وبعد ساعة من العذاب انطلقت صفارة الأمان فسرعان ما غادروا القهوة، واستقلوا سيارة إبراهيم خيرت. وما كادت السيارة تصل إلى جسر أبي العلاء حتى دوت زمارة الإنذار الثالثة فتوقفت السيارة قرب الطوار، ولم يكن هنالك مخابئ فقد فضلوا البقاء في السيارة، وقال إبراهيم خيرت وهو يضحك ضحكة عصبية: يجب أن نعيش إذ إن أسعار حياتنا آخذة في الصعود!
وبعد حوالي الساعة انطلقت صفارة الأمان فأسرعت الفورد بهم عبر الجسر، ثم عبرت جسر الزمالك مائلة إلى شارع النيل، وعند أوله دوت صفارة الإنذار الرابعة فوقفت السيارة لصق أرض فضاء، وتوالى الضرب بشدة، وقال عيسى ليطمئن نفسه: لعلهم يضربون الأهداف!
فقال سمير في إشفاق: وربما جاء دور الضرب الأعمى!
فقال عباس صديق بصوت كأنما قد أصيب بشظية: إن ضرب المدنيين مسئولية خطيرة قبل العالم!
فقال إبراهيم خيرت: جميل جدا أن نطمئن أنفسنا!
ودوت صفارة الأمان بعد نصف ساعة فانطلقت السيارة بأقصى سرعة لعلها توصلهم قبل أن تدركهم الصفارة التالية.
24
سماء القاهرة معبر للطيارات ليل نهار. وأعجب شيء أن الحياة اليومية واصلت مألوفها في البيت والديوان والدكان والسوق بالرغم من أن أزيز الطيارات لا ينقطع، ولا تسكت الانفجارات، ورددت الخواطر أن القنابل لا تسقط جزافا، ولكن همسات كثيرة جرت بأنباء الضحايا، ولم يغير الناس من سلوكهم المألوف، ولكن الموت أطل عليهم من نافذة قريبة، وتطايرت نذره إلى آذانهم فاقتحم الأفكار والقلوب، وانقلبت القاهرة إلى معسكر، واخترقت شوارعها قوافل من العربات المصفحة واللوريات، فغرقت الحياة العادية في بحر من الظنون والهواجس.
وانتقلت عنايات هانم لتعيش مع ابنتها في الدقي حتى تستقر الأمور، وفي الليل بدت الدنيا كما كانت تبدو قبل التاريخ، فانكمشوا في البيت حول الراديو، يستمدون الري لجفاف حلوقهم من أصوات المذيعين والأناشيد الوطنية.
وباتت الانفجارات والمدافع المضادة كنداء الباعة، حتى زاغ بصر الأم العجوز وبهت لون عينيها، وقبضت راحتها على المسبحة كأنها مانعة صواعق، ولم تكن قدرية دون أمها تهافتا، ولم تنفعها بدانتها، أما عيناها الناعستان فقد تولى عنهما جلال الخمول، ومناقشات هيئة الأمم ومجلس الأمن تنفذ من الراديو كالهواء للمختنق، وأساطير بورسعيد تتلى والقلوب تتوجع، وفي حال من أحوال الذعر تساءلت قدرية: هل نحن كفء للإنجليز والفرنسيين؟
Halaman tidak diketahui