من الجو لمعت الأرض تحت الشمس كبحر من الذهب وهضبة خضراء بين النهر والبحر. هبطت الطائرة بعد الغروب، وملأت أنفي رائحة عتيقة، عرق وشحم وجاز محترق، دخان في الجو والوجوه رمادية. لغة الكلام لا أفهمها، وعيون خالية من الشبق. كتل مربعة من اللحم داخل عباءات سوداء. أطفال وجوههم كالعجائز، وعيونهم يأكلها الذباب. رجال يرتدون الجلاليب هجموا علي وأنا خارج من المطار. يتنافسون على حمل الحقيبة وكل منهم يشد ذراعي . دفعني أحدهم داخل التاكسي، واندفعت حقيبتي من ورائي. انطلقت السيارة في الظلمة وأبواق كثيرة تزعق. أصوات تدوي كالصواريخ أو مدافع الحرب. توقفت السيارة عند الإشارة الحمراء، وهجم أطفال يمسحون الزجاج بالفوط الصفراء. مدوا أياديهم السمراء المشققة تحت وجهي. طردهم السائق بصوت غليظ. وصلت إلى الفندق مهدود الروح. قلت: هل سأل عني أحد؟ قالوا: لا. قلت: أنتظر موعدا مع الإمام. قالوا: إنها ليلة العيد، والإمام يخطب، والعالم كله في إجازة. قلت: وماذا أفعل حتى تنتهي الإجازة؟ قالوا: لا شيء؛ فالأماكن كلها مغلقة. قلت: ألا يمكن أن أرى شيئا هذه الأيام؟ قالوا: يمكنك أن ترى العذراء؛ فقد ظهرت في الكنيسة القديمة، قرب الجامع الجديد، وكل الناس هناك. وقبل أن أقرر شيئا دفعني أحدهم داخل التاكسي، ووجدتني أسير نحو الكنيسة، وأنا أرسم فوق صدري الصليب، الأب والابن والروح القدس. لا أكاد أصدق عيني. أجساد البشر كيوم الحشر تجمعوا من كل الأنحاء، رجال ونساء وأطفال، جالسون على الأرض أو الكراسي القش.
جلاليب الريف وبدل الأفندية. نساء محجبات ونساء نصف عاريات. وجوه شاحبة مريضة، ووجوه متوردة تفيض حياة. عيونهم مرفوعة نحو قبة الكنيسة ينتظرون ظهور العذراء. قرءوا في الصحف خبر ظهورها. كل من فاته رؤيتها العام الماضي جاء، والأجانب أيضا جاءوا يشهدون المعجزة، وإلى جوار كل منهم كلب أسود. عينا الكلب مرفوعتان نحو القبة مليئتان بالخشوع. همس رجل في أذن جاره: أيدخل الإيمان قلوب الكلاب؟ رد الرجل: ولم لا؟ قال الجار: إذا عرفت الكلاب الوفاء، فلماذا لا تعرف الإيمان؟! وهذا الكلب من أجود الأنواع، مستورد من وراء البحار، كشف الله عنه الحجاب، ويعرف المذنب من البريء، يأكل كبد الحوت ويبتسم في الصورة. ويقول الرجل الأول: لم نر في بلادنا كلبا يبتسم. ويقول الرجل الثاني: بلادهم غير بلادنا، وكلابهم غير كلابنا. قوى عظمى، كفانا الله شرها، يرسلون إلينا الموت في علب الأكل. وصواريخ تدك المدن تحت الأرض، وطائرات تسافر إلى القمر. يندهش الرجل: القمر؟ عيناه تتعلقان بالقمر. لا زال القمر معلقا في السماء بدون أعمدة في الأرض. لا زال الله أقوى من القوى العظمى. الله فوق الجميع. أعندهم رجال سافروا إلى القمر؟ أي والله، وامرأة أيضا سافرت إلى القمر. تزداد دهشة الرجل: امرأة؟ ويقول الرجل الثاني: أي والله امرأة. ولا يصدق الرجل الأول: امرأة؟ وما شكلها؟ وهل لها ثديان مثل النساء عندنا؟ مثل زوجتي وزوجتك؟ وهل سافرت وحدها بدون رجل معها؟ بدون محرم؟ ويقول الرجل الثاني: وحدها تماما سافرت بدون محرم وبدون حجاب؛ فالقمر ليس فيه رجال، فلماذا تتحجب؟ لا يوجد على سطح القمر رجال، أو هناك رجال من نوع آخر لا تثيرهم مفاتن الحريم. تزداد دهشة الرجل: إذا لم تثرهم مفاتن الحريم، فماذا يثيرهم؟ ويقول الرجل الثاني: الله أعلم بما يثيرهم يا أخي. وقد انتصف الليل ولم تظهر العذراء. لماذا تأخرت في الظهور؟ غيرت رأيها وظهرت في بلاد أخرى. لم تكن تختار من بلاد العالم إلا بلادنا. وإذا لم تظهر عندنا فأين تظهر؟ نحن لا نؤمن بابنها المسيح، وقد تظهر في بلاد أخرى، لكنها ظهرت بالأمس وهي لا تفرق بين المؤمنين بالمسيح أو المؤمنين بمحمد؛ فهي لا تشجع الفتن الطائفية. وفي الصحف قرأنا خبر ظهورها، ورأينا صورتها منشورة فوق قبة الكنيسة. ألم تقرأ الصحف؟ لا؛ فأنا لا أعرف القراءة، لكن أليست العذراء مريم روحا بغير جسد؟ نعم إنها روح طاهرة. وهل تنشر الصحف صورة الأرواح؟ ولم لا يا أخي؟ إنها صحف الإمام، وهي قادرة على كل شيء.
وصرخت طفلة مشلولة تحملها أمها، وانتفضت واقفة على قدميها، وهب الجميع واقفين مهللين مكبرين باسم الله والعذراء، ووقف الرجلان مع الواقفين وكبرا مع المكبرين، وهمس الرجل الأول في أذن الثاني: هل ظهرت العذراء؟ وصاح الثاني: طبعا، ألا تراها؟ انظر! ونظر حيث ينظر الناس فوق قبة الكنيسة. وحين لم ير شيئا ارتج جسده متصورا أنه أعمى. طرد الشك وحملق في الظلمة، وصاح مع الناس: رأيتها رأيتها.
هز الإمام رأسه علامة الإعجاب، وقال: مشروع عظيم يحول جبل الرمل إلى جنة عدن. منحني لقب الخبير وميناء يطل على البحر، ولم يكن أمامي إلا التوقيع باسمي فوق العقد. قالوا: ما اسمك؟ قلت: «جوزيف.» قالوا: في الأصل كان «يوسف»، وعليك تغيير الاسم. قلت: ليكن اسمي «يوسف»، وعوضي على الله والمسيح. قالوا: أتؤمن بالمسيح وليس الرسول محمد؟ قلت: يمكنني ترك المسيح من أجل المشروع. قالوا: ما اسم أمك؟ قلت: لا أعرف، وأنا من أطفال الأنابيب. قالوا: ما هي الأنابيب؟ قلت: إنها الأرحام الجديدة تنتج الأطفال الأبرياء من الإثم، بغير جنس ولا نكاح ولا جماع، اللهم إلا التلقيح الصناعي. قالوا: أعوذ بالله من الشيطان. هذا محرم بأمر الإمام؛ فهو الزنا والفاحشة وخلط الأنساب. قلت: وما ذنبي وكنت جنينا في بطن أنبوبة، لا أعرف شيئا عن الزنا والفاحشة. قالوا: عليك بالتطهير من الإثم وإعلان التوحيد والإيمان بالله والرسول. قلت: آمنت بالله والرسول من أجل المشروع، لكن ما هو التطهير؟ قالوا: قطع جزء من الجلد فوق رأس العضو. قلت: كل شيء ممكن إلا قطع جزء من جسمي. قالوا: لا بد من التطهير إذا أردت بركة الله ونجاح المشروع. قلت: ليكن التطهير وقطعة من الجلد لا تساوي شيئا إذا جاء الذهب.
وجاء الحلاق يحمل الحقيبة، وحدث التطهير بالقطع بالمشرط دون مخدر إلا زجاجة خمر، وأقبل أطفال كثيرون يرغبون التطهير، ووجدت نفسي الكيبر الوحيد المختون بين الأطفال، وأخفيت وجهي في الأرض، وأعلنت إيماني في الصحف، وأطلقوا علي اسم الخبير المؤمن، وكل صباح أرى صورتي داخل برواز، ورأيي منشور كأنه دستور، ولكل سؤال جواب، ولكل مشكلة حل، والحل الناجع الوحيد هو العودة إلى حظيرة الدين والإيمان بالله والرسول. قالوا: والإشعاع النووي ما علاجه؟ قلت: الصلاة وصوم رمضان. قالوا: ومشكلة الغلاء والجوع؟ قلت: قطع يد السارق وتحجيب النساء. ومنحني الإمام لقب الفيلسوف وضاعف الله لي الربح. وفي نهاية العقد حملت حقائب الذهب، وهربت بالطائرة دون دفع الجمرك، ومعي كاتي حبيبتي القديمة.
الحب القديم
من شرفة الحريم الوردية بلون الشمس أطل على الهضبة بين البحر والنهر. اتسعت مساحتها وامتدت إلى المحيط، ومن خلف النهر أرى الجامع الكبير في المنخفض حيث كان بيت الأطفال، ومن خلفه المسرح العائم، وكان بيت السعادة وراء الخرابة في الخندق، وبينهما المستشفى الحربي في الطريق إلى الجبهة، وشرفاته الزجاجية تلمع تحت الضوء، ومن خلفها أطباء الجيش يضحكون ويصفرون للبنات في بيت الممرضات، وفوق رءوسهم القبعات العسكرية، وفي أيديهم بنادق أطفال يصطادون العصافير من فوق الشجر، وفي جيوبهم «بمب» العيد. يمسك الواحد منهم بمبة ينفخها في يديه ويضربها في الأرض، تنفجر مفرقعة في الجو، ويدوي الهتاف وصواريخ العيد. وصوت الإمام يلقي خطبة النصر، وأنا واقفة في شرفة الحريم تحوطني باقات الورد، وتلميذات المدارس كالملائكة البيضاء يرقصن، ونساء الجمعيات الخيرية واقفات كالغربان السوداء يصفقن، والأمهات المثاليات وشهداء الحرب والشهيدات الصف وراء الصف، وهو واقف فوق المنصة يتهته وعيناه نحو الله، والهتاف يدوي كطلقات الرصاص، ووجهه المطاط يسقط بين قدميه يخفيه في الأرض، وأنا أخفي وجهي أدعو الله والرسول أن تبتلعني الأرض، وأدعو المسيح وأمه العذراء أن أصبح الروح القدس. أحلق في الجو بغير جسد تراه العيون، وأعود إلى أمي أختفي في الرحم، وأصعد السلم القديم جريا وأمي عند الباب تنتظرني، تتلقاني ذراعاها الممدودتان وتقول: تأخرت، أين كنت؟ وأقول: كنت عند الرجل الغريب. تقول: ولماذا يا ابنتي تعطي حياتك للغريب؟ وأقول: معه العرش والخدم والجواري، وأنا تعبت من غسل الصحون والابتسام في وجوه لا تبتسم والاعتراف بأب لا يعترف. وتقول: غسل الصحون يا ابنتي أخف من غسل الجسد بعد الموت، واعتراف الأم أفضل من اعتراف الأب. وأتركها لأجري في الطريق القديم في نهايته البيت الصغير بجوار الكنيسة أدق الباب، وقلبي يدق الدقة وراء الدقة، وينفتح الباب عن وجه المسيح. أعرفه ولا أخطئه، وهو يعرفني ولا يخطئني. تتلقاني ذراعاه ويقول: تأخرت، أين كنت؟ وأقول: كنت عند زوجي الإمام. ويقول: أتخونيني مع زوجك يا «كاتي»؟ وأقول: ليست خيانة يا «جوزيف»؛ فأنا أحبك أكثر، وأنا معه وحين أعانقه أغمض عيني، وأراك أنت بين ذراعي. ويقول: أنت حبي الوحيد، ومن بعدك لم أحب إلا الرجال أو نساء بغير أثداء يلدن الكتب. وفي النوم أنشد الحب ، لكن الحب لا يأتي، وتأتي مكانه غيبوبة تشبه النوم، تفتح العقل للنسيان دون إغلاق العين. نوم ثقيل يشبه الموت دون ضياع الذاكرة. ولا أنساك ولا أنسى المسيح ولا اسمي ولا جسدي دون الجرح. وأقول: أي جرح؟ ولا يقول شيئا ويعانقني، وأراه في المرآة المستديرة فوق سرير الإمام يعانقني. يصبح داخل المرايا كأنما هو مائة رجل يعانقونني في آن واحد، وأعانقه من جديد كأنما أعانق رجال الكون. وأضع يدي على الجرح، ملتهب تحت السروال بعد التطهير، وله رائحة الخشب القديم. وأقول: كانت لك رائحة الشجر الأخضر. ويقول: كان ذلك أيام الحب، لكنك تركت الحب من أجل الذهب، وجئت وراءك أفعل مثلك. وعانقني داخل المرايا وأنا أمسح عرقي بالعطر. تشممه بأنفه وسألني: هل غيرت عطرك؟ قلت: إنه العطر القديم، لكن جسدي لم يعد له رائحة الطفولة. وأسندت رأسي إلى مسند السرير، ووضعت الوسادة بين رأسي والسرير، وسرت الرائحة في جسدي أغسلها بالعطر دون جدوى، لا تذهب عني رائحة الموت. وقال لي: ما عليك، أنا أحبك أكثر وأنت فوق العرش، ولا تغيري منك شيئا، ولا تخفي التجاعيد والشيخوخة. واهتز الكأس المثلج في يدي، وانسكب الخمر فوق السرير، وضحكت كطفلة تسكب كوب اللبن، لكن البقعة فوق الملاءة لونها قاتم، لا تضيع بالغسيل ولا التطهير، وجسدي في الفراش ثقيل مترهل أرفعه بصعوبة، وأمشي لأجلس فوق مقعد العرش. أخفي جسدي خلف المكتب الضخم، وأحتمي في الورق والكتب، وأرى اسمي منقوشا بالفضة فوق غلاف لم أفتحه، وزوجي اسمه منقوش بالذهب فوق كتاب لم يكتبه. ويدخل الإمام تفوح منه رائحة الخمر وعرق المرأة الأخرى، ولا أقول شيئا؛ فأنا لست المرأة الوحيدة في حياته، وهو ليس الرجل الوحيد في حياتي. هربت إليه من الفقر، وهو يهرب إلي من الفشل والهزيمة. تسري في جوفي مرارة الحقيقة، ويحوطني الإدراك من كل جانب كالهواء الساخن، وذرات التراب تدخل أنفي، ومقعد العرش لا أعرف أين ذهب، وهو راقد إلى جواري يده ممدودة إلي يحاول أن يمسكني، ويدي ممدودة نحوه أحاول أن أعانقه ، والمسافة بيننا تتسع كلما نقترب؛ فإذا تلامسنا وتعانقنا أصبح أبعد مما كان، وأنا أبعد مما كنت. وأحوطه ويحوطني دون جدوى؛ فالمسافة قائمة منذ أول عناق. وفي الفراش الناعم كنت أحب القراءة قبل النوم. يزحف نحوي
شيئا وأقول شيئا، ويدور بيننا حوار لا يخلو من لذة. وحين يحوطني بذراعيه تختفي اللذة. أفضل حديثه على عناقه، كأنما بين جسده وجسدي حوار مقطوع أو لغة غير مفهومة. وفي الحديث يفهمني وأفهمه، نتبادل الكلام ونأخذ ونعطي. وفي العناق يختل التعادل؛ فهو حركة من طرف واحد وهجوم مباغت، وانسحاب مباغت كأنما اللذة حرام، والشهوة عبء يحمله فوق جسده يود الخلاص منه بخبطة واحدة. وفي المرآة أراه راقدا في السرير على شكل رجلين؛ أحدهما الإمام، والثاني صورة طبق الأصل. وفي بهو القصر أراه سائرا ومعه البودي جارد، وفي الليل حين يعانقني يختلط علي الأمر، وأقول: هل أنت الإمام أم البودي جارد؟ ويقول: أنا الإمام. وأقول: إنه يشبهك تماما، ولا أكاد أعرف الأصل من الصورة. ويقول: أنا أقوى منه عقلا، وهو أقوى مني جسدا. وكلما تقدم بي العمر يكبر عقلي ويضعف جسمي، وأنت شابة في عمر ابنتي، وأخشى أن أعود من السفر كما عاد شهريار فأجد في فراشك البودي جارد. وقلت: من هو شهريار؟ قال: ألا تعرفين شهريار؟ ألم تقرئي كتاب ألف ليلة وليلة؟ قلت: لا. قال: أنت إذن لا تعرفين التراث، وهذا نقص في الثقافة، وعليك بالقراءة. وغادر السرير وسار بخطوات بطيئة نحو المكتبة. وقف طويلا أمام الكتب يقرأ الحروف فوق الأغلفة بصعوبة، ومن الانحناءة الخفيفة في ظهره تأكدت أنه الإمام وليس البودي جارد، وأدركت أنني أعرفه من ظهره أكثر مما أعرفه من وجهه، وأصابني الإدراك بصدمة لا تخلو من لذة؛ فالإدراك وإن كان قاسيا أفضل من الجهل، وخير لي أن أعرفه من ظهره من ألا أعرفه على الإطلاق. سرت نحوه على أطراف أصابعي، وحوطته بذراعي من الخلف، أحبه من ظهره أكثر مما أحبه من وجهه، وأحبه أكثر وهو غائب.
واستدار مبتعدا عن الكتب وفي يده كتاب كبير يحمله بصعوبة إلى السرير. يثبت النظارة فوق أنفه تتدلى منها سلسلة ذهبية. يغمض عينيه حين يقرأ وينام والنظارة فوق رأسه، وفمه نصف مفتوح يرتل آية الكرسي يطرد الشياطين وأرواح الجان، والكتاب بين ذراعيه يحتضنه كالمرأة يعشقها. وفي الظلمة يتسلل من الفراش ويذهب إليها. أراه من حيث لا يراني وهو يعانقها. تصيبني الرؤية بألم لا يخلو من متعة؛ فالرؤية رغم قسوتها أفضل من عدم الرؤية، والاكتشاف كاللذة الآثمة أختلسها وحدي دون أن يراني. ولا أشعر بالغيرة أو الغضب، وإنما هو الإحساس بالذنب، كأنما أنا أخونه أكثر مما يخونني، وأستمتع بعناقه للمرأة الأخرى أكثر من عناقه لي.
إحياء التراث
Halaman tidak diketahui