17
وليس كالرواقية فلسفة تؤهل الإنسان للاعتراف بحقيقة الموت والصلح مع هذه الحقيقة، بل إلى التأهب للموت و«إتقانه» شأنه شأن أي عمل آخر يؤديه الإنسان! «فحتى هذا ... فعل الاحتضار ... هو أحد أفعال الحياة ... وبحسبك هنا أيضا أن تتقن ما تعمله جهد ما تستطيع» (6-2). «وما الموت؟ إن من يتأمل الموت في ذاته، ويعمل فيه التحليل العقلي ليجرده مما يرتبط به من دلالات سوف يخلص إلى أنه لا يعدو أن يكون وظيفة طبيعية، ومن يرتاع لوظيفة من وظائف الطبيعة فهو طفل غرير. ليس الموت وظيفة طبيعية فحسب بل إنه أيضا لخير الطبيعة وصالحها» (2-12). (8) النظرة من فوق
خذ نظرة من فوق. (التأملات: 9-30)
من التقنيات العلاجية الرواقية اتخاذ منظور إلهي تجاه نجاحاتنا وإخفاقاتنا، وتجاه جميع الأحداث والأشياء. «إنما يأتي العزاء من محاولة العلو إلى رؤية أحداث العالم كما يراها الله بقدر المستطاع وبقدر ما يمكن أن يتاح للبشر. وإنما يأتي القنوط نتيجة للرؤية الضيقة والمغرقة في البشرية والأرضية. مهمة الفلسفة أن ترتفع ببصائر الإنسان وأن تهبه شيئا من الرؤية الإلهية. وما دام للفلسفة مثل هذه القدرة فإنها أمل الإنسان في العزاء. إن من المتعذر عليك أن تفهم المحنة بمعزل أو تفهم البلاء على حدة، بل يتعين أن تضعه في المخطط الكلي للأشياء. أن تفعل ذلك يعني أن تتفلسف. إن الفلسفة لا تغير الأحداث ولا تعكس الحظ، غير أنها تقدم فهما تعود بعده أحداث الحياة مقبولة بل ممتعة.
18
في «حلم سكيبيو» لشيشرون يظهر جده الأعلى ويشير له من مجرة «درب اللبانة» إلى كوكب الأرض الضئيل الهزيل. وفي الكوميديا الإلهية يقول دانتي: «أرجعت البصر خلال السموات السبع، فرأيت هذا الكوكب ضئيلا جدا وضائعا في الفضاء، فابتسمت مرغما لمثل هذا المنظر المؤسف» (الكوميديا الإلهية، الفردوس 22: 133-135). وفي «التأملات» يقول ماركوس أوريليوس: «تأمل مسارات النجوم كما لو أنك تسير معها حيث تسير، وتأمل دوما تحولات العناصر بعضها إلى بعض، جديرة هذه التأملات أن تغسل عنك أدران الحياة الأرضية» (7-47). «ثم عندما تتحدث إلى بني الإنسان فلتنظر إلى الأشياء الأرضية كأنك تنظر إليها من نقطة عالية؛ الجموع، الجيوش، المزارع، أحداث الزواج والطلاق والميلاد والموت، صخب المحاكم، الصحاري، شتى الأمم الأخرى، الاحتفالات، الجنازات، الأسواق؛ خليط كل الأشياء والاتحاد المنظم للأضداد» (7-48). «خذ نظرة من فوق؛ انظر إلى ألوف القطعان والأسراب، وألوف الشعائر والاحتفالات الإنسانية، وما لا يحصى من ضروب الترحال في العاصفة والهدأة، وألوان الاختلاف بين من يولدون ومن يعيشون معا ومن يموتون ...» (9-30). «إذا ما رفعت فجأة إلى ارتفاع هائل وأمكنك أن تنظر إلى مشاغل البشر بشتى صنوفها، هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخيلاء؟» (12-24). «... كم هي ضيقة تلك المساحة التي يجول فيها مجدك، الأرض برمتها مجرد نقطة في الفضاء؛ فما أهون ذلك الركن الذي تقطنه وما أقلهم وأهونهم أولئك الذين ترتقب منهم ها هنا التمجيد والمدح. لن يبقى لك سوى هذا؛ حصنك الصغير الذي بين جنبيك، فأو إليه ... حيث لا كرب، على الأقل، ولا وصب» (4-30). «ما أقصر مدة المرء في هذه الحياة، وما أصغر البقعة التي يقطنها على الأرض. وقصير أيضا مجده بعد وفاته مهما امتد، فهو قائم على تعاقب قليل من البشر سرعان ما يموتون ولا يعودون يعرفون أنفسهم ناهيك بمن مات منذ زمن بعيد!» (3-10). «قصيرة هي حياة المادحين والممدوحين معا، الذاكرين والمذكورين. كل هذا في مجرد ركن من قارة واحدة. وحتى هنا ليس الجميع في تناغم بعضهم مع بعض، ولا حتى الفرد في تناغم مع نفسه. والأرض برمتها مجرد نقطة في الفضاء» (8-20). «آسيا وأوروبا مجرد ركنين صغيرين من العالم. كل محيط هو نقطة في العالم. جبل أثوس حفنة تراب في العالم. الزمن الحاضر كله هو ثقب دبوس في الأبدية. كل الأشياء ضئيلة وسريعة التغير وزائلة ...» (6-36). «بوسعك أن تنحي الكثير من المنغصات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت. عندئذ ستوفر لنفسك مكانا رحبا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان، وتتأمل في التغير السريع الذي يعتري كل شيء في كل جانب؛ ما أضيق الفجوة الزمنية التي سبقت مولدك والفجوة اللانهائية المماثلة التي تعقب فناءك» (9-32). «ما أصغر نصيب كل منا من الزمن؛ حصته الضئيلة من الهوة الزمانية اللانهائية، لسرعان ما تبتلعها الأبدية. وما أضأل حصته من مادة «الكل» وروح «الكل». ما أضألها في جملة الأرض تلك البقعة التي تزحف عليها. تأمل في كل هذا ولا تكبر شيئا سوى الكدح إلى حيث تقودك طبيعتك، والتسليم بما تأتي به طبيعة العالم» (12-32). (9) تصويب الاستخدام اللغوي («قل ولا تقل» الرواقية)
ضع لنفسك تعريفا او وصفا للشيء الذي يعرض لعقلك ... بحيث يمكنك أن تفضي إلى نفسك باسمه الصحيح. (التأملات: 3-11)
من التقنيات التي ألمح إليها الرواقيون بصدد التخلص من الانفعالات الضارة؛ تعديل الرصد اللفظي للموقف المنغص حتى تنكمش المحنة الموهومة وتتقلص، وربما تتبدد فيدرك المرء أنها لا وجود لها في حقيقة الأمر.
في مقاله «علاقة التفكير والسلوك الاعتياديين باللغة» يقول بنيامين ورف إن نعت «فارغ» حين يلصق ببرميل بنزين يصبح حاملا لخطر الحريق! إن الموقف هنا خطر من الوجهة المادية، غير أن الضرورة اللغوية تضطرنا إلى استخدام لفظة توحي بالخلو من الخطر، وتضرب صفحا عن «امتلاء» البرميل في حقيقة الأمر ب «الأبخرة» وبقايا السائل والمخلفات القابلة للاشتعال.
19
Halaman tidak diketahui