Kotak Dunia
صندوق الدنيا
Genre-genre
1
ولكني ما زلت أمت إلى طفولتي بسبب قوي، وما انفكت أخراي معقودة بأولاها. كنت أجلس إلى الصندوق وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني نفر من أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر الذي شبر فيافي الزمان، وما له سوى آماله وهي لوافح، ونجم - سوى ذكرى نورها - خافت.
لهذا سميته «صندوق الدنيا».
ولا أزال أجمع له وأحشد، وما فتئ السؤال الأبدي عندي مذ حملت الصندوق على ظهري «ماذا أصور؟» هذه هي المسألة كما يقول «هملت» في روايته الخالدة، والفرق بيني وبين هملت أنه معني بالحياة والموت، وبأن يكون أو لا يكون، وبأن يبقي على نفسه أو يبخعها، أما أنا فلا يعنيني شيء من هذا، ولست أراني أحفل بالحياة ولا الموت، ولا الوجود ولا العدم، أو لعل الأصح والأشبه بالواقع أن أقول: إني لا أرى وقتي يتسع للتفكير في هذا. ذلك أني صرت كالذي زعموا أنه كانت له زوجة ترهقه بالتكاليف وتضنيه بالأعمال التي تعهد إليه فيها وتأمره بأدائها، قالوا: فأشفق عليه صاحبه ورثى له، فأشار عليه أن يطلقها لينجو بنفسه من هذا العناء، فطأطأ الرجل رأسه ثم رفعه وقال: «ولكن متى أطلقها؟ لا أرى وقتي يتسع لهذا.»
كذلك أنا - أنا زوج الحياة الذي لا يستريح من تكاليفها - أقوم من النوم لأكتب، وآكل وأنا أفكر فيما أكتب، ألتهم لقمة وأخط سطرا أو بعض سطر، وأنام فأحلم أني اهتديت إلى موضوع، وأفتح عيني فإذا بي قد نسيته، فأبتسم وأذكر ذاك الذي رأى في منامه أن رجلا جاءه فنقده تسعة وتسعين جنيها فأبى إلا أن تكون مائة، فلما انتسخ الحلم ورأى كفه فارغة عاد فأطبق جفونه وبسط راحته وقال: «رضينا فهات ما معك.»
وأشتاق أن ألاعب أولادي فيصدني أن الوقت ضيق لا ينفسح للعب والعبث، وأن علي أن أكتب، وأرى الحياة تزخر تحت عيني فأشتهي أن أضرب في زحمتها وأسوم سرحها، ولكن المطبعة كجهنم لا تشبع ولا تمل قولة «هات» وأكون في المجلس الحالي بحسان الوجوه رقاق القلوب وبكل ما كان يتحسر «مهيار» على مثلها ويقول:
آه على الرقة في خدودها
لو أنها تسري إلى فؤادها
فأشرد عنهن وأذهل عن سحر جفونهن، وأروح أفكر في كلام أكتبه صباح غد، وأشرب فلا أسهو، وأضحك لا أراني ألهو، ويضيق صدري فأتمرد وأخرج إلى الطرقات أمتع العين بما فيها مما تعرضه الحياة، فإذا بي أقول لنفسي: إن كيت وكيت مما تأخذه العين يصلح أن يكون موضوع مقال، فأقنط وأكر راجعا إلى مكتبي لأكتب ... وهكذا كأني موكل بفضاء الصحف أملؤه، كما كان ذلك الشاعر القديم المسكين موكلا بفضاء الله يذرعه.
وشر ما في الأمر أن يجيء إلي صديق فيقول: أقترح عليك أن تكتب في «كيت وكيت» وتحاول أن تفهم أن كيتا وكيتا هذين لا يحركان في نفسك شيئا، ولا يهزان منها وترا فلا يفهم؛ لأنه - على الأرجح - يظن أن الكتابة لا تكلف المرء جهدا، وأن القلم هو الذي يجري وحده بما يقطر من مراعفه، وأن العقل والنفس لا دخل لهما فيما يخطه.
Halaman tidak diketahui