Tabiciyyat Fi Cilm Kalam
الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل
Genre-genre
ولكن لماذا لا نجادل في هذا؟ لا سيما بعدما شاع أخيرا من أنه يمثل قطيعة معرفية لفلسفة المشرق، ليبدو وكأنه خرج عن توجهها الإلهي. يغالي عابد الجابري - خصوصا - في هذا، ليجعل المغرب بأسره قطعا عن المشرق، ويبدو ابن رشد بالذات وكأنه مارس في الفلسفة الإسلامية قطيعة معرفية بالمفهوم الأتم، المطروح في
الفصل الثاني . ولم يصعب على باحث مدقق إثبات أن هذا الزعم ليس له نصيب من الصحة، ولا يستند إلا على تعسفات من الجابري، وأن نقد ابن رشد لقياس الشاهد على الغائب والتزامه بمنهج برهاني، لا يعني قطعا معرفيا مع المشرق، لا في المنهج ولا في المذهب ولا على صعيد المفاهيم والإنتاج المعرفي، وأن ابن رشد في النهاية تعامل مع الشريعة من نفس الموقع الذي تعامل به فلاسفة المشرق معها، حتى أقر طريقتهم في اعتبار ما في الشريعة على أنه مثالات لما في الفلسفة، مكررا ظاهرة التقسيم المشرقي للناس إلى عامة وخاصة، والشريعة إلى ظاهر وباطن.
32
وفضلا عن القطع، يصر الجابري إصرارا غريبا على نفي وإهدار الأصول المشرقية للفلسفة المغربية مستندا على مناقضة فلسفة المشرق البيانية ثم العرفانية
33
لفلسفة المغرب البرهانية، هذا على أساس أن فلسفة المشرق نشأت امتدادا لعلم الكلام فظلت بيانية عرفانية، أما فلسفة المغرب فنشأت امتدادا للمنطق والرياضيات فكانت برهانية، أعلى درجة .
ولست أرى في هذا شوفونية كما رأى محمود أمين العالم وعلي حرب؛ لأن علم الكلام ليس وصمة والتبرؤ منه ليس زهوا، إلا إذا كان هذا تبتلا للنموذج الأوروبي. إن الكلام فلسفة خصبة زاخرة متميزة بحضارة ومميزة لها، وأطروحة الجابري لا تنطوي على شوفونية مغربية بقدر ما تنطوي على مغالطة صريحة؛ فعلم الكلام أصل فلسفة المشرق التي هي بدورها أصل - بل مادة - فلسفة المغرب؛ أي إن الكلام الأصل الأصيل والتربة الخصيبة للفلسفة الإسلامية بأسرها، وهذه الأخيرة - أي المغربية - امتداد عادي جدا وتطور طبيعي لفلسفة المشرق، وما كانت - بداهة - لتقوم البتة بدونها.
أما المنطق والرياضيات والمناقضات لعلم الكلام المشرقي مناقضة البرهان للبيان؛ فهما محض نبتة مشرقية. صحيح أن الأندلس؛ وخصوصا قرطبة موطن ابن رشد - بعد أن خبت جذوة الإبداع في المشرق - كادت أن تنفرد فيهما بالميدان إبان القرن السادس، قرن ابن رشد، وأن تنجب أكثر من نصف مناطقة القرن ورياضييه، ولكن هذا بعد أن جلبتهما عزيمة الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه الحكم المستنصر من بغداد ودمشق والقاهرة إلى قرطبة في صناديق - أجل في صناديق كما فصلت في بحث أو بحثين سابقين لي - وكانت بغداد لا سواها هي التي قدمت ذروة العطاء العربي في الرياضيات، وعن طريق قرطبة وسواها انتقل هذا العطاء إلى حركة العلم الحديث.
34
إننا لا نخوض في تناحر بين مشرق الفلسفة الإسلامية ومغربها، بل على العكس تماما، نصر على إلغاء مزاعمه. ولا شك أن ابن رشد «جزء من خطاب عقلاني واقعي نقدي تميز به الفكر العربي الإسلامي في المغرب والأندلس على عهد الموحدين.»
Halaman tidak diketahui