فتطلع إليه باهتمام، فقال الآخر ببساطة: إني أفكر في احتراف الجريمة.
فضحك سمير طويلا، ثم قال: يا له من تصوف بديع! - غير أنك لا تقتل فيه جسدك أنت، ولكن أجساد الآخرين. - أقترح عليك أن تنتقي نوعا من الجرائم الجنسية.
وضحكا معا حتى قال سمير: نحمد الله، فلا زالت لدينا القدرة على الضحك. - وسنزداد ضحكا كلما رأينا التاريخ وهو يصنع لنا دون أن نشارك فيه كأننا الأغوات.
وهبت نسمة لطيفة، وبدا الباشوات كالنيام ولغير ما سبب تذكر أول خطبة له في بيت الأمة وهو طالب بالجامعة، قال بأسى: تاريخنا نفسه مهدد بالإبادة. - التاريخ واسع الصدر، وسيدافع عن نفسه بعد انقراض المتخاصمين جميعا.
ومر بهما مدير المحل الرومي، فابتسم إلى عيسى وسأله عن الصحة وعن الحال، فأدرك من توه المغزى السياسي لسؤاله، وقال باسما: هي كما ترى.
وعندما رجع إلى عمارته شاهقة الارتفاع القريبة من محطة الترام، كان يجتر حزنا على فراق سمير، ولعن - وهو يخوض عتمة المدخل الطويل - سلوى، وقال لنفسه وهو يدخل إلى المصعد: «ما أحوجني إلى مسكن!»
14
وحده مع كأسه في الطرقة الشاحبة الضوء التي تصل بين معرض الحلوى في الخارج وصالة الرقص في الداخل بالتريانون الصغير، وعشرات من الآلات العازفة تبعث بالأنغام الراقصة والأجساد المتعانقة تتراقص في حركات خفيفة رشيقة تنفض بها عن ذواتها متاعب ضوء الشمس. وهؤلاء الحسان ينسبن إلى بيوت لا إلى الشوارع كما كان الحال قبل الحرب وفي أثنائها، وقد أدرك هو جانبا من ذلك التاريخ على عهدي مراهقته وشبابه، أما النسوة فقد أثرين في زمان الحرب وترفعن عن العرض الرخيص فاختفين من الميدان، وقال عيسى لنفسه: «الميدان خال اليوم لمن يروم عملا سهلا مريحا من منبوذي السياسة!»، وهزته نغمة فتاق إلى الرقص الذي يجيده بدرجة لا بأس بها ولكن أين الحسناء؟ ونهل من الكونياك الذي يحبه باعتدال، وشعر بأنه في مخبأ فازداد طمأنينة، وقال إن مدخره من مال العمد سيمده بالضروري لارتكاب الحماقات الفاتنة، وقال أيضا إنه لولا إحساسنا المرضي بالمستقبل لما أزعجنا شيء! ولكنه لم ينعم بوحدته في المخبأ طويلا إذ ما لبث أن اقتحمه صوت مباغت قائلا: ما رأيك في الدنيا؟
ارتعد لوقع المباغتة وأجال عينيه في الطرقة المقوسة فلم ير أثرا لإنسان. الصوت صوت كهل مخمور يغلي في درجة الهذيان، ولكن أين هو؟! وإذا بالصوت يقول ضاحكا: هل جربت الشرب في الظلام؟
ثمة شجرة متوسطة - طبيعية أو صناعية - في أصيص ضخم عند نهاية قوس الطرقة المفضي إلى محل الحلوى، وكان المحل فيما يلي الشجرة غارقا في الظلمة، إذ يغلق أبوابه حوالي الثامنة مساء. واستنتج أن الرجل كان يجلس في الطرقة، ولسبب ما تزحزح بمقعده إلى الظلام حيث يمارس مزاحه السخيف. وأهمله وهو يلعنه في سره، ولكن الآخر عاد يسأل دون أن يظهر في منطقة الضوء الخافت: هل جربت الشرب في الظلام؟
Halaman tidak diketahui