وأكملت المعاشرة معرفته بزوجته، فقد تكشف له عن أستاذة في المائدة والملبس، سواء من ناحية الذوق أو الصنعة، فأتخمته بألوان الطعام التي تقدمها، وبخاصة الحلوى التي تتفنن في تأليفها، وهي أكولة لحد الإفراط، وتغري من يؤاكلها بالإفراط كذلك، وهي مسلية جدا، لإتقانها الألعاب البريئة؛ كالنرد والكونكان، ومولعة بالسينما والمسرح الفكاهي، وإن يكن تعليمها الابتدائي قد محي من ذاكرتها تقريبا، ولم يبق لها منه إلا قدرة ضعيفة على القراءة أو كتابة رسالة ركيكة، وهي امرأة بكل معنى الكلمة، متأججة العواطف، فلم تدع له مجالا للشكوى من هذه الناحية، غير أنه توجس خوفا من توثبها إلى ازدراده كلما أمكن ذلك، ورغبتها غير الواعية في أن تجعل منه زوجا وأبا وابنا في آن، ولعل لذلك صلة بتطلعها الدافق الحزين إلى الأطفال، وإعرابها عن مشاعرها المكبوتة بالسهوم والنظرة القلقة والحركات العصبية الطارئة التي لا تنسجم مع كيانها المليء الرزين. وقال عيسى لنفسه: إن التعاسة تبدو قاسما مشتركا أعظم بين الناس جميعا، فما أحقر المظاهر! وتساءل عن السر الخفي المسئول عن هذا العبث، وقال أيضا إنه من حسن الحظ أننا نستطيع أن نخفي أفكارنا عن الآخرين، وترى أي أفكار عنه تدور في رأسها الصغير الغزير الشعر؟ وهل تزعجها - مثلا - الأسباب الحقيقية التي أوجبت فصله من وظيفته؟!
وتذكر سلوى والجرح الذي حفرته في قلبه فازداد تنغيصا، وتذكر ريري أيضا فقطب بمرارة، ودهمته لحظة سوداوية فشعر بتفاهته إلى غير حد، ولذلك ذكر كيف كانت تزلزل الوزارة وهو يغادر صباحا السيارة الشيفروليه الحكومية، وذكر أيضا يوم أراد أن يرشح نفسه في دائرة الوايلي فنصحه عبد الحليم باشا شكري بتأجيل ذلك إلى انتخابات قادمة، لاعتقاده بأنه سيرشح عما قريب وكيلا للوزارة.
وفاجأه الراديو يوما بقرار تأميم شركة قناة السويس! ارتفعت حرارة اهتمامه الخامد لدرجة الغليان، لهث في لهفة كأيام زمان. وما لبث أن أغرقه مد الحماس الذي اجتاح الجميع، وافتقد بألم شديد الأصدقاء الغائبين لحاجته إلى تبادل الرأي معهم، واعترف بذهول أنه عمل كبير حقا لدرجة أنه لا يصدق، بذلك أقر عقله، أما قلبه فغاص في صدره كالمريض وأكله الحسد، إنه ينذعر كلما قامت قمة في الحاضر تضاهي القمم التاريخية التي يعيش على ذكراها، وشعر بألم التمزق في منطقة الجذب والشد الفاصلة بين شطري شخصيته المنقسمة، وتساءل عن العواقب، وحاول أن يسأل نفسه عن موقفه بين هذه العواقب، وسرعان ما هرب من معركته الداخلية بإشراك زوجه وأمها في الحدث، ولكنه لم يجد له صدى في نفسيهما، فهرع إلى الفريجدير ليتناول بضع كاسات مريحة.
وعاد إلى القاهرة في منتصف سبتمبر، متخم الحواس، قد زاد وزنه زيادة ملحوظة، وكان يمر أمام بيته القديم وهو في طريقه إلى مسكنه الجديد بالدقي فتنثال عليه الذكريات الحزينة، وراح يتبادل الزيارات مع أصحابه، وقد كان لكل منهم زوجة شابة متعلمة، ولكن قدرية قد احتلت بينهم مكانا مرموقا لجاهها ومالها، ولما سأله سمير عبد الباقي: وكيف وجدت الزواج؟
أجاب بعد تأمل دبلوماسي: عال، ولكن ... - ولكن؟! - ولكن أشك في أن إنسانا يهضمه بلا عمل وبلا أطفال.
وهجم اليهود على سينا، بذلك لطمته الصحف ذات صباح وزلزله الخبر. وجالس الراديو يتابع الأنباء بانتباه منصهر، انفعل بالنبأ لحد الهذيان، ودار رأسه بالأفكار حتى أصابه الدوار. أجل، تأرجح مصير الثورة في الميزان، ولكن انفجر شعوره الوطني فطغى على كل شيء، غضب الغضبة الجديرة بالوطني القديم الذي كاد يدركه الموت. الوطني القديم الذي تعذب بالرغم من تلوثه من أجل مصر، تشبثت قدماه بحافة الهاوية التي تهدد وطنه بالضياع، وأبعد عن ذكره الثورة ومصيرها ليحفظ بمشاعره في أوج انفعالها، ومحا بقوة إرادته المشاعر المتناقضة التي تدب تحت تيار وعيه المتدفق، وحانت منه التفاتة إلى زوجه، فهاله عدم اكتراثها وانكبابها على روتين حياتها اليومية، ولم تخرج عن ذلك إلا حين تساءلت بازدراء: حرب وغارات مرة أخرى؟!
ورأى الأمر دعابة، فأحب أن يعابثها ليروح عن نفسه، قال: أنت مهتمة جدا بإعداد الطعام، خبريني عن حال الدنيا لو فعل كل إنسان مثلك؟
فقالت ببساطة: كانت تبطل الحروب؟
فضحك رغم همه وغمه، وقال مدفوعا بالرغبة في الدعابة: أنت يا قدرية لا تهتمين بالشئون العامة، أعني الناس والوطن. - حسبي اهتمامي بك وببيتك! - ألا تحبين مصر؟ - طبعا. - ألا تودين أن ينتصر جيشنا؟ - طبعا، ليعود الأمان إلينا. - ولكن ألا تحبين أن تشغلي عقلك به؟ - عندي ما يكفيني من المشاغل. - خبريني عن مشاعرك لو كان مقصد اليهود أن يستولوا على أملاك الست الوالدة؟
فضحكت قائلة: يا خبر أسود! وهل قتلنا لهم قتيلا؟!
Halaman tidak diketahui