويتربون هناك، وينشئون على ذلك الهواء، فإن الغالب على باطن أمزجة أبدانهم البرودة ، وهكذا أيضا الذين يولدون في البلدان الباردة ويتربون هناك، وينشئون على ذلك الهواء، يكون الغالب على باطن أمزجة أبدانهم الحرارة؛ لأن الحرارة والبرودة هما ضدان لا يجتمعان في حال واحدة في موضع واحد، ولكن إذا ظهر أحدهما استبطن الآخر واستجن، ليكونا موجودين في دائم الأوقات؛ إذ كانت المكونات لا وجود لها ولا قوام إلا بهما.»
40
وقد تنبه إخوان الصفا إلى موضوع تغير المزاج لدى الانتقال من الحرارة الشديدة إلى البرودة الشديدة فقالوا: «وكذلك إذا دخل الإنسان الحمام وهو مقرور، وجد البيت الأول حارا، وإذا خرج من البيت الحار وجده باردا؛ لأن المزاج قد تغير.»
41
وتفسير ذلك أن «القوة الذائقة والقوة الشامة والقوة اللامسة لا تقوى على إدراك محسوساتها إلا المتوسطات منها، وذلك أن الحر المفرط والبرد المفرط يفسدان المزاج ويخرجانه عن الاعتدال.»
42 (4) ابن سينا (القرن 5ه/11م)
بين ابن سينا (توفي 427ه/1037م) عشر قواعد لأشكال تكييف الهواء التي يجب أن يتم مراعاتها لضمان صحة جيدة، فالهواء الساكن له مضاره؛ لذلك يجب تغييره بشكل دائم.
قال ابن سينا: إن «تعديل الهواء يقتضي: (1)
تعديله في الحر والبرد. (2)
تعديله في الرطوبة، كما يجب، بنواحي البحار. (3)
وتعديله في اليبوسة، كما يجب، في البوادي والقفار والجبال. (4)
وتعديله في الانتقال من حر إلى برد، أو من برد إلى حر، كتعديله في أوقات الخريف، وفي دخول الحمامات. (5)
وتعديله من نتن إلى طيب إلى نتن. (6)
وتعديله من شمال إلى جنوب، ومن جنوب إلى شمال. (7)
وتعديله من مزاج إلى مزاج بلد آخر. (8)
وتعديله من عفونته؛ أعني الوباء؛ فإذا كان الوباء عفونة في الهواء فيجب أن يحترز عنها عند الاستنشاق. (9)
وتعديله بالاحتقان والحركة؛ إذ الهواء الراكد يتبعه تغير، إما إلى شبيه بالوباء من عفونة حارة وإن لم يكن وباء محضا؛ إذ الوباء لا يحدث إلا بأسباب أخرى، وإما إلى كيفية باردة حمائية نزية. (10)
والهواء الدائم الحركة يتبعه أيضا أنواع من الآفات في الأبدان، كما نحصيه في بابه. وهو لا يخلو من نقل الأبخرة والأغبرة الردية، من المواضع البعيدة إلى المساكن النقية.»
43 (5) طاهر المروزي (القرن 6ه/12م)
ذكر الطبيب شرف الزمان طاهر المروزي (توفي 518ه/1124م) في كتابه «فصول حول الصين والترك والهند منتخبة من كتاب طبائع الحيوان» أثر الحرارة على أهل الحبشة من الناحية الجسدية، فقال: «واستيلاء الحرارة المفرطة على أهويتهم - والحرارة أقوى أسباب الجذب - فلهذا تجذبهم إلى فوق حتى تطول قاماتهم جدا، ولأن الحرارة تبسط الأشياء وتفتحها فتبسط أرواحهم إلى خارج فيوجدون أبدا فرحين لاعبين ضاحكين.»
44 (6) ابن تومرت الأندلسي (القرن 6ه/12م)
يرى ابن تومرت الأندلسي (توفي 524ه/1130م) أن الأمزجة تتغير بحسب الأمكنة والأزمنة: «أما الأمكنة، فالبلاد الباردة كبلاد الترك والصقالبة جوها بارد، فمن أجل ذلك ترى أكثر أهلها بيضا حمر الوجوه شجعانا؛ لكمون الحرارة في أجوافهم، حيث كثرت البرودة على ظواهر أجسامهم. ومثل البلاد الحارة كبلاد الحبشة جوها حار، فمن أجل ذلك أجسامهم سود وشعورهم قططة، وأكثر أهلها جبان؛ وذلك لكمون البرد في أجوافهم عند قوة الحرارة على ظهور أجسامهم.»
45
وقد يتأثر مزاج الشخص بحسب المهنة التي يعمل بها، «كمن صنعته عند النيران وفي الشموس دائما، كالحدادين والأعراب ونحوهم، تلحقهم السخونة في أبدانهم، والكمودة، وسدة البدن وسخونته. ومثل من صنعته لا يبرح من الماء، كالبحارين والقصارين ونحوهم، تغلب عليهم رخاوة الأبدان وبرودته.»
46 «وأما الأزمنة، فزمان الربيع حار رطب، وزمان الصيف حار يابس، وزمان الخريف بارد يابس، وزمان الشتاء بارد رطب.»
47 (7) ابن رشد (القرن 6ه/12م)
اتفق ابن رشد مع أرسطو
48
بتقسيم الحرارة إلى نوعين «طبيعية» و«غريبة»؛ حيث إن الأولى تفعل فعلها في الأشياء المنفعلة. وقد تبين له - من الناحية الطبية - أن الكون لا يكون إلا بالاختلاط والمزاج، والاختلاط والمزاج يكون بالطبخ، والطبخ يكون بالحرارة الغريزية، وأن حصول الصورة المزاجية في الهيولى هو كمال فعل الحرارة وهو المسمى هضما، وأن هذا لا بد أن يتقدمه النضج، وهو ما يلاحظ في تكون الحيوان والنبات. أما بالنسبة للحرارة الغريبة فإنما يظهر أثرها أولا وتحديدا بالأشياء التي لها حرارة غريبة، حيث إنها تطفئ الحرارة الغريزية وتحلل الرطوبات الحاملة لها فتحترق تلك الأشياء كما يلاحظ في حالة الحميات.
49
يختلف أثر البرودة عن الحرارة، من الناحية الطبية، فهي التخمة التي تقابل الهضم، وإذا أفرط في استخدامها تسبب ذلك في الفساد كما في حالة أجسام الأموات والشيوخ. وإذا كان من فعل البرودة الفساد، فإن هذا فعلها بالذات، ولكنها بالقصد الثاني تعين الحرارة على الكون، فكل حرارة تناسب جسما معينا بما يخالطها من البرودة، كما أن البرودة تحفظ حرارة الكون.
50 (8) عبد اللطيف البغدادي (القرن 7ه/13م)
سئل العالم عبد اللطيف البغدادي (توفي 628ه/1231م): «ما بال الترويح يبرد الهواء مع أن الحركة من شأنها التسخين؟ فأجاب: «لأن من شأن الجسم الرطب المتخلخل إذا تحرك أو سخن قبل البرد بسرعة، وكذلك الماء المغلي إذا جعل تلقاء الريح والنسيم برد سريعا، والهواء الذي نحن فيه إنما هو بخار رطب، فإذا كان حارا وحرك بالمراوح قبل البرود بسرعة؛ ولذلك إذا كان ريحا سموميا متحركة جدا لم يبرد بالترويح، لاشتمال الحرارة واليبس عليه من سائر جهاته، وصار هذا كهواء الكير إذا حرك بالمنافيخ، فإنه يزداد حرارة والتهابا؛ ولذلك صار الترويح الرويد يبرد أكثر من الترويح بقوة وسرعة؛ لأن الحركة من شأنها أن تسخن بالذات، وإن كانت عند الترويح تبرد بالعرض، فإذا حركت المراوح بسرعة سخن الهواء بقوة الاصطكاك بالذات أكثر مما تبرد، ولأن الحركة القوية من شأنها أن تسخن وتجفف فيصير الهواء في حد طبيعة النار، فإذا حركت المراوح برفق سخن بالحركة يسيرا وبرد بالتخلخل بردا كثيرا، وإذا أفرطت الحركة في السرعة أحدثت النار في الأجسام القابلة للاشتعال، كما يوجد النجار النار بالمثقب، وأهل البادية من الشجر الأخضر، وقد توجد من قوة النفخ كما يفعل الحدادون في الكير.»
51 (9) ابن كمونة (القرن 7ه/13م)
حاول ابن كمونة (توفي 683ه/1285م) أن يفسر سبب إحساسنا بالبرودة، وكيف أن حرارة الشمس تؤثر على الهواء الجوي، ولولا هذا التأثير لأصبحت الأرض كلها باردة.
قال ابن كمونة: «وإذا أحسسنا في الهواء المجاور لأبداننا ببرودة، فذلك لأنه ممتزج بأبخرة اختلطت من الماء المجاور له. ولولا أن الأرض تحمى بالشمس، ويحمى بسببها الهواء المجاور لها، لكان أبرد من هذا، ولكنه يحمي الهواء المجاور للأرض إلى حد ما، فتقل البرودة، فيكون ما فوقه أبرد إلى حد ما، ثم يترقى إلى ما هو حار ولا كالنار. ويحقق برودة الأرض أنها إذا لم تتسخن بالرياح الحارة، ولا بأشعة الشمس والكواكب، ولا بغير ذلك، ظهر منها برد محسوس، وكونها أبرد من الماء، والماء أبرد منها، فمشكوك. ويؤكد كونها أبرد من الماء، أنها أثقل منه، وليس بقطعي ؛ إذ جاز أن يكون لازدياد ثقلها سبب آخر غير شدة البرد. وكون الإحساس ببرودة الماء أكثر لا يدل على أنه في نفس الأمر كذلك، لجواز كون ذلك لفرط وصوله إلى المسام، فإن النار أسخن من النحاس المذاب، مع أن الإحساس بسخونته أشد من الإحساس بسخونة النار.»
52 (10) ابن قيم الجوزية (القرن 8ه/14م)
تناول ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر (توفي 751ه/1350م) في كتابه «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة» الحديث عن التدرج في الانتقال من الفصل البارد إلى الفصل الحار في أثناء السنة، ولو لم يكن متدرجا لأضر بالخلائق، ثم يضرب مثالا على ذلك أن يخرج رجل من الحمام وجسده ساخن جدا ليدخل مكانا مفرطا في البرودة؛ عندها سيتأذى جسده كثيرا.
قال ابن قيم: «ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما، وفكر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات، كما لو خرج الرجل من حمام مفرط الحرارة الى مكان مفرط في البرودة، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك.»
53 (11) ابن خلدون (القرن 9ه/15م)
ذكر ابن خلدون (توفي 808ه/1406م) في المقدمة الرابعة أثر حرارة الهواء في أخلاق البشر، قال: «قد رأينا من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قطر، والسبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس؛ وهو انقباضه وتكاثفه. وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار مخلخلة له زائدة في كميته؛ ولهذا يجد المنتشي من الفرح والسرور ما لا يعبر عنه، وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها سورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح وتجيء طبيعة الفرح، وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت لذلك، حدث لهم فرح وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم، كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم، فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حرا فتكون أكثر تفشيا فتكون أسرع فرحا وسرورا وأكثر انبساطا، ويجيء الطيش على أثر هذه، وكذلك يلحق بهم قليلا أهل البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة، وقد نجد يسيرا من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها؛ لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول، واعتبر ذلك أيضا بأهل مصر، فإنها مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريب منها، كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب حتى إنهم لا يدخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة مأكلهم من أسواقهم.»
54
ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن، وكيف أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم ليدخر قوت سنتين من حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن يرزأ شيئا من مدخره، وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثرا من كيفيات الهواء، والله الخلاق العليم.»
55
ولدى حديثه عن صناعة الحياكة والخياطة قال: «اعلم أن المعتدلين من البشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر والبرد. ولا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوبا واحدا، وهو النسج والحياكة؛ فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، وإن قالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعا يقدرون منها ثوبا على البدن بشكله وتعدد أعضائه واختلاف نواحيها، ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوبا واحدا على البدن ويلبسونها. والصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة.»
56 (12) مؤلف مجهول (القرن ؟)
ذكر مؤلف كتاب «الذخيرة الإسكندرانية» المجهول أن لحرارة أشعة الشمس تأثيرا على النبات سواء بالنسبة لوجودها أو بالنسبة لأنواعها؛ فالأنواع التي تعيش في المناطق الحارة لا تعيش في المناطق الباردة والعكس صحيح.
قال: «وأما تأثير الشمس في النبات وكونها علة لوجودها فأمر ظاهر؛ فإن سائر أنواع النبات على الإطلاق مفتقرة في كمالها إلى الشمس، وأما وجود بعض النبات في بعض البلاد دون بعض فمن النيرين سببه إنما هو اختلاف البلدان والبقاع في الحر والبرد الذي سببه الأعظم إسخان الشمس؛ فإن النخل يوجد في الأراضي الحارة ولا ينبت في البلاد الباردة، وكذلك شجر الأترج والميمونة والموز والبرم وغيرها من الأشجار لا ينبت في البلاد الباردة، وفي الإقليم الأول ينبت الأفاويه الهندية لا ينبت في غيره، وفي البلاد الجنوبية التي وراء خط الاستواء ينبت أشجار وفواكه وأفاويه وحشايش لا يعرف شيء منها في بلاد الشمال، وهذا كله من اختلاف مواقع جريان الشمس بالطلوع والغروب والارتفاع والانخفاض عند صعودها في الجو وهبوطها، فإن اختلاف ذلك سبب تنوع اختلافات كثيرة في الأراضي والبحار والأهوية والمعادن.»
57
وكذلك الحال بالنسبة للحيوان: «وأما الحيوانات فتختلف أحوالهم باختلاف حرارة البلاد وبردها الذي إنما هو سببه قرب الشمس وبعدها؛ فإن الفيل والغيلم والقرشان والببر وغزال المسك والكركدن يوجد بأرض الهند، وليست توجد في الأقاليم التي دونها في الحرارة سوى غزال المسك؛ فقد يخرج إلى بلاد الترك ويتوالد بها أيضا؛ فالفيلة في جنوب إقليم الهند، أعني في بلاد السودان يكون أعظم جسوما وأطول أعمارا؛ فإذا كانت هذه الأفعال للشمس وآثارها فيحق ما صارت الشمس فاعلا عظيم القدر قاهر القوة في العالم كله.»
58
المبحث الرابع: الأوربيون
مارس يوليوس روبرت فون ماير
J. R. Von Mayer (توفي 1878م) الطب في جزيرة جاوة، وقد لاحظ أن الدم في أوردة مرضاه الجاويين كان أحمر زاهيا، وهو الدم الذي يتصف به الدم الغني بالأكسجين. وفي عام 1840م، وبينما كان يتمعن في دراسة هذه الظاهرة، استنتج أن جسم الإنسان في المناخات الحارة يحتاج للحفاظ على حرارته إلى قدر من الأكسجين أقل منه في المناطق الباردة؛ وهو ما قاده إلى الحدس بأن طاقة العالم ثابتة.
59
الفصل الرابع
تطور صناعة التبريد وطرائقها
مقدمة
عندما نخلص أي جسم من حرارته - بأي طريقة كانت - فإن ثلاثة آثار تظهر عليه؛ الأول يبدأ الجسم بالتبرد، والثاني يبدأ بالانكماش لاتخاذ حيز أقل، والثالث هي تحول الجسم من الغاز إلى السائل أو من السائل إلى الصلب.
1
وهي الحالة التي تذكرنا بما قاله أبو العلاء المعري:
2
لا تكرموا جسدي إذا ما حل بي
ريب المنون فلا فضيلة للجسد
كالبرد كان على اللوابس نافقا
حتى إذا فنيت بشاشته كسد
أرواحنا ظلمت فتلك بيوتها
درس خوين من الضغائن والحسد
واروه من قبل الفساد فإنه
جسم إذا فقدت حرارته فسد
وربما كانت الشقوق الصخرية التي وجدت في الكهوف والمغارات التي سكنها الإنسان تشكل الأماكن الأولى التي تمكن من خلالها من حفظ الثلج فيها؛ فهي بعيدة عن أشعة الشمس، ومعزولة طبيعيا بالطبقات الصخرية الثخينة.
بشكل عام للحفاظ على درجة برودة الثلج المجمد كان يتبع قديما عدة طرائق:
3
الجمع والرص ضمن كهوف صخرية في أثناء الشتاء.
بناء شديد الثخانة من القش والتبن، بحيث توضع بداخله قطع من الخيش السميك الذي يدعى «الجنفيص»، ثم يجمع الثلج ويكبس بشدة حتى يمتلئ المستودع، ثم يغطى بالخيش.
صنع صناديق خشبية ووضعه فيها.
في البدايات استخدمت صناديق مصنوعة من معدن الرصاص، لكن في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين للميلاد استخدم معدن التوتياء.
طبعا يوجد الآن طرائق أخرى للتخلص من الحرارة من جسم من دون أن يلامس جسما آخر أبرد منه، وهي طريقة التبريد الميكانيكي. ويعمل التبريد الميكانيكي بتغيير مادة تسمى المبرد من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة ثم إلى الحالة الغازية مرة أخرى؛ ففي الثلاجة مثلا تعصر المضغطة مبردا غازيا إلى حجم صغير، ويقلل الضغط تبعثر واضطراب المبرد بقدر كبير بحيث يتحول إلى سائل. بعد ذلك يتمدد المبرد السائل المضغوط عند صمام يؤدي إلى أنابيب موجودة في الجزء المعزول من الثلاجة. وعندما ينخفض الضغط بسبب التمدد تنخفض درجة الحرارة كذلك ، وبالتالي يمتص المبرد حرارة من الطعام الموجود في الثلاجة. وتنخفض درجة حرارة الطعام ما ظلت الحرارة تنساب خارجة منه. ويتحول المبرد المسخن بامتصاصه للحرارة إلى غاز؛ ومن ثم ينساب خلال أنابيب أخرى راجعا إلى المضغطة، ومن ثم تبدأ دورة التبريد مرة أخرى. نظريا، أبرد درجة حرارة يمكن أن يصل إليها جسم هي الصفر المطلق، وهو يساوي −273,15° مئوية. وتقع دراسة كيفية الوصول إلى درجات حرارة مقاربة للصفر المطلق ضمن مجال فيزياء الحرارة المنخفضة.
4
يبحث علم التبريد
Refrigeration Science
في كيفية تبريد المواد بطرائق متعددة من خلال أجهزة التبريد.
5
وقد نشأ في بداية القرن 19م علم التبريد الشديد أو علم التقريس أو التبريد الفائق
Cryogenics ، وهو العلم الذي يدرس درجات الحرارة المنخفضة جدا أو توليد درجات الحرارة هذه، ويستخدم في ذلك غازات مسالة مثل النتروجين السائل أو الهليوم السائل. ويدرس علم التبريد عملية نقل الحرارة من جسم لتبريده، أو عملية الحفاظ على شيء عن طريق التبريد، أو تبريد الجسم لأغراض علاجية.
6
صناعة التبريد لم تنقرض بعد بسبب انتشار الثلاجات المنزلية، بل لا يزال هناك عدد من الشركات التي تعمل على إنتاج الثلج حتى الآن، ولعل أكبر شركة مستمرة في إنتاج ألواح الجليد حتى الآن هي شركة
Ice Co
الموجودة في مدينة يوركشاير البريطانية نحو 500 طن من الثلج يوميا؛ إذ تعتبر أكبر الشركات إنتاجا للجليد في أوروبا في هذا المجال، كما أن بريطانيا تعد أكبر دولة مصدرة للثلج في أوروبا بمبيعاتها إلى عشر دول، من بينها فرنسا والسويد والدنمارك وهونغ كونغ. وتقول شركة
ice co
إن عددا صغيرا من السكان يشترون الثلج المصنع، ولكن في السنوات الخمس الماضية تضاعفت المبيعات بشكل كبير. واعتبارا من عام 2014 بدأ إنتاج مكعبات الثلج الصغيرة التي تذوب بشكل أبطأ من ذوبان الثلج الطبيعي بخمسة أضعاف، إلى جانب ألواح الثلج الكبيرة. للثلج عدة فوائد طبية، مثل علاج حب الشباب وهياج البشرة واحمرارها، وعلاج انتفاخ العينين، وتصغير حجم المسامات وإغلاقها.
7
سنتناول في هذا الفصل مراحل تطور صناعة التبريد منذ أقدم العصور وحتى القرن العشرين، محاولا توضيح معظم الطرائق التي كانت متبعة.
المبحث الأول: الحضارات القديمة
لاحظ المزارعون القدماء أن الماء عندما يتجمد يطرح كمية من الحرارة تكفي لحفظ الفواكه والخضار من الضرر طوال فترة الشتاء؛ ولذلك كانوا يضعون قدورا كبيرة فيها مياه في مخازن الفواكه والخضار. ولما كانت درجة تجمد الفواكه والخضار أقل من درجة تجمد الماء، فإن الحرارة المنبعثة من تجمد الماء كانت كافية لحفظ الفاكهة والخضار من التجمد والفساد.
8
ثمة طريقة أخرى يبدو أنها كانت تستخدم في العراق لحفظ التفاح طريا لوقت الشتاء. تقوم هذه الطريقة على اختيار التفاح الصلب، ثم يمسح ويجفف جيدا، ثم يرتب ويصف في برميل، ثم توضع نخالة خشبية بين الصفوف بحيث لا يتلامس التفاح مع بعضه بعضا، ثم يتم إحكام البرميل وحفظه في مكان بارد.
9
كذلك كانت السلال والأسفاط التي تصنع من نبات البردي والسمار
Sammar
تحافظ على الفواكه الموضوعة فيها فتقيها الفساد، وتساعد على دخول الهواء فيما بين الحبات.
10
ومنذ أن عرف الإنسان الفخار بدأ يصنع منه أواني عديدة، ومنها الأوعية التي يخزن فيها الماء؛ حيث إنه وجدها تقوم بتبريد الماء من خلال تبخير جزء منه.
11 (1) العموريون والآشوريون
كان العموريون والآشوريون أول من استعمل غرف الخشب المرصوص، أو ما يسمى ببيوت الثلج، ليحفظ فيها الجليد والثلج في الشتاء، ثم لينقل ويباع في الصيف بحيث يتم تناوله مع مختلف أنواع المشروبات. وقد بقيت هذه الطريقة شائعة حتى ظهرت أكياس الخيش فصارت الثلوج تنقل داخلها إلى الأماكن القريبة؛ ففي مملكتي ماري
12
وكارانا (تقع في جبل سنجار غربي الموصل) عام 1750ق.م. وفي كل الحضارات التي نشأت على ضفاف الخابور الذي يرفد نهر الفرات، كان الثلج المجمد معروفا. وقد دلنا على ذلك المكتشفات الأثرية في حضارة مدينة «ترقا» لبيت الثلج الذي تبين أن حاكم «ترقا» قد أرسل إلى ملك «ماري» زمري-ليم
Zimri-Lim (القرن 17ق.م.) ليرسل إليه: «رجال يشرفون على تسلم وتجميع وترتيب الثلج في ترقا.» وتشير الرقم الفخارية أن حفظ الثلج لم يكن معروفا صيفا قبل أيام ملك ماري زمري ليم. كما كتب الملك «أبلا هندا» ملك كركميش (مدينة جرابلس اليوم شمال سوريا) إلى «ياشيم-حدو» بعد خلو كرسي الملك الآشوري: «الآن ... يوجد لدينا ثلج في زيرانوم بكثرة.» وكتب الملك «شمشي-حدد» إلى ابنه: «أما في تجميع الثلج، فهل من الجيد تحميل الحمالين الثلج من بعد 20-30 مسافة؟» وقال: «اطلب من خدمك جمع الثلج واجعلهم ينقونه من أغصان الشجر والوسخ.»
13
كما صنعت في حضارات بلاد الرافدين كئوس رخامية لتقديم المشروبات، فهو يساعد على الاحتفاظ بالبرودة القصوى للمشروبات.
14
بناء على ذلك يرجح بعض المؤرخين أنه ربما يعود أصل استهلاك المشروبات المبردة والمثلجة في أي وقت من أوقات السنة وفي أي منطقة كانت إلى بلاد ما بين النهرين؛ فقد حظيت هذه المشروبات باهتمام الأطباء نظرا لخصائصها العلاجية لبعض الأمراض؛ الأمر الذي دفع السلطات لتوفيرها على مدار العام. وتعود أولى الروايات عن هذه المشروبات إلى العام 1700ق.م. حيث كانت تبنى في مملكة ماري أقبية لتخزين «الشوريبو»؛ أي الجليد أو الثلج المجلوب من مناطق تبعد حوالي مائتي كم عنها. هذه الأقبية تعتمد على مبدأ أن التغيرات في درجة حرارة سطح الأرض تصل إلى عمق معين، ولكنها تأخذ بعدئذ بالتناقص، وتتقلص وتيرة تأثر درجة الحرارة في العمل عن تلك السطحية مع نزولنا للأسفل، وفي المناطق المعتدلة، حيث يصل تأثير التغيير إلى عمق متر. أما التغيرات الأكثر بطئا، والناجمة عن تعاقب الأيام الحارة والباردة، فهي سريعة الزوال. وينخفض التغير السنوي (شتاء/صيفا) إلى حد الخمس، ويتأخر ثلاثة أشهر على عمق خمسة أمتار. ويستمر في الانخفاض بمعدل 4٪، ويتأخر مدة ستة أشهر على عمق حوالي عشرة أمتار. ويفقد أهميته على عمق حوالي عشرين مترا. بعدئذ تبدأ درجة الحرارة، التي أصبحت ثابتة تقريبا، في الارتفاع مع ازدياد العمق.
15
ستعود هذه الطريقة وتظهر في الغرب عن طريق الأندلس، وهو ما تشير إليه كلمة سوربيتيه
Sorbete
التي يشار بها إلى المشروبات المثلجة والعذبة، والتي تنحدر من كلمة «شراب» العربية، ذات الصلة بالكلمة البابلية «شوريبو». ونجد مشتقاتها في لغات أخرى مثل
Sherbet
الإنجليزية، و
Sorbet
الألمانية، و
Sorbet
الفرنسية.
16
وكانت سيقان نبات القنب المجوفة تستعمل بمثابة قشة (مصاصة) تشرب بها الجعة المرطبة المصنوعة من الشعير في بلاد ما بين النهرين.
17 (2) المصريون القدماء
تمكن المصريون القدماء، منذ حوالي 2500 سنة قبل الميلاد، من الحصول على الأثر التبريدي بدرجات متفاوتة أفضت في بعض الأحيان إلى الحصول على الثلج، حيث كانوا يقومون بعملية تبخير وتبادل حراري بالإشعاع بين سطح الماء وبعض الأطعمة والسماء خلال الليل.
18
يرى المؤرخ توم شاختمان في كتابه «الصفر المطلق والبرودة المطبقة» أن المصريين القدماء وعدة ثقافات شعبية أخرى قديمة عرفوا التبريد الليلي بالتبخير الذي يتم عن طريق تبخر الماء وحرارة الأشعة، وهي تدل على قدرة الأملاح على تخفيض درجة تجميد المياه.
19
لقد وضع المصريون القدماء صواني ضحلة، مصنوعة من مواد مسامية ومليئة بالماء، على أسرة من القش، ثم تركوها عرضة للرياح الليلية. من خلال التبخر الناتج، كان الماء المبرد أحيانا يصل إلى درجة تشكيل طبقة رقيقة من الجليد على السطح (مصدر الصورة والتعليق:
Thomas, Pearl Edwin, Cork Insulation, p. 318 ).
كما كان المصريون يحفظون عصير الفواكه باردا بتعبئته في وعاء يوضع الثلج حوله معروفا، إلا أنه ليس سوى مياه مثلجة لكن ليس كالمثلجات التي نعرفها نحن اليوم.
20
أيضا كان المصريون يبردون الماء عن طريق وضع الماء المغلي في الجرار الفخارية الضحلة ووضعها على أسطح منازلهم ليلا. وكان العبيد يعمدون إلى ترطيب الجرار من الخارج حيث إن التبخر الناتج يسبب تبريد المياه.
21 (3) الهنود
الطريقة المصرية في التبريد نجدها أيضا في الهند، حيث يبرد الماء في الليل عن طريق تبخر الماء والإشعاع الحراري، وقد كانت تمتلك الأملاح قدرة على خفض درجة حرارة التجمد في الماء.
22
هذه الطريقة بقيت تستخدم حتى القرن العشرين في المقاطعات العليا من الهند، حيث توضع المياه لتجميدها خلال البرد في الليالي الصاحية من خلال تركها بين عشية وضحاها في الأوعية التي يسهل اختراقها، أو المبردة في الحاويات الملفوفة في قطعة قماش مبللة، عندما يتجمد الماء بسبب البرد الناتج عن تبخره، وفي المرحلة الثانية يتم تبريد الماء بسرعة من خلال تجفيف المجمع المرطب. وفي البنغال لجأ الناس إلى خطة أكثر تفصيلا؛ حيث يتم حفر حفرة بعمق حوالي ستين سم، وتملأ ثلاثة أرباعها بالقش الجاف، ثم يتم وضع فتحة تمكن من سحب المياه منها.
23
وقد كانت الهند مطلع القرن 19م تصدر الخيش؛ وهو قماش مصنوع من ألياف نبات الجوت، ويسمى بقماش «الهيسيين»، وهو ذو لون بني خفيف. وقد أصبح الخيش يستعمل فيما بعد في صناعة أكياس حفظ ألواح الجليد المصنع، ولا يمكن أن تصنع منه ملابس بسبب خشونة ملمسه.
24 (4) الصينيون القدماء
صورة لإحدى القباب التي تقام فوق حفرة الجليد أو الياخجال الموجودة حاليا في يزد في إيران (مصدر الصورة:
https://en.wikipedia.org/wiki/Yakhch
C4
81l ).
في القرن السابع قبل الميلاد كان الصينيون يستخدمون الجليد للحفاظ على الخضراوات والفواكه. وخلال حكم سلالة تانغ في الصين (618-907م) تشير الوثائق إلى ممارسة استخدام الثلج الذي كان رائجا منذ عهد أسرة تشو الشرقية (770-256ق.م.) من قبل أربعة وتسعين عاملا يعملون من أجل «خدمة الجليد» لتجميد كل شيء من النبيذ إلى الجثث.
25
وقد قام الصينيون القدماء بجمع الجليد وتخزينه بعناية في غرف تحت الأرض لتبريد المشروبات وللمساعدة في الحفاظ على المواد الغذائية.
26 (5) الفرس
لقد عرف الناس الذين كانوا يعيشون في المناطق الفارسية التي يهطل فيها الثلج بشكل موسمي - مثل شمال إيران - كيف يخزنون هذا الثلج في الكهوف لفترة طويلة، واستخدموه لحفظ الأطعمة المختلفة.
27
وقد اشتهرت شمال فارس بجودة فواكهها، وبشكل خاص مرو التي كانت تنتج أجود أنواع البطيخ الأحمر. وقد كان يقدد ويحمل إلى العراق، كما كان يحمل هذا النوع من البطيخ إلى الخليفة المأمون ثم الواثق بالله، ضمن قوالب من الرصاص الممتلئة بالثلج.
28
عرف عن الفرس أيضا تطويرهم لطريقة التبريد بالتبخير باستخدام قباب الياخجال
Yakhchāl (الكلمة تعني حفرة الجليد) منذ القرن الرابع قبل الميلاد، حيث تصنع حفرة توضع فوقها قبة مصنوعة من مواد عازلة للحرارة يصنع فيها الجليد وتستخدم لتخزين الأطعمة والجليد نفسه.
29
المبحث الثاني: اليونانيون
عرف اليونانيون الجليد وكيفية حفظه، مستفيدين مما تعلموه من حضارات بلاد الرافدين ومصر. وقد عبر الشاعر اليوناني الغنائي سيمونيدس
Simonides (القرن 5ق.م.) عن غضبه من الضيوف الذي يسكبون الثلج فوق الخمر، في حين أنه كان يرتشف النبيذ الساخن، وقد دون ذلك في قصيدته: «لا أحد سيثني على الرجل الذي يقدم الماء الساخن لصديق.» وقد كان الإسكندر الأكبر ملك مقدونيا (توفي 323ق.م.) يحفر الخنادق ويملؤها بالثلوج من أجل تبريد المئات من براميل النبيذ الذي يقدم لجنوده عشية المعارك.
30
وقد نصح ديسقوريدس باستعمال الماء البارد لنزع العلق.
31
المبحث الثالث: الرومانيون
عثر على هذه الغلاية الرومانية في بومبي، وهي عبارة عن قارورة برونزية تتسع حوالي 40 لترا، مع صنبور عند أسفلها، تشبه صمامات الإغلاق. القسم الأسفل ينتصب عموديا على ثلاث دعامات. الحد الأقصى من القسم الأعلى كان مفتوحا بالكامل، وكان مقحما داخل أسطوانة مركزية من أجل الجمر، مع وجود شبكة عند الأسفل لنزول الرماد، وفي الجزء الداخلي للقارورة. ويوجد شبكة أخرى تأخذ شكل غطاء كان يتم استعمالها لإغلاق هذا القسم الأخير، تاركا الأسطوانة مفتوحة بحيث يمكن إضافة الجمرات الجديدة، وتوضع تحت الشبكة المفرغة والنظيفة (مصدر الصورة والتعليق:
Rossi, Cesare & Russo, Flavio & Russo, Ferruccio, Ancient Engineers’ Inventions, p. 253 ).
كان الرومان يضعون كميات كبيرة من الثلج في حفر للتخزين يغطونها بمواد عازلة. كان الرومان يصنعون سراديب عميقة بثلج ينقلونه من جبال الألب، ويجعلون فيها الأطعمة التي يريدون ادخارها للصيف.
32
لم يكن الثلج يستخدم عند الرومان لحفظ الأغذية فقط، وإنما كان يستخدم لتبريد الخمر أيضا. وفقا للمؤرخ بليني الأكبر
(توفي 79م)، فقد اخترع الإمبراطور الروماني نيرون
Nero (توفي 68م) دلو الثلج لتبريد الخمور بدلا من إضافته إلى النبيذ لجعله باردا؛ فقد كانت الإضافة تخفف من طعمه.
33
الثلوج كان يحضرها له العبيد.
34
كما استعمل عامة الرومان الغلايات القديمة التي تدعى السماور
Samovar ، التي كانت تقدم الخمر الدافئ والماء البارد في الوقت نفسه. كان الجليد يخزن لثلاث سنوات كاملة في غرف حقول الثلج. كانت تلك الغرف تصمم تحت الأرض أو في الكهوف أو الآبار أو موضوعة في الجبال حيث الثلج المتراكم في أثناء الشتاء، والذي يتم نقله على شكل جليد متراص بحيث يمكن حفظه أثناء الصيف. ويتم تقطيعه إلى قطع ويباع مبردا أو لوضعه في المشروبات المثلجة. عند اللحظة الأولى، كان يتم وضع القطع في قارورة قبلا بدرجة حرارة منخفضة للماء، كما كان يوجد غلاية مضاعفة الجدران، وهي موصوفة بالتفصيل، صنعها جنرال روماني من أجل تقديم النبيذ الحار والماء البارد للضيوف. قد كان يتم الاختيار، وذلك بتدوير دعامتي المزهريتين الموضوعتين على الدبوس الرئيس للمنضدة الحلقية، وذلك بجلب الصنبور المرغوب به إلى الكوب.
35
المبحث الرابع: العلماء العرب والمسلمون
مقارنة بألفاظ ومفردات الحرارة، فإن الكلمات العربية التي تخص البرودة كانت أقل؛ فالبيئة والوسط الذي عاشوا فيه قلما يعرف البرودة. وفي حين أننا نرى في اللغة الإنجليزية وجود مرادفين أو ثلاثة للثلج، نجد ثلاثين مرادفا للثلج في لغة الإسكيمو، والسبب في ذلك يعود إلى الحاجة إلى التمايز اللفظي الذي يسهل رؤية وفهم ووصف كل حالة من حالات الثلج.
36
الشراب المبرد أو المثلج كان معروفا منذ أيام الأمويين؛
37
فقد ذكر أبو هلال العسكري (توفي بعد 395ه/1004م) في كتابه «الأوائل» أن أول من حمل إليه الثلج هو الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي 95ه/714م) بالعراق.
38
وتذكر المصادر أن الخليفة هارون الرشيد كان يحمل معه الثلج في أسفاره، وكان يجلب من الجبال الشمالية للعراق حيث يحمله معه أياما وأسابيع إلى أماكن حارة كالحجاز مثلا. وهو أمر يقتضي المعرفة بوسائل جيدة لحفظ الثلج.
39
كما كان الفاطميون يستعملون الثلج في قصورهم، ويحملونه في مواكب الحج إلى مكة، حتى إنهم استخدموه في ساحات القتال.
40
لقد تولى أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن حسن بن الفرات (توفي 312ه/924م) الوزارة ثلاث مرات في عهد المقتدر بالله (توفي 320ه/932م)،
أسعار ثلاث مواد هي الشمع والورق (الكاغد) والثلج؛ فقد كان يستهلك كميات كبيرة من هذه المواد؛ فما من أحد ، كائنا من كان، يشرب عنده في الفصول الثلاثة إلا الماء المثلج، وكان يخرج في كل يوم إلى دار العامة من الثلج أربعون ألف رطل ما عدا ما كان لخاصته وبيت شرابه.
41
وتوثق لنا الآداب العربية، منذ القرن التاسع الميلادي على الأقل، أن العرب كان يعرفون الثلج ويتعاملون به؛ ففي الليلة العاشرة من قصص «ألف ليلة وليلة» نجد في حكاية الحمال والبنات الثلاث تحدثا عن المشروبات الباردة المقدمة إلى هارون الرشيد: «فقامت البوابة وقدمت له سفرة مزركشة، ووضعت عليها باطية من الصيني، وسكبت فيها ماء الخلاف، وأرخت فيه قطعة من الثلج ومزجته بسكر، فشكرها الخليفة.»
42
والباطية هي كوب، والخلاف نوع من صنف شجر الصفصاف، له ثمر زكي الرائحة ناعم المشم، ويستخرج من زهره شراب يمزج بالسكر.
وفي المقامة «البغدادية» لبديع الزمان الهمذاني (توفي 398ه/1007م)، يعد عيسى بن هشام ضحيته السوادي بماء يشعشع بالثلج. وفي المقامة الساسانية ورد الماء المثلج في شعر شخصية أبي الفتح الإسكندري:
أريد ماء بثلج
يغشى إناء طريفا
وهذا يؤكد أن الماء المثلج كان منتشرا في الأسواق الشعبية، في بغداد ودمشق وغيرهما من المدن
43
العربية والإسلامية.
حتى إن الذين يتبرعون بالماء للناس كانوا يحرصون على تقديمه باردا. وقد أكد الرحالة ابن حوقل (توفي بعد 367ه/بعد 977م) على ذلك منذ القرن 4ه/10م، حيث قال: «وقلما رأيت خانا أو طرف سكة أو محلة أو مجمع ناس إلى حائط بسمرقند يخلو من ماء مسبل مجمد، وذكر لي من يرجع إلى خبرة أن بسمرقند في المدينة وحيطانها فيما يشتمل عليه السور الخارج زيادة على ألفي مكان يسقى فيها ماء الجمد مسبلا عليه الوقوف من بين سقاية مبنية وحباب نحاس منصوبة وقلال خزف مثبتة في الحيطان مبنية.»
44
وقد تميز نظام أوقاف الأسبلة عند المماليك بسقاية عابر السبيل؛ أي منح الأسبلة مباني خاصة قائمة بحد ذاتها بعد أن كانت ملحقة بغيرها من المباني كالمشافي أو المدارس أو المساجد. وقد تميزت مباني الأسبلة المملوكية بعدة تصاميم معمارية؛ فهي إما ذات شباك واحد ملحق بمنشأة ذات واجهة واحدة على الطريق العام، كما في مدرسة أم السلطان شعبان في القاهرة، وإما سبيل ذو شباكين، حيث يبنى في أحد أركان مدرسة أو مسجد، مثل سبيل الناصر محمد قلاوون الذي بني عام 726ه/1325م. ويعتبر سبيل قايتباي من أجمل الأسبلة التي أنشئت في العصر المملوكي الجركسي. وكانت الأسبلة المملوكية تبنى بطريقة هندسية رائعة، فهي تتكون من طابقين؛ الأول يسمى بالصهريج، ويكون في داخل الأرض لتخزين المياه، وتبنى الصهاريج من مواد عازلة ومقاومة للرطوبة. أما الطابق الثاني فهو حجرة التسبيل وملحقاتها؛ ففي الواجهة شبابيك التسبيل، ويتقدمها ألواح حجرية أو رخامة لوضع كيزان الشرب عليها، ويتقدم كل شباك مصطبة لوقوف المارة عليها أثناء الشرب، وبذلك يكونون بمأمن من حركة الطريق. ترفع المياه من الصهريج الموجود تحت الأرض عن طريق أنابيب غير مرئية، ثم تمر على أحواض رخامية إلى أن تصل إلى حجرة التسبيل، والتي تتوسط أرضيات شبابيك التسبيل، ثم يضاف إليها ماء الورد لتكون جاهزة للشرب. بالإضافة إلى أن مهمة الصهاريج تخزين المياه وحفظها؛ فقد كانت تستخدم للتبريد.
45
فهي معزولة الجدران؛ لذلك فإن المياه الصادرة عنها من الطبيعي أن تكون بدرجة حرارة أبرد من درجة حرارة المحيط.
كذلك فإن من أشهر الصهاريج التي بنيت في العصر المملوكي صهريج السلطان بيبرس في صف، فقد أنشأه في قلعتها مدرجا من أربع جهات، وبنى عليه برجا زائد الارتفاع، قيل إن ارتفاعه بلغ 100 ذراع.
46
ولا بد أن تقنية بلاد ما بين النهرين، وتقنية التبريد المصرية التي نشأت عنها القلة الفخارية الإسبانية
Botijo ، كانتا معروفتين في الأندلس في القرن 4ه/10م، وذلك عن طريق المسافرين العائدين من المشرق الذين لاحظوا استعمال الثلج هناك، كما عمد الأطباء الأندلسيون إلى استخدامه دواء.
47
وأشار الرحالة المصري عبد الباسط فيروي
48
إلى وجود تراب أحمر اللون في غرناطة تصنع منه «الكيزان» التي يشرب بها الماء، وهذه الكيزان رقيقة وفي منتهى الدقة في صناعتها، حيث إنها تبرد الماء لوحدها.
49
وقد كان أول خليفة لقرطبة في الأندلس عبد الرحمن الثالث (توفي 355ه/961م) يقدم الفواكه والعصائر الباردة في أكواب زجاجية مليئة بالثلج المدقوق المكسر. وهذه الضيافة لم تكن معروفة في أوروبا بعد.
50
لقد كان الناس في كافة العصور الإسلامية وفي أنحاء الممالك كافة يستمتعون بالثلج صيفا، وكان الثلج يحمل من الشام إلى قصر كافور الإخشيدي (توفي 357ه/968م) بمصر ليستعمل في تبريد المشروبات. وقد كان يدخل إلى دار ابن عمار، الوصي على الحاكم بأمر الله (توفي 411ه/1021م)، والوسيط بينه وبين الناس، نصف حمل ثلجا في كل يوم. أما في مكة والبصرة فلم يكن الثلج متوفرا. وهو ما نستدل عليه من شعر أبي إسحق الصابئ:
51
لهف قلبي على المقام ببغدا
د وشربي من ماء كوز بثلج
نحن بالبصرة الدميمة نسقى
شر سقيا من مائها الأترجي
كان الثلج ينقل من مكان لآخر إما بوساطة الطريق البري أو الطريق النهري:
52
في الطريق البري: يستعان بالبغال أو الطنابير الخشبية التي تجرها الحيوانات.
في الطريق النهري: كان يستخدم نهر الفرات وغيره من الأنهار الكبرى، حيث تستخدم سفن عائمة مسطحة من الخشب أو الجلد.
وحتى يومنا هذا يوجد أناس في تركيا يمشون بين 3 أو 4 ساعات يوميا على أقدامهم، لجلب الثلج من ارتفاع 2300 متر؛ ليصنعوا منه العصير! إذ يسيرون حتى مع الصيام في شهر رمضان ليخلطوه بالعصير ويبيعوه أمام المساجد. تتوارث الأجيال هذه المهنة منذ 90 عاما في تركيا، والناس تقبل على شراء هذا العصير؛ لأنه طبيعي من الجبال وليس من الثلاجات الصناعية.
53
وقد أشار الباحثون: ت. غوتييه، وواشنطن إرفنغ، وفيدل فرنانديث مارتينث الذي يتحدث لدى وصفه لسلسلة جبال سييرا نيفادا (جنوبي غرناطة الإسلامية)، عن الطريق الذي كان يسلكه الثلاجون العرب، وينقل الرواية المتوارثة القائلة بأن صناعة الثلج كانت قيد الاستثمار في عهد دولة بني نصر (الغرناطية 8-9ه/14-15م).
54
أما بالنسبة للعلماء العرب والمسلمين فقد كانت لهم بصمات لامعة في صناعة التبريد وخزنه ونقله؛ فقد حاولوا أن يبتكروا وسائل وطرائق ومواد تمكنهم من تبريد الماء في أي زمان ومكان دون الحاجة لتخزين الثلج أو نقله من مكان لآخر. (1) أبو بكر الرازي (القرن 4ه/10م)
لقد أفرد أبو بكر لموضوع التبريد وتطبيقاته ثلاث رسائل:
55
الأولى:
بعنوان «في الماء المبرد بالثلج والمبرد على الثلج»، والتي وجدنا لها عنوانين آخرين هما: «رسالة في تبريد الماء على الثلج وتبريد الماء الذي يقع الثلج فيه»، و«رسالة في الماء المبرد على الثلج والمبرد من غير أن يطرح فيه الثلج، والذي يغلي ثم يبرد فيه الثلج».
والثانية: «في العلة التي يزعم جهال الأطباء أن الثلج يعطش».
والثالثة: «مقالة في العلة التي لها يحرق الثلج ويقرح».
للأسف لم نتمكن من معرفة محتوى الرسائل حتى نقيم ما جاء فيها من أفكار. لكن من الواضح، بالنسبة للرسالتين الأولى والثانية، معالجة الرازي لأساليب تبريد الماء بوساطة الثلج الشائع في عصره، ومحاولته الوصول لعملية التبريد باستخدام المواد الكيميائية، كونه خبيرا قويا في الكيمياء كما هو معروف؛ وبذلك يخفف من عناء الثلاجين بالذهاب لإحضار الثلج من أماكن بعيدة أو تخزينه. وقد رجعنا لأشهر أعمال الرازي في مجال الكيمياء «سر الأسرار»،
56
ولم نجد له إشارة إلى هذا الموضوع.
أما الرسالة الثالثة فواضح أنه أراد أن يعالج فيها ما يسمى «عضة البرد
Frostbite »
57
وهو مرض يصيب جلد أصابع اليدين والرجلين وما تحته من الأنسجة بسبب التعرض للبرد القارس والجليد، حيث لدرجة حرارة تتراوح بين −4 و−2 درجة مئوية.
58 (2) ابن بختويه (القرن 4ه/10م)
ذكر ابن بختويه (توفي حوالي 420ه/1029م) في «كتاب المقدمات أو كنز الطبيب» طريقة لتجميد الماء في غير وقته، ولا نعلم إن كان قد أخذها عن أبي بكر الرازي أم لا: «من الشب اليماني الجيد رطل، ويسحق جيدا في قدر فخار جديدة، ويلقى عليه ستة أرطال ماء صاف، ويجعل في تنور، ويطين عليه حتى يذهب منه الثلثان ويبقى الثلث لا يزيد ولا ينقص، فإنه يشتد، ثم يرفع في قنينة ويسد رأسها جيدا. فإذا أردت العمل به أخذت ثلجية جديدة وفيها ماء صاف، واجعل في الماء عشرة مثاقيل من الماء المعمول بالشب، ويترك ساعة واحدة، فإنه يصير ثلجا. وكذلك أيضا زعم بعض المغاربة في صفة تجميد الماء في الصيف، فقال: اعمد إلى بذر الكتان فانقعه في خل خمر جيد ثقيف، فإذا جمد فيه فألقه في جرة أو حب مليء ماء. قال فإنه يجمد فيه من الماء ولو أنه في حزيران أو تموز.»
59
ويقصد ب «الخل الثقيف» أي المركز غير الممدد، أما مادة «الشب اليماني» التي أشار إليها ابن بختويه فقد كان يقصد بها «ملح نترات البوتاسيوم» التي لها خاصية خفض درجة حرارة الماء، هذا ما بينه كل من فون كريمر
Von Kremer
وفيشر
Fisher
في القرن العشرين، وليس الكربونات والشب. كما أشار لهذا إ. أو. فون ليبمان في عام 1906م.
60
ففي الفترة المبكرة في عصر ابن بختويه كان يطلق على نترات البوتاسيوم عدة أسماء، وما وصفه ابن بختويه هو طريقة تكرير نترات البوتاسيوم بحلها في الماء ثم تبخيرها ثم تبلورها. وقد كان يؤخذ القليل من محلول النترات المركز ثم تضاف للماء المراد تبريده.
61
وقد ذكر ملح نترات البوتاسيوم في كتاب العلاجات البسيطة «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» لمؤلفه عبد الله بن أحمد البيطار
62 (توفي 646ه/1248م) حيث ذكر أن المادة كانت معروفة باسم البارود بين علماء المغرب. (3) البيروني (القرن 5ه/11م)
عرف البيروني عملية التبريد بوساطة أملاح الأمونيوم؛ ففي حديثه عن غاز النشادر ومم يتكون ودوره في صنع الثلج، قال: «النشادر يبرد الماء، وإن جعل مادة في ماء جمده.»
63 (4) ابن أبي أصيبعة (القرن 7ه/13م)
ذكر ابن أبي أصيبعة (توفي 668ه/1269م) في عدة مواضع في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» عن استخدام الثلج في العلاج الطبي لبعض الأمراض من قبل الأطباء، وسنورد فيما يأتي أبرز تلك الروايات التي حدثت في عهد هارون الرشيد؛ إذ قال: «قال يوسف بن إبراهيم: حدثني العباس بن علي بن المهدي أن الرشيد اتخذ مسجدا جامعا في بستان موسى الهادي، وأمر إخوته وأهل بيته بحضوره في كل يوم جمعة ليتولى الصلاة بهم فيه. قال فحضر والدي علي بن المهدي ذلك المسجد في يوم حار وصلى فيه وانصرف إلى داره بسوق يحيى، فكسبه حر ذلك اليوم صداعا كاد يذهب ببصره، فأحضر له جميع متطببي مدينة السلام، وكان آخر من أحضر منهم عيسى أبو قريش فوافاهم قد اجتمعوا للمناظرة ، فقال ليس يتفق لجماعة رأي حتى يذهب بصر هذا، ثم دعا بدهن بنفسج وماء ورد وخل خمر وثلج؛ فجعل في مضربة من ذلك الدهن بقدر وزن درهمين، وصب عليه شيئا من الخل وشيئا من الماء، وفت فيه شيئا من الثلج، وحرك المضربة حتى اختلط جميع ما فيها ثم أمر بتصبير راحة منه وسط رأسه والصبر عليه حتى ينشفه الرأس ثم زيادة راحة أخرى، فلم يزل يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربعا حتى سكن عنه الصداع وعوفي من العلة.»
64 (5) القلقشندي (القرن 9ه/15م)
يذكر لنا أبو العباس القلقشندي (توفي 821ه/1418م) تفاصيل كثيرة عن عمليات نقل الثلج في كتابه «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»؛ فقد خصص الباب الثالث من الخاتمة للحديث عن هجن الثلج والمراكب المعدة لحمل الثلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية؛ إذ يشرح في البداية أن سبب عملية الشحن هذه هو عدم وجود مياه مبردة أو مثلجة في الصيف في مصر، «ثم لاعتناء ملوك مصر بالثلج قرروا له هجنا تحمله في البر وسفنا تحمله في البحر حتى يصل إلى القلعة المحروسة».
65
وقد كانت عملية الشحن تتم من بلاد الشام إلى مصر بطريقين:
الأول بحري: من طرابلس الشام نحو دمياط، ثم يستخدم نهر النيل إلى بولاق، ومن هناك يتابع مسيره برا إلى القصور السلطانية.
الثاني بري: ينطلق من دمشق إلى الصنمين ثم منها إلى بانياس ثم منها إلى أربد ثم منها إلى بيسان ثم منها إلى جنين ثم منها إلى قاقون ثم منها إلى لد ثم منها إلى غزة ثم منها إلى العريش ثم منها إلى الورادة ثم منها إلى المطيلب ثم منها إلى قطيا ثم منها إلى القصير ثم منها إلى الصالحية ثم منها إلى بلبيس ثم منها إلى قلعة السلطان.
قال القلقشندي: «الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في المراكب المعدة لنقل الثلج من الشام قد ذكر في التعريف أنها كانت في أيام الملك الظاهر بيبرس تغمده الله برحمته ثلاث مراكب في السنة لا تزيد على ذلك، قال ودامت على أيام سلطاننا يعني الملك الناصر محمد بن قلاوون في السلطنة الثالثة، وبقيت صدرا منها ثم أخذت في التزيد إلى أن بلغت أحد عشر مركبا في مملكتي الشام وطرابلس، وربما زادت على ذلك. قال: وآخر عهدي بها من السبعة إلى الثمانية تطلب من الشام ولا تكلف طرابلس إلا المساعدة، وكل ذلك بحسب اختلاف الأوقات ودواعي الضرورات. قال: والمراكب تأتي دمياط في البحر ثم يخرج الثلج في النيل إلى ساحل بولاق فينقل منه على البغال السلطانية، ويحمل إلى الشرابخاناه الشريفة على ما تقدم ذكره، وقد جرت العادة أن المراكب إذا سفرت سفر معها من يتداركها من ثلاجين لمداراتها ثم الواصلون بها في البحر يعودون على البريد في البر.»
66 «الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدة لنقل ذلك قد ذكر في التعريف أنه مما حدث في الدولة الناصرية «محمد بن قلاوون» واستمر، وقد كان قبل ذلك لا يحمل إلا في البحر خاصة، ثم ذكر أن هذه المراكز من دمشق إلى الصنمين ثم منها إلى بانياس ثم منها إلى أربد ثم منها إلى بيسان ثم منها إلى جنين ثم منها إلى قاقون ثم منها إلى لد ثم منها إلى غزة ثم منها إلى العريش ثم منها إلى الورادة ثم منها إلى المطيلب ثم منها إلى قطيا ثم منها إلى القصير ثم منها إلى الصالحية ثم منها إلى بلبيس ثم منها إلى القلعة. قال والمستقر في كل مركز ست هجن؛ خمسة للأحمال وهجين للهجان تكون كل نقلة خمسة أحمال، وهذه الهجن من الشام إلى العريش على المملكة الشامية خلا جنين؛ فإنها على صفد، ومن الورادة إلى القلعة هجن من المناخات السلطانية والكلفة على مال مصر، ولا تستقر هذه الهجن بهذه المراكز إلا أوان حمل الثلج، وهي حزيران وتشرين الثاني، وعدة نقلاته إحدى وسبعون نقلة متقاربا مدد ما بينها، ثم صار يزيد على ذلك ويجهز مع كل نقلة بريدي يتداركه ويجهز معه ثلاجا خبيرا بحمله ومداراته يحمل على فرس ببريد ثان. قال واستقر في وقت أن يحمل الثلاج على خيل الولاية. واعلم أن الثلج إذا وصل على المراكب والهجن حتى انتهى إلى القلعة خزن بالشرابخاناه السلطانية. قال في التعريف: ومذ قرر أن يحمل من الثلج على الظهر ما يحمل استقر منه خاص المشروب؛ لأنه يصل أنظف وآمن عاقبة. على أن المتسفرين يأخذون الجاشني منه بحضور أمير مجلس وشاد الشرابخاناه السلطانية وخزانها، أما المنقول في البحر فلما عدا ذلك قال: وللمجهزين به من الخلع ورسوم الإنعام رسوم مستقرة وعوائد مستمرة. قلت وقد جرت العادة أن واصل الثلج في كل نقلة في البر والبحر تكتب به رجعة من ديوان الإنشاء، وهذا هو وجه تعلقه بديوان الإنشاء.»
67
ومن النص السابق نستدل على أن مئات الأطنان من الثلج كانت تشحن سنويا من بلاد الشام إلى مصر، وهذا يدل على أنها كانت صناعة قائمة بحد ذاتها. (6) عبد الله البدري (القرن 9ه/15م)
في حديثه عن الثلج في دمشق قال أبو البقاء عبد الله البدري (توفي 894ه/1488م): «وبها الثلج الذي يقيم من العام إلى القابل. ويحمل ثلج السلطان إلى القاهرة مدة العام، وما يستعمل بدمشق الجميع يخزنونه في حواصل معدة له.»
68
أي إن الناس كانوا يخزنون الثلج في دمشق بعد أن يحضروه من جبل الشيخ أو جبل الثلج لمدة سنة كاملة ضمن مخازن خاصة لذلك، ومن دمشق كان يصدر الثلج المخصص للسلاطين في مصر. (7) ابن غانم الرياش (القرن 11ه/17م)
ذكر إبراهيم بن غانم الرياش الأندلسي (توفي 1048ه/1638م) في كتابه «العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع» طريقة كيميائية كانت تستخدم في تبريد المدافع المصنوعة من النحاس بسرعة؛ وذلك حتى لا ينتظروا تبردها في الهواء.
قال الرياش: «إذا رمي بمدفع عشر مرات من غير توقف أو ثمانيا أن يبرده بماء بارد، وأفضل من ذلك بالخل ممزوجا معه ماء، فتكون له سلكتان أو ثلاث تدخل في إناء كبير بالماء ثم يغسل بها المدفع ثم ينشفه في باطنه بسلكة،
69
ويكنسه بها من الوسخ الذي يكون فيه من كثرة الرمي.»
70
طبعا كان الرياش يدرك تماما أن تبريد المدفع السميك يختلف عن تبريد المدفع الرقيق؛ فالمدفع السميك القوي يسخن ببطء، أما الرقيق التصفيح أو الرهيف فإنه يسخن بسرعة بسبب شدة الحرارة، ويمكن الاستدلال على سخونة وبرودة المعدن من خلال رنينه الذي يختلف في الحالتين.
قال الرياش: «واعلم أن المدفع الصحيح الكثير المعدن لا يسخن بسرعة مثل الرهيف؛ لأن قدر ما يكون أغلظ يصبر للنار أكثر، وإذا نقصت قوة المدفع في الرمي بسبب الحرارة يعرف ذلك منها إذا يضرب عليها باليد أو بحجارة يتنوع حسها، ويكون بخلاف ما يسمعه منه إذا كان باردا.»
71 (8) خير الدين الأسدي (القرن 14ه/20م)
أخيرا، يحدثنا المؤرخ الحلبي خير الدين الأسدي (توفي 1391ه/1971م) في كتابه «موسوعة حلب المقارنة» عن سنة الثلج: «جاءت على بلاد الشام سنة دعيت سنة الثلج، وظل الثلج يهطل فيها عشرة أيام متواصلة، وكانوا يجمعون الثلج شتاء، ويجعلونه أكواما كبيرة يلقى عليها التبن ثم التراب بعد أن يرصوه بمضارب ويتركوه للصيف.
72
وقد ذكر أحد التجار للأسدي كيف كان ينقل أمخاخ الخراف (أدمغتها) من مدينة حلب إلى مدينة بيروت يوميا بوساطة علب من التوتياء، وكان يضع في كل علبة نصف لوح من الجليد ليحافظ عليها من الفساد.
73
طبعا ما كان يدعوه لذلك هو الاستفادة من فارق السعر بين المدينتين.
كانت ثلوج حلب لا تكفي، فكان يجلب من «مرعش» على ظهور الجمال إلى حلب وبيروت.
74
كما كان الثلج ينقل إلى حلب قناطير مقنطرة من مدينة كلز (أو كلس حاليا في تركيا) لكثرته فيها في الشتاء قبل أن توجد معامل الجليد في حلب.
75
المبحث الخامس: الأوروبيون والأمريكيون
كان تخزين الثلج شائعا فيما وراء جبال البيرينيه، وقد بقي استخدام طريقة التخزين قائما حتى القرن العشرين، خصوصا في سويسرا وبلدان أخرى في وسط أوروبا، حيث تكون فصول الشتاء باردة على نحو يجعل هذه العملية مربحة تجاريا. وقد أشار الباحث ف. م. فيلدهاوس إلى كتاب وحيد موجود في أوروبا حول موضوع الثلج ، وهو «حول استخدام الثلج»
76
في القرن السابع عشر، لكننا نجد في إسبانيا قبل هذا العمل مصنفات لكاردوسو
Cardoso
ونيكولاس مونارديس
N. B. Monardes (توفي 1588م) التي تشير إلى وصفات للطبيبين العربيين أبي بكر الرازي وابن سينا.
77
وقد أشار الأب جيل، عام 1600م، في كتابه «جغرافية قطلونية»، إلى وجود آبار جليد في مونتسيني
78 (بالكاتالونية:
Montseny )، وهي إحدى بلديات مقاطعة برشلونة، والتي تقع في منطقة كاتالونيا، شرق إسبانيا.
وفي عام 1662م نشر العالم روبرت بويل
R. Boyle (توفي 1691م) كتابا أشار فيه إلى مزيجات من الأجسام تصلح للتبريد، وتمكن بعده بثلاث سنوات الأستاذ في مكتب باريسفيليب دي لاهير
(توفي 1718م) من تجميد الماء بوساطة ملح النشادر.
79
وقد عدد لنا فرنسيس بيكون
F. Bacon (توفي 1626م) الأساليب الشائعة في القرن 17م لتخزين الأشياء وحفظها بوساطة البرودة؛ إذ كانت تخزن في الكهوف التي تقع تحت الأرض، أو تحاط بالثلج والجليد في أماكن عميقة محفورة لهذا الغرض، أو بإنزال الأشياء للآبار، أو بتغطيتها بوساطة الزئبق والمعادن، أو بغمرها بالسوائل التي تحول الخشب إلى حجر، أو بدفن الأشياء بالأرض كما يفعل الصينيون بالخزف الصيني، حيث إنهم يبقونه تحت الأرض أربعين أو خمسين عاما؛ وذلك حتى يستخرجه الورثة بوصفه نوعا من المعدن الصناعي.
80
تشير الوثائق إلى أن العالم وليم كولن
W. Cullen (توفي 1790م)، أستاذ الكيمياء بجامعة إيدنبيرغ، أول من استطاع إنتاج الثلج بشكل صناعي؛ ففي حوالي عام 1755م، استخدم كولن تطاير الأثير لتبريد الماء، ثم استطاع الإسراع بعملية تبخير الأثير وخفض حرارة تبخيره، باستخدام مضخة لخفض ضغطه؛ الأمر الذي ساعد على تحويل الماء المبرد إلى ثلج.
81
كما تمكن نارن
Nairne
من تجميد الماء في وعاء مغلق في حمض السلفوريك، حيث كان الحمض يمتص ما تبخر من الماء فتهبط درجة الحرارة ويتجمد الماء سريعا.
82
تعود محاولات إسالة الغازات عن طريق التبريد والضغط إلى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، حيث استطاع كل من كلوت
Clouet
ومونج
Monge
إسالة ثنائي أكسيد الكبريت عام 1780م،
83
وقام مارتينوس فان ماروم
M. Van Marum (توفي 1837م) وأ. باس فان مروستفيجك
A. B. Van Mroastvijk
بمحاولة ناجحة في إسالة النشادر (الأمونيا) عام 1787م . وقد حقق مايكل فاراداي
M. Faraday (توفي 1867م) عام 1823م نجاحا في إسالة غازي كلوروكبريتيد الهيدروجين وغاز الزرنيخ، إلا أن الغازات المعروفة والموجودة في الهواء مثل النتروجين والهيدروجين والأكسجين أبت كل الطرائق التي تعتمد على الضغط وحده، وهو ما جعل العلماء يطلقون عليها اسم «الغازات الدائمة».
84
ربما كان الأمريكي أوليفر إيفانز
O. Evans (توفي 1819م) أول من أشار إلى فكرة التبريد بالتبخير عام 1805م ثم الانضغاط والإسالة مرة أخرى (وهي فكرة دورة التبريد بانضغاط البخار المعروفة حاليا)، لكن من غير المؤكد قيامه بتجربتها أم لا، في حين أن يعقوب بيركنز
J. Perkins (توفي 1849م) يعد أول من قدم وصفا موثقا لدورة التبريد بانضغاط البخار باستخدام الأثير عام 1834م. وبعد 22 سنة تمكن المهندس الاسترالي جيمس هاريسون
J. Harrison (توفي 1893م) من صنع آلة لإنتاج الثلج، تعمل وفق التصميم الذي اقترحه بيركنز، ولكن باستخدام أثير كبريتي بدلا من الأثير. ومن غير المؤكد إذا كان هاريسون على علم بتصميم بيركنز أم لا. وفي عام 1870م، استخدم كارل فان لينده
C. Von Linde (توفي 1934م) في ألمانيا الأمونيا بدلا من الأثير، حيث تتبخر الأمونيا في الضغط الجوي عند درجة حرارة قدرها −33,3° مئوية، ومنذ ذلك الحين ولسنوات طويلة أصبحت من الموائع المستخدمة كمبردات.
85
وفي عام 1845م تمكنجون غوري
J. Gorrie (توفي 1855م) من صنع آلة لتجميد الهواء بوساطة الضغط الجوي، فكان يبرد بعض غرف المرضى في المشافي ويستحضر كمية من الجليد الصناعي. وقد جاراه في ألمانيا وفرنسا وندهاوس ونيس
Nice ، فأدت أبحاثهما إلى وضع أدوات ضاغطة لتجميد الماء وحفظ المواد الغذائية كالبقول والسمن والفواكه في أوان مبردة صناعيا، لكن هذه الأجهزة كانت مكلفة جدا؛ لأنها تحتاج لمحركات مرتفعة الثمن.
86
وفي عام 1857م قام الفرنسي فردينناد كاريه
F. Carré (توفي 1894م) بصنع آلة تجميد بناها على مبدأ امتصاص الأبخرة بوساطة الأثير سولفوريك، ثم استبدله بالنشادر لسرعة انفجاره وأخطاره، فكان آلته تجمع بين الشروط الاقتصادية والعملية. وقد ساعده في ذلك شارل تاليه
C. Tellier (توفي 1913م) فطور آلته بشكل أفضل، وراح كلاهما يعمل في مجال تبريد الأطعمة.
87
وبدأ تبريد المشروبات يصبح رائجا في أوروبا، وبشكل خاص في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا بحلول القرن السابع عشر. وبدأ بهذا الوقت استخدام «ملح بيتر» أو «الملح الصيني - نترات البوتاسيوم» المذاب في الماء للتبريد، حيث اكتشف أن مزج هذا الملح بالماء يسبب انخفاضا كبيرا بدرجات الحرارة. ومع نهاية القرن السابع عشر، كانت المشروبات المجمدة والعصائر المثلجة رائجة في المجتمع الفرنسي.
في نهاية القرن الثامن عشر بدأ شحن الجليد تجاريا، وكان لكل من الأمريكيين فردريك تودور
Frederick Tudor (توفي 1864م) وناثنال جيفري ويثي
Nathaniel Wyeth (توفي 1856م) الفضل في تحويل هذه التجارة إلى تجارة رابحة ومنتشرة في أنحاء العالم كافة؛ فقد قام الأول بتطوير تقنيات العزل، وتمكن من تخفيض فواقد الذوبان بشكل كبير، واهتم بشحن الثلج إلى المناطق الاستوائية، أما الثاني فقد قام بتطوير طريقة سريعة ورخيصة لتقطيع ألواح الجليد مسرعا بذلك إلى تخزينها ونقلها. وازدهرت هذه التجارة بشكل كبير، وأصبح الجليد أكثر توفرا في العالم، وبدأ يستخدم كوسيط للتبريد.
جني محصول الجليد في ماساتشوستس عام 1852م، حيث يتم نقله وتخزينه بعد ذلك في مستودعات خاصة معزولة (مصدر الصورة:
Gleason’s Drawing Room Companion, 1852, p. 37 ).
الفصل الخامس
التهوية والتكييف بوساطة الملاقف
مقدمة
يعد الملقف أحد عناصر التهوية والتكييف التي أولاها مهندسو البناء - قديما وحديثا - اهتماما خاصا؛ وذلك نظرا لفعاليتها في تلطيف وتهوية الأبنية خصوصا في المناطق الحارة.
في الواقع يختلف مفهوم تكييف الهواء
Air Conditioning
1
عن مفهوم التهوية
Ventilation ؛ حيث يعني الأخير إدخال الهواء النقي إلى الأماكن المغلقة وسحب الهواء الفاسد منها. وحتى يشعر الناس بالراحة فهم يحتاجون إلى هواء نقي خال من الغبار والدخان والروائح الكريهة. كما أن الهواء يجب ألا يكون دافئا جدا أو باردا جدا، ويجب أن يحوي على كمية مناسبة من الرطوبة.
2
أما تكييف الهواء فيقصد به تغيير حالته الحرارية إلى الحالة المناسبة لتطبيق ما؛ وعليه فإن تكييف الهواء يكون بهدف حصول الناس على الراحة الحرارية للناس، أو لخدمة أغراض صناعية معينة.
3
ويصنف التكييف على أنه فرع من علم التبريد. وله تطبيقات أخرى وفوائد كثيرة، مثل حفظ الطعام من التلف، وحفظ الدم البشري في ثلاجات الدم، وكذلك تكييف جو المباني من خلال تبريدها في الصيف أو تدفئتها في الشتاء.
4
وقد تم الاستفادة من الملاقف لتقوم بدور التكييف والتهوية معا، ولن نبالغ بالقول إن الحضارة العربية قد عرفت عناصر كثيرة للتهوية والتكييف، ودمجت هذه العناصر في البنية السكنية بهدف توفير الراحة الحرارية للسكان، كل حسب قدرته وإمكاناته.
كانت الملاقف الهوائية من العناصر المميزة في المباني، خصوصا في المناطق الحارة، وتعرف بأنها مداخل تقوم بتهوية المبنى في حال وجود مخارج للهواء؛ لأن الهواء عندما يندفع داخل الغرفة ولم يجد له مخرجا فإنه يتجمع ويصبح ساكنا فيها.
5
المبحث الأول: حول التسمية
تعددت تسميات هذا العنصر المعماري؛ فقد كان يدعى «البادنج» و«البادهنج» و«الباذهنج»، وقد جمعت على «الباذهنجات» وملاقف الهواء.
6
وقد أشار دوزي في «تكملة المعاجم العربية» بقوله: «بادهنج أو بادنج: أنبوب شبيه بأنبوب الموقد أو المدفأة يتخذ للتهوية.»
7
وكلمة «البادهنج» فارسية مؤلفة من المقطعين «باد» وتعني الهواء، و«هنج» وتعني فوهة، وترد أحيانا بالألفاظ الآتية: «باذهنج، بادنج، باداهنج»، وجمعها «بادهنجات»، وقد عربت إلى «الملقف»، وجمعه الملاقف.
8
وعند المؤرخ خير الدين الأسدي: «بادنج أو باتنج: ملقف الهواء، وسماه العرب رواق النسيم، وهو مسرب للهواء موجه خارج البيت إلى الغرب، يحدث جريانا إلى داخل الغرفة لتلطيف حرارة الصيف. والكلمة من الفارسية: بادهنج؛ «باد»: الهواء، و«هنج»: رمي، قذف ... ويسميه الفرس أيضا: «بادخون»، من «باد» وتقدمت هنا، و«خون»: المنزل. كما يسمونه «بادگير»، و«گير» من «گرفتن»: الأخذ، القبض، الخطف، الحبس.»
9
ويرى شهاب الدين الخفاجي (توفي1069ه/1659م) في «شفاء الغليل» أنه: «معرب بادخون أو بادكير، وهو المنفذ الذي يجيء منه الريح.»
10
والبادگير كلمة فارسية مؤلفة من المقطعين «باد» وتعني الهواء، و«گير» وتعني الأخذ والجلب.
كما أطلق عليها اسم الكشتيل والرجيل البرجيل والبارجيل والبورجيل. وجمع برجيل «بوارجيل» «وبراجيل»،
11
أيضا سمي بادهنغ وباذهنغ.
12
وقد ذكر الغزولي (توفي 815ه/1412م) في كتابه «مطالع البدور» أن الشاعر أبا الحسن عبد الكريم الأنصاري سماه «راووق النسيم»، وقد ورد في شعره بقوله:
13
ونفحة بادهنج أسكرتنا
وجدت بروحها برد النعيم
أتتنا من أنيق الشكل سمح
تراه مثل راووق النديم
صفا وجرى الهوا فيه رقيقا
فسميناه راووق النسيم
أما في اللغة الإنجليزية فقد أطلق عليها اسم برج الرياح
Wind Tower ، أو لاقط الرياح
Wind Catcher .
يصطلح المهندس حسن فتحي على التمييز بين الملقف والبادهنج، بأن الأول له فتحة موجهة لداخل المبنى، في حين أن الثاني له شكل برجي وأكثر من فتحة موجهة نحو المبنى لاقتناص الهواء من أية جهة.
14 «إلى الأعلى» يستخدم الملقف مع الفناء الداخلي لإتمام حركة الهواء داخل الغرف التي يكون لها فتحات تطل على الأفنية الداخلية، وقد استخدمت الشخشيخة (أو العلية
The Attic
الصورة السفلى) مع الملقف لتهوية القاعات الإسلامية حيث يخرج الهواء الساخن منها ويحل محله هواء بارد من الملقف أو الفناء (مصدر الصورة اليمنى:
http://www.startimes.com , والصورة اليسرى من:
https://athartabky.wordpress.com
أما التعليق فهو من وزيري، العمارة الإسلامية والبيئة، ص117).
المبحث الثاني: الملقف بوصفه مهوى
الملقف عبارة عن مهوى
Shaft
يقع في أعلى المبنى، وله فتحة مقابلة لاتجاه هبوب الرياح السائدة، حيث إنه يستخدم لاقتناص الهواء المار فوق المبنى، ثم دفعه إلى داخل المبنى؛ وبذلك يغني الملقف عن الحاجة إلى النوافذ المعتادة لتوفير التهوية وحركة الهواء الضروريتين داخل المبنى. كما يفيد الملقف أيضا، في التقليل من الغبار والرمال اللذين تحملهما عادة الرياح في الأقاليم الحارة والجافة.
15
يخفض الملقف درجة الحرارة من 50° مئوية خارج المنزل إلى أقل من 30° مئوية داخله، وهذا يعني أنه يوفر راحة حرارية للساكنين أو المقيمين في المبنى لا توفرها النوافذ.
كان الملقف يفصل عن بقية أنحاء المنزل في أثناء فصل الشتاء، وإلا فإنه سوف يتحول إلى مدخنة؛ حيث يسمح للهواء الدافئ بالتسرب من داخل المنزل إلى خارجه عبر البرج.
16
المبحث الثالث: الملقف بوصفه مكيفا
لتحويل الملقف إلى مكيف وتعديل درجة حرارة الهواء الداخل عبره، كانت هناك طريقتان؛ الأولى بوضع الماء، والثانية بوضع الثلج.
ففي الطريقة الأولى كان يتم تبريد الهواء في بعض الملاقف من خلال تمرير الهواء على مسطح مائي في الطابق السفلي (نافورة أو بركة مياه، أو يتم دفعه عبر نفق رطب). ويتم الحصول على تبريد فعال من خلال زيادة حجم الملقف وتعليق حصر مبللة بالماء في داخله. وقد كان الناس في العراق يعلقون حصرا مبللة تتدلى على فتحات النوافذ من الخارج من أجل تبريد الهواء بفعل التبخر. وكانت الحصر تستبدل بألواح رطبة من الفحم النباتي توضع بين صفيحتين من الشبك المعدني لامتصاص الروائح غير المستحبة؛
17
حيث إن ظاهرة التبريد التي تنجم عن تبخير المياه تؤدي إلى مضاعفة برودة الهواء؛ إذ إن كل غرام واحد من الماء يحتاج إلى ثمانين سعرة حرارية حتى يتم تبخيره، واستخلاص هذه الكمية من الحرارة من داخل المنزل له أثر تبريدي قوي على كل أرجاء المنزل.
18
طبعا للحصول على تبريد فعال للمنزل، يجب أن توضع فتحات الملقف باتجاه الرياح السائدة في كل مدينة لتقوم بالتقاط الهواء ثم تمرر على خواب مائية ثم توجه للحجرات.
19
في المناطق الساحلية، حيث الرطوبة العالية، لم تكن توضع في أسفل ملاقفها أحواض ماء، أما المناطق الداخلية، البعيدة عن الساحل، فقد كانت تفعل بحيث ينزل الهواء للأسفل ويتشبع بالرطوبة.
20
يقوم الملقف - مثل هذا الموضح في الصورة والمنفصل عن المبنى - بالتقاط الهواء الخارجي الساخن، ويحوله إلى هواء بارد داخل نفق أرضي ليستخدم في تبريد المسكن. ويقوم الملقف بدور مستودع كبير للكتلة الحرارية. فالأحجار التي يبنى منها البرج تبرد ليلا، وفي اليوم التالي، عندما يسخن الهواء بتأثير أشعة الشمس الحارة، يبقى البرج باردا، وتكون النتيجة أن الهواء الذي يلامس البرج يصبح باردا، ولما كان الهواء البارد أثقل من الهواء الساخن، فإنه يهبط عبر البرج لينعش سكان الغرف عندما يصل إليهم (مصدر الصورة والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص39-40).
أما في الطريقة الثانية فقد كانت كتل الثلج أو ألواح من الجليد توضع عند فتحات استقبال الهواء في الملقف؛ ففي الصيف كان الثلج يوضع بداخل الملقف، وكان يجلب من جبال لبنان وجبل الشيخ، وعندما يمر الهواء عليه كان يخرج منه نسيم بارد. أما في الشتاء فتوضع في أماكن منه كوانين فيها الفحم. وهذا مقصد القاضي الفاضل، الملقف الذي ينشر الدفء، بقوله: «باذهنج شديد الحرور، كأنما يتنفس نفس مصدور.»
21
يتبرد الهواء الداخل في الملقف بوساطة الماء المتبخر الذي يمر عليه. طبعا هنا كان الأمر يتطلب الحفر حتى الوصول إلى قناة مائية تحت المبنى (مصدر الصورة:
https://ar.wikipedia.org/wiki:Wind-Tower-and-Qanat-Cooling ).
المبحث الرابع: أشكال وأنواع الملاقف
الشائع في شكل الملاقف هو المكعب أو متوازي المستطيلات أو الأسطواني، لكن يوجد أنواع أخرى مثل المثلثي والمخروطي والحائطي.
فالشكل المثلثي مجوف لا تزيد قاعدته على متر، وارتفاعه متر، وهو يشيد فوق السطح العلوي للمنزل، ويفتح من ناحية الشرق، ويرتبط في نهايته بمجرى داخلي موجه نحو السرداب. وقد ظهر النوع المثلث الشكل في بغداد وحلب.
22
والسرداب هو قبو واسع مفروش يتصف بجو جميل ويستعمل صيفا، وقد كان يوجد في معظم البيوت في بغداد قبل انتشار المنازل الأسمنتية.
23
إذ يعد مستوى ما تحت الأرض مكانا مثاليا للتوازن الحراري طول فترات السنة؛ لأن الحرارة تستقر فيها ضمن حدود الاعتدال. وهو ما جعل الناس يبنون غرفة تسمى بغرفة القبو التي تستعمل في الأوقات الشديدة الحرارة وتلك الشديدة البرودة من السنة، إضافة لذلك يقوم القبو بدور المكيف المركزي للمنزل كله، وذلك من خلال اقتناص الهواء من الملقف وإشباعه بالرطوبة، ثم دفعه مرة أخرى عبر أرضية السماوي ليرطبه ويرطب الغرف المحيطة به.
24
تعود فكرة صنع السرداب (القبو) في المبنى السكني إلى سكان آسيا الوسطى، حيث كانت تستخدم لاتقاء الحر الشديد بالنزول إليها. ويذكر الرحالة وانغ ين تي
Wang Yen Te (كان حيا في القرن 10م) في عام 981م أن بعض أهل تلك البلاد يسكنون في الصيف مساكن تحت الأرض. أما في البلاد الإسلامية في القرن (4ه/10م)؛ فقد كانت مدينة زرتج بسجستان، ومدينة أرجان بفارس أول مدينتين اتخذ أهلهما في الصيف سراديب تحت الأرض بحيث يجري فيها الماء. وقد ذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو (توفي 480ه/1087م) أن من خصائص مدينة أرجان أن عدد الأبنية فيها تحت الأرض يماثل عددها فوق الأرض، وأن الماء يجري تحت الأرض وفي السراديب، وفي أشهر الصيف يستروح الناس فيها.
25
أما في جنوب باكستان أو قرب البوادي، فكان أصحاب المنازل هناك يقومون بإدخال التيارات الهوائية إلى منازلهم بوساطة ملاقف مخروطية الشكل، حيث إنها تقوم بجمع الهواء ومن ثم ضخه عبر أنبوب أسطواني عريض إلى داخل المنزل وتوزيع منافذه في الغرف.
26
كما يوجد نوع يدعى بالحائطي؛ أي الذي ينفذ على شكل حائط مرتفع عن سطح المبنى.
27
نموذج لملقف تركي يعود للقرن التاسع عشر. ويبدو أن ما وصفه ابن بطوطة هو أشبه بالملقف منه بالبادهنج (مصدر الصورة: فتحي، حسن، الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية، ص121).
النوع الذي بدأ بالظهور في بداية القرن العشرين، كان يرتفع على الأرض عادة من 8-15 مترا حسب ارتفاع المنزل؛ المنزل مؤلف من طابقين، ويرتفع ثمانية أمتار، أو المنزل مؤلف من طابق واحد، وترتفع قاعدته مترين كحد أقصى، عن أرضية الغرفة، ولا تزيد أطوال أضلاعه عن 210×210سم. وقد كانت تستخدم في بنائه أحجار «السلافة»، وهي أحجار مرجانية عازلة للحرارة، وبثخانة 7,5سم مع دعم هذه الجدران بأخشاب أفقية كل متر ونصف المتر، وعلى ارتفاع مترين من القاعة توضع أسياخ لمنع اللصوص والطيور من الدخول.
28
وقد يصنع الملقف إما من الآجر، أو الطين، أو الصاروج وهي مادة قوية مثل الأسمنت، أو سعف النخيل أو الخوص وصفائح التوتياء.
29
كذلك فقد كان يوجد نوع من الملاقف المؤقتة التي تسمى «اليواني»، وهي تصنع، للصيف خصوصا، من الأكياس والأقمشة والحصر، وتنصب فوق العرشان أو العشش المبنية من سعف النخيل، وتقام فوق أربعة أعمدة بحيث يتخللها الهواء، كما تحاط من الداخل والخارج بالأكياس، ويتم تشبيكها بسعف النخل المحاط بالحصير، ثم تثبت بالأوتاد من جميع أطرافها حتى تتماسك في وجه التيارات الهوائية الشديدة. أما الأسقف فتكون من سعف النخيل مثل المظلات، وتدعى «الداعون».
30
بشكل عام يوجد للملاقف ثلاثة أنواع رئيسة:
31
النوع الأول:
ذو المسقط المربع الذي تتساوى فيه عدد الفتحات في كل الجهات.
النوع الثاني:
ذو المسقط المستطيل الذي يزيد فيه عدد الفتحات من جهة معينة عن الجهتين الأخريين (غالبا ما تكون باتجاه الرياح الرئيسة أو نسيم البحر).
النوع الثالث:
وهو نادر الانتشار، وهو ذو مسقط دائري بحيث يظهر برج الهواء بشكل أسطواني مفرغ يشبه تكوينه مئذنة المسجد. ويوجد من هذا التكوين في الشارقة بالقرب من سوق «العرصة».
المبحث الخامس: ميزات استخدام الملاقف في البناء
لقد انتشرت هذه التقنية بأشكال متعددة في مناطق واسعة من العالم الإسلامي، خصوصا منطقة الخليج العربي (البحرين والإمارات بشكل خاص) وقطر والعراق ومصر وإيران وباكستان، وتتميز أبراج التهوية هذه عن الفتحات والنوافذ بما يأتي:
32 (1)
التقاط نسيم الهواء من جميع الجهات، بغض النظر عن توجيه المبنى، وذلك في حالة أبراج الهواء التي لها أربع أو ثماني فتحات لتلقف الهواء. (2)
تلطيف درجة حرارة الهواء المار خلال جسم البرج. (3)
توفير التهوية للمباني أو الفراغات التي لا توجد لها نوافذ خارجية. (4)
الارتفاع والبعد عن المباني والعوائق المادية التي تحجب أو تعيق الرياح من الوصول للنوافذ. (5)
الحصول على الهواء بسرعة أكبر، حيث إن سرعة الهواء تزداد مع الارتفاع عن سطح الأرض. (6)
الحصول على هواء نقي نسبيا من الأتربة، حيث إن مصدر الهواء يبتعد عن سطح الأرض.
بادهنج مكون من أربعة أبراج في يزد بإيران، وهي موجودة فوق خزانات مياه تحت مستوى سطح الأرض؛ وذلك لضمان التهوية والتبريد (مصدر الصورة: فتحي، حسن، الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية، ص119).
كانت الملاقف منتشرة بين كل المنازل في الإمارات، فبعضها يحوي على واحد، وهناك مساكن تحوي على اثنين أو ثلاثة أو أربعة، بينما يقل عددها في مساكن قطر، وأغلب مساكن البحرين يوجد فيها ملاقف. ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة المنطقة، خصوصا في المناطق ذات الرطوبة العالية كالإمارات.
33
المبحث السادس: تطور ظهور الملاقف
لعل أبسط أشكال التهوية الطبيعية التي عرفها الإنسان هي طريقة تناوب التدفئة والتبريد؛ وذلك بأن نفتح النوافذ والأبواب لإدخال الهواء البارد إلى غرفة معينة في فصل الشتاء، مما يسبب خفض درجة الحرارة. كذلك يؤدي إدخال الهواء الحار إلى رفع درجة الحرارة فيها في فصل الصيف.
34
وقد استخدم قدماء المصريين والإغريق والرومان الحصائر الرطبة لتبريد الهواء الداخلي، حيث قاموا بتعليقها فوق فتحات أبواب منازلهم. ويبرد التبخر الهواء عند هبوب الرياح خلال الحصائر.
35
ملقف كان موجودا في مصر عام 1878م. وهو من النوع المثلث القابل للفتح والإغلاق حسب تغيرات الجو بين الصيف والشتاء (مصدر الصورة:
https://ar.wikipedia.org/wiki#/media/File:Malkafs_(1878) ).
لكن ثمة أدلة تشير إلى حدوث تطور في طريقة اقتناص الرياح وتوجيهها داخل المنازل بهدف تكييفها وتبريدها بشكل أفضل من الاعتماد على فتح النوافذ والأبواب. (1) المصريون القدماء
لقد استخدم المصريون القدماء التهوية الطبيعية غير المباشرة في مبانيهم، وذلك بوساطة مدخنة التهوية الرأسية؛ ففي مقبرة سنوسرت عنخ (الأسرة 12 حوالي عام 1972ق.م.) حيث إن المقبرة توجد تحت مستوى سطح الأرض ويصل إليها دهليز هابط تتخلله أربعة متاريس، وأعلى الممر نفق هوائي يصل إلى سطح الأرض للتهوية الطبيعية، وقد ثبت حديثا أهمية هذا النفق في ترشيح رطوبة التربة أيضا.
36
رسم للملقف الهوائي المثلث الشكل الذي عثر عليه في مسكن «نب آمون» (مصدر الصورة:
en.wikipedia.org/wiki/Windcatcher ).
كما أن الملاقف الهوائية ذات الشكل المثلث عرفت منذ أيام المصريين القدماء، حيث إنهم استخدموها في مبانيهم في تل العمارنة، وقد ظهرت في رسومات مقابر طيبة التي تعود إلى عام 1300ق.م. في مسكن «نب آمون
Neb-Amun
من الأسرة التاسعة عشرة» المرسوم على قبره، ويبين الرسم ملقفا مزدوجا يستخدم أحدهما لدخول الهواء البارد والآخر لتصريف الهواء الساخن.
37 (2) العرب والمسلمون
يرى الرحالة الأمريكي أ. لوكر
A. Locker
أن أول من صنع الملاقف هم عرب لنجة (وهم القواسم وبنو ياس)،
38
ولنجة تقع اليوم في محافظة هرمز غان الإيرانية، وتطل على الخليج العربي، في حين ترى الباحثة نادية الغزي أن عرب لنجة هم «قبيلة جاسم» الذين استوطنوا عمان،
39
وقسم منهم استوطن في «جلفار»، التي هي اليوم مدينة رأس الخيمة في الإمارات العربية المتحدة، في حين أن قبيلة «بني ياس» كانوا يستوطنون في منطقة تبعد عن «أبو ظبي» 37كم.
40
في عهد الأمويين دعا الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي 95ه/714م) إلى عملها في مدينة واسط عاصمته التي بناها في العراق؛ فقد عمد إلى المرافق التي في المجالس ووضع فيها ألواح الجليد ، فكانت الرياح تمر في الملاقف ويخرج نسيمها إلى المجالس والصحون، حتى إن الناس استغنوا عن استخدام المراوح اليدوية حينها، لكن ونظرا لعدم توفر الجليد دائما ولكلفته، تم وضع أكياس الخيش المبللة بالماء أمام فتحة الملقف، فأصبح الهواء يخرج لطيفا أيضا.
41
لكن طبعا ليس ببرودة الهواء الذي يمر على ألواح الجليد.
وفي عهد أبي جعفر المنصور العباسي (توفي 158ه/775م) اتخذت طريقة أخرى للتبريد، حيث كانوا ينصبون الخيش الغليظ، ويبقون عليه مبللا بالماء حتى يبرد الجو . وقد كان الخيش ينصب على قبة، ثم اتخذت بعد ذلك الشرائح، وانتشرت بين الناس.
42
وكانت حراقات دجلة التي يستعملها رجال الدولة في غدوهم ورواحهم يعد فيها الثلج، ويعلق عليها الخيش المبلل بالماء، وكانت ترخى على الخيش ستور الكرابيس. وكان أهل بغداد ينامون في ليل الصيف على أسطحة المنازل.
43
وقد ورد في كتاب «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (توفي 668ه/1270م) الحديث عن قبة الخليفة هارون الرشيد (توفي 193ه/ 809م) المكيفة: «حدث أبو محمد بدر بن أبي إصبع الكاتب قال: حدثني جدي قال: دخلت إلى بختيشوع في يوم شديد الحر وهو جالس في مجلس مخيش بعدة طاقات ريح بينهما طاق أسود، وفي وسطها قبة عليها جلال من قصب، مظهر بدبيقى قد صبغ بماء الورد والكافور والصندل، وعليه جبة يماني سعيدي مثقلة، ومطرف قد التحف به فعجبت من زيه. وحين حصلت معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم، فضحك وأمر لي بجب ومطرف، وقال: يا غلام اكشف جوانب القبة فكشفت فإذا أبواب مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكسوة بالثلج، وغلمان يروحون ذلك الثلج فيخرج منه البرد الذي لحقني.»
44
وهذا يعني أن العملية كانت تتم من خلال تهوية فتحات من قبل غلمان وضع عليها ثلج داخل أكياس من الخيش حتى لا يتحلل بسرعة، وبتوجيه الهواء إلى داخل القبة يصبح مبردا مكيفا. ونتوقع أن درجة الحرارة كانت تصل لأقل من 18° مئوية، وقد كان الهواء معطرا برائحة الورد والكافور والصندل.
طبعا كان جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس (توفي 256ه/870م) طبيبا سريانيا يطبب الخليفة هارون الرشيد والأسرة الحاكمة؛ لذلك فإن هذا المجلس كان خاصا بالميسورين جدا من طبقة الأغنياء والحكام والوزراء وليس بين عامة الناس.
وذكر المقريزي (توفي 845ه/1441م) أن من محاسن أهل مصر أنهم لا يحتاجون في حر الصيف الدخول في جوف الأرض، كما يعانيه أهل بغداد. وكان الأثرياء في ذلك العصر يستعيضون عن دخول السراديب بنصب قبة الخيش أو بيت الخيش. وكانت عادة الأكاسرة أن يطين سقف بيت في كل يوم صائف، فتكون قيلولة الملك فيه، وكان يؤتى بأطباق الخلاف طوالا، فتوضع حول البيت، ويؤتى بقطع الثلج الكبار فتوضع ما بين أضعافها، وكانت هذه عادة الأمويين أيضا.
45
هذه الطريقة سيعيد الطبيب جون غوري
J. Gorrie (توفي 1855م) استخدامها في فلوريدا في منتصف القرن التاسع عشر في المشفى الذي يعالج فيه مرضاه من حمى الملاريا؛ فقد حاول غوري تعليق كتل من الجليد في سقف المستشفى. وقد اتضح الأمر بأنه حل فعال؛ فقد بردت كتل الجليد الهواء، والهواء برد المرضى. وعندما انخفضت الحمى، فإن بعضا من مرضاه نجوا من أمراضهم.
46
وقد رد المؤرخ كامل الغزي (توفي 1351ه/1933م) في كتابه «نهر الذهب في تاريخ حلب» على ما ذكره ابن أبي أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء» في ترجمة الطبيب المختار بن الحسن عبدون المعروف بابن بطلان (توفي 458ه/1066م) أنه كان يعتقد أن العوارض الجوية في أصقاع حلب كانت باردة ثم تحولت إلى حرارة، مستدلا على صحة دعواه هذه بما حكاه له أشياخ أهل حلب من أن شجرة الأترج ما كانت تنبت في حلب لشدة بردها، وأن الدور القديمة في حلب لم تكن تستطاع السكنى في طبقتها السفلى، وأن الباذهنجات (ملاقف الهواء) حدثت في حلب منذ زمان قريب حتى إنه لا دار إلا وفيها باذهنج بعد عدم وجودها مطلقا.
فقال المؤرخ كامل الغزي: «وأما عدم وجود الباذهنجات فيها أولا ثم وجودها أخيرا فإن المفهوم من هذا أن البرد بينما كان في مدينة حلب شديدا، إذ تحول بغتة إلى الحر، ومست الحاجة إلى عمل الباذهنجات، وهذا مما لا يتصوره عاقل؛ إذ إن سير التحول الجوي بطيء جدا لا يدرك حصوله بأقل من ألف سنة وأكثر، فالأولى أن يحمل تسرع أهل حلب إلى عمل الباذهنجات على التفنن وتحسين المباني والاقتداء ببغداد عاصمة الممالك الإسلامية في الشرق بعمل الباذهنجات تلطيفا للجو، وتخفيفا للرطوبات.»
47
ويبدو أن الملقف المؤقت كان معروفا لدى سكان بلاد بركي أو برجي (مدينة في تركيا)، وقد أهدى السلطان أورخان سلطانها محمد بن آيدين خيمة تركية اسمها «خاركاه»، وقد وصفها ابن بطوطة بقوله: «وهي عصا من الخشب تجمع شبه قبة، وتجعل عليها اللبود، ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح مثل البادهنج، ويسد متى احتيج إلى سده.»
48
كما ذكر ابن الطوير (توفي 617ه/1220م) في حديثه عن الإيوان الكبير بأنه كان يفرش بأحسن فرش وينصب فيه مرتبة كبيرة قريبة من باذهنجه.
49
وقد ذكر المقريزي أن هذا الإيوان بناه خامس الخلفاء الفاطميين العزيز بالله نزار بن معد بن إسماعيل (توفي 386ه/996م) سنة 369ه/979م بالقصر الكبير الشرقي، وكان به جلوس الخلفاء العام بمجلس الملك قبل انتقال الجلوس نهائيا إلى قاعة الذهب في زمن أبي علي منصور بن أحمد (توفي 525ه/1130م) الذي تلقب عند توليته بلقب الآمر بأحكام الله.
50
وذكر عبد اللطيف البغدادي (توفي 629ه/1231م) أن نفقة الملاقف الكبرى والمتقنة في عصره في مصر كانت تصل إلى خمسمائة دينار.
51
وتشير الوثائق إلى أنه منذ القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بدأت الملاقف تدخل في حسابات علماء الفلك، خصوصا من قبل الفلكيين في مصر؛ فقد بحث العالم الفلكي ابن يونس (توفي 399ه/ 1008م) حول الاتجاه الصحيح لكثرة البادهنج، فالمعروف أن النسيم العليل في مصر يهب من الشمال باتجاه الشمال الغربي؛ ولذا فإن الملاقف المصرية كانت ذات كوة واحدة.
52
كما تناول ابن السراج الحلبي شهاب الدين أحمد بن علي القلانسي (توفي بعد 726ه/1326م) في رسائله عن الآلات الفلكية تصميما تخطيطيا لشكل البادهنج والجهات التي يجب أن يوضع وفقها. وقد تساءل الباحث ديفيد كنج عن سبب تناول ابن السراج لموضوع التهوية في كتاب فلكي من هذا النوع، وقد تبين له أنه من بين مجموعة الجداول الفلكية التي كانت تستخدم في القاهرة في العصور الوسطى لضبط الوقت وتحديد مواقيت الصلاة، كان يوجد جدول يمكن من يستخدمه من تحديد مواضع البادهنج بناء على زاوية شروق الشمس في الشتاء (حوالي 27° جنوب شرق). وقد كانت جميع مباني القاهرة في تلك الأزمنة تحرص على وجود البادهنج فيها. وقد أفاد وجود شكل البادهنج في نص فلكي لاكتشاف العناصر الأساسية التي تحكم تخطيط المدينة الإسلامية.
53
وأخيرا فقد أفرد لنا شهاب الدين بن المجدي (توفي 850ه/1560م) رسالة صغيرة بعنوان «تحفة الأحباب في نصب البادهنج والمحراب»،
54
أراد من خلالها مساعدة البنائين في تحديد جهة الرياح أو سمت القبلة؛ أي إن الرسالة تعتبر بمثابة دليل إرشادي عملي حول كيفية ضبط مكان واتجاه الملقف، وكيف يمكن الاستفادة من تحديد اتجاه الملقف لمواجهة الرياح في تحديد اتجاه القبلة.
صفحة من رسالة عن الآلات الفلكية كتبها ابن السراج الحلبي (حوالي عام 1325م) يوضح من خلالها أسلوب التهوية باستخدام البادهنج مع تحديد الاتجاهات التي يجب أن يكون عليه (مصدر الصورة: مخطوطة مكتبة شيستر بيتي، دبلن، رقم 102).
إذن يدلنا انتشار الملاقف منذ القرن التاسع للميلاد، وحتى يومنا هذا في البلاد العربية والإسلامية، على معرفة العرب والمسلمين بعملية ضبط التهوية، والتي تعني في جوهرها التحكم بمستوى الرطوبة النسبية في الهواء الداخل للبناء؛ مما ينجم عنه شعور بالبرودة.
55
وربما يكون أقدم نوع لهذه الملاقف - والتي لا تزال قائمة في القاهرة - هو ملقف الجدار القبلي لمسجد الصالح طلائع بن زريك (توفي 555ه/1160م).
56 (3) الأوروبيون
تأخر ظهور عناصر التكييف والتهوية في أوروبا كثيرا حتى القرن 18م؛ فقد قام مصنعو الأنسجة بالمحاولات الأولى لتكييف الهواء. ففي عام 1719م، قامت شركة للحرير، في درونت بإنجلترا، بتركيب نظام مركزي لتدفئة وتهوية مصنعها، وعمل صانعو الأقمشة في نيو إنجلاند، بالولايات المتحدة الأمريكية، على غلي الماء في قدور ضخمة قرب المناسج للحفاظ على رطوبة الهواء. ولكن الحرارة أضرت بصحة العمال مما استدعى التوقف عن هذه الطريقة. ونحو عام 1838م، قام العالم الإنجليزي ديفيد ريد، بتزويد مجلس العموم البريطاني بنظام لتهوية وترطيب الهواء. واخترع جون جوري، الأمريكي، في منتصف القرن التاسع عشر، آلة هواء بارد لتبريد غرف مستشفى. وبدأ مصنعو النسيج في أواخر القرن التاسع عشر في نيو إنجلاند باستعمال رذاذ الماء في تكييف الهواء بمصانعهم. في عام 1897م، سجل جوزيف مكريري من توليدو بأوهايو، بالولايات المتحدة الأمريكية، براءة اختراع لنوع من الرذاذات المستخدمة حاليا في مكيفات الهواء.
57
المبحث السابع: انتشار الملاقف حديثا
لم يقتصر استخدام الملاقف الهوائية على المنازل وحسب، بل أمكن استخدامه في تهوية بعض المساجد أيضا في عدد من المناطق في العالم الإسلامي؛ إذ يوجد ملقف جداري خلف منبر مسجد الصالح طلائع بمصر، وآخر في مسجد نجم الدين بالمنيا، كما يوجد ملقف بوسط سقف الرواق الأوسط لمسجد داي الدار بمدينة فوة المصرية، وهو عبارة عن بروز بسيط في السقف يعلوه سقف مائل له جنبان من الخشب، ومصوب لاتجاه الشمال الغربي، حيث جهة هبوب الرياح.
58
أعيد إحياء الملاقف الهوائية حديثا مع أعمال حسن فتحي في مصر،
59
وكذلك في الكويت والسعودية، لكن بشكل مطور عن سابقاتها؛ فقد استخدمت أبراج التهوية لتهوية قاعة الصلاة وصحن جامع الرحمانية بمدينة سكاكا في منطقة الجوف شمال السعودية، حيث يسود مناخ حار شديد الجفاف صيفا، وقد بينت القياسات التي أجريت على مدى خمسة أشهر (من يونيو/حزيران إلى أكتوبر/ تشرين الأول) أنه عندما كانت درجات الحرارة الخارجية في الساعة الثانية ظهرا تتراوح ما بين °36-39° مئوية، وكانت درجات الحرارة الداخلية في الوقت نفسه تتراوح ما بين 22°-24° مئوية؛ أي حدث انخفاض في درجات الحرارة متوسط قيمته في هذا التوقيت 14,5° مئوية، وهذا يعني أهمية هذا النظام وفعاليته في تقليل استهلاك الطاقة وضرورة تطويره.
60
باتت الملاقف الجديدة ذات الاتجاهات الأربعة في دبي تدمج مع الأبنية المعمارية الجديدة (مصدر الصورة:
http://abunawaf.com ).
وقد استخدم المهندس المعماري حسن فتحي في المدارس التي بناها في قرية القرنة مصيدة ريح تتكون من مجرى للهواء يشبه المدخنة، له فتحة كبيرة في أعلى تواجه الريح السائدة. وقد وضع من داخلها صفيحة معدنية مائلة ممتلئة بفحم يمكن أن يتم بله بصنبور؛ وينساب الهواء من على هذا الحاجز فيتم بذلك تبريده قبل أن يدخل الحجرة. وفي هذه الأداة ما يذكر بالسلسبيل الذي كان يوجد منتصبا في قاعات وإيوانات البيوت العربية القديمة، وقد كان من لوح من الرخام المقوس في نمط مموج، بينما ينساب من فوقه ماء نافورة. ومن الممكن في التطبيقات المستقبلة لقاعدة مصيدة الريح أن يجعل الحاجز المبرد مرئيا، ويصنع من مادة ماصة مثل الحرير الصخري، ويكون عليه نمط بهيج مثل ما في السلسبيل. وقد نتج عن مصيدة الريح في القرنة انخفاض الحرارة داخل الحجرات الدراسية بقدر 10° مئوية. وهكذا فإننا نستطيع استخدام مصيدة الريح لتحررنا من الحاجة إلى توجيه البيت للريح، وبهذا نضع في الاعتبار فحسب التوجه الشمسي. والحقيقة أنه حتى هذا سيكون إلى حد ما أمرا ثانويا بالنسبة لمتطلبات المشروع؛ ذلك أنه لو انتظم كل بناء في نفس الاتجاه سيصبح المشروع رتيبا. وفوق ذلك، فإن كل انحراف عن الفكر العام إنما يعني نظرة اعتبار فردية لكل بيت وحلا فرديا لمشاكله الخاصة، وهذا أمر مرغوب من الوجهة الفنية.
61
وفي أبحاث أجريت في الولايات المتحدة على نموذج للملاقف، في جامعة أريزونا عام 1985م، وجد الباحثون أن اختلاف درجات الحرارة بين داخل المبنى وخارجه وصل إلى 10° مئوية على الأقل في أشد فصول السنة حرارة ورطوبة.
62
وقد وضع الملقف الهوائي في مشروع قرية النيل للاحتفالات بالأقصر حيث إنه يعتبر مثالا جيدا لكيفية استعمال الملاقف الهوائية لتهوية المباني الكبيرة بهدف تغيير اتجاه حركة الهواء داخل المبنى ليصير عكس اتجاهه الخارجي، وقد كان ذلك ضروريا بحيث يأتي الهواء للمتفرجين من أمامهم وليس من خلفهم.
الفصل السادس
التهوية بوساطة المراوح
مقدمة
نتيجة لتأثير ارتفاع درجة الحرارة، فإن جلدنا يصبح مبللا بالعرق ومعرضا للهواء لدرجة تشبعه بالبخار أقل من درجة حرارة الجلد؛ لذلك فإن العرق يتبخر، وبذلك تنخفض درجة حرارة الجلد، حيث إن تحول العرق إلى بخار ماء يحتاج إلى طاقة. لكن بعد فترة قصيرة يصبح الهواء الملامس للجلد مشبعا ببخار الماء فيتوقف التبخر. وحتى تستمر عملية التبخر يجب إزاحة هذا الهواء المشبع ميكانيكيا من خلال استعمال المراوح اليدوية أو الآلية، أو طبيعيا نتيجة حركة الهواء في محيط الجسم.
1
لا شك أن أول أداة استخدمها الإنسان للتهوية على وجهه هي يده، ثم ما لبث أن وجد أشياء حوله قد تقوم بالوظيفة بشكل أفضل، وهو ما قاده إلى اختراع المروحة اليدوية.
المروحة أداة تستخدم لتحريك الهواء بغرض تلطيف الجو. وقد تعلم الناس، منذ القدم، كيف يشعرون أنفسهم ببرودة أكثر في الأيام الحارة بتلويح ورقة شجر في الهواء وعمل نسيم عليل. وكان لدى الأثرياء خدم يلوحون لهم بأوراق شجر ضخمة.
2
سنستعرض في هذا الفصل مراحل تطور المرواح عبر الحضارات، مع التركيز على ما قدمه العرب والمسلمون في هذا المجال.
المبحث الأول: الحضارات القديمة
استخدم المصريون الأوائل المراوح اليدوية المصنوعة من أوراق النيلوفر المجففة أو من ورق البردي؛ فقد عثر على مروحتين تعودان إلى ما قبل 4000 سنة في قبر توت عنخ آمون كانت إحداهما من الذهب. وكانت الملكات الفرعونيات يتنقلن في المحفات وهن ممسكات بالمراوح.
3
أما في الصين فقد كانت المراوح تصنع من نبات الخيزران، حيث تلصق قطع الخيزران، إما بقماش رقيق من الحرير أو الورق.
4
وقد كان سائدا في الفكر العلمي الصيني أن المروحة تبدد الحرارة؛ «لأن الأشياء تستدعي بعضها بعضا حقا ومثيلا لمثيل، فالتنين يجلب المطر، والمروحة تبدد الحرارة».
5
وهي فكرة ترتكز على مبدأ التجاوب والرنين بين الأشياء.
ويرى المؤرخون أن المروحة المطوية اخترعت في اليابان في القرن الثامن الميلادي. وربما ابتكر المخترع المروحة بعد أن لاحظ الطريقة التي يطوي بها طائر الوطواط جناحيه. ويلون الفنانون اليابانيون المراوح عادة بألوان زاهية، ويستخدمونها في الرقصات أثناء الاحتفالات. وسرعان ما بدأ الصينيون في استخدام المروحة المطوية.
6
المبحث الثاني: العرب والمسلمون
لم يشر المؤرخون
7
الأجانب إلى أي إسهام للعرب في صناعة المراوح، سواء اليدوية منها أو السقفية ، في حين أننا سنجد معرفة العرب والمسلمين بالمراوح اليدوية التي توجه الهواء نحو الوجه بكافة أشكالها وأنواعها، سواء من خلال موروثهم الثقافي الخاص أو من خلال الشعوب التي احتكوا بها منذ القرن السادس الميلادي. أما المروحة السقفية التي توجه الهواء نحو أرجاء الغرفة كافة؛ فقد تأخر ظهورها إلى القرن الثامن الميلادي إلى أيام العباسيين، ويبدو - من خلال الوثائق التي بين أيدينا حتى الآن - أنه أعيد ابتكارها من جديد عند العرب دون المعرفة بوجودها سابقا.
دخل لفظ المروحة المعجم العربي بوصفه آلة لتحريك الهواء وتعديل درجة حرارته بهدف تبريد الجسم، فقد ورد في القاموس المحيط: «والمروحة كمرحمة: المفازة والموضع تخترقه الرياح. وكمكنسة ومنبر: آلة يتروح بها.»
8
وفي المحيط في اللغة: «والمراويح: الكواء، واحدتها : مروحة، وهي أيضا: الموضع الذي تخترقه الريح.»
9
وجاء في تاج العروس وتهذيب اللغة ولسان العرب أن: «مروحة كانت في الأصل مريوحة.»
10
وفي تهذيب اللغة: «والمروحة بكسر الميم التي يتروح بها.»
11
وقد قال الجوزي: «العامة تقول: مروحة ومريخ، بفتح الميم فيهما. والصواب الكسر.»
12
كانت المراوح اليدوية تسمى في بغداد ب «الهفاهيف». وكانت المراوح الكبيرة في الكويت تدعى «رهطة»، وهي تصنع من ريش النعام المعطر بالمسك، وتستعمل في المنازل.
13 «إلى اليمين» مراوح مصرية، «إلى اليسار» مروحة صينية (مصدر الصورة:
Flory, M. A., Abook about Fan: The History of Fans and Fan-Painting , Macmillan and Co.; First Edition Edition, 1895. p. 17 ).
المبحث الثالث: أخبار وأشعار المراوح
يروى عن الملك سيف بن ذي يزن (توفي50ه/574م) أنه كان يجلس على العرش وخلفه غلامان يحركان الهواء ويطردان الحشرات عنه بوساطة مراوح واسعة من ريش طيور النعام. وعلى مقربة من هذين الغلامين يقف غلام ثالث يرش الطيب والمسك أمام المراوح، فإذا تحرك الهواء انتعش الملك برائحة الطيب.
14
وفي عهد الأمويين دعا الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي 95ه/714م) إلى عمل ملاقف الرياح في مدينة واسط؛ عاصمته التي بناها في العراق، حيث إنه عمد إلى المرافق التي في المجالس ووضع فيها ألواح الجليد، فكانت الرياح تمر في الملاقف ويخرج نسيمها إلى المجالس والصحون، حتى إن الناس استغنوا عن استخدام المراوح اليدوية حينها.
15
كما ورد عن الإمام مالك بن أنس (توفي 179ه/975م): «قال قتيبة: كنا إذا أتينا مالكا خرج إلينا مزينا مكحلا مطيبا قد لبس من أحسن ثيابه، فتصدر ودعا بالمراوح فأعطى كل إنسان مروحة.»
16
وقد أخذت المروحة بألباب الشعراء العرب، فراحوا يصفونها ويتغنون بفوائدها؛ إذ يروى أنه عندما عاد جعفر بن عثمان المصحفي (توفي 372ه/983م) بعض إخوانه وهو مريض مضطجع فتناول مروحة وجعل يروح بها عليه، فقال جعفر بن عثمان في لحظتها:
روحني عائدي فقلت له
لا لا تزدني على الذي أجد
أما ترى النار وهي خامدة
عند هبوب الرياح تتقد؟!
17
وقال محمد بن سوار نجم الدين بن إسرائيل (توفي 677ه/1278م) في مروحة:
ومحبوبة في القيظ لم تخل من يد
وفي القر تجفوها أكف الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقا
أتت بالهوى الممدود من كل جانب
18
ووصف فخر الدين أبو عمرو بن زين الدين الطائي الحلبي الشافعي بن خطيب جبرين (توفي 739ه/1338م)، فقيه حلب ومقرئها وحاكمها، المروحة بقوله:
وخادم ما مثلها خادم
بكل معنى حسن توصف
يروق من يبصرها حسنها
أخلاقها محبوبة تؤلف
لباسها الوشي وفي حجرها
عود لها وهي به أعرف
يحرك الأرواح ترويحها
ويشتفي المكروب إذ تطرف
19
ويذكر ابن تغري بردي (توفي 874ه/1470م) أن الشيخ شهاب الدين الشاطر الدمنهوري (توفي 787ه/1385م) الشاعر المشهور، كان أديبا فاضلا، بارعا في فنون لا سيما في حل المترجم ونظم القريض. ومن شعره في مروحة:
ومخطوبة في الحر من كل هاجر
ومهجورة في البرد من كل خاطب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقا
أتت بالهوى الممدود من كل جانب
20
وذكر عبد الرزاق البيطار (توفي 1335ه/1916م) أن الشيخ إبراهيم بن المرحوم الحاج علي الأحدب الطرابلسي ثم البيروتي (توفي 1308ه/1824م) قال في مروحة:
أبصرت مروحة بكف مهفهف
تطفي ببرد هوائها نار الجوى
قد كنت خلوا قبل ترويح بها
نحوي فجاءتني بأسباب الهوى
21
وقال ابن معقل:
ومروحة أهدت إلى النفس روحها
لدى القيظ مبثوثا بإهداء ريحها
روينا عن الريح الشمال حديثها
على ضعفه مستخرجا من صحيحها
22
وقال أبو الحزم مكي القوصي في مروحة:
ما منية النفس غير مروحة
توصل للقلب غاية الراحة
تجود لكن بمسعد ولقد
تبخل إن لم تساعد الراحة
23
وقال ابن أبي الندى المعري:
وقابضة لعنان النسيم
تصرفه حيث شاءت هبوبا
فمن حيث شاءت أهبت صبا
ومن حيث شاءت أهبت جنوبا
إذا أقبل القر كانت عدوا
وإن أقبل الصيف كانت حبيبا
24
وأحسن ما سمع في المروحة قول أبي الندى حسان بن نمير (توفي 567ه/1171م) المعروف بعرقلة الدمشقي:
ومحبوبة في القيظ لم تخل من يد
وفي القر تسلوها أكف الحبائب
إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقا
أتت بالهوى الممدود من كل جانب
25
المبحث الرابع: أشكال المراوح
عرف العرب ثلاثة أشكال للمراوح: المطوية والثابتة، ولكل منهما شكل دائري أو نصف دائري. وقد دلنا على هذه الأشكال الأشعار التي قيلت فيها، والصور التي تم رسمها في المخطوطات .
صورة توضيحية لأجزاء المروحة (مصدر الصورة:
Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, p. 25 ). (1) المروحة المطوية
عرف العرب في الأندلس المروحة المطوية؛ إذ نجد وصفها قد ظهر في شعر يحيى بن هذيل (توفي 389ه/999م) بقوله:
ومصروفة عن خلقها إن صرفتها
إلى طي برد أو إلى طي مهرق
على أنها شبه المجن ودونه
فإن كنت ذا فهم أبن لي واصدق
لها لطف أنفاس الصباح ورقة
تلذ بها نفس الفتى المتشوق
وقال أيضا:
إذا نشرت كانت على دارة البدر
وإن طويت كانت كتابا بلا نشر
جوانحها بيت الرياح ورجلها
على يد مشغول بها فارغ الفكر
26 (2) المروحة نصف الدائرية
وكانت المراوح ذات الشكل النصف دائري معروفة في الأندلس، فقد ذكر أبو العباس المقري (توفي 1041ه/1631م) أن لسان الدين بن الخطيب (توفي 776ه/1374م) قال في مروحة سلطانية:
كأني قوس الشمس عند طلوعها
وقد قدمت من قبلها نسمة الفجر
وإلا كما هبت بمحتدم الوغى
بنصر ولكن من بنود بني نصر
27 (3) المروحة الدائرية
وهي مراوح كانت تصنع من الجلود ثم تزين وتزركش وتلون، وهي قابلة للطي أو ثابتة. قال فيها الشاعر القرطبي ابن خروف أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف (توفي 604ه/1207م):
ومروحة إن تأملتها
ترى فلكا دائرا في اليد
وتطوى وتنشر من حسنها
فتشبه قنزعة الهدهد
28
صفحة من مخطوطة تعود لعام للقرن 16م تصور مجلس علم يقف فيه الخادم خلف الحضور وهو يمسك بمروحة من ريش النعام (مصدر الصورة:
Manuscripts AKM218 Musical Gathering 2000, 6 Dust Muhammad.
Aga Khan Collection ). (4) المروحة المستطيلة
وهي مروحة تشبه الراية أو العلم، كانت تصنع من الجلد الرقيق، وقد كانت تزخرف ببعض الرسومات لتزيينها.
ولعلها المقصودة في قول الشاعر:
في «حكاية العاشق والمعشوق» من قصص ألف ليلة وليلة (الليلة 159) تصوير للسيدة دنيا، ذات الشأن الكبير، وهي تحمل بيدها مروحة فاخرة ليست دائرية، ومن خلفها خادماتها يلوحن بمروحة لها ولضيفتها يبدو أنها كانت مصنوعة من الريش (إلى اليمين) (ألف ليلة وليلة، ج1، ص296).
دقيقة الجسم لها ساعد
تسعد من تحييه أنفاسها
محبوبة في القيظ مهجورة
في القر لا يقربها ناسها
كأنها من بيت مال الهوا
إن لوحت تنفض أكياسها
29
ملكان في معركة يحمل خادم أحدهما (إلى اليمين) مروحة من ريش، ويحمل الآخر (إلى اليسار) مروحة دائرية الشكل قد تكون مصنوعة من القماش أو الجلد، وكل منهما ثابت غير قابل للطي، واللافت في الأمر أن الملوك حتى وهم في حالة الحرب والمعارك كانوا يرفهون عن أنفسهم (مصدر الصورة:
MS
University. Shahnamah Manuscript, 1718-1721, f.400v. Seq. 811 ).
المبحث الخامس: المواد التي تصنع منها المراوح
لصناعة المرواح كان العرب يستخدمون سعف النخل أو الموز أو الأدم (جلود الحيوانات) أو أرياش الطيور كالنعام والطاووس.
30
كما كانت أغصان نبات الشوح
Abies Fraesi (أو خشب السويد الأصفر) تستخدم في صناعة المراوح العطرية في بلاد الشام.
31
وقد ثبت لنا معرفتهم بثلاثة أنواع من المراوح حسب المادة المصنوعة منها، وهي: مراوح الخيش ومراوح الأديم ومراوح الخوص.
انتشرت المروحة المستطيلة الشكل بين صفوف النساء كثيرا، ويبدو أن التجار الإيطاليين قد نقلوها إلى إيطاليا، فقد وجدت في البندقية ونابولي وبادوا (مصدر الصورة:
Flory, M. A., A Book about Fan: The History of Fans and Fan-Painting, p. 27 ). (1) مروحة الخيش (مروحة سقفية لتبريد غرفة)
الخيش «نسيج خشن ثقيل منسوج من خيوط من ألياف نبات الجوت، تصنع منه الغرائر والجوالق».
32
وهو نسيج قماشي، ويستخدم عادة للمهمات التي تتطلب تحملا ومتانة مثل صناعة الخيم والأشرعة والحقائب وغيرها. يصنع الخيش حاليا من القطن أو الكتان، في حين أنه تاريخيا كان يصنع من القنب.
وكان السبب في اختراع هذه المروحة أن هارون الرشيد (توفي 193ه /809م) دخل يوما على أخته علية بنت المهدي (توفيت 210ه/825م) في يوم قيظ، فألفاها وقد صبغت ثيابها من زعفران وصندل ونشرتها على الحبال لتجف، فجلس هارون قريبا من الثياب المنشورة، فصارت الريح تمر على الثياب فتحمل منها ريحا بليلة عطرة، فوجد لذلك راحة من الحر واستطابه، وأمر أن يصنع له مثل ذلك. وقال الشريشي في شرح المقامات: «وهذه المروحة شبه الشراع للسفينة تعلق بالسقف ويشد بها حبل وتبل بالماء وترش بالماورد (ماء الورد)، فإذا أراد الرجل في القائلة (نوم الظهيرة) أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء، فيهب على النائم منها نسيم بارد رطب.»
33
قال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني (توفي 776ه/1375م): وبعد ذلك «اشتهرت واستعملها الناس».
34
لكن يوجد في النقوش الآشورية المكتشفة دليل بارز من نينوى يشير إلى استخدام المروحة المتأرجحة ومعلقة من السقف وتعمل بسحب الحبل؛ في الفترة بين القرن السابع إلى القرن العاشر قبل الميلاد.
35
بقي هذا النوع من المراوح السقفية موجودا لدى الحكام والملوك؛ إذ يروي الجغرافي والرحالة العربي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي (توفي حوالي 390ه/حوالي 1000م)، أنه رأى في دار عضد الدولة (توفي 372ه/983م) بشيراز بيوت الخيش التي يبللها الماء على الدوام بوساطة قنى حولها من فوق، ويبدو أن هذه الطريقة في التبريد كانت شائعة جدا في بغداد. وقد كان يستخدم في هذه البيوت الصيفية مروحة سقفية تشبه شراع السفينة، بحيث إنها تعلق في سقف المنزل ويربط بها حبل يديرها، وقد كانت تبلل بالماء وترش بماء الورد، فإذا أراد الرجل أن يأخذ قيلولة جذبها بحبلها، فكانت تذهب بطول البيت وتجيء فيهب منها نسيم بارد برائحة الورد.
36
وقد قال الأمير الهمام شهاب الدين أبو الفوارس، سعد بن محمد بن الصيفي التميمي (توفي 573ه/1177م)، من ولد أكثم بن الصيفي الملقب «حيص بيص» في صفة مروحة الخيش لغزا:
ولينة الأعطاف خوارة
ذات غصون لونها أورق
غبراء لا تبرح ممطورة
وهي على الغبرة لا تورق
موثقة مطلقة لينة
شديدة ثابتة تقلق
تسعى بلا رجل على طائر
للذر في مسلكها مزلق
تجري مدى الشمس على أنها
محصورة مذهبها ضيق
طيارة يمنع إبعادها
أسبابها والسور والخندق
كأنها، من حيرة، ناشد
يدأب نشدانا ولا يلحق
إذا أريحت خلتها والها
ثكلى بها من حزنها أولق
كرارة في حرب شمس الضحى
لا ترهب البأس ولا تفرق
ما بين إدريس ونوح لها
في حالتيها نسب معرق
تهدي الكرى للمستهام الذي
ينبو به المضجع والنمرق
لا يسأل المجبل معروفها
ويجتدي نائلها المعرق
تنقص من خاشنها بزها
وتوسع الجود لمن يرفق
قوية السلطان في مدنها
ضعيفة إن ضمها سملق
تجبل حال الأرض من فضلها
سيراف من إحسانها جلق
من لي بأخرى مثلها للذي
أعيا على الآسي فما يعرق؟
37
وقد أنشد بهاء الدين كافي الدولة ابن حمدون الكاتب (توفي 562ه/1167م) صاحب «التذكرة» في مروحة الخيش ملغزا:
ومرسلة معقودة دون قصدها
منفذة تجري لجيش طليقها
يمر خفيف الريح وهي مقيمة
وتسري وقد سدت عليها طريقها
لها من سليمان النبي وراثة
وقد عزمت نحو النبيط عروقها
إذا صدق النوء الشمالي أمحلت
وتمطر والجوزاء ذاك حريقها
وتحسبها إحدى الصنائع أنها
لذلك كانت كل روح صديقها
38
وقد كان لبعض العرب مراوح خيش تعطي هواء باردا شديدا ولطيفا لدرجة يستسلم معه الجالس أمامه؛ فقد ورد في كتاب «الفرج بعد الشدة» لمحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم داود التنوخي البصري (توفي 384ه/994م) القصة الآتية: «صاحب ديوان الخراج يسرق توقيع الخليفة من يد الرسول، استسلف موسى بن عبد الملك من بيت مال الخاصة، مالا، إلى أجل قريب، وضمن للمتوكل أن يرده في الأجل.
فجاء الأجل ولم يحمل المال، فغضب المتوكل من مدافعته، وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان، وقع إليه عني برد المال اليوم، وضيق عليه في المطالبة، وأنفذ التوقيع مع عتاب بن عتاب، ومره أن يطالبه، فإن أخر أداء المال، طالبه، واضربه بالمقارع في ديوان الخراج بحضرة الناس، وألا يرفع عنه المقارع حتى يصحح المال.
فبادر بعض الخدم إلى موسى فأخبره بذلك، فجلس ينظر في وجوه يرد منها المال.
وصار إليه عتاب بالتوقيع مختوما، وكان يوما شديد الحر، وقد انتصف النهار، وموسى في خيش، في حجرة من ديوانه، وفيه مروحة، يتناولها فراشان يروحانه، فدخل عتاب، وفي يد موسى كتاب طويل يقرؤه، فجلس، وأكب موسى على الكتاب يتشاغل به عن خطاب عتاب، وأصاب عتاب برد المروحة والخيش، فنام واستثقل.
وكان عتاب قد أخرج التوقيع حين جلس، فوضعه على دواة موسى، فغمز موسى بعض غلمانه فأخذ الكتاب فغيبه.
وما زال عتاب ينام مرة وينتبه أخرى، وموسى يعمل، إلى أن انقضت الهاجرة، وقد توجه لموسى بعض المال، وأنفذ أصحابه لقبضه.
فقال له عتاب: انظر فيما جئنا له.
قال: قل أصلحك الله، فيم جئت؟ قال: فيما تضمن التوقيع.
قال: وأي توقيع؟ قال: الذي أوصلته إليك من أمير المؤمنين.
قال: متى؟ قال: الساعة وضعته على الدواة.
فقال له: قد نمت نومات، وأظن أنك رأيت في نومك شيئا.
فطلب عتاب التوقيع فلم يجده، فقال: سرق والله التوقيع، يا أصحاب الأخبار اكتبوا.
فقال موسى: يا أصحاب الأخبار اكتبوا، كذب فيما ادعاه، ما أوصل إلي توقيعا، وأنتم حاضرون، فهل رأيتموه أوصل إلي توقيعا؟ قم فانظر لعلك يا أبا محمد ضيعت التوقيع في طريقك.
فانصرف عتاب إلى عبيد الله فأخبره بذلك.
فدخل عبيد الله إلى المتوكل فحدثه، فضحك وقال: أحضروا موسى الساعة. فحضر.
فقال له المتوكل: يا موسى، سرقت التوقيع من عتاب؟ قال: إي والله يا سيدي خمنت أن فيه مكروها، ونام عتاب من قبل أن يوصله إلي، فأمرت من سرقه، وقد أعددت نصف المال، والساعة أحمله إلى صاحب بيت مال الخاصة، وأحمل الباقي بعد خمسة أيام، وأتبع ذلك بتضرع.
فأنفذ المتوكل معه من قبض منه ذلك ، وانصرف وقد رضي عنه.»
39
وقد قال أبو الفتح محمود بن الحسين الرملي، المعروف بكشاجم (توفي 360ه/ 970م) في مروحة الخيش:
وبيت نشيده في الهجير
على غير أس وثيق البناء
ونهجره عند لفح الشتاء
إذا كان عنا قليل الغناء
فيا لك بيتا بناه الحكيم
حصينا من الحر رحب الفناء
ويحمل ماء كحمل السحاب
وليس يجود بغير الهواء
إذا قام قام على أربع
ومن بين أثوابه ثوب ماء
حكى فرسا بات في جله
وقد أسبل الغيث تحت السماء
40
وقال علي ابن صاحب تكريت ملغزا في الخيش:
ما ذات خدر حصان كان منشؤها
بين الحواضر لا بين الأعاريب
منقادة طال ما أهدت أزمتها
روحا إلى كل محرور ومكروب
شدت صليبا وزنارا وما عرفت
دين المسيح ولم تركن إلى حوب
تسري إذا قيل للقوم المسير ولا
تسعى على أربع كالخيل والنيب
مصلوبة ما رأت عيبا ولا اجرحت
ذنبا فتلحظها في زي مصلوب
ككاعب يوم عيد تعتلي لعبا
أرجوحة بين أتراب كواعيب
41
تروى وتظمأ أحيانا وما عرفت
كغيرها طعم مأكول ومشروب
يميتها القر في المشتى وينعشها
حر الهجير بترجيع وتأويب
نواظب الغسل عن طهر وما ارتكبت
يوما مباضعة الشبان والشيب
في ذيلها ديمة في الصيف ساكبة
بالقطر والقطر فيه غير مسكوب
42
وقد جاء ذكر مروحة الخيش في المقامات التي ألفها محمد الحريري البصري (توفي 516ه/1112م) وتحديدا «المقامة النجرانية» حيث قال: اسمعوا وقيتم الطيش ومليتم العيش. وأنشد ملغزا في مروحة الخيش:
وجارية في سيرها مشمعلة
43
ولكن على أثر القفول قفولها
44
لها سائق
45
من جنسها يستحثها
46
على أنه في الاحتثاث رسيلها
47
ترى في أوان القيظ
48
تنطف
49
بالندا
ويبدو إذا ولي المصيف فحولها
50
فقال أحمد بن عبد المؤمن الشريشي (توفي 619ه/1223م) في شرح هذه المقامة: «هذه المروحة تكون شبيه الشراع للسفينة وتعلق في سقف ويشد بها حبل تدير به مشيها وتبل بالماء وترش بماء الورد، فإذا أراد الرجل في القائلة أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء فيهب على الرجل منها نسيم بارد طيب الريح فيذهب عنه أذى الحر ويستطب وهي فوقه ذاهبة وجائية؛ ولذلك سماها جارية.»
51
كما ذكر عبد الله بن أحمد بن حمويه (توفي 642ه/1244م) المراوح في مقاماته بقوله: «وأجلسنا على الأنطاع والوسائد، والمذاب والمراوح بأيدي الولدان والولائد.»
52
ومن ملح ألغاز الصاحب بن عباد (توفي 385ه/995م) في مروحة الخيش قوله لأبي العباس الحارث في يوم قيظ: ما يقول الشيخ في قبله؟ فلم يفهم عنه؛ أراد في قلب الشيخ وهو الخيش. وقال السري الرفاء:
وخيش كما نجرت ذيول غلائل
مصندلة تختال فيها الكواعب
وقد اطلعت فيها الشمائل وأنشدت
مقبلة في جانبيها الحبائب
53
شكل الشراع في هذه السفينة العربية يشبه شكل مروحة الخيش التي جاء وصفها؛ فهي ذات شكل مستطيل بحيث يغطي مساحة واسعة من الحجرة التي يتحرك فيها جيئة وذهابا (مصدر الصورة:
Agius, Dionisius A., Classic Ships of Islam From Mesopotamia to the Indian Ocean, Brill NV, Leiden, 2008, p. 168 ).
ويبدو أن هذا النوع من المراوح كانت توضع في وسط المحال التجارية في بغداد فيما بعد، حيث يقوم صبي متفرد بتحريكها، وكانت تسمى «المهاف» أو «المهفات».
54
هذه المهاف كانت توجد لدى بعض المحال (خصوصا الحلاقين) في قرية حريتان شمالي مدينة حلب في سوريا في فترة الخمسينيات من القرن العشرين كما حدثني بذلك أحد أقربائي. (2) مروحة الأديم (مروحة يدوية)
الأديم هو الجلد الذي يغلف جسم الإنسان أو الحيوان، ولا نعتقد أبدا أنه كانت تصنع مراوح من جلود البشر، وإنما من جلود الحيوانات؛ البقر أو الجمال أو الخراف.
ومروحة الأديم تعرف أيضا باسم المروحة الهندية، وهي على نوعين؛ إحداهما مستديرة إلا موضع النصاب فقط، والأخرى مستديرة، ثم يقطع ربع دائرتها التي تلي الوجه.
قال الشريف:
مروحة الهند إذا ما بدت
فوصفها من فلسفي حكيم
كأنها البرجاس
55
في دورها
لكنها دائرة من أديم
وأعطت الجلاس أنفاسها
عدلا فكانت لولبا للنسيم
56
وقال الشيخ شرف الدين التيفاشي (توفي 651ه/1253م):
وبدر تم غدا ينفي الحرور كما
ينفيه مشبهه في الأفق إن طلعا
يهدي لأرواحنا روحا بمروحة
من الأديم إذا ما حسنها برعا
كالشمس ترعد من بدر ألم بها
مقارنا كاسفا من جرمها الربعا
حظ اللحاظ وحظ الروح قد جمعا
فيه لكل جليس يأتيان معا
57
وله أيضا:
ومروحة الهند من فيلهم
أقيم على ذاك برهانه
ألست تراها إذا روحت
كما روح الفيل آذانه
وتعدل صاحبها في النسيم
ينال ويشمل جيرانه
58 (3) مروحة الخوص (مروحة يدوية)
خوص النخلة هو سعفاتها وورقها. وقد ذكر أبو سهل الهروي (توفي 433ه/1041م): «المروحة التي يتروح بها؛ أي تجتلب بها الريح. وجمعها مراوح. وهي أداة معروفة من خوص مسفوف أي منسوج، لها مقبض من خشب أو خيزران.»
59
لوحة «غفوة القيلولة في ظل المشربية» للرسام جون فريدريك لويس تعود لمنتصف القرن التاسع عشر. نراه قد رسم إلى أسفل اليسار مروحة مصنوعة من ريش نعام أسود (مصدر الصورة والتعليق من: سعد، أشرف، المشربيات أو الشناشيل بين العمارة الإسلامية والفنون التشكيلية، مجلة الرافد، تصدر عن مديرية الثقافة، العدد 242، نوفمبر، الشارقة، 2017م، ص119).
المروحة التي أهديت لصلاح الدين الأيوبي أيضا كانت مصنوعة من الخوص؛ فقد ذكر بهاء الدين العاملي (توفي 1030ه/1621م) في «الكشكول» أن صلاح الدين لما قرأ بيتي الشعر المكتوبين عليها «عرف أنها من خوص النخل الذي في مسجد الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فقبلها الملك ووضعها على رأسه، وقال للرسول: صدقت صدقت ».
60
قال السري الرفاء الموصلي (توفي 362ه/972م) في مراوح الخوص:
ومبثوثة في كل شرق ومغرب
لها أمهات بالعراق قواطن
تحرك أنفاس الرياح حراكها
كأن نسيم الريح فيهن كامن
61
وقال نور الدين علي ابن صاحب تكريت ولله دره:
يا سائلي عن نسيم طي مروحة
أهدت سرورا بترجيع وترويح
أما ترى الخوص أهدى من مراوحه
ما أودعته قديم نسيمة الريح
62
قلت: وعلى ذكر الخوص فما أحسن ما قاله الشيخ برهان الدين القيراطي في وصف النوق:
صاح هذي قباب طيبة لاحت
وفؤادي على اللقاء حريص
وتبدت نخيلها للمطايا
فعيون المطي للنخل خوص
63
المبحث السادس: الكتابة والرسم على المراوح
حتى تكون الكتابة واضحة ومقروءة كانت تتم على الجزء العلوي من المروحة وليس المقبض؛ لأن المقبض عرضة للاحتكاك براحة اليد، وبالتالي ستنمحي الكتابة مع كثرة الاستعمال ، كما أن المساحة المتاحة على المقبض ضيقة، كما أن الجزء العلوي من المروحة كان يحظى بالزخارف والرسومات الهندسية أو النباتية لإضفاء مسحة جمالية عليها ولا تكون جامدة جافة.
فقد أهدى سالم بن قاسم من بني مهنا الحسنيين (توفي 612ه/1215م) لصلاح الدين الأيوبي (توفي 589ه/1193م) مروحة بيضاء، وفيها مكتوب بالأحمر بيتان وهما:
أنا من نخلة تجاور قبرا
ساد من فيه سائر الخلق طرا
شملتني سعادة القبر حتى
صرت في راحة ابن أيوب أقرا «وقد كان الرسول بها قال لصلاح الدين: خذ هذه فما أهدي لك ولا لأبيك قط مثلها. فغضب السلطان من هذا الكلام، فقال الرسول: لا تعجل وانظر ما فيها من الكلام. فلما نظرها وقرأ البيتين قبلهما ووضعهما على رأسه وقال: صدق الشريف، ما وصلتني قط هدية مثل هذه.»
64
في لوحة تمثل مشهدا لاستقبال أحد الملوك وهو يدعو بعض الناس على وليمة فاخرة، حيث يقف خادمان خلف رأسه ويلوح أحدهما على اليمين بمروحة مصنوعة من ريش الطاووس، ويقابله خادم يلوح بمروحة مصنوعة من ورق النبات (مصدر الصورة:
https://raseef22.com/culture/2015/11/07/the-imaginary-banquets-of- haroun-al-rashed ).
ويروي لنا ابن عبد ربه (توفي 328ه/940م) في عقده الفريد في أخبار ابن أبي عتيق أن عبد الملك بن مروان (توفي 86ه/705م) كان في مجلسه جاريتان تحملان مراوح ، من النوع الواسع العريض الذي يمكن الكتابة عليه. أبو القاسم جعفر بن محمد قال: لما وصف عبد الله بن جعفر لعبد الملك بن مروان ابن أبي عتيق وحدثه عن إقلاله وكثرة عياله، أمره عبد الملك بن مروان أن يبعث به إليه. فأعلمه ابن جعفر بما دار بينه وبين عبد الملك وبعثه إليه، فدخل ابن أبي عتيق على عبد الملك فوجده جالسا بين جاريتين قائمتين عليه يميسان كغصني بان، بيد كل جارية مروحة تروح بها عليه، مكتوب بالذهب على المروحة الأولى:
إنني أجلب الريا
ح وبي يلعب الخجل
وحجاب إذا الحبي
ب ثنى الرأس للقبل
وغياث إذا الندي
م تغنى أو ارتجل
وفي المروحة الأخرى:
أنا في الكف لطيفة
مسكني قصر الخليفة
أنا لا أصلح إلا
لظريف أو ظريفة
أو وصيف حسن القد
شبيه بالوصيفة
قال ابن أبي عتيق: فلما نظرت إلى الجاريتين هونتا الدنيا علي، وأنستاني سوء حالي، وقلت: إن كانتا من الإنس فما نساؤنا إلا من البهائم. فكلما كررت بصري فيهما تذكرت الجنة؛ فإذا تذكرت امرأتي، وكنت لها محبا، تذكرت النار. قال: فبدأ عبد الملك يتوجع إلي بما حكى له ابن جعفر عني ويخبرني بما لي عنده من جميل الرأي. فأكذبت له كل ما حكاه له ابن جعفر عني، ووصفت له نفسي بغاية الملاء والجدة. فامتلأ عبد الملك سرورا بما ذكرت له، وغما بتكذيب ابن جعفر. فلما عاد إليه ابن جعفر عاتبه عبد الملك على ما حكاه عني وأخبره بما حليت به نفسي. فقال: كذب والله يا أمير المؤمنين، وإنه أحوج أهل الحجاز إلى قليل فضلك، فضلا عن كثيره. ثم خرج عبد الله فلقيني فقال: ما حملك أن كذبتني عند أمير المؤمنين؟ قلت: أفكنت تراني تجلسني بين شمس وقمر، ثم أتفاقر عنده؟! لا والله ما رأيت ذلك لنفسي وإن رأيته لي. فلما أعلم بذلك عبد الله بن جعفر عبد الملك بن مروان، قال: فالجاريتان له.»
65
ويذكر ابن عبد ربه أيضا قصة أخرى: قال إسحاق بن إبراهيم: دخلت على الأمين محمد بن زبيدة وعلى رأسه وصائف في قراطق مفروجة، بيد وصيفة منهن مروحة مكتوب عليها:
بي طاب العيش في الصي
ف وبي طاب السرور
ممسكي ينفي أذى الحر
إذا اشتد الحرور
الندى والجود في وج
ه أمين الله نور
ملك أسلمه الشب
ه وأخلاه النظير
66
وذكر المؤرخ المخضرم محمد بن إسحاق (توفي 151ه/768م) قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: رأيت على مروحة مكتوبا:
الحمد لله وحده
وللخليفة بعده
وللمحب إذا ما
حبيبه بات عنده
67
ويذكر لنا أبو الطيب الوشاء (توفي 325ه/936م) ما كان يكتب على المراوح أيضا:
وأخبرني أبو جعفر القارئ قال: أخبرني من قرأ على مروحة بيتين للقطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وربما فات بعض القوم أمرهم
مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
قال: فحضرني بيتان، فكتبت على الجانب الآخر:
لا ذا ولا ذاك في الإفراط أحمده
وأحمد الأمر ما في الفعل يعتدل
إفراط ذا في التأني فوت حاجته
وليس يعدم عثرا دونها العجل
وقرأت على مروحة لبعض الظرفاء:
محتمل، حسبك لي، ساعة
ذاك إذا أجهدك الحر
غيرك مني طالب مثل ما
تطلبه يا أيها الحر
وكتب بعض الأدباء على مروحة:
إن روح الحياة في
حركات المراوح
كم بنان لطيفة
من ظباء سوانح
حركتها فنفست
عن خدود رواشح
68
وأنشد أبو جعفر عبد الله بن عميد الدين أبي شجاع المظفر بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء، ابن عم الوزير عضد الدين، ما يكتب على مروحة:
أحسن ما روح بي شادن
يداه تحكي اللؤلؤ الرطبا
يروح الجسم بترويحه
وحسنه قد روح القلبا
69
ومما يكتب على مروحة لشرف الدين التيفاشي:
أنا في الكف راحة
لصحيح وذي علل
أنا ستر لعاشق
عندما يخلس القبل
أنا مخف لوجنة
خجلت أيسر الخجل
أنا أهدي إليكم
أرج الزهر إن ذبل
أنا وحدي كروضة
جادها واكف هطل
أنا بي يبعث الندي
م على الكاس إن غفل
مجلس لا أزوره
ليس في قربه أمل
70
ومما كتب على مروحة ملك:
تأمل إلى ما قد حويت من الفخر
لخدمة ملك جل في رفعة القدر
وفكر تجد منه ومني روضة
يمر بها طيب النسيم على البحر
71
إذن فقد عرف العرب المراوح بكافة أشكالها وأنواعها، وحتى إنهم طوروا المروحة السقفية بشكل مستقل عن المروحة الآشورية، والتي ستعود للظهور في القصور الملكية البريطانية في القرن السابع عشر.
72
المبحث السابع: الأوروبيون
لا نستبعد أبدا انتقال المراوح اليدوية من عرب المشرق أو المغرب في الأندلس إلى الأوروبيين، والتي سيصبح لها شأن كبير في الثقافة الأوروبية.
مروحة مطوية تفتح حتى 180°، عليها رسم بالأسود والأبيض تعود للقرن 19م (مصدر الصورة:
Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, p. 278 ).
وفي القرن السادس عشر الميلادي أحضر البرتغاليون المراوح إلى أوروبا، وأقبلت نساء أوروبا على المراوح الملونة واستخدمنها . ولفترة قصيرة، خلال عصر لويس الخامس عشر
Louis XV (توفي 1774م) ملك فرنسا، حمل الرجال أيضا مراوح مطوية أنيقة. كما استطاع الفنان والعالم الإيطالي ليوناردو دافينشي
Leonardo da Vinci (توفي 1516م) بناء أول مروحة آلية للتهوية. واستطاع الإنجليز عام 1553م تطوير مروحة دوارة لتهوية المناجم، واستخدمت القدرة المائية لتشغيل المروحة.
73
وفي القرن التاسع عشر الميلادي، عمل مشاهير الفنانين في رسم المراوح التي كانت تباع بأسعار مرتفعة. وكانوا يصنعون المراوح الغالية الثمن من جلد الحمير الصغيرة أو من الرق (البرشمان) أو من الحرير، كما صنعوا المراوح البديعة من شرائط الزينة والشاش وريش النعام وريش الطاووس. وكانوا يركبون المراوح على مقابض جميلة منحوتة من العاج أو صدف السلحفاة أو القرون أو العظام أو خشب الصندل.
74
الفصل السابع
طرائق ومواد العزل الحراري للأبنية
تعاق عملية انتقال الحرارة - بأية طريقة كانت - عن طريق العزل الحراري
Thermal Insulation . ويستخدم العزل الحراري لثلاثة أهداف:
1 (1)
الحفاظ على حالة الشيء عند درجة حرارة مستقرة تقريبا. (2)
المحافظة على برودة الشيء. (3)
المحافظة على سخونة الشيء.
بصيغة أخرى فإن العزل الحراري هو طريقة للتحكم في تحرك الحرارة بحبسها داخل أو خارج مكان ما. فمثلا، تعزل المباني السكنية حراريا لتحبس الحرارة داخلها في فصل الشتاء وخارجها في فصل الصيف. ويستخدم الناس ثلاث طرق للعزل الحراري؛ لأن الحرارة تنتقل بإحدى ثلاث طرق مختلفة.
وهناك مواد معينة، كالخشب والبلاستيك، هي عوازل جيدة ضد انتقال الحرارة بالتوصيل؛ ولهذا السبب تصنع مقابض العديد من أواني المطبخ الفلزية من هذه المواد. وتسخن هذه الأواني الفلزية بسرعة بالتوصيل ولكن تبقى مقابضها باردة.
ويمكن منع تحرك الحرارة بالحمل خلال الهواء بسد المجال بين منطقة حارة ومنطقة باردة بهواء ساكن. فمثلا، تعمل طبقة الهواء الموجودة بين النافذة الخارجية والنافذة الداخلية على الشباك كعازل للحمل.
وتمنع السطوح التي تعكس الأشعة دون الحمراء انتقال الحرارة بالإشعاع. فعلى سبيل المثال، تعكس السقوف الفلزية اللامعة أشعة الشمس، وتمنع بالتالي انتقال حرارة الشمس إلى الداخل عن طريق السقف.
رسم بياني يوضح آثار الكتلة الحرارية على التخفيف من حدة الحرارة (مصدر الصورتين والتعليق : جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص39).
ماذا تعمل الحرارة؟ عندما تنساب الحرارة إلي داخل جسم أو تخرج منه يمكن أن تحدث تغييرات في ذلك الجسم بثلاث طرائق. فالحرارة يمكن أن تسبب تغييرات في: (1) درجة الحرارة. و(2) أبعاد الجسم (طول، مساحة، حجم). (3) حالة المادة. التغيرات في درجة الحرارة تعتبر من أكثر الآثار المترتبة على انسياب الحرارة شيوعا. وتسمى كمية الحرارة اللازمة لرفع درجة حرارة جرام واحد من مادة درجة مئوية واحدة: السعة الحرارية النوعية لتلك المادة. ويطلق غالبا على السعة الحرارية النوعية اسم الحرارة النوعية. ويستعمل العلماء الحرارة النوعية للماء - والتي تساوي واحدا - كمرجع قياسي لحساب الحرارة النوعية لكل المواد.
يمكنك أن تعرف الارتفاع الذي يحدث في درجة حرارة جسم ما عندما تنساب إليه كمية معلومة من الحرارة إذا عرفت كتلة ذاك الجسم (مقدار ما يحتويه الجسم من مادة) والحرارة النوعية لمادته. أولا، اضرب كتلة الجسم في الحرارة النوعية لمادته، ثم بعد ذلك اقسم كمية الحرارة التي أضيفت إلى الجسم على حاصل الضرب أعلاه. مثلا، إذا انتقلت عشرة سعرات من الحرارة في جرام واحد من الماء، فكم درجة ترتفع درجة حرارة الماء؟ حاصل ضرب جرام واحد في حرارة نوعية مساوية 1، يعطي واحدا. وحاصل قسمة عشرة سعرات على 1 يساوي ارتفاعا في درجة الحرارة مقداره عشر درجات مئوية.
ويحتاج الجسمان المتساويان في الكتلة وفي درجة الحرارة والمختلفان في الحرارة النوعية إلى كميتين مختلفتين من الحرارة المضافة لترتفع درجتا حرارتيهما بذات المقدار. ترتفع درجة حرارة الجسم ذات الحرارة النوعية المنخفضة بمقدار أكبر من المقدار الذي ترتفع به درجة حرارة الجسم ذات الحرارة النوعية المرتفعة عندما يستقبل الجسمان كميتين متساويتين من الحرارة المضافة. فمثلا، يحتاج إلى عشرة سعرات من الحرارة لرفع درجة حرارة جرام واحد من الماء عشر درجات، ولكن عشرة سعرات من الحرارة ترفع درجة جرام واحد من النحاس 111 درجة. والنحاس له حرارة نوعية منخفضة ومساوية 0,09 بالمقارنة مع الحرارة النوعية للماء التي تساوي 1.
2
لقد بنت شعوب ما قبل التاريخ الأولى مساكن مؤقتة من المواد نفسها التي كانوا يستخدمونها للملابس. وكانت المواد الأكثر شيوعا هي الجلود الحيوانية والفراء والصوف والمنتجات ذات الصلة النباتية مثل القصب والكتان أو القش، ولكن عمرها كان محدودا. وفي وقت لاحق - وبسبب نمط الحياة المستقرة وتنمية الزراعة - كانوا بحاجة إلى مواد أكثر دواما للإسكان، مثل الحجر والخشب والأرض. وقد بنيت كل من المنازل ومساكن الكهوف - في الوقت نفسه - من الطين، ويبدو أنها كانت شعبية جدا بسبب فوائدها الكامنة. وكان تنفيذها رخيصا، وأرضها توفر حماية ممتازة ضد الحيوانات البرية والحرائق، وخلال فترات القتال. وبالإضافة إلى ذلك تستخدم البيوت الأرضية التربة باعتبارها بطانة عازلة رائعة؛ نظرا لارتفاع كثافة الأرض، وداخل درجة الحرارة يتغير ببطء شديد. وتسمى هذه الظاهرة تأخر الحرارية
Thermal Lag ، وهذا هو السبب في أن تغطية الأرضيات بالطين يحافظ على الحرارة الداخلية في فصل الشتاء والباردة في الصيف.
3
فيما يتعلق بتبريد الأبنية وعزلها عن الحرارة الخارجية، لا بد لنا بداية من التعرف على ما يسمى علميا بالكتلة الحرارية
Thermal Mass ، والذي يقصد به قدرة المادة على امتصاص وتخزين الطاقة الحرارية.
4
وقد أدرك المعماريون في المدن الإسلامية - خصوصا تلك الواقعة في الصحراء - مفهوم الكتلة الحرارية من خلال الخبرة والتجربة، فكان منهم أن بنوا منشآت باستخدام مواد ثقيلة وذات كثافة عالية بحيث يمكنها امتصاص كمية كبيرة من حرارة أشعة الشمس أثناء النهار. ومن هذه المواد الطين والحجارة، حيث إن لها كتلة حرارية كبيرة؛ ولذلك فإن الجدران والأسقف التي تبنى منها تحتفظ بالحرارة، والتي تتراكم في كل منها خلال النهار. ومع حلول الظلام يأخذ الجو بالبرودة، فتبث الجدران والأسقف عندها الحرارة داخل المبنى. ومع حلول الصباح تكون الجدران والأسقف قد بردت من الخارج، واحتفظت بقدر كاف من البرودة في مكوناتها؛ ولذلك عندما تشتد الحرارة نهارا فإن هذه الجدران والأسقف تساعد على تبريد داخل المباني، فلا يشعر الناس فيها بالحرارة.
5
العزل الحراري الذي كان يستخدم للوقاية أيضا من حرارة الجو صيفا؛ وقد كانت تستخدم عدة مواد في الأبنية قديما من أجل هذا الغرض حسب المتوفر من البيئة المحيطة. وحتى تنجح عملية العزل لا بد من استخدام مواد تتمتع بكفاءة بوظيفتها في الوقاية من الحر والبرد، إضافة إلى عنصر السماكة وأسلوب البناء الذي يجب أن يتناسب مع الخصائص الفيزيائية من ناقلية ومقاومة وإنفاذية حرارية وعاكسة للضوء.
6
المبحث الأول: الآجر
عرف الآجر في مملكة ماري عام 1750ق.م. وقد كان البيت المستدير الأحمر يبنى من الآجر
Briquette .
7
والآجر يتكون من الغضار المقولب. وتعد صناعة الآجر من أقدم صناعات مواد البناء المعروفة؛ فقد كان الطين يوضع في القالب ويجفف في الشمس، ثم بدأت عملية شي الغضار لصنع الآجر على يد البابليين الذين استخدموه بشكل واسع في أعمال بناء قصورهم ومعابدهم وبرج بابل الشهير.
8
كما استخدم الآجر في العمارة الإسلامية خصوصا في مصر والعراق وإيران وبلاد المغرب العربي؛ نظرا لقلة الحجارة والخشب، ويعرف الآجر في العراق باسم «الطابوق»، وفي مصر باسم «الطوب الأحمر»، ويستفاد من خاصيته في العزل الحراري لداخل المبنى عندما يبنى بسمك كبير.
9
المبحث الثاني: الطين
يتكون الطين من تراب وماء يضاف له بعض الألياف النباتية (تبن أو قش مقطع) التي تجعل من المزيج أكثر تماسكا. ويكاد يقتصر استخدام الطين على المناطق الجافة التي تقل فيها الأمطار الغزيرة، وفي حال نزل المطر فقد كان القار يستخدم لحماية المنشأة من التلف. وقد استخدم الطين في البناء نظرا لخصائصه الممتازة في العزل الحراري؛ فقد انتشر في حضارات بلاد ما بين النهرين وعند المصريين القدماء والرومان. ويعتبر المسجد النبوي الشريف من أوائل المباني الإسلامية التي استعمل في بناء جدرانها الطوب المصنوع من الطين.
10
المسجد، كما نعلم، دار للعبادة والسكينة، فلا بد أن تتوفر فيها شروط التهوية الجيدة والعزل الحراري المريح طوال فترة الاعتكاف، وقد قام الباحث السوري أحمد كمال جطل بإجراء دراسة نظرية لعملية العزل الحراري والتهوية في بناء المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، والتي يطلق عليها اسم «نظام التبريد السلبي»، وخلص إلى النتائج الآتية:
11 (1)
استخدم الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
ما توفر من مواد في البيئة المحيطة. (2)
استخدم النبي
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة نظم للتبريد السلبي من أجل تهوية وتلطيف أجواء المسجد. (3)
جمع المسجد في تصميمه بين البساطة والعزل الحراري والتكلفة القليلة والمردود المرتفع. (4)
صنعت الزيادة في حجم الجدران المتناسبة - مع زيادة مساحة المسجد وكمية الحرارة المختزنة في الجدران - توازنا حراريا رائعا، كما أن هذه الزيادة أدت إلى وقاية الجدران من التصدع والانهيار. (5)
ساهم تظليل المسجد في تلطيف أجواء المسجد من خلال صنعه لتيارات الهواء، إضافة لفتح أربعة طيقان للمظلل الشمالي. (6)
التوزيع الذكي لجهة الأبواب كان فعالا في عملية التهوية، حيث مثل البابان الغربي والشمالي منبعين للهواء، في حين كان الثالث مصرفا له.
شكل مبسط يمثل دورة الهواء في النهار في المسجد النبوي، ويلاحظ أن الرياح الغربية هي المسيطرة (مصدر الشكل: جطل، أحمد كمال، نظام التبريد السلبي الذي استخدمه النبي
صلى الله عليه وسلم
في بناء مسجده في المدينة المنورة، ص35).
وتشتهر مدينة حران التاريخية، في محافظة شانلي أورفة جنوب شرقي تركيا، ببيوتها المخروطية الشكل، والتي يتراوح ارتفاعها بين خمسة وستة أمتار. السقف مخروطي الشكل، وهو مصنوع من القش الجاودار على إطار خشبي، ولا يوجد فيها مدخنة، وهي بهذا الشكل تسمح للمنزل بالبرودة صيفا والدفء شتاء.
12
ولحسن الحظ فإن طوب التربة المجفف في الشمس هو من أسوأ موصلات الحرارة. ويرجع هذا الجزء منه إلى الانخفاض البالغ في قدرته على التوصيل طبيعيا (0,22 كالوري/دقيقة/سم المربع/ لوحدة سمك الطوب المصنوع بعشرين في المائة من الرمل الناعم، و0,32 كالوري/دقيقة/سم المربع/لوحدة سمك الطوب المصنوع بثمانين في المائة من الرمل الخشن، وهذا مقابل 0,48 للطوب المحروق، و0,8 لبلوكات الأسمنت المجوفة)، كما يرجع في جزء آخر إلى ضعف الطين مما يستلزم أن تكون جدرانه سميكة، وبيوت الطوب اللبن في مصر العليا تبقى فعلا مبردة إلى حد ملحوظ لمعظم اليوم، وقد ثبت في كوم أمبو أن المنازل الأسمنتية التي بنتها شركة السكر لموظفيها هي أسخن من أن يعيش المرء فيها صيفا، وهي بالغة البرودة شتاء، وهكذا فضل الموظفون أن يعيشوا في بيوت الفلاحين الطينية.
13
تنخفض قيمة الكتلة الحرارية في المساكن الطينية ذات القباب، ومثل هذه الأبنية ما تزال موجودة حتى الآن في مدينة حران (إلى اليمين) وبعض القرى الواقعة جنوب مدينة حلب في سوريا (إلى اليسار) (مصدر الصورة والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص39).
تعود المنازل في قرية سكارا براي إلى العصر الحجري الحديث (أوركني إسلاند، اسكتلندا)، وهي أقدم المنازل - حوالي 5000 سنة - المسقوفة بالطين في العالم. ولكن يمكننا أن نعثر على مبان مماثلة في المناخ البارد مثل الدول الاسكندنافية، وأيسلندا، وروسيا، وغرينلاند وألاسكا (مصدر الصورة والتعليق:
Bozsaky, Dávid, The Historical Development of Thermal Insulation Materials, pp. 49-50 ).
ففي بلاد الرافدين كانت تكثر زراعة القمح والشعير، وكان ينتج عن عملية فصل حبات القمح عن التبن الكثير من القش، فكان يؤخذ ويمزج مع الماء والطين ويصنع منه قطع كبيرة أو صغيرة من اللبن الذي يرص بجوار بعضه لصنع الجدران، أما السقوف فقد كانت تدعم بجذوع أشجار الحور نظرا لخصائصه في العزل والمتانة.
14
لجأ المعماريون المسلمون في شمال إفريقية (مثل تونس) إلى تصميم المباني ذات الكتل الطينية ذات القباب؛ وذلك للمحافظة على درجات الحرارة المعتدلة داخل المبنى بشكل ثابت (مصدر الصورة والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص37).
ويبدو أن خلطة الطين والقش لم تكن معروفة بالنسبة للأوروبيين إلا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حيث كان الأوروبيون الشماليون يقومون ببناء منازلهم من القش، مع بناء سقف من القش السميك بطول 60-80سم، وغالبا ما كانت الجدران مصنوعة من الطين والقش. وقد وفرت الألياف الجافة المجوفة من القش والقصب مستوى ممتازا من العزل الحراري؛ لذلك انتشرت المنازل المسقوفة بالقش بسرعة، خصوصا في الأجزاء الشمالية من أوروبا وأمريكا.
15
في بعض البلدان العربية، مثل مدينة مطماطة في تونس، تمت مواجهة التفاوت الكبير في درجات الحرارة بين الليل والنهار من خلال بناء البيوت تحت سطح الأرض؛ حيث تعمل التربة كمستودع كبير للكتلة الحرارية؛ الأمر الذي يجعل درجات الحرارة داخل هذه المنازل منتظما وثابتا طوال ساعات الليل والنهار، تماما كما هو الحال في داخل الكهوف. للأسف هذه المدينة تواجه خطر الإهمال والتدمير بسبب عدم العناية بها وعدم دعم صيانتها من قبل الحكومة (مصدر الصورة والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص39).
المبحث الثالث: الفلين
يشكل الفلين لحاء شجرة البلوط، وتنتشر زراعته في محيط البحر الأبيض المتوسط، وقد استخدمته البشرية منذ أقدم العصور؛ فقد عثر على سدادات وصنادل وطوافات فلينية في المواقع الأثرية المصرية القديمة. وربما كان اليونانيون والرومان أول من استخدم الفلين في البناء بوصفه مادة عازلة.
16
قبل أن يستخدم الفلين الطبيعي في عمليات العزل الحراري كتب بليني الأكبر
The elder Pliny (توفي 79م) عن الفلين في كتابه عن التاريخ الطبيعي؛ فقد كان يستخدم في البداية لأغراض طفو شباك الصيد، كما استخدم في صناعة الصنادل الشتوية للنساء حتى يحافظوا على أقدامهم دافئة، وسترات النجاة في البحار. ربما عرف الفلين قبل بليني بوقت طويل (500 أو 1000 سنة قبل الميلاد).
17
أبرز مثال على مدن الطين مدينة شبام الواقعة في محافظة حضرموت في شرق اليمن، والتي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر، وسميت «مانهاتن الصحراء» لمبانيها الطينية الشاهقة المنبثقة من الصخور. وقد أضافتها اليونسكو في يوليو/تموز 2015م إلى قائمة مواقع التراث العالمي المعرض للخطر، وتعد أحد أقدم النماذج التي تمثل إبداعا إنسانيا عربيا نابعا من الفطرة، استطاع أن يحول قبضة من طين الأرض إلى منازل تحمل بين جدرانها قيم الحياة البسيطة والجميلة (مصدر الصورة والتعليق: موقع
http://www.huffpostarabi.com ).
ويذكر بليني أيضا أن الرومان استخدموا الفلين لعزل الأسطح. ويبدو أن الرهبان في العصور الوسطى في إسبانيا والبرتغال قد بطنوا الجدران الداخلية في أديرتهم بالفلين. كما صنعت بعض القبائل الأصلية في شمال إفريقية مزيجا خاصا من الطين ولحاء الفلين لبناء جدران مساكنهم.
18
فإذا علمنا أن شجرة البلوط تنمو بكثرة في البرتغال وإسبانيا والجزائر وتونس، فإن هذا يعني أن مادة الفلين كانت معروفة بالنسبة للعرب والمسلمين، وقد استخدموها في أعمال العزل الحراري في منازلهم.
استخدم الفلين في البداية من أجل خواصه في الطفو على سطح الماء، حيث كان يربط مع الشباك أو مراسي السفن (مصدر الصورة:
Thomas,
).
المبحث الرابع: الحجر
لقد تمكن المعماري العربي من التلاعب في هندسة البيئة التي يعيش فيها؛ وذلك ليتغلب على الظروف القاسية التي تمر بها منطقته، وخصوصا التبدلات الحرارية التي تظهر تباينا واضحا بين الليل والنهار والصيف والشتاء، وهو ما جعله ينتقل من بيوت الشعر البدوية إلى بيوت الطين القروية، ثم إلى المنازل الحجرية ذات الثخانة العازلة لهذا التباين الحراري.
فلو أردنا تحليل البناء لوجدنا أنه قد اختار الشكل الذي يسمح له بالتغلب على الإشعاع الشمسي والناقلية الحرارية؛ ومن ثم كان اختياره للجدران الثخينة، وفيها فتحات تعلوها قبة مصنوعة من حجارة مكسوة بخليط من التراب والتبن. هذا الشكل الهندسي من شأنه أن يزيد من زاوية ورود أشعة الشمس صيفا ويقللها شتاء، وعليه فإن الطاقة التي تمتصها وحدة المساحة صيفا تقل فلا يسخن المنزل، وتزداد شتاء فلا يبرد المنزل كثيرا. إضافة لذلك فإن المواد التي تدخل في تركيب الجدران تمنع انتقال الحرارة إلى داخل المنزل بالتوصيل؛ لذلك يصبح المنزل معزولا حراريا في مختلف الأوقات والأزمان، فقد صنع مناخا خاصا يدعى بالمناخ تحت المحلي.
19
طريقة العزل السابقة تصلح في المناطق الحرارية المعتدلة والجافة (بلاد الشام والعراق)، أما في المناطق الصحراوية الشديدة الحرارة (مثل الصحراء الكبرى في ليبيا)، فإن إجراءات العزل تبدو مختلفة؛ وذلك لأن «طبيعة الصحراء قد فرضت تأثيرا فيزيائيا كبيرا على العناصر الرئيسة المكونة للكتلة المعمارية كوحدة متكاملة كالملمس والشكل العام للكتلة ونوعية مواد البناء، وكذا على المكونات الداخلية الرئيسة والمكملة للفراغ الداخلي لمباني الصحراء.»
20
وقد كانت معظم جدران المنازل في مدن العالم الإسلامي تبنى من الحجر الكلسي بسماكة 50سم أو أكثر، ونظرا للون الفاتح للحجارة فإنها تعكس جزءا كبيرا من الإشعاع الشمسي الساقط عليها، ونظرا لكون الحجر الكلسي ذا سعة حرارية عالية، حيث إن كثافته كبيرة تصل إلى 1920كج/م
3 ، فإن هذا يجعل زمن النفاذ الحراري من خلاله يصل إلى خمس عشرة ساعة؛ وبالتالي فإن الحرارة الخارجية ستأخذ وقتا طويلا حتى تصل لداخل المبنى .
21
وبذلك تصبح درجة الحرارة داخل المبنى أقل كثيرا مقارنة بخارجه، وهذه ميزة جيدة جدا في العزل الحراري.
وقد خصص ابن خلدون (توفي 808ه/1406م) حديثا مطولا عن البناء وما يلحقه في تاريخه، حيث تناول مواد البناء وطرائق صنعها وأبعادها وتركيبها، ومن بينها الطوب الطيني والخشب والحجارة.
قال ابن خلدون: «هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري وأقدمها، وهي معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل للسكن والمأوى للأبدان في المدن؛ وذلك أن الإنسان لما جبل عليه من الفكر في عواقب أحواله، لا بد أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر والبرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف والحيطان، ويؤسس جدرانها بالحجارة، ويلحم بينها بالكلس، ويعالي عليها بالأصبغة والجص، ويبالغ في كل ذلك بالتنجيد والتنميق إظهارا للبسطة بالعناية في شأن المأوى. ثم هي تتنوع أنواعا كثيرة؛ فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقا بعضها إلى بعض بالطين والكلس الذي يعقد معها ويلتحم كأنها جسم واحد، ومنها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان يتخذ لها لوحان من الخشب فقدران طولا وعرضا باختلاف العادات في التقدير. أوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس، وقد يوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس ويوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال والجدر. يسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين، ثم يوضع فيه التراب مخلطا بالكلس ويركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه ويختلط أجزاؤه بالكلس، ثم يزاد التراب ثانيا وثالثا إلى أن يمتلئ ذلك الخلاء بين اللوحين وقد تداخلت أجزاء الكلس والتراب وصارت جسما واحدا، ثم يعاد نصب اللوحين على صورة ويركز كذلك إلى أن يتم وينظم الألواح كلها سطرا من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحما كأنه قطعة واحدة، ويسمى الطابية، وصانعه الطواب. ومن صنائع البناء أيضا أن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء ويخمر أسبوعا أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط، وذلك إلى أن يلتحم. ومن صنائع البناء عمل السقف بأن يمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت، ومن فوقها الألواح كذلك موصولة بالدسائر، ويصب عليها التراب والكلس ويبسط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها وتلتحم ويعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط.»
22
لا يشترط أن يستخدم الحجر الكلسي فقط، وإنما استخدم الحجر البركاني أيضا، وهو حجر يطحن ويخلط ببعض المواد الأخرى، كالأسمنت، ويستخدم في العزل الحراري. دخل الحجر البركاني العمارة العربية الإسلامية في دمشق في العهد المملوكي والعثماني.
23
المبحث الخامس: الشعر والجلد
قد نتساءل كيف استطاع أهل البادية حماية أنفسهم من لفح الحر في الصحاري أو البوادي التي عاشوا فيها. بمعنى آخر، ما الإجراءات والمواد التي كانوا يستخدمونها للحصول على التبريد الذي يبقيهم على قيد الحياة؟
في الواقع استخدم البدو عدة مواد عازلة حراريا من البيئة التي كانوا يعيشون فيها؛ فقد اعتمدوا في صناعة مساكنهم على الصوف لصنع الأخبية والخيام والمظلات وبيوت الشعر.
24
وقد ورد عن ابن الكلبي تصنيفه للبيوت عند العرب إلى ستة أنواع: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وأقنة من حجر.
25
ونلاحظ اعتماد أربعة منها على شعر أو جلد الحيوانات من خراف أو ماعز أو إبل أو بقر؛ فالشعر يغزل وتنسج منه الخيام، ويسمى بعضها بالبجاد «إذا غزل الصوف يسرة ونسج بالصيصة».
26
والصيصة هي إبرة الحائك التي يجمع بها بين السداة واللحمة. وقد تصنع من الجلود أو الأدم لكون الجلد يقاوم الحرارة الخارجية ويمنع تغلغل البرد.
الترتيب السابق الذي ذكره ابن الكلبي للبيوت بدأه من الأكبر إلى الأصغر من حيث الحجم والمساحة، مع اختلاف المادة العازلة وحسب الوضع الاجتماعي للشخص؛ فالميسورون وأصحاب الوجاهة كانوا يبنون لأنفسهم قبابا من الجلد.
ويذكر لنا الباحث جواد علي تفاصيل أكثر عن بيوت العرب واستخداماتها:
27 (1)
السرادق: كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء. وقيل: كل بيت من «كرسف» فهو سرادق. وترد اللفظة في الفارسية بمعنى حائط أو حاجز من نسج غليظ حول خيمة. (2)
المضرب: هو الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك. وقد استعمل للملوك خاصة، لأصحاب الجاه والعز والمكانة. (3)
المظلة: وهي الكبير من الأخبية ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثا، وربما كان لها كفاء وهو مؤخرها. قال بعض علماء اللغة: إنها تكون من الشعر. وقال بعض آخر: لا تكون إلا من الثياب. (4)
الخباء: ويصنع من شعر أو صوف، وهو دون المظلة. وهو من بيوت الأعراب. ويذكر أهل الأخبار أن العرب كانت تضرب الأخبية لأنفسها، والمضارب لملوكها، والمضارب إنما ترتبط بالأوتاد. وذكر أن الخباء هو ما كان من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. (5)
الطراف: خباء من أدم يتخذه الأغنياء. و«الطوارف» من الخباء ما رفعت من جوانبه ونواحيه للنظر إلى خارج. (6)
القباب الحمر: تصنع من أدم، حيث يأوي إليها أصحاب الجاه واليسار والمشهورون. وقد ذكر أن النابغة الذبياني كان يضرب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وقيل: إن بيت الأدم، قبة الملك، يجتمع فيها كل ضرب، يأكلون الطعام.
لقد استطاع البدو الرحل التحايل على آثار الكتلة الحرارية من خلال صنع نسيج سميك من مادة عازلة طبيعية، بحيث تساعدهم على الحماية من أشعة الشمس المباشرة؛ مما يعني تبريد الهواء داخل الخيمة عن طريق التهوية الطبيعية (مصدر الصورتين والتعليق: جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ص39).
المبحث السادس: الخشب
الخشب مادة خلوية ليفية صلبة مسترطبة وقابلة للتشكل بسهولة، وهي تؤلف الجزء الأكبر من ساق الشجرة. وقد استخدم الخشب في الأبنية لخصائصه العازلة حراريا ولطول خدمته؛ إذ يدوم الخشب الموجود في الهواء الجاف أو تحت المطر من قرن حتى قرنين كاملين.
28
لكل جزء من أجزاء بيت الشعر عند العرب اسم، ما يهمنا هنا هو أن النسيج العازل للحرارة كان يصنع من شعر الماعز أو وبر الجمال أو من جلودها (مصدر الصورة: إنغام، بروس، قبيلة الظفير دراسة تاريخية لغوية مقارنة ، ترجمة وتعليق عطية بن كريم الظفيري، مرايا، الرياض، 1995م، ص113).
ونظرا لقلة وجود غابات الخشب في معظم أراضي العالم الإسلامي، فقد تم الاستفادة منها في صنع الأسقف الأفقية المستوية، واستخدم في صنع بعض القباب مثل قبة الصخرة في القدس، والتي تم تشكيلها من طبقتين من الخشب؛ تم تلبيس الخارجية منها بصفائح معدنية تعكس إشعاع الشمس بحيث إنها تحمي الداخلية الموشاة بأجمل النقوش والألوان، كما تم إيجاد فراغ هوائي بين هاتين الطبقتين من أجل التهوية. أيضا استخدم السقف الخشبي المزودج في قصر الأمير بشتاك في القاهرة الذي يعود لعام 1334م، وقد وضع بين الطبقتين أوان فخارية بهدف تخفيف الحمل الحراري والإنشائي على المبنى والفراغات التي في أسفله.
29
الملاحق
ملحق (1): تحقيق رسالة ابن المجدي
تحفة الأحباب في نصب الباذاهنج والمحراب
وصلت إلينا بعض المخطوطات التي توثق لكيفية إرجاء الحسابات الدقيقة لتحديد موقع الملقف من المبنى بحيث يواجه الرياح. من هذه المخطوطات رسالة صغيرة بعنوان «تحفة الأحباب في نصب الباذاهنج والمحراب» لمؤلفها ابن المجدي شهاب الدين أبي العباس أحمد بن رجب بن طيبغا القاهري الشافعي (767-850ه/1365-1447م).
ولد ابن المجدي بالقاهرة ونشأ بها، وينسب إلى جده طيبغا أحد مقدمي الألوف في الجيش، فهو سليل عائلة ذات سلطة وجاه. يصف الشوكاني في «البدر الطالع» والسخاوي في كتابيه «الضوء اللامع» و«التبر المسبوك» تكوينه العلمي فيقول إنه: «حفظ القرآن وبعض المنهاج، ثم جميع الحاوي، وألفية النحو وغير ذلك، وتفقه بالبلقيني وابن الملقن والكمال الدميري والشرف موسى بن البابا، وبه انتفع في الحاوي لمزيد تقدمه فيه، والشمس العراقي، وعنه أخذ الفرائض وغيرها، وكذا أخذ الفرائض والحساب عن التقي ابن عز الدين الحنبلي، والعربية عن الشمس العجيمي، وقيد عنه شرحا على الشذور، وكان يخبر أنه سمع الموطأ رواية عن يحيى بن أعلى المحيوي عبد الوهاب بن محمد القروي السكندري، ولازم الاشتغال والأخذ عن مشايخ عصره.» فقد جمعت ثقافته بين الدين والأدب والعلوم الأساسية والفلكية، هذا التنوع العلمي الذي اكتسبه ابن المجدي من كبار أساتذة عصره، صقل ذاكرته بعلوم مختلفة؛ مما مهد له لتصنيف عشرات المؤلفات في موضوعات متنوعة، وأتاح له تبوؤ مكانة مرموقة في مجتمعه. احتل ابن المجدي مكانة مرموقة في عصره؛ فقد أشار المؤرخون إلى أنه كان «رأس الناس في أنواع الحساب والهندسة والهيئة والفرائض وعلم الوقت بلا منازع، وانتدب للأمراء، فانتفع به الفضلاء، وبقي جل الأعيان من ملازميه.» وكان حجة في التدريس وقراءة أهم المؤلفات، ودرس على يديه نخبة من طالبي العلم، فيقول السخاوي في «التبر المسبوك»: «ومما أقرأه «الحاوي الصغير»، وكان مشهورا بإجادة إقرائه لما اشتمل عليه من الذكاء المفرط بحيث كان أحد أفراد معدودين في ذلك، وكذا أقرأ العربية وغيرها من العلوم.» ولمكانته العلمية المتميزة ولي مشيخة الجانبكية الدوادارية، واستمر بها حتى وفاته بالقاهرة. تميز ابن المجدي بغزارة إنتاجه العلمي في مجالات الفلك وآلاته والميقات والرياضيات والفرائض، وفي العلوم الدينية والأدبية؛ فقد وضع مؤلفاته كلها «مع الديانة والأمانة والثقة والتواضع والسكون والسمت الحسن وإيراد النكتة والنادرة والظرف»، كما وصفه السخاوي في «التبر المسبوك». ومن مؤلفاته «إرشاد الحائر إلى تخطيط فضل الدائر»، وهي رسالة على ثلاثة أقسام وخاتمة في مجال علم الهيئة، وقد لخصها المؤلف باسم «زاد المسافر في معرفة رسم فضل الدائر على البسائط والقائمات والمائلات»؛ و«الدر اليتيم في تسهيل صناعة التقويم»، يصفه المؤرخون بعبارة «نفيس في بابه» فقط، وقد وضع الشيخ سليمان بن حمزة بن بخشيش العثماني الفلكي الحنفي شرحا له بعنوان «طرز الغرر في حل الدرر». وله رسالة «كشف الحقائق في حساب الدرج والدقائق» مؤلفة من بابين وخاتمة تعالج موضوع النسبة الستينية، وقد شرحها محمد بن شمس الدين سبط المارديني المؤقت في مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة، وأسماها «دقائق الحقائق في حساب الدرج والدقائق»؛ ورسالة في العمل بالربع الموسوم بالمقنطرات، ورتبها على مقدمة وعشرة فصول، وخصصها للمبتدئين لمعرفة العمل بالربع، والذي يعد من الآلات الفلكية المستخدمة في الرصد، وشرحها الرشيدي. وله كتاب «كنز اليواقيت في الكشف عن أصول المواقيت»، وهو مرتب على مقدمة وخمس مقالات، وضعه ابن المجدي تعليقا على رسالة الشيخ الإمام أبي العباس أحمد السراج القلاني الحلبي، و«الجامع المفيد في الكشف عن أصول مسائل التقويم والمواليد» عرضه ابن المجدي في مقدمة وثلاث مقالات وخاتمة، و«التسهيل والتقريب في بيان طرق الحل والتركيب» في علم الهيئة، وهو أصل كتاب «سلك الدرين في حل النيرين»، و«إرشاد السائل إلى أصول المسائل» (في الفلك)، وهو شرح على «الدر المنثور في العمل بالربع الدستور» لجمال الدين المارديني، و«حاوي اللباب وشرح وتلخيص الحساب لابن البنا»؛ والكتاب مرتب على جزأين، وهو شرح «تلخيص الحساب» لأبي العباس أحمد البناء، فرغ ابن المجدي من تأليفه سنة 834ه، ورسالة «الروض الأزهر في العمل بالربع المستر»، وهي مختصرة في العمل بربع المقنطرات المطوية المقطوعة على مدار الاعتدال، ورتبها على مقدمة وعشرة أبواب، وكتاب «إبراز لطائف الغوامض وإحراز صناعة الفرائض»، وهو اختصار لكتاب «الكافي في مواريث الأمة» لابن المجدي نفسه، ورسالة «العشرة فصول» وهي في الحساب، رتبها على مقدمة وعشرة فصول، وشرح هذه الرسالة الشيخ يونس بن عبد القادر بن أحمد الرشيدي الشافعي باسم «غاية السول في شرح العشرة فصول»، وشرحها الشيخ محمد بن أبي عياشة الدمنهوري من علماء القرن الثالث عشر، و«غنية الفهيم في الطريق إلى حل التقويم» رتبها على ثلاثة أبواب، ووردت باسم «اللمعة في تقويم السبعة»، وكتاب «تحفة الأحباب في نصب الباذاهنج والمحراب في جميع البلاد والأقطار»، وهو مخطوط يهتم بتحديد اتجاه القبلة، و«شرح نظم اللآلئ في الفرائض» لصالح بن تيمور الجعبري (1223-1306م)،
1 (1) نسبة الكتاب للمؤلف
ورد في إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، إسماعيل البغدادي (توفي 1399ه)، ج3، ص238، اعتنى بطبعه محمد شرف الدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت (د. ت).
هدية العارفين، إسماعيل باشا البغدادي، ج1، ص128.
2
قمنا بتحقيق الرسالة على نسختين: نسخة دار الكتب المصرية، فلك، ونسخة دير الإسكوريال، إسبانيا (رقم: 970 أ. س).
تاريخ نسخ الرسالة الثانية 15 / 8 / 919ه، الموافق 15 / 10 / 1513م؛ أي بعد 66 سنة من وفاة المؤلف.
رمزنا لنسخة دار الكتب المصرية «م»، ورمزنا لنسخة دير الإسكوريال «س». (2) رسالة تحفة الأحباب في نصب البادهنج والمحراب من كلام للشيخ ابن المجدي
بسم الله الرحمن الرحيم
3
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الشيخ شهاب الدين أحمد بن المجدي، قدس الله روحه ونور ضريحه.
4
الحمد لله على نعمائه وأفضاله، والصلاة والسلام على سيدنا
5
محمد أشرف خلقه
6
وآله وصحبه أجمعين.
7
وبعد، فهذه رسالة لطيفة سميتها بتحفة الأحباب في نصب الباذاهنج
8
والمحراب، نذكر ذلك في عرض مخصوص ويقاس عليه غيره، فنقول: اعلم أن سمت القبلة بمدينة مصر حماها الله تعالى على (لز)
9
درجة وسمت الباذاهنج
10 (كرل)
11
كل
12
منهما في الربع الشرقي الجنوبي، فإذا استخرجت الجهات في الدائرة المرسومة في سطح الأفق وأبعدت عن نقطة المشرق على المحيط في جهة الجنوب بقدر
13
السمتين، وعلمت في المحيط علامة، وأخرجت
14 / منها إلى المركز خطا ونفذته إلى الجهة الأخرى، حصل سمت القبلة أو الباذاهنج،
15
وطرفه الذي يلي المشرق هو جهة القبلة، ثم ربع سمت الباذاهنج
16
يحصل تربيعه، وكذا تصنع في غيرهما من السموت للقبلة أو لسمت أي بلد شئت إذا كان معلوما. والطريق الصناعي في إخراج كل من السمتين هو أن تتخذ جسما صلبا
17
من كدان أو رخام
18
أو نحو ذلك مستوي السطح الذي يرسم
19
عليه، ويعرف ذلك بوضع حرف المسطرة الصحيحة فينطبق عليه في جميع الجهات، ثم تضع ذلك السطح على الأرض في موضع يمكن وقوع شعاع الشمس عليه وقت الحاجة. وينبغي أن ترفعه
20
ببنيان وتضعه مغرقا في الطين أو الجبس، وينبغي أن يكون السطح حينئذ موازيا للأفق. ويعرف ذلك بأن تصب
21
في وسطه ماء، فإن خرج من جميع الجوانب متساويا فهو صحيح، وإلا فيرفع المنحدر بإدخال شيء تحته، أو يدق على الأعلى بحسب الإمكان قبل جفاف الطين أو أخذ الجبس، فإذا تحرر ذلك فضع سطح المسطرة الصحيحة على وجه السطح، وضع على سطحها شلفة لتزن السطح من جميع جوانبه، وهو أن تدير المسطرة والشلفة فوقها نصف دورة وتنظر إلى خيط الشلفة، ويدق
22
على الموضع المرتفع؛
23
أعني الجهة التي خرج الخيط عنها دقا لطيفا إلى أن يعتدل له ذلك الموضع من السطح، ثم انقل المسطرة إلى موضع آخر من السطح،
24
وافعل كذلك إلى يتحرر جميع السطح جهد الإمكان، وينبغي أن يحمر وجه السطح بمغرة أو نحوها لتظهر فيه الخطوط بسرعة، ثم افتح البركار فتحة ستينية من الربع وأدر في وسط ذلك
25
السطح دائرة، وعلم مركزها، ثم خذ ارتفاع الوقت واعرف سمته من جداول السمت وعدله بفضل ما بين الارتفاعين إن كان فيه كسر، وينبغي أن تحصل ذلك بعد أن تزيد على الارتفاع درجة، أو ما يتم به الكسر إلى الصحيح إن كان شرقيا وينقص
26
منه إن كان غربيا فهو أبلغ إلى التحرير، وكذا تعدد الأخذين للارتفاع، فإذا بلغ الارتفاع إلى ذلك القدر فهو السمت المطلوب. نساتر حينئذ بظل
27 /خيط الشاقول مركز الدائرة ومحيطها، وعلم على المحيط علامة مما على جهة الشمس وسمها بالعلامة الأولى، ثم اعرف جهة السمت الذي خرج لك، وهو أن الدرجات الجنوبية سمتها جنوبي، وكذلك الشمالية إن كان ارتفاع الوقت أكثر من الارتفاع الذي لا سمت له وإلا فشمال. ومعرفة الارتفاع الذي لا سمت له من جداول السمت هو أن تفتح صفحة من صفحات تلك الجداول وتمر من درجة الشمس تحت برجها، فإن وقع انتقال السمت في ذلك البيت، أعني انتقاله من النقص إلى الزيادة، وهو الذي مكتوب عليه علامة الجنوب غالبا، فما فوق تلك الصفيحة من عدد الارتفاع هو الارتفاع الذي لا سمت له، وإلا فخذ الصفيحة التي قبل تلك إن وقع الانتقال أسفل، والذي بعدها إن وقع فوق، وهكذا إلى أن تجد المطلوب، هذا إذا
28
كانت علامة الانتقال في سطر الدرجة المفروضة طولا، وإلا فخذ الصفحة التي بعدها
29
إن وقعت عن يمينك، وإلا التي قبلها وكمل العمل إلى آخره، فإذا عرفت جهة السمت فاجمعه إلى سمت القبلة أو الباذاهنج
30
إن كان شماليا، وإلا فخذ الفضل هذا في الشرقي وفي الغربي بالعكس، فإن زاد المجموع على «ص» في الغربي فخذ تمام الزائد، فما حصل بعد ذلك احفظه ثم استقبل الشمس والعلامة الأولى معا، وأبعد عنها على المحيط بقدر المحفوظ إلى جهة اليسار إن كان الفضل لسمت الوقت، أو زاد المجموع على «ص» وإلا إلى جهة اليمين، وعلم علامة في المحيط ثانية وصل بينهما وبين المركز بخط مستقيم فهو سمت القبلة أو الباداهنج،
31
وطرفه الذي يلي المحيط هو جهة القبلة أو الباذاهنج،
32
إن كان سمت الوقت شرقيا، أو زاد المجموع على «ص»، وإلا فالذي يلي المركز ثم ربع سمت الباذاهنج بخط آخر يحصل تربيعه، ويعرف ذلك بأن يتقاطعا على قوائم أو تفتح
33
البركار بقدر «ص» من قوس محيط الدائرة، وضع إحدى ساقيه في تقاطع الخط الأول للدائرة، وتعلم برجله الأخرى علامتين في المحيط، وتصل بينهما بقطر يحصل المطلوب.
ومتى أبعدت عن
34
سمت
35
الباداهنج بتسع درجات ونصف في جهة اليمين حصل
36 /سمت القبلة، وإن بعدت عن سمت القبلة بذلك القدر إلى جهة اليسار حصل سمت الباذاهنج.
تنبيه: الذي يفتح من الدائرة في الباداهنج
37
هو ربع الدور وهو سبعة وعشرون ونصف في الربع الشرقي الشمالي
38
مما يلي نقطة
39
الشمالي، واثنان وستون
40
ونصف في الربع
41
الغربي الشمالي مما يلي نقطة الشمال؛ فعلى هذا إذا استقبلت سمته فإن
42
التربيع الذي تجاهك والذي عن يمينك منسدان. واعلم أن الذي يقرب من العمل من الصواب مراعاة
43
أمور منها:
أخذ السمت من الجداول الصحيحة. ومنها الزيادة على الارتفاع الشرقي والنقص من الغربي لتساتر
44
بظل خيط الشاقول حين ذلك الارتفاع. ومنها تعدد الأخذين للارتفاع في ذلك الوقت كما مر. ومنها أن تكون فتحة من قوس معلومة. ومنها أن تكون الدائرة متسعة ليظهر فيها قدر الدرجة الواحدة. ومنها أن تكون الشمس قريبة من الأفق مشرقا أو مغربا والله أعلم.
فصل، اقسم مسطحي
45
جيبي العرضين على جيبي
46
تمام عرض بلدك، وما خرج زده على ما يحصل من ضرب جيب تمام عرض البلد المطلوب سمتها في جيب تمام فضل الطولين منحطا، وما اجتمع اضربه في جيب تمام عرض بلدك منحطا يحصل جيب ارتفاع سمت تلك البلد فاعرف قوسه وتمامه، ثم اضرب جيب فضل الطولين في جيب تمام عرض البلد المطلوب سمتها واقسم الحاصل على جيب تمام الارتفاع، يحصل جيب تمام السمت قوسه، واطرحه من «ص» يبقى السمت، وجهته جنوب إن كان عرض البلد المطلوب سمتها جنوبيا، وكذا إن كان شماليا، والارتفاع أكثر من الارتفاع الذي لا سمت له، وإلا فشمال.
47
مثاله، أردنا معرفة سمت القبلة في مدينة مصر، طلبنا عرضي البلدين وطوليهما في
48 /جدول
49
عروض البلدان وأطوالهما
50
فوجدنا عرض مكة «كا» وطولها «سر»، وعرض مصر «ل» وطولها «نه»، ففضل الطولين «يب» هذا على تقدير أن يكون عرضهما وطولهما بغير كسر، وإلا فيعمل
51
بحسبه ضربنا جيب عرض بلدنا وهي «ل»، في جيب عرض مكة وهو «كا ل ح»، فحصل «ي مه د ة»،
52
قسمنا ذلك على جيب تمام عرض بلدنا وهو «نا نر مت» فخرج «يب كد نا»، حفظنا ذلك، ثم ضربنا جيب تمام عرض مكة وهو «نو ة ىد»
53
في جيب تمام فضل الطولين منحطا وهو «يخ
54
ما ك»، فحصل «ند مر كح»، جمعناه إلى المحفوظ فبلغ «سر يب ىط»، ضربناه في جيب تمام العرض منحطا فخرج «نح يب ه» وهو جيب الارتفاع قوسه «عه نو به»، تمامه «يد ح مه» جيبه «ىد لل
55
مح»، ثم ضربنا جيب فضل الطولين وهو «يب كح كط» في جيب تمام عرض مكة، فحصل «يا لج مه يب»، قسمنا
56
ذلك على جيب تمام الارتفاع فخرج «مر نه مح» وهو جيب تمام السمت قوسه يكون «نج أ ي»، تمامه «لو نح ن» وهو السمت، وقس على ذلك غيره إن شاء الله تعالى،
57
والحمد لله رب العالمين. كان الفراغ منه بتاريخ خامس عشر من شهر شعبان المكرم، سنة تسع عشرة وتسعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ملحق (2): جدول ارتفاع الشمس إذا كانت على سمت الباذهنج
58
ملحق (3): ما جاء من أشعار عربية في وصف الباذهنج
59 «قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في باذهنج مطل على البحر:
أنا نعمى من ابتهج
أنعش الروح والمهج
وعن البحر يا نسي
م حدث ولا حرج
وقال ابن سناء الملك (توفي سنة ثمان وستمائة):
وباذهنج علا علاء
ولكنه قد هوى هواء
دام عليك النسيم فيه
وكأنه يطلب الشفاء
وقال أبو الحسن عبد الكريم الأنصاري:
ونفحة باذهنج أسكرتنا
وجدت بروحها برد النعيم
أتينا من أنيق الشكل سمح
تراه مثل راووق النديم
صفا وجرى الهوى فيه رقيقا
فسميناه راووق النسيم
ومما يحسن أن ينشد على لسان الباذهنج قول بعض العرب:
إذا الريح من نحو الحبيب تبسمت
وجدت لرباها على كبدي بردا
وإني بتهباب النسيم موكل
طروب وبعض القوم يحسبني
وللشيخ برهان الدين القيراطي:
يا طيب نفحة باذهنج لم يزل
بهوائه لنفوسنا تنفيس
مغرى بجذب الريح من آفاقها
فكأنه للريح مغناطيس
وللشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة:
وباذهنج لا خلت
ديارنا من أنسه
كأنه ميتم
يلقى الهوى بنفسه
وله:
وباذهنج غدا في الجو منظر
من فوق منظره تبدو على سنن
فانظر فديتك يا محبوب رفعته
واستنشق الريح من تلقاه يا سكني
وله:
يا باذهنجي كم كذا
تعلو على بان الحمى
أبديت حمقا زائدا
رفعت رأسك للسما
وله مضمنا:
ودار حكت قصر السموءل فاغتدت
تباهي ببنيان لها وتقول
أرى باذهنجي في الهواء ارتفاعه
يعز على من راحه ويطول
وله مضمنا:
يا باذهنجي أما ترثي لذي حرق
يبدي لهيب الجوى مذبات يخفيها
عودتنا صدقات من لطيف هوى
فامنن علي بريح منك يجريها
وله مضمنا:
يا باذهنجي لا برحت من الهوى
مثلي على حب الديار مولها
داري بحبك دائما مشغوفة
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
وله:
وباذهنج تره كغصن بان ترنح
يهتز عند العطايا لأنه يتريح
وله ملغزا فيه:
وذي جناح طوله
أضعاف ما في العرض
ما جار في شرع الهوى
وحكمه إذ يقضي
ولم يطر مع كونه
بين السما والأرض
وقال أبو الفتح بن قادوس يهجوه:
لك باذهنج قلب صب له
نفس يصاعد لوعة الحرق
مات النسيم به فأجمعنا
نبكي عليه بأدمع العرق
ولصدر الدين بن عبد الحق (توفي تقريبا سنة ثمانين وسبعمائة):
في الباذهنج لا تنم
فما لمرضاه دوى
لا يأمن الشخص الذي
يسرق في الليل الهوى
ولشهاب الدين بن أبي حجلة:
وباذهنج ريحه
تضرم نيران الجوى
مدحته جهلا به
فراح مدحي في الهوى
وله مضمنا فيه:
هجا الشعراء جهلا باذهنجي
لأن نسيمه أبدا عليل
فقال الباذهنج وقد هجوه
إذا صح الهوى دعهم يقولوا
وقال شهاب الدين السنبلي المالكي (توفي سنة أربع وستين وستمائة):
وباذهنج إذا حر المصيف أتى
أهدى النسيم وقد رقت حواشيه
مصغ إلى الجو ما ناجاه فحة
إلا ونم عليه فهو واشيه
وأكثر الناس ولوعا بالباذهنج القاضي الفاضل؛ فإنه قال من رسالة: إني من مدة سنتين وما قاربهما، وهي المدة من تاريخها، فرح بهجرة وكري وعلو سعر شعري، قد نظمت مائتين وخمسين ألف بيت من الشعر بشهادة عيانها وحضور ديوانها، مثل قولي في باذهنج: شديد الحرور، كأنما يتنفس نفس مصدور؛ ما يناهز ألف بيت كل مقطوع منها يخرع العقول اختراعه، ويعفي المحاسن بديع ابتداعه.
ومثل قولي في رجل: طويل الآذان كأنهما في رأسه خفان، أو قد عجل له منهما نعلان؛ ما يقارب ألف بيت تجاوزت بهما وأوريت، وما أدخلت منها الشاعر إلى بيت.
ومثل قولي في رثاء الوطن: الذي درجت من وكره، وخرجت فلم أخرج عن ذكره؛ ما يناهز عشرة آلاف بيت، ومثل قولي:
في مدايح منصوصه
وأهاجي مخصوصه
وللشيخ برهان الدين القيراطي ملغزا فيه:
أهواؤنا المختلفة
قد أصبحت مؤتلفة
في شامخ بأنفه
على العوالي أنفه
وذي جناح لم يطر
ولك طير ألفه
جناحه طول المدى
يبدي علينا رفرفة
كم من كئيب عاشق
أهدى له مشرفه
ولا يزال مرسلا
لنجوه ملطفه
في الريح ضاع قول من
على هواه عنفه
عليله الصحيح كم
شفى قلوبا دنفة
وروحه لطيفة
وذاته منحرفة
عن قلبه الدين أرى
حب الهوى قد صرفه
ولم يكن مع الهوى
أعطافه منعطفة
هواه تحت طوعه
كيف يشاء يصرفه
كم عممت غمامة
هامته المنكشفة
ما زال غير ساكن
ساكنه مذ ألفه
وكلما لاح له
من الهواء التقفه
فنى الوليد ذاته
بذاته مؤتلفة
سكانها سميها
في الغرب يبدي حيفه
فيه تشتي عصبة
قد أصبحت مصيفة
ببدر ذو الرشد ولا
ينسبه إلى السفه
حمدت مع تبذيره
وبذله تصرفه
وكل ما أسرف في
بلد شكرنا أسرفه
ونصفه مع جبل
ملك سطاه متلفه
تصحيف ثلثيه جلت
فض حديثه الشفة
وثلثه حرفان بل
حرف فدع من حرفه
أنفاسه كم أودعت
محاسنا مستلطفة
كم رنحت من غصن
ذي قامة مهفهفة
معتلة وهو الصحي
ح عند من قد عرفه
وثوبه البيض لا
يزال يبدي صلفه
آخره مصنف
لعالم قد صنفه
وبيت سلطان غدا
يصون فيه تحفه
يكنى بسدسي لفظه
عصابة مستنكفة
وسدسه أرى السما
والأرض والماء يألفه
فاكشف معمى قلبه
فمثلكم من كشفه
نهار ذهنكم محا
من الظلام سدفه
يجري لحل المشكلا
ت لم يخف توقفه
وبحركم در وما
صادفت فيه صدفة
وللرقاب قلدت
هباتك المؤلفة
كل البرايا نكرة
وأنت فيهم معرفة
وخذ عروسا شنفت
مذ جليت مشنفة
زهير لو بان له
زهر جلاها قطفة
أغشى سناء طرفها
إذا لاح طرف طرفه
حديقة حاسدها
يرعد مثل السفعة
مصدر الصورة
http://abunawaf.com/ .
المراجع والمصادر
أولا: المراجع العربية (1)
الأحمد نكري، عبد النبي بن عبد الرسول، ج3، ط1، عرب عباراته الفارسية حسن هاني فحص، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م. (2)
أرسطو، كتاب النفس، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، ط1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1949م. (3)
الأزراري، تقي الدين أبو بكر علي بن عبد الله الحموي، خزانة الأدب وغاية الأرب، تحقيق عصام شعيتو، ط1، ج1، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1987م. (4)
ابن إسحاق، حنين، مسائل في الطب للمتعلمين، تحقيق ودراسة محمد علي أبو ريان ومرسي محمد عرب وجلال محمد موسى، دار الجامعات المصرية، القاهرة، 1978م. (5)
الأسدي، خير الدين، موسوعة حلب المقارنة، طبعة جمعية العاديات، حلب، 2009م. (6)
ابن أبي أصيبعة، أحمد، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق الدكتور نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965م. (7)
الأحمد نكري، عبد النبي بن عبد الرسول، ج1، ط1، عرب عباراته الفارسية حسن هاني فحص، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م. (8)
إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا ، ج2. (9)
إس، فان، الكلام والطبيعة عند أبي إسحاق النظام، مجلة المؤرخ العربي، العدد 19، تصدر عن الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب، بغداد، 1981م. (10)
الأعسم، عبد الأمير، المصطلح الفلسفي عند العرب، ط3، دار كيوان دمشق، دار التنوير بيروت، 2009م. (11)
آل ياسين، جعفر، الفارابي في حدوده ورسومه، عالم الكتب، ط1، بيروت، 1985م. (12)
ألف ليلة وليلة، ج1، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح، ميدان الأزهر، القاهرة (د. ت). (13)
إنغرام، وليام، التدفئة والتهوية، الموسوعة العلمية الميسرة، مجلد 2، ج2، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1983م. (14)
الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد، المواقف في علم الكلام، دار عالم الكتب، بيروت (د. ت). (15)
إيرلاند، كنث، قصة اختراع 127 اختراعا واكتشافا، ترجمة أحمد عوض الرحمون، ط1، مطبعة الكاتب العربي، دمشق،1991م. (16)
أينشتاين، ألبرت، وأنفيلد، ليوبولد، تطور الفيزياء، ط1، ترجمة علي المنذر، أكاديميا، بيروت، 1993م. (17)
الآمدي، سيف الدين، المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين، تحقيق حسن محمود الشافعي، ط 3، مكتبة وهبة، القاهرة، 1993. (18)
ابن باجة، كتاب النفس، تحقيق محمد صغير حسن المعصومي، ط 2، دار صادر، بيروت، 1992م. (19)
باركر، برتا موريس، الحرارة، ترجمة عبد الفتاح المنياوي، دار المعارف، القاهرة، 1993م. (20)
البدري، أبو البقاء، نزهة الأنام في محاسن الشام، دار الرائد العربي، بيروت، ط1، 1980م. (21)
بدوي، عبد الرحمن، أرسطو، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1943. (22)
بدوي، عبد الرحمن، الأفلاطونية المحدثة عند العرب، ط2، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977م. (23)
بدوي، عبد الرحمن، شروح على أرسطو مفقودة في اليونانية (ورسائل أخرى)، دار المشرق، بيروت، 1971م. (24)
بصمه جي، سائر، دليل المواد، ط1، دار شعاع، حلب، 2002. (25)
البغدادي، أبو البركات هبة الله بن ملكا، المعتبر في الحكمة، ط1، ج2، حيدر آباد، 1939م. (26)
البغدادي، عبد اللطيف، مقالتان في الحواس ومسائل طبيعية، تحقيق بول غليونجي وسعيد عبده، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، 1973م. (27)
البلوي، خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد، تاج المفرق في تحلية علماء المشرق. (28)
بلينوس الحكيم، سر الخليقة وصنعة الطبيعة، تحقيق أورسولا وإيسر، معهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب، حلب، 1979م. (29)
البيروني، أبو الريحان، الآثار الباقية عن القرون الخالية، نشره إدوارد سخاو، إعادة طبعة لايبسك، 1878م. (30)
بيطار، جبرائيل باسي، الدليل لمعالجة الأمراض الأنتانية، ط1، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2007م. (31)
البيطار، عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم، حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، تحقيق محمد بهجة البيطار، دار صادر، بيروت، 1993م. (32)
بيكون، فرنسيس، الأورغانون الجديد، ترجمة عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013م. (33)
تايلور، جون، عقول المستقبل، ترجمة لطفي فطيم، سلسلة عالم المعرفة، العدد 92، أغسطس/آب، تصدر عم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1985م، ص8. (34)
التبريد الصناعي، مجلة المشرق، يصدرها لويس شيخو اليسوعي، العدد 12، السنة 11، كانون الأول، بيروت، 1908م. (35)
ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، القاهرة. (36)
التفتازاني، سعد الدين، شرح المقاصد في علم الكلام، ج2، تحقيق عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، ط2، بيروت، 1998م. (37)
ابن تومرت الأندلسي، جمال الدين محمد، كنز العلوم والدر المنظوم في حقائق علم الشريعة ودقائق علم الطبيعة، تحقيق أيمن عبد الجابر البحيري، ط1، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1999م. (38)
التيفاشي، أبو العباس أحمد بن يوسف، سرور النفس بمدارك الحواس الخمس، هذبه محمد بن جلال الدين المكرم (ابن منظور)، تحقيق إحسان عباس، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980. (39)
الثعالبي، فقه اللغة وسر العربية. (40)
جابر بن حيان، مختار رسائل جابر بن حيان، عني بتصحيحها ونشرها بول كراوس، مطبعة الخانجي، القاهرة، 1935م. (41)
جاليليو جاليلي، اكتشافات وآراء جاليليو، ترجمة كمال محمد سيد وفتح الله الشيخ، ط1، دار كلمة، أبو ظبي، 2010م. (42)
الجبوري، يحيى، الملابس العربية في الشعر الجاهلي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989م. (43)
جطل، أحمد كمال، نظام التبريد السلبي الذي استخدمه النبي (ص) في بناء مسجده في المدينة المنورة، مجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد19، رجب 1418ه/نوفمبر (تشرين الثاني)، تصدر عن مركز جمعة الماجد، دبي، 1997م. (44)
جعفر، إحسان، تكييف الأجواء عند العرب، مكيف الهواء «بادهنج» ابتكره العرب قبل العالم بسنين، مجلة العربي، العدد351، الكويت، فبراير 1988م. (45)
الجلدكي، عز الدين علي بن آيدمر، البرهان في أسرار علم الميزان، ج2، مخطوطة دار الكتب المصرية، نسخة مصورة بمعهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب، رقم 48. (46)
الجلدكي، أيدمر، البرهان في أسرار علم الميزان، ج1، مخطوطة في مكتبة ويلكم، لندن، رقم
29_WMS_Arabic . (47)
جوامع الإسكندرانيين، ترجمة: حنين بن إسحاق، ج1، طبع عن مخطوطة فاتح رقم 3538 مكتبة السليمانية، إسطنبول، نشرها فؤاد سزكين، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 2001م. (48)
جونسون، وارن، المحافظة على التبريد والتدفئة في العمارة الإسلامية، ترجمة محمد عبد القادر الفقي، مجلة القافلة، العدد 8، المجلد45، ديسمبر1996م/يناير 1997م، تصدر عن شركة النفط أرامكو، الظهران. (49)
ابن حجة الحموي، تقي الدين أبو بكر بن علي، ثمرات الأوراق، ج1، مكتبة الجمهورية العربية. (50)
حسين، كامل يوسف، البارجيل ملمح فني يعكس تميز العمارة الخليجية، مجلة الفيصل، ع251-1997م. (51)
ابن حوقل، محمد، صورة الأرض، ج2، دار صادر، أفست ليدن، بيروت، 1938م. (52)
حمد، محمود الحاج قاسم، الموجز لما أضافه العرب في الطب والعلوم المتعلقة به، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1974م. (53)
ابن حموية الجويني، مقامات ابن حموية، أنستاس ماري الكرملي، مجلة المجمع العلمي العربي، الجزء 11-12، المجلد 18، تشرين2 وكانون1، دمشق، 1943م. (54)
الخريشة، خلف، وجود التماثل بين بيت الشعر وبيت الشعر، مجلة اتحاد الجامعات العربية للآداب، المجلد5، العدد2، 2008م. (55)
الخطيب، أحمد شفيق ويوسف سليمان خير الله، الموسوعة العلمية الشاملة، مكتبة لبنان، بيروت، 1998م. (56)
الخفاجي، أحمد بن محمد بن عمر، شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل، قدم له وصححه ووثق نصوصه وشرح غريبه محمد كشاش، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م. (57)
ابن خلدون، عبد الرحمن، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق خليل شحادة، ط2، دار الفكر، بيروت، 1988م. (58)
دبس، محمد، معجم أكاديميا للمصطلحات العلمية والتقنية، دار أكاديميا، بيروت، 1993م. (59)
دلي، حمدية صالح، أجهزة التبريد في العصر العباسي البادهنج أنموذجا، مجلة آداب الكوفة، المجلد 2، العدد 33، جامعة الكوفة، 2017م. (60)
الدمرداش، أحمد سعيد، علم الفيزيقا عند العرب، بحث منشور ضمن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية، ط1، ج1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1995م. (61)
دوزي، رينهارت بيتر آن، تكملة المعاجم العربية، نقله إلى العربية وعلق عليه، ج1-8: محمد سليم النعيمي؛ ج9، 10: جمال الخياط، ط1، وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، من عام 1979-2000م، ج1. (62)
الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان، تذكرة الحفاظ، دراسة وتحقيق زكريا عميرات، ط1، ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م. (63)
الرازي، أبو بكر محمد بن زكريا، رسائل فلسفية، جمعها وصححها: بول كراوس، دار بدايات، دمشق، 2005م. (64)
الرازي، فخر الدين، المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات ج1، منشورات بيدار-قم، الطبعة الثانية، 1990م. (65)
الرازي، فخر الدين، المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ط1، مجلس دائرة المعارف، ج2، حيدر آباد الدكن، 1343ه. (66)
ابن رشد، رسائل فلسفية، الآثار العلوية، تقديم جيرار جهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1994م. (67)
ابن رشد، أبو الوليد، تلخيص الآثار العلوية، تحقيق جمال الدين العلوي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994م. (68)
ابن رشد، أبو الوليد، تلخيص كتاب النفس، تحقيق ألفرد ل. عبري، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1994م. (69)
ابن رشد، أبو الوليد، تهافت التهافت، قراءه وعلق عليه صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، بيروت، 2008م. (70)
ابن رشد، أبو الوليد، رسائل ابن رشد الطبية، تحقيق جورج قنواتي وسعيد زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987م. (71)
ابن رشد، أبو الوليد، رسائل فلسفية (السماء والعالم)، تقديم وضبط وتعليق جيرار جهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1994م. (72)
ابن رشد، أبو الوليد، رسالة في النفس. (73)
ابن رشد، أبو الوليد، تلخيص كتاب الحس والمحسوس، حرره وعلق عليه صبي بلومبرج، الأكاديمية الأمريكية للقرون الوسطى، ماساشوسيتس، 1972م. (74)
الرماح، نجم الدين حسن، الفروسية والمناصب، تحقيق أحمد يوسف الحسن، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، حلب، 1998م. (75)
روبنسون، كين، صناعة العقل، ترجمة رامة موصللي، دار شعاع، ط1، حلب، 2003م. (76)
أبو ريان، محمد علي، تاريخ الفكر الفلسفي، ج2، ط3، دار المعرفة الجامعية، 1972م. (77)
الزبيدي، محمد بن محمد، تاج العروس من جواهر القاموس، ج34، تحقيق مجموعة من المحققين، دار الهداية. (78)
الزركاني، خليل حسن، الشناشيل والبادكير في التراث المعماري الإسلامي، مجلة آفاق الثقافة والتراث، دبي، العدد 38 السنة 10، 2003م. (79)
سالم، سحر السيد عبد العزيز، ملابس الرجال في الأندلس في العصر الإسلامي، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد 27، مدريد، 1995م. (80)
سايني، أنجيلا، أمة من العباقرة، ترجمة طارق راشد عليان، سلسلة عالم المعرفة، 422، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2015م. (81)
السرجاني، راغب، روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية، ط 1، دار نهضة مصر، الجيزة، 2010م. (82)
سعد ، أشرف، المشربيات أو الشناشيل بين العمارة الإسلامية والفنون التشكيلية، مجلة الرافد، تصدر عن مديرية الثقافة، العدد 242، نوفمبر، الشارقة، 2017م. (83)
سلقيني، محيي الدين خطيب، استراتيجية التوازن الحراري في عمارة التراث، بحث منشور ضمن أبحاث الندوة العالمية الرابعة لتاريخ العلوم عند العرب، 21-25 نيسان، 1987م، ج 2، إعداد مصطفى شيخ حمزة، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، حلب، 1993م. (84)
السماك، محمد، عندما احتل المسلمون جبال الألب، مجلة التسامح، العدد13، تصدر عن وزارة الأوقاف والشئون الدينية، مسقط، 2006م. (85)
السيد، مصطفى محمد، هندسة التكييف والتبريد، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، الرياض، 2008م. (86)
ابن سينا، الإشارات والتنبيهات بشرح الطوسي، تحقيق سليمان الدنيا، القسم الثاني، ط3، دار المعارف، القاهرة، 1992م. (87)
ابن سينا، الشفاء، تحقيق محمود سالم، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1969م. (88)
ابن سينا، الشفاء، الطبيعيات، تحقيق جورج قنواتي وسعيد زايد، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975م. (89)
ابن سينا، القانون في الطب، ج3، تحقيق إدوارد القش وعلي زيعور، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1993م. (90)
ابن سينا، كتاب دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية، ضمن مؤلفات ابن سينا الطبية، معهد التراث العلمي العربي ومعهد المخطوطات العربية، حلب، 1984م. (91)
الشطيح، الهادي علي سليمان، العمارة الداخلية والبيئة الصحراوية، بحث منشور ضمن أبحاث المؤتمر السنوي 22 لتاريخ العلوم عند العرب، 23-25 تشرين أول، 2001م، إعداد مصطفى موالدي، مصطفى شيخ حمزة، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، حلب، 2003م. (92)
الشكيل، علي جمعان، الكيمياء في الحضارة الإسلامية، ط1، دار الشروق، القاهرة، 1989م. (93)
الشمس، ماجد عبد الله، مقدمة لعلم الميكانيك في الحضارة العربية، ط2، مركز نور الشام للكتاب، دمشق، 2002م. (94)
الشيخ، فتح الله، والسماحي، أحمد، قصة الغلاف الجوي، ط 1، المكتبة الأكاديمية، القاهرة ، 2008م. (95)
الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك، أعيان العصر وأعوان النصر، تحقيق علي أبو زيد ونبيل أبو عشمة ومحمد موعد ومحمود سالم محمد، ط1، ج3، دار الفكر المعاصر، بيروت-دمشق، 1998م. (96)
الطبيب، محمد بن الكتاني، كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، تحقيق إحسان عباس، ط2، دار الشروق، بيروت-القاهرة، 1981م. (97)
الطغرائي، مخطوطة مفاتيح الرحمة وأسرار الحكمة. (98)
الطوخي، أحمد محمد، مظاهر الحضارة في الأندلس، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1997م. (99)
الطوسي، نصير الدين، تلخيص المحصل المعروف بنقد المحصل، ط2، دار الأضواء ، بيروت، 1985م. (100)
الطوسي، نصير الدين، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، شرح جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر المشتهر بالعلامة الحلي، تحقيق آية الله حسن زاده الآملي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت. (101)
طومسون، جون آرثر، مشكلات تحير العلم، ترجمة زكريا حسن فهمي، سلسلة الألف كتاب 315، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة (د. ت). (102)
ابن الطوير، أبو محمد المرتضى عبد السلام بن الحسن القيسراني، تحقيق أيمن فؤاد سيد، فرانتس شتاينر شتوتغارت طبع في مطابع دار صادر، بيروت بإشراف المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، ط1، 1992م. (103)
العاملي، بهاء الدين محمد بن حسين، الكشكول، تحقيق محمد عبد الكريم النمري، ط1، ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م. (104)
ابن عبد ربه الأندلسي، أبو عمر، العقد الفريد، ط1، ج7، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م. (105)
العسكري، أبو هلال، التلخيص في معرفة أسماء الأشياء، عني بتحقيقه الدكتور عزة حسن، ط2، دار طلاس، دمشق، 1996م. (106)
عطية، جورج، الكتاب في العالم الإسلامي، ترجمة عبد الستار الحلوجي، سلسلة عالم المعرفة 297، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر، 2003م. (107)
عفيفي، زينب، العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1993م. (108)
العقاد، محمود، فرنسيس باكون، ط1، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2016م. (109)
علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4، ج1، دار الساقي، بيروت. (110)
العماد الأصبهاني، خريدة القصر وجريدة العصر، ج 2. (111)
ابن غانم الرياش الأندلسي، إبراهيم، العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع، تحقيق إحسان هندي، مركز الدراسات العسكرية ، دمشق، 1996م. (112)
الغزولي، علاء الدين علي بن عبد الله، مطالع البدور ومنازل السرور، ط1، ج1، تحقيق التجاني سعيد محمود، دار الكتب العلمية، بيروت، 2016م. (113)
الغزي، كامل، نهر الذهب في تاريخ حلب، ج1، ط2، دار القلم، حلب، 1999م. (114)
الغزي، نادية، الطرق الشرقية القديمة للتخلص من الحر، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2017م. (115)
الفارابي، رسالة في الخلاء، نشر نجاتي لوغال وزميله، جامعة أنقرة، تركيا، 1951م. (116)
فاغان، براين، الصيف الطويل، ترجمة مصطفى فهمي، سلسلة عالم المعرفة 340، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يونيو، 2007م. (117)
فتحي، حسن، الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية، تحرير والتر شيرر وعبد الرحمن أحمد سلطان، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1988م. (118)
فتحي، حسن، عمارة الفقراء، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، ط4، دار العين، القاهرة، 2001م. (119)
الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، ط1، ج8، المحقق د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1999م. (120)
ابن الفقيه، أبو بكر أحمد بن محمد الهمذاني، مختصر كتاب البلدان، تحقيق: م. ي. دي. خويه، إعادة طبعة ليدن، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 1992م. (121)
فوربس، ر. ج؛ وديكستر، إ. ج، تاريخ العلم والتكنولوجيا، ط2، ترجمة أسامة أمين الخولي، ج2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992م. (122)
فوق العادة، فايز جدلان تاريخيان (جدل البيروني-ابن سينا وجدل أينشتاين-بور)، العدد 42، تصدر عن الجامعة الأردنية، عمان، 1997م. (123)
فيرنيت، خوان، فضل الأندلس على ثقافة الغرب، ط1، ترجمة نهاد رضا، دار إشبيلية، دمشق، 1997م. (124)
القاضي التنوخي، الفرج بعد الشدة، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، 1978م. (125)
قراءة الكف، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، بيروت، 2004م. (126)
القلقشندي، أحمد بن علي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تحقيق يوسف علي طويل، ط1، ج14، دار الفكر، دمشق، 1987م. (127)
قنصوه، صلاح، فلسفة العلم، دار التنوير، ط2، بيروت، 1983م. (128)
ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ج1، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م. (129)
كامل، محمد وليد، نماذج من الهندسة البيئية في بعض المدن الأثرية، بحث منشور ضمن أبحاث المؤتمر السنوي 14 لتاريخ العلوم عند العرب، 8-10 أيار، 1990م، إعداد مصطفى موالدي، مصطفى شيخ حمزة، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي، حلب، 2005. (130)
الكتبي، محمد بن شاكر، فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، ط1، ج3، دار صادر، بيروت، 1974م. (131)
كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936م. (132)
ابن كمونة، سعيد بن منصور، الجديد في الحكمة، تحقيق حميد مرعيد الكبيسي، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1982م. (133)
كوهن، س. توماس، بنية الثورات العلمية، ترجمة علي نعمة، ط1، دار الحداثة، بيروت، 1986م. (134)
لوكر، أ، مع الهلال والنجم، رحلة من بومباي إلى إسطنبول عبر الخليج العربي، ترجمة رنا الصالح، دار الكتب الوطنية، التابعة لهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، أبو ظبي، 2011م. (135)
لولح، علاء الدين، الإبداع الفني والهندسي في عمارة التراث، بحث منشور ضمن أبحاث المؤتمر السنوي 20 لتاريخ العلوم عند العرب، 25-27 أيلول، 1999، إعداد مصطفى موالدي، مصطفى شيخ حمزة، منشورات جامعة حلب، معهد التراث العلمي العربي ، حلب، 2006م. (136)
المبادئ الأساسية في الحرارة، وزارة التربية، دمشق، 2014م. (137)
متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ج 2. (138)
ابن مثويه، الحسن، التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، تحقيق سامر نصر لطف، فيصل بدير عون، دار الثقافة، القاهرة، 1975م. (139)
مجلة الزهور، السنة الثانية، دار صادر، بيروت، 1911م. (140)
مجلة العربي، العدد 323، الكويت، 1985م. (141)
مجلة ليلى، العدد 5، السنة الأولى، 15 شباط، بغداد، 1924م. (142)
مجهول، الذخيرة الإسكندرانية، مخطوطة موجودة في معهد ماكس بلانك لتاريخ العلوم، برلين، رقم
Wetzstein II 1209 . (143)
محمود، زكي نجيب، جابر بن حيان، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مكتبة مصر، القاهرة، 1961م. (144)
مخطوط مجموع محفوظ في معهد الثقافة الشرقية في جامعة طوكيو، رقم
Daiber Collection II, Nos. 56, 8416 . (145)
مخطوطة مكتبة شيستر بيتي، دبلن، رقم 102. (146)
المروزي، شرف الزمان، فصول حول الصين والترك والهند منتخبة من كتاب طبائع الحيوان، إعادة طبعة لندن، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، 1993م. (147)
مسكويه، رسالة في النفس والعقل، دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب، عبد الرحمن بدوي، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981م. (148)
المفيدروس، شرح الآثار العلوية لأرسطو، ترجمة حنين بن إسحاق، تحقيق عبد الرحمن بدوي ، دار المشرق، 1968م. (149)
المقري، أحمد بن المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، ج6، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1997م. (150)
المقريزي، أحمد بن علي بن عبد القادر المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج2، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1997م. (151)
منق، علي بن لالي بالي بن محمد القسطنطيني الحنفي، خير الكلام في التقصي عن أغلاط العوام، تحقيق حاتم صالح الضامن، ط1، دار عالم الكتب، بيروت. (152)
مؤنس، حسين، ابن بطوطة ورحلاته، دار المعارف، القاهرة، 1980م. (153)
الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض، 2004م. (154)
الميبدي، حسين بن معين الدين، قاضي مير على الهداية، مطبعة الحاج حسين أفندي، إسطنبول، 1313ه. (155)
نجاتي، محمد عثمان، الإدراك الحسي عند ابن سينا بحث في علم النفس عند العرب، ط 3، دار الشروق، القاهرة، 1980م. (156)
النشار، مصطفى، نظرية المعرفة عند أرسطو، ط 3، دار المعارف، القاهرة، 1995م. (157)
النعيم، مشاري عبد الله، القيمة البصرية لأبراج الهواء في العمارة الخليجية المعاصرة، مجلة القافلة، العدد 1، المجلد 47، إبريل/مارس 1998م، تصدر عن شركة النفط أرامكو، الظهران. (158)
نيدهام، جوزيف، موجز تاريخ العلم والحضارة في الصين، ترجمة: محمود غريب جودة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995م. (159)
النيسابوري، أبو رشيد، ديوان الأصول. (160)
النيسابوري، أبو رشيد، كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين (الكلام في الجواهر)، تحرير آرثر بيرما، 1902م. (161)
هاينز، مايكل، القوى العقلية الحواس الخمس، ترجمة عبد الرحمن الطيب، ط1، دار الأهلية، عمان، 2009م. (162)
الهروي النحوي، محمد بن علي بن محمد، دراسة وتحقيق أحمد بن سعيد بن محمد قشاش، ط1، ج2، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، 1999م. (163)
هوجين، لانسلوت، العلم للمواطن، ترجمة عطية عبد السلام عاشور وسعيد رمضان هدارة، ج1، دار الفكر العربي، القاهرة، 1964م. (164)
وجدي، محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين، ج3، مدخل «الحرارة»، دار المعرفة، بيروت، 1971م. (165)
وزيري، يحيى، العمارة الإسلامية والبيئة، سلسلة عالم المعرفة 308، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر، 2004م. (166)
الوشاء، محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، أبو الطيب، الموشى (الظرف والظرفاء)، تحقيق كمال مصطفى، ط2 ، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1953م. (167)
ويلسون، ميتشل، الطاقة، ترجمة مكرم عطية، دار الترجمة والنشر لشئون البترول، بيروت، 1971م. (168)
اليافي، عبد الكريم، حوار البيروني وابن سينا، ط1، دار الفكر، دمشق، 2002م. (169)
يحيى، هارون، التصميم في الطبيعة، ترجمة أورخان محمد علي، مؤسسة الرسالة، إسطنبول، 2003م.
ثانيا: المراجع الأجنبية (1)
Abhandlungen und Vorträge zur Geschichte der Naturwissenschaften , Vol. 1, Leipzig 1906, pp. 122-123, see F. Sezgin, Geschichte des Arabischen Schrifttums, Vol. 3. (2)
Agius, Dionisius A., Classic Ships of Islam From Mesopotamia to the Indian Ocean, Brill NV, Leiden, 2008. (3)
Attia, Shady, ANDRÉ DE HERDE, Designing the Malqaf for Summer Cooling in Low-Rise Housing, an Experimental Study, 26
th
Conference on Passive and Low Energy Architecture, Quebec City, Canada, 22-24 June 2009. (4)
Barnett, Martin K., The Development of Thermometry and the Temperature Concept, Osiris, Vol. 12 (1956), The University of Chicago Press on behalf of the History of Science Society. (5)
Bozsaky, Dávid, The Historical Development of Thermal Insulation Materials,
2010. (6)
Carlisle, Rodney,
Scientific American Inventions and Discoveries , John Wiley & Sons, Inc., Hoboken, New Jersey, 2004. (7)
Chang, Hasok, Inventing Temperature: Measurement and Scientific Progress, Oxford University Press, New York, 2004. (8)
Flory, M. A., A Book about Fan: The History of Fans and Fan-Painting, Macmillan and Co.; First Edition Edition, 1895. (9)
Friedman, Robert Marc,
The Creation of a New Science: Joseph Fourier’s Analytical Theory of Heat , McCormmach, Russell &
physical sciences, Eighth Annual Volume, Johns Hopkins Uni. Press, Baltimore and London, 1977. (10)
Frisinger, H. Howard, A History of Meteorology: to 1800, American Meteorology Society, New York, 1977. (11)
Jeng (Momo), Monwheam, Can hot water freeze faster than cold water?, Department of
1998. Retrieved 14 September 2014. (12)
Johnson, Steven, How We Got to Now,
2014. (13)
Mahdavinejad, M; Kavan Javanrudi. “Assessment of Ancient Fridges: A Sustainable Method to Storage Ice in Hot-Arid Climates”.
Asian Culture and History. July 2012. (14)
Manuscripts AKM218 Musical Gathering 2000, 6 Dust Muhammad. Portrait of Shah Abul Ma'ali. Ca. 1556, Aga Khan Collection. (15)
McCormmach, Russell & Pyenson, Lewis, Historical Studies in the Physical Science, Friedman, Robert Marc, The Creation of a New Science: Joseph Fourier’s Analytical Theory of Heat, 8
th
Annual Volume, the Johns Hopkins Uni. Press, Baltimor and London, 1977. (16)
McKie, Doglas & De V. Heathcot, Niels, The Discovery of Specific and Latent Heats, Arno Press, New York, 1975. (17)
McGee, Caitlin, Your Home, 5
th
ed., Institute of Sustainable Futures (ISF), University of Technology Sydney, 2013. (18)
MS Persian 78. Houghton Library, Harvard University. Shahnamah Manuscript, 1718-1721, f.400v. Seq. 811. (19)
Müller, Ingo,
A History of Thermodynamics , Springer-Verlag, Berlin Heidelberg, 2007. (20)
Neuburger, Albert (2003).
The Technical Arts and Sciences of the ancients.
London: Kegan
(21)
Christopher,
Mad about
, John Wiley & Sons, Inc., Hoboken, New Jersey, 2005. (22)
Rhead, G. Wooliscroft, History of Fan, London, KEGAN PAUL, TRENCH, TRUBNER & CO. Ltd. 1910. (23)
Rossi, Cesare & Russo, Flavio & Russo, Ferruccio,
Ancient Engineers’ Inventions , Springer, Italy, 2009. (24)
Rui Li, Robert Platt Jr., Wenzhen Yuan, Andreas ten Pas, Nathan Roscup, Mandayam A. Srinivasan, Edward Adelson. Localization and Manipulation of Small Parts Using GelSight Tactile Sensing, Northeastern, 2014. (25)
Scala graduum Caloris. Calorum Descriptiones & Signa. In Philosophical Transactions, 1701. (26)
Shachtman, Tom,
Absolute Zero and the Conquest of Cold.
Houghton Mifflin Harcourt, Boston-New york, 2000. (27)
Thomas, Pearl Edwin,
Cork Insulation,
Ntckekson & Collins Co. Chicago, 1928.
ثالثا: مواقع على الشابكة (الإنترنت) (1)
https://en.wikipedia.org/wiki/Yakhch
C4
81l . (2)
http://www.bibalex.org:WMS_Arabic_161 . (3)
http://www.huffpostarabi.com/2017/06/17/story . (4)
https://www.scientificamerican.com/article/quantum-ferrofluid-a-bose . (5)
https://www.syria-news.com . (6)
http://www.syr-res.com . (7)
https://ar.wikipedia.org/wiki:Wind-Tower-and-Qanat-Cooling . (8)
http://www.startimes.com . (9)
https://athartabky.wordpress.com . (10)
http://www.arabsciencepedia.org/wiki . (11)
https://ar.wikipedia.org/wiki#/media/File:Malkafs_(1878) . (12)
https://en.wikipedia.org/wiki/Windcatcher . (13)
http://abunawaf.com . (14)
https://raseef22.com/culture/2015/11/07/the-imaginary-banquets-of- haroun-al-rashed . (15)
http://www.huffpostarabi.com . (16)
http://www.alrahhalah.com .
Halaman tidak diketahui