فرنا إليه بنظرة ميتة من عينيه الخضراوين، وقال: وأنا كذلك اليوم، وقد غادرت الوزارة لآخر مرة.
وتبادلا نظرة طويلة مغرورقة باليأس، ثم اجتاح عيسى مرح غريب لكنه مريب غير أصيل، كأنه منبعث من خمر أو مخدر، وتساءل: وما العمل؟ - لدينا هدنة عامين بمرتب كامل. - وبعد ذلك! - يمكن أن نجد عملا في شركة.
فتساءل عيسى بارتياب: وأي شركة تجازف بقبولنا؟!
فقال سمير متنهدا: لا بد لكل مشكلة من حل.
ومضى في طريقه إلى مسكنه، وهو ينظر إلى الناس بغرابة، كأنما يراهم لأول مرة، وهم غرباء لا يمتون إليه بسبب ولا يمت لهم بسبب، وهو منفي في مدينته الكبيرة، مطارد بغير مطاردة، وعجب كيف انهارت الأرض تحت قدميه فجأة كأنها نفخة من تراب، وكيف تقوضت الأركان التي قاومت الدهر ربع قرن من الزمان ... وألقى نظرة على وجه أمه الذابل، ثم دهمها بالخبر، فوضعت راحتها فوق نافوخها كأنما لتوقف الألم المتصاعد، وتأوهت متسائلة: لم يفعلون بك ذلك يا بني؟
من الخير أنها لا تدري شيئا، وراح يتجول في المسكن على مهل، يا له من مقام نفيس لا يمكن الاحتفاظ به بعد الآن، مرتب عامين ورصيد في البنك من نفحات العمد، ولكن هل يكفيه ذلك إلا عامين آخرين؟! وجميع هذه التحف التي تزين المدخل والاستقبال والمكتبة هي أيضا «هدايا». أجل، إن المذنبين أضعاف المطرودين، ولكنه مذنب وأصحابه مذنبون، أين الأيام البعيدة الطاهرة أين! أما الختام فهدايا محرمة وفساد ثم الضياع المباغت وهو على عتبة المناصب العالية المؤدية إلى كرسي الوزارة! وكيف تعيش في دنيا من الناسين والمتجاهلين والشامتين وقد طويت الأمجاد كأن لم تكن، ونشرت الأخطاء كالأعلام؟!
وذهب عصرا إلى فيلا علي بك سليمان، تحت سماء ملبدة بالغيوم، وقد عصفت بالجو ريح باردة أثارت غبار الأرض كالخماسين. وفكر وهو يصعد السلم المرمري العريض بأنه لولا الحصانة القضائية لقذف بعلي بك سليمان إلى جانبه في الشارع.
وكان البك في الخارج، وسوسن هانم في الفراش متوعكة بنزلة برد، ثم جاءت سلوى في روب من المخمل الأزرق، سطع من طوقه وجهها كالضياء. وهو وجه على جماله شحيح التعبير، فلم يستطع أن يقرأ في صفحته أثر الأحداث، ولكن قلبه المكروب اهتز لمرآه، ونبض فيه الشوق كلحن قلق. وقال لنفسه: إنها القيمة الوحيدة الباقية لي في الحياة، وتساءل في اللحظة التالية: ترى هل هي «لي» حقا؟! ورغبة في حسم الوساوس، قال بإيحاء مخيف: سلوى .. أحالوني إلى المعاش.
اختلجت عيناها الجميلتان الخاملتان، وهمست في ذهول: أنت؟!
فقال مسلما أمره للمقادير: نعم، أنا كما يقع للكثيرين في هذه الأيام.
Halaman tidak diketahui