وحدجه الرئيس بنظرة طويلة من نظارته الكحلية المذهبة وقال: أرجو أن تطمئن كل الاطمئنان إلى عدالتنا فهي لا تبتغي إلا وجه الحق وحده.
فقال بهدوء باسم ليستر يأسه: لا شك عندي في ذلك. - وأحب أن تعلم أن المهمة التي كلفنا بها غايتها المصلحة العامة لا الانتقام ولا أي غرض آخر.
فقال وهو يهبط درجات جديدة في أحضان اليأس: لا شك عندي في ذلك أيضا.
وصدرت إشارة إلى السكرتارية فتليت العرائض تباعا، بعضها موجه من موظفين، والبعض الآخر من عمد، وانقلب صوت قارئ العرائض رتيبا كملقن الأموات، وأغمض عيسى عينيه ابتغاء تركيز أشد، ولكن التهم جميعا انصبت على تعيين العمد بالحزبية والهدايا، فتشتت في التكرار تركيزه، وذاب في الظلمة التي اختارها. ومن خلال ضباب أحمر انغرزت في أذنيه السهام، ورغم الجهد المبذول للتركيز اعترضته الذاكرة بصورة قديمة جدا مخضلة كأعشاب الطفولة اليانعة وهو عائد من ملعب كرة في الخلاء المحدق بالوايلية في يوم انهل مطره كالسيل، فلم يجد ما يحتمي به من انفعال السماء إلا أسفل عربة زبالة، وتساءل عن معنى هذا كله، وفتح عينيه فرأى الوجوه وهي تتموج، وللحظة قصيرة خيل إليه أن فردة شارب المستشار اليسرى موصولة بفردة شارب ممثل مجلس الدولة اليمنى، وسئل عن رأيه، أي رأي؟! وقال بحدة قاهرة: كلام فارغ، أريد دليلا واحدا.
وامتلأ قوة، ولكنه سرعان ما باخ وتهاوى كورقة خضار ذابلة صفراء. قال الرئيس: كان الوزير يعتمد ترشيحاتك، فأنت أول مسئول. - كان ذلك ضمن واجباتي، وقد أديته بما يرضي ضميري. - هل من سبب غير الحزبية يمكن أن يفسر لنا عزل وتعيين العمد؟
فقال وهو يحاول أن يسيطر على لهاثه وتهدجه: لتكن الحزبية هي السبب، ألم تكن من مقومات حياتنا الماضية؟ - هل أنت مقتنع بصحة تصرفاتك؟ - أرى أنها كانت طبيعية جدا.
فتساءل الرجل وهو يلعب بالباركر في يده: والهدايا؟!
فاندفع يقول بحدة: قلت إنه كلام فارغ، أريد دليلا واحدا.
وتليت أسماء الشهود من العمد أنفسهم، فهتف: ما قيمة الدس الوضيع؟
ثم استدعي موظفون ممن عملوا معه على فترات متتابعة، فأدلوا بأقوالهم، وعرضت عليه توقيعات بخط يده لترقية موظفين بصفة استثنائية، ولأداء خدمات في الري والزراعة، وبعضها يوصي بمجرمين ريفيين ممن تربطهم صلات الرعاية أو القربى بنواب سابقين. وامتد الوقت حتى فقدت الأشياء ألوانها، وصاح بعصبية: دلوني على موظف واحد يستحق البقاء!
Halaman tidak diketahui