Tabiciyyat Fi Cilm Kalam
الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل
Genre-genre
وكان العلم الطبيعي في الشرق الإسلامي يسري في إطار حضارة مركزها الوحي، بهديه وتحت رعاية السلطة؛ فالإسلام دين للدنيا والآخرة، للشهادة والغيب، للطبيعة والإنسان، لم تر قيمة الإنسانية ما رأته القيم الكاثوليكية الغربية في الطبيعة: مجرد مصدر لكل إثم ودنس وخطيئة، لم يكن البحث في الطبيعة ضد البحث في الدين.
ليس قراءة كتاب الطبيعة في مواجهة قراءة القرآن، لم يكن رجال العلم فريقا ينازع فريق رجال الدين، بل كان الفقهاء أصوليين وعلماء يضعون نظرية للعلم تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا؛ لأن العلم الديني القديم كان شاملا لعلم الطبيعة والإنسان، بينما نجد علوم الطبيعة والإنسان في الغرب شاملة للعلم الديني، رأينا الطبيعة عند أسلافنا هي العالم، العلامة الدالة، وليست فقط الطبيعيات المادة المنفصلة عن القيمة كما هو الحال في الغرب، نشأت العلوم الطبيعية في تراثنا من ثنايا التصور القيمي للعالم.
علم التوحيد؛ أي علم الكلام يضم في نفس الوقت الإلهيات والطبيعيات، بداية بالطبيعيات. قبل جاليليو وراي وقرنائهما بمئات السنين رأينا أبا الهذيل العلاف والنظام وابن الهيثم والبيروني وابن سينا وابن رشد ... وسائر الأسماء التي سطعت نجوما لامعة ، بل هادية في فضاء الفصلين السابقين، وهي تستدل على وجود الله، وتقرأ حكمته وبديع صنعه في عقلنة الطبيعة واستكناه أغوارها.
كنا الأسبق في الانتقال الجدلي من قراءة الكتاب المقدس إلى قراءة كتاب الطبيعة المجيد، في تعقيل الطبيعة وتطبيع العقل، تعقيلا وتطبيعا للوحي، وللاستدلال على وجود الله ... زدناه عمقا حين انشغلنا بالتقابل بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، لكن ما جدوى الأسبقية التاريخية؟ والعلم الغربي قد جعلهما - أي العقل والطبيعة - صنوين، بينهما يكشف العربي والمسلم المعاصر عن عجز موئس وتخلف مشين في مجرد مواجهة الطبيعة ... ما جدواها؟ يمكن أن نبلها ونشرب ماءها إن هي لم تنم نموها المشروع لينشأ فكر طبيعي في وعينا الثقافي، وبعد طبيعي علمي في أيديولوجيتنا. •••
أجل! تجاوز العلم الطبيعي الحديث تلك المرحلة، ولم يعد الآن - إطلاقا - مجرد قراءة لكتاب الطبيعة.
العلم المعاصر هو ابتداع فروض جريئة تحكم وقائع الطبيعة وتستطيع إخضاعها استطاعة تسير في تقدم غير متناه، لكن كانت تلك المرحلة الكلاسيكية جذعا متينا، انبثقت منه الأفنان المعاصرة الريانة، لتنمو وتعلو وتشق أجواز الفضاء، حقيقة ومجازا.
ورأينا هذا الجذع تمتد له في تربة كلامنا جذور أعمق، حتى جعل أسلافنا من الطبيعيات دائرة مغلقة من الإلهيات؛ إنه التوحيد الذي يضم الله والقيمة والعالم والإنسان في كل موحد وموحد، ها هنا عنصر خصوصيتنا الأيديولوجية والتواصل الذي يستحق الدفاع عن استمراريته، شريطة أن يتقدم الإنسان المسلم بمساهمة في الطبيعيات من حيث هي إشكالية معرفية.
وتلك الجذور العميقة أو الأصول لا تكفي طبعا لجعل الطبيعيات إبستمولوجية، فهي لم تحل بينهم وبين وضعها في نظرية الوجود؛ المطلوب الآن استئنافها بقطع معرفي يضعها في نظرية المعرفة، هذا القطع لن يلغي التواصل. أولم نر الأقدمين يجعلون الطبيعيات اللطائف، دقيق الكلام الذي هو مجال العقل وحده، مقابل جليل الكلام؛ أي العقائد التي يفزع فيها إلى كتاب الله؟ [انظر الفصل الثالث: الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس - الطبيعيات ... هي العالم الحادث] لا نريد أكثر من هذا، أن تكون الطبيعيات مجال العقل العلمي وحده.
وإذ يستطيع علم الكلام الجديد أن يفعل هذا، فإنه يقوم بدوره فيما يختص بوضع الطبيعيات في عصر تعملق العلم الطبيعي، ويكون علم الكلام بهذا قد أدى واجبه وجعل الوحي رسالة يضطلع بها الإنسان. ويشد الكلام أزر العلم الإنساني، لا العلم الإلهي الغني، فينفسح المجال على مصراعيه للاجتهاد الإنساني، ما دمنا نتحدث في نظرية العلم الذي هو من صنع الإنسان، وليس في نظرية الوجود الذي هو من صنع الله.
وكما أوضحنا، العلم صيرورة متنامية، والوجود كينونة باقية، العلم صنيعة الإنسان دائما، والوجود صنيعة الله أصلا، انشغل الكلام القديم بالعلم الإلهي؛ لأنه لا محدود، بينما العلم الإنساني محدود. وحين تنفسح الحلبة للعلم الإنساني بمجمل طاقاته نتخلص من هذا التحقير للذات والتسفيه لإمكانيات العقل الإنساني، وينطلق العلم الإنساني بلا حدود؛ لأن التقدم العلمي بصميم خصائصه المنطقية تقدم لا محدود.
Halaman tidak diketahui