يرمقها بطرف عين ويراها وهي ترمق الكاتب الكبير بعيون مشتعلة، وهو يبادلها الإشعاع بإشعاع، والإمام عيناه شاخصتان نحو الله، والمعارض الشرعي عينه اليمنى على العرش، وعينه اليسرى على رئيس الأمن. يتبادلان الابتسام، وفي الليل يشربان نخب الصداقة والولاء. صديقان لدودان؛ واحد في حزب الله، والثاني في حزب الشيطان، وكلاهما شرعي أنجبته الإرادة العليا، كالأخوين غير الشقيقين أمهما واحدة، والأب رجلان عدوان تجمعهما الكراهية وحب امرأة واحدة.
كنت واقفا في الصف الأول والهتاف يدوي مع مدافع العيد، والإمام شاخص نحو السماء، وأنا شاخص من تحت النظارة السوداء أرقب عيون الناس. ألتقط الحركة قبل أن تقع، وألحظ اليد قبل أن ترتفع، والإصبع قبل أن يدوس على الزناد. أعرف وجوههم واحدا واحدا، وأرى رءوسهم وهي تندس بين الرءوس. ملامحهم محفوظة في درج مكتبي داخل الملفات رجالا ونساء، ولمحتها وهي واقفة خلف الصفوف تخفي رأسها وراء الرأس أمامها، وعرفتها على الفور. وجهها نحيل شاحب كوجه أمها، زانية بنت زانية، لا تتحرك إلا تحت الأرض مع الأحزاب السرية والمعارضة غير الشرعية. فقيرة معدمة لا تملك إلا جسمها، تبيعه بثمن طعامها. ذهبت إليها مرة وأنا شاب . فتاة صغيرة كالطفلة. قبل أن أبدأ الجولة الأولى قالت: أخرج قروشك. قلت: ألا تثقي في؟ قالت: أنت من النوع الذي يأكل من عرق النساء. وانعقد لساني كيف عرفت الطفلة حقيقتي وانكشف عنها الحجاب؟ وأخرجت من جيبي القروش ووضعتها في الدرج. صعدت فوقها المرة وراء المرة حتى أعياها الجهد فنامت. دسست يدي في الدرج، سحبت إيرادها، وخرجت قبل أن تصحو. جمعت القروش العام وراء العام، وبنيت بيتا من الطوب الأحمر ثلاثة أدوار. تزوجت بنت الوزير ودخلت حزب الله. لم أر زوجتي قبل الزواج، محجبة طاهرة لا تنكشف على الرجال. تزوجتها على عهدة الوزير وسنة الله والرسول. اشتريتها بمهر عال، ودخلت عليها بعد حفل كبير بحضور الإمام. ظلت ملاءة العرس بيضاء من غير سوء. قلت لنفسي: سبقني إليها غيري وعوضي على الله. شرف الوزير فوق شرفي، والله غفور رحيم، ولست فوق الإله. ضربتها حتى اعترفت بالإثم، ثم غفرت لها كما يغفر الله. أصبحت معبودها وهي عابدتي. تعشق موضع رأسها عند قدمي. أملكها ولا تملكني، وأرفضها فتعشقني، ولا أعشق إلا من ترفضني. كنت أسمع أمي تقول لأبي: أنت ظلي فوق الأرض، إذا هربت منك تبعتني تجري خلفي. وسمعت الإمام يقول: لا يشغل بالي إلا من يعارض أمري بغير أمر مني. وألمح عينيه من تحت نظارتي السوداء تتجهان نحوها وهي واقفة خلف الصفوف. عيناها مليئتان بالرفض، وعيناه يملؤهما العشق. وقلت لنفسي: لن يقتلك سواها، وفي التاريخ لم يسقط أعظم الملوك إلا بسبب امرأة ساقطة.
الزوجة الشرعية
الهتاف يدوي «الله معك» يرج أذنيها، يتدلى منها قرط الماس. يهتز مع دوي الصوت ومن حوله الإشعاع ملايين الأضواء، وعنقها الأبيض كالرخام يرتج ومن حوله عقد اللؤلؤ الحر خمسة أدوار، وفوق صدرها الوسام على شكل «بروش» يعكس الضوء كقرص الشمس، وأصابعها تحوطها الخواتم والفصوص كالنجوم تملأ الكون بالضياء، وهي واقفة في شرفة الحريم ومن حولها كبيرات نساء الدولة، يرتدين وجوها مشدودة، وثيابا حريرية مرتخية، وعوراتهن مختفية تحت حجاب مستورد من أجود الأنواع، وهي واقفة في الشرفة عنقها مشرئب نحو زوجها الإمام، وعنقه مشرئب نحو الله. قلبها تحت ضلوعها يدق، وفوق القلب تحت النهد صليب محفور في الجلد فوقه المسيح مدقوق بالمسامير. رفعت يدها ورسمت فوق صدرها الثالوث، الأب والابن والروح القدس: احفظيه من أعدائه يا ستنا العذراء. أستغفر الله. احفظه يا رب ويا رسول الله؛ فأنا تركت المسيح من أجل الحب، تركت اسمي واسم أبي، أهلي وبلدي وديني، وألقيت بهم جميعا في البحر. كنت مرهقة أغسل الصحون وأتنفس في القطارات تحت الأرض هواء تنفسه قبلي الملايين. أبتسم في الوجوه والوجوه لا تبتسم لي. أذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد وأدعو المسيح لينقذني من الفقر. عشرون عاما ولم ينقذني الأب أو الابن أو الروح القدس، ثم جاء الإمام وأنقذني. رأيته جالسا فوق العرش، ووقعت من أول نظرة في الحب. حملني بين ذراعيه وارتفع رأسي في السماء. عرفت الجنة فوق الأرض. آمنت بالله والرسول. حدائق وقصور وخدم وحشم وأنهار من العسل والخمر. أرفع رأسي والرءوس من حولي تنخفض. يبتسمون في وجهي ولا أبتسم. أمشي أمام الوزراء ومن حولي الأضواء. أفتتح المستشفيات وملاجئ الأطفال. اسمي في التاريخ محفور بحروف من النور. زوجة الإمام ليس لها شريكة فوق العرش، ولا تعلو عليها امرأة في جمال أو علم أو جاه.
الله معك. لا زال الهتاف يدوي في أذنيها وهي شاخصة ناحيته وهو شاخص الناحية الأخرى. مدافع النصر تضرب، ومع كل ضربة قلبها يضرب. حاملات الصواريخ تحلق فوق رأسه العاري إلا من طاقية الإمام، وصدره مكشوف بغير قميص الوقاية، واقف فوق المنصة ولا شيء يحميه إلا الله ورسوله. احفظيه من الشر يا ستنا مريم. تلعثمت واستغفرت. لسانها يذكر الله والرسول، وقلبها يذكر المسيح. احفظه يا رب من أعدائه، من الحاسدين والحاسدات من شر النفاثات في العقد، وأولهن زوجته القديمة. مختفية وراء الصفوف تخبئ في جلبابها ورقة السحر، مطوية فوق صدرها على شكل حجاب، تدعو الله أن يسخطه على شكل قرد. احفظه يا رب من كيد النساء إن كيدهن عظيم. وابنته غير الشرعية تضمر له الموت منذ ولدت، تخفي رأسها بين الرءوس وفي يدها اليمنى شيء طويل كآلة القتل.
ضربات قلبها تدوي في أذنيها مع دوي الهتاف. ما هذا الصوت؟ طلقات رصاص؟ عيناها الزرقاوان بلون البحر ترى وجهه يسقط فجأة من السماء إلى الأرض، والوجوه من حوله تختفي، وذرات تراب تملأ الجو بالعفار، وتفتح عينيها لتصحو من النوم، لكن عينيها الزرقاوين مفتوحتان، وهي ليست نائمة وليست جالسة، وليس من تحتها كرسي العرش. اختفى هو الآخر، أو انقلب رأسه إلى أسفل وأرجله الأربع إلى أعلى. رسمت الصليب على صدرها. ماذا حدث يا أمنا العذراء مريم؟ وأغمضت عينيها حين رأت وجه أمها كبيرا مدورا كقرص الشمس: الأم والابنة والروح القدس. أستغفرك يا رب: الأب والابن والروح القدس.
الله مع الإمام
سمعت الطلقات بأذني وكنت رافعا عيني نحو عرش السماء. هي لحظة واحدة غفلت فيها عن عرش الأرض. انتهز غفلتي وأطلق النار. لم أر وجهه ولم أعرف من هو على وجه التحديد. واحد من أعضاء حزب الشيطان. أعرفهم وجها وجها وأعرف رئيسهم. كان مهملا منسيا، فأخرجته من الظلمة إلى النور. منحته الوجوه من العدم وأصدرت الأمر، فأصبحت رئيس المعارضة الشرعية. قلت له: تعارض كل القرارات إلا قراراتي؛ فأنا الحاكم الوحيد فوق الأرض والرئيس الأعلى لحزب الله، وأنت لك قصر في ميدان الحرية، ومعونة شهرية، وجريدة يومية، ومقعد في مجلس الشورى والبرلمان.
رأيته يبتسم ووجهه أشرق. كان زميلي في المدرسة، يغمض عينيه ويحلم بصورته منشورة في الصفحة الأولى. حلم يتكرر كل يوم، وأنا مثله يراودني الحلم ذاته، والصفحة الأولى لا تنشر إلا صور رؤساء الدول، أو رؤساء الأحزاب، أو صور السفاحين والسفاحات والحاملات السفاح. وفي المدرسة كان يجلس إلى جواري وسرواله من الصوف الغالي، وسروالي مثقوب من الخلف أخفيه بيدي. أبي كان فلاحا فقيرا يراني في الحلم خفيرا في بلاط الإمام. أبوه كان غنيا سافر للتعلم وراء البحار. عرف اللغات الأجنبية، وارتدى ملابس الأفندية. تزوج امرأة تؤمن بالمسيح ولا تعرف العربية، شقراء بيضاء الساق، يشف بياضها من تحت اللحم كحوريات الجنة. أرمقها بعين محروم لم يعرف في حياته المرأة.
عرفت من النساء كثيرات، لكن الفقر يحوطني كجلدي، والخوف من الجوع يلازمني، ومهما أكلت لا أشبع، ومهما أمنت المستقبل لا آمن، وكل يوم أرى صورتي منشورة في الصحف، معلقة في كل مكان تحت الأضواء، وأغمض عيني ليراودني الحلم القديم؛ أن أجلس على عرش الأرض والسماء. منذ الطفولة وأنا نائم أرى الله. له وجه أبي مليء بالتجاعيد؛ خطوط الزمن والجدري القديم. فوق النني الأسود في عينه اليمنى نقطة بيضاء بقايا الرمد الصديدي. يرتدي جلباب الفلاحين وطاقية رأس منحولة الصوف. يناديني بصوت أبي الجهوري: يا إمام. وأقول: نعم يا ربي. سأعطيك الرزق بغير حساب في الدنيا والآخرة بشرط واحد، وأقول: ما هو يا ربي؟ يمد يده نحوي قابضا على شيء. أصابعه سمراء مشققة كأصابع أبي. يفتح أصابعه وأرى المسبحة حباتها صفراء، ثلاث وثلاثون حبة، إذا حركت الحبة الواحدة ثلاث مرات يكون عددها تسعا وتسعين. مع كل حبة اذكر اسما من أسمائي. هذا هو أمري، ومن لا يطيعك عليك بهذا. ما هذا؟ وشد من جراب طويل في جلبابه سيفا لامعا، وكاد بوزه الحاد يدخل صدري. تراجعت إلى الوراء، وفي حركة التراجع فتحت عيني وصحوت من النوم. رأت أمي وجهي شاحبا وفي قلبي رعدة. قالت: ما لك يا ابني وجهك ليس هو وجهك؟ قلت لها: رأيت الله. قالت: خير، فلماذا ترتعد؟ قلت: كان معه سيف، وكاد السيف يخترق صدري. بصقت في فتحة جلبابها الأسود وقالت: إنه الشيطان وليس الله. انهض واغتسل وصل ليغفر الله لك.
Halaman tidak diketahui