Sudan Misri
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
Genre-genre
مصر هبة النيل والجيش سياج الدولة
مصر هبة النيل كلمة مأثورة عن هيرودوت؛ بل حكمة صادقة توارثتها الأمم جيلا عن جيل، ولقد صرفت مصر الحديثة نحو 103 سنوات وهي تقذف بعشرات الألوف من أبنائها وبالملايين من مالها إلى فيافي السودان الشاسعة؛ لضم أبنائها السودانيين أو المصريين السود إلى أحضانها فتقرب بينها وبينهم الشقة، وتأمن على مائها وحياتها؛ إذ إن مصر والسودان شقيقان بل صنوان لا ينفصلان قد جمعت بينهما رابطة الدين واللغة والنيل والمصالح، والنيل وحده يحيي المملكة الممتدة من شواطئ البحر الأبيض شمالا إلى 200 كيلو متر جنوبي الخرطوم.
فقبلي هذا الخط يروي النيل شقة ضيقة من الأرض على ضفتيه وتسعة أعشار الأراضي الأخرى ترويها الأمطار الغزيرة التي تهطل هناك، وفي شمال هذا الخط حيث لا يهطل المطر فلا نبات ولا حيوان ولا إنسان، فالحياة كلها بالنيل أو بقرب النيل. فإذا ركبت طيارة مجتازا وادي النيل من مصبه إلى ينابيعه برزت لعينيك أولا دلتا النيل بحلة سندسية خضراء مترامية الأطراف، وأما بعد القاهرة فيبتدئ وادي النيل ضيقا بين جبلين، فترى في وسط هذا الوادي خطا أزرق هو النيل، وعلى جانبيه خطان أخضران هما ضفتاه يأخذان بالضيق تدريجيا حتى الخرطوم، وإذا سرحت النظر على طول هذه المسافة شرقا وغربا فإنك لا ترى بعد هذا الوادي المبارك الخصب غير رمال قاحلة مقفرة. إن مساحة مصر تعادل نحو مليون كيلو متر مربع، أي ضعف مساحة فرنسا تقريبا، ولكن تسعة أعشار هذه المساحة صحراء مجدبة، ومساحة مصر الزراعية أو القابلة للزراعة لا تزيد كثيرا على مساحة بلجيكا البالغة نحو ثلاثين ألف كيلو متر مربع، ويقدرون عدد السكان بالكيلو متر المربع في بلجيكا بنحو المائتين، ويعتبرونها مع بعض مقاطعات ألمانيا وإنجلترا أكثر بلاد العالم ازدحاما بالسكان، وهم لا يزيدون على السبعة ملايين ونصف مليون. فماذا يقال عن مصر ومساحتها الزراعية لا تزيد عن مساحة بلجيكا، وهي تموج بنحو أربعة عشر مليونا من السكان وسكان الكيلو متر المربع بالمنوفية 360 شخصا، ومتى تحسنت الأحوال الصحية وقلت الوفيات خصوصا وفيات الأطفال فستضيق البلاد بمن فيها، وسيجرف تيار المهاجرة هذه الزيادة إلى السودان متتبعا مجرى النيل؛ لأن النيل وحده مصدر الزرق والحياة.
إن الفضل الأكبر في فتح السودان سنة 1820 ثم باسترجاعه سنة 1898 عائد إلى الفلاح الذي هو عماد الجيش المصري. نعم، إن البريطانيين الذين كانوا نحو ثلث القوات المصرية سنة 98 قد اشتركوا بالمدافع وأبلوا بلاء حسنا وإنما كانوا بعد الانتهاء من القتال يعودون مهرولين إلى بواخرهم بالنيل التي أقلتهم من مصر إلى الخرطوم، وهذه حملة ولسلي التي أرسلوها سنة 85 لإنقاذ غوردون كان يخفرها في الصحراء الجيش المصري ولولاه ما استطاعت التقدم، ولما وصلت مراكبهم إلى شلالات دال، منعها التيار عن المرور فحملها الجيش المصري على أكتافه مسافة ثلاثة أميال.
أما الذي قطع الألف ومائتي كيلو متر من أسوان إلى الخرطوم على قدميه، والذي مد الخطوط الحديدية والتلغرافية تحت وابل من الرصاص وتحت نار محرقة، والذي ضحى دمه وماله بصحاري السودان فهو الفلاح المصري.
لقد كان هم الإنكليز من يوم احتلوا هذه البلاد أن يجعلوا مصر مزرعة تقدم القطن للانكشير، وأن يجعلوا الجيش قوة بوليس حربي في قبضتهم كهيئة البوليس والخفر لهذه المزرعة. ففي سبيل المزرعة القطنية أهملوا الشئون الصحية والتعليم وكل ما يرقي مدارك الأمة، وفي سبيل البوليس أهملوا أمر الجيش فلم يعلموه تعليما يتفق مع روح العصر؛ فصار جيش مصر الذي فتح الأقطار والأمصار على عهد محمد علي وإبراهيم ومن خلفوهما أضعف جيوش العالم، لا لأن الاتفاقات الدولية حددت عدده بثمانية عشر ألف مقاتل؛ بل لأن الإنكليز حولوه بعد الاحتلال إلى بوليس بسيط جميع قواده منهم، وأكثروا عدد الضباط الإنكليز فيه حتى إنه لم يبق لمصري مقام، واقتصروا في تعليمه على ما يكفي لإنالة أغراضهم.
قال الكولونل بوفور الفرنساوي في تقرير رفعه إلى حكومته عن جيش إبراهيم باشا: «إنني واثق كل الثقة بأنه ليس في العالم كله جندي قوي متين كالجندي المصري؛ فهو قوي العضل باسل صبور على المكاره كبير الجلد يتحمل أشد المتاعب، ولا يستطيع جندي في العالم أن يفعل ما يقدر الجندي المصري علي فعله.»
هذا الجندي المصري الباسل كانت أعماله في خدمة المدنية والحضارة أعمالا عظيمة الشأن، فهو الذي ألف الأمة السودانية أمة واحدة وقد كانوا فرقا وشيعا وسلاطين وملوكا، وهو الذي علمهم لبس الرداء، وهو الذي أبطل النخاسة منذ عهد محمد علي وقبل إبرام اتفاق 1877 بين مصر وإنكلترا، وهو الذي أنشأ المدارس في السودان، وهو الذي فتح القارة السوداء فاجتاز السودان إلى زنجبار فأدخل في حماية مصر بعد الأوغندا زنجبار بمعاهدة تعرف بمعاهدة سليم، وهو الذي يقوم الآن على حراسة النيل وعلى حفظ الأمن في تلك الأقطار المترامية الأطراف، وهو إلى اليوم يواصل عمله بجد ونشاط ففي سنة 1916-1917 أتم تسكين دارفور
1
وسواها من أطراف البلاد التي فيها من أيدي الأعداء، وهو الذي قابل في جهة الأوغندا الألمان القادمين من تانجانيكا، ولهذا نظر الإنكليز في اتفاق 1899 إذ اشترطوا أن يكون لهم حق الشركة في ما يفتح من البلاد؛ لعلمهم أن الجندي المصري هو الجندي الوحيد القادر على الفتح، وعلى صيانة هذا الفتح، وضبط الأمن بالسودان.
Halaman tidak diketahui