فقال الرجل وهو ينهض: انتظر حتى أصلي العشاء!
فتساءل مهران باسما في خبث: ألم ينقض سلامنا وضوءك؟
22
غادر أحمد عبد الجواد بيته. ناقلا خطاه على مهل، متوكئا على عصاه. لم يعد اليوم كالأمس، فمنذ أن صفى دكانه لم يكن ليغادر بيته إلا مرة واحدة في اليوم، كي يعفي نفسه ما استطاع من الجهد الذي يتحمله قلبه عند ارتقاء السلم. ومع أن الوقت لم يعد سبتمبر إلا أنه رأى أن يرتدي ملابسه الصوفية؛ إذ إن الجسم النحيل لم يعد يطيق الجو اللطيف الذي كان يمرح فيه الجسم البدين القوي الذي كان. والعصا التي صاحبته منذ الصغر رمزا للرجولة وآية على الأناقة باتت متوكأه في مشيته المتمهلة، التي لا يطيقها قلبه إلا بجهد ومشقة. ولكن بقي له رونقه وأناقته، فما زال يحرص على انتقاء الأزياء الفاخرة، ويتطيب بالعطر الفواح متمتعا بجمال الشيخوخة ووقارها، وعندما اقترب من الدكان مالت نحوه عيناه بحركة لاإرادية. رفعت اللافتة التي حملت اسمه واسم أبيه أعواما وأعواما، وتغير مظهر الدكان ومخبره، فانقلب دكان طرابيش للبيع والكي، وتقدمه الوابور والقوالب النحاسية، وتخايلت لعينيه لافتة وهمية، لم ترها عين سواه، عالنته بأن زمانه قد ولى، زمان الجد والكفاح والمسرات، وها هو في ركن المعاش ينزوي، يستدبر دنيا الآمال ويستقبل دنيا الشيخوخة والمرض والانتظار، وتقبض القلب الذي طالما - وما زال - يهيم بحب الدنيا وأفراحها، حتى إن الإيمان نفسه لم يكن في نظره إلا مسرة من مسراتها ودافعا إلى أحضانها. فلم يعرف - حتى اليوم - العبادة الزاهدة التي تدير الظهر للدنيا وتتطلع إلى الآخرة وحدها. لم يعد الدكان دكانه ولكن كيف تمحى ذكراه من ذهنه وهو الذي كان مركز النشاط، ومحط الأنظار، وملتقى الأصحاب والأحباب، ومبعث العزة والجاه؟ «ولك أن تعزي نفسك فتقول: زوجنا البنات، وربينا الصبيان، ورأينا الأحفاد، ولنا مال موفور يسترنا حتى الموت، وذقنا حلو الدنيا سنين - سنين حقا؟ - وآن لنا أن نشكر، والشكر لله واجب، دائما أبدا»، ولكن آه من الحنين! وسامح الله الزمن، الزمن الذي مجرد حياته - حياته التي لا تتوقف لحظة - خيانة وأي خيانة للإنسان. لو أن الأحجار تنطق لسألت هذه الأماكن أن تحدثني عن الماضي، لتخبرني أحقا كان هذا الجسم يهد الجبال؟ وهذا القلب المريض لا يكف عن الخفقان؟ وهذا الثغر لا يمسك عن الضحك؟ وهذا الشعور لا يعرف الألم؟ وهذه الصورة معلقة في كل قلب؟ ومرة أخرى سامح الله الزمن!
وعندما انتهى به المسير الوئيد إلى جامع الحسين، خلع حذاءه ودخل وهو يتلو الفاتحة. ومضى إلى المنبر حيث وجد في انتظاره محمد عفت وإبراهيم الفار فصلوا المغرب جميعا. ثم غادروا المسجد متجهين نحو الطمبكشية لزيارة علي عبد الرحيم؛ كان ثلاثتهم قد اعتزلوا العمل ليتفرغوا لمقاومة الأمراض، غير أنهم كانوا أحسن حالا من علي عبد الرحيم الذي لم يعد بوسعه أن يفارق الفراش، وقال السيد أحمد متنهدا: يخيل إلي أني عما قريب لن أستطيع الذهاب إلى الجامع إلا راكبا .. - الحال من بعضه ..
فعاد الرجل يقول في قلق: شد ما أخاف أن أضطر إلى ملازمة الفراش كالسيد علي، إني أدعو الله أن يكرمني بالموت قبل أن يدركني العجز .. - ربنا يكفيك ويكفينا كل سوء ..
فبدا كالخائف وهو يقول: غنيم حميدو لبث مشلولا في الفراش زهاء العام، وصادق الماوردي عانى هذا العذاب شهورا، فاللهم أكرمنا بالنهاية السريعة إذا حم القضاء.
فضحك محمد عفت قائلا: إذا غلبتك الأفكار السوداء انقلبت امرأة، وحد الله يا أخي!
ولما بلغوا بيت علي عبد الرحيم أدخلوا إلى حجرته، فبادرهم يقول في جزع: تأخرتم عن ميعادكم، سامحكم الله ..
بان ضجر الرقاد في عينيه، فلم يعد يعرف الابتسام إلا ساعة اجتماعه بهم، وجعل يقول: لا عمل لي طول اليوم إلا الاستماع إلى الراديو، ماذا كنت أصنع لو تأخر استعماله في مصر حتى اليوم! كل ما يذيعه يطيب لي، حتى المحاضرات التي لا أكاد أفهمها، ومع ذلك فلم نكبر إلى الحد الذي يستوجب هذا العذاب، أجدادنا كانوا يتزوجون في مثل أعمارنا!
Halaman tidak diketahui