وانطلقت الأحداث حتى غادر الملك البلاد، وشهد عيسى ذلك في الإسكندرية، ورأى بعينيه تحركات الجيش، كما رأى المظاهرات الصاخبة، وعانى طوال الوقت من عواطف متضاربة أطاحت به في دوامة ما لها من قرار، شعر بفرحة كبرى عزت على التصديق والتأمل، وشفت صدره من آلام المقت المكبوت، ولكن هذه الفرحة لم تنطلق إلى ما لا نهاية، وإنما ارتطمت بسحائب دكناء كدرت بعض الشيء صفاءها، أهو رد الفعل الطبيعي لكل شعور عنيف؟ أم هو رثاء تجود به النفس المطمئنة أمام جثة غريمها الجبار؟ أم إن تحقيق هدف من أهدافنا الكبرى يعني في الوقت ذاته زوال سبب من أسباب حماسنا للوجود؟ أم إنه عز عليه أن يتحقق هذا النصر الكبير من غير أن يكون لحزبه الفضل الأول فيه؟
وهكذا وجد زوار عبد الحليم باشا شكري في قصره بزيزنيا، كانوا مزيجا من السرور والوجوم والقلق، وراح الباشا يقول: سبحان من له الدوام.
وبطريقته الخطابية في الحديث، قال الشيخ عبد الستار السلهوبي، عضو الشيوخ: انتهى فاروق، ولكننا نريد أن نطمئن على أنفسنا.
وتمطت موجة من الضحك العصبي الخالي من السرور الحقيقي، غير أن عيسى تساءل، وهو يجلس إلى جانب أصدقائه سمير عبد الباقي، وعباس صديق، وإبراهيم خيرت: ماذا عن المستقبل؟
فأجابه عبد الحليم باشا شكري متجاهلا الغرض الحقيقي من السؤال: سيكون خيرا من الماضي بلا ريب!
فقال الشيخ عبد الستار السلهوبي: لعله يسأل عن مستقبلنا نحن!
فقال الباشا بوجه غير معبر كما يجدر بسياسي عتيق: سيكون لنا دورنا بغير جدال.
واهتز جذع الشيخ عبد الستار كالمقرئ في الفترات المتخللة للتلاوة، ثم قال بعنف: هذه الحركة ليست في صالحنا .. إني أشم الخطر على بعد آلاف الأميال، يوم ألغيت المعاهدة خسرنا الملك والإنجليز، واليوم سنخسر كل شيء.
فقال سمير عبد الباقي: نحن آخر من يتوقع الخطر، أو هذا ما ينبغي.
وقال إبراهيم خيرت: إن ما حدث اليوم هو ما كنا نفعله لو ملكنا القوة اللازمة.
Halaman tidak diketahui