Sudan Misri
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
Genre-genre
وأما إذا كان عاليا جدا فمن حيث إن الثلاثة آلاف مليون متر مكعب تنسحب من النهر في الغالب حال مرور دورة الفيضان فينقص مقدار ماء النهر في تلك الفترة نقصا كبيرا، وبذا يساعد مساعدة فعلية على تخفيض الفيضان في مصر، وإنشاء هذا الخزان من الأمور الجوهرية لإنماء السودان في المستقبل؛ لأن مصر تستمد ما تحتاج إليه من الماء من النيل الأبيض، ولكن ماء النيل الأزرق هو وحده الذي يفيد جزيرة السودان على أن مصر سيكون لها نصيب أيضا من الفائدة التي تنجم عن إنشاء ذلك الخزان؛ لأنه يعتبر من أهم أعمال ضبط النيل؛ إذ النيل الأزرق هو الذي يحدث الفيضان، وسيكون موضعه حيث المياه لا تزال خالية من الطمي؛ لتيسر خزنها عند ذروة الفيضان.
أما من حيث السودان فإنه لم ينشأ خزان في إحدى نقط المسايل العليا للنيل الأزرق كما أن ما يراد إدخاله من التحسين في سهل الجزيرة سيكون محدودا بمقدار المياه المخزونة في خزان سنار. فخزان أعالي النيل الأزرق بمحتوياته المتقدم ذكرها سيقدم إلى السودان كل ما يحتاجه من الماء حتى بعد تمام نمو أرض مصر في سنة 1925 بمدة طويلة وقبل ذلك التاريخ وإلى أن تتم أعمال السدود المتعلقة بخزان بحيرة ألبرت تستعمل المقادير الزائدة بتكبير إيراد مصر المائي، ولإتمام نماء السودان في حينه يجب زيادة حجم هذا الخزان زيادة عظيمة في العقود الأخيرة من القرن الحالي، ويرجح أن هذا يمكن إجراؤه عند الاقتضاء، وينبغي إنجاز يسع سبعمائه مليون متر مكعب حوالي سنة 1930.
ويجوز تقدير النفقات اللازمة له بمبلغ مليون جنيه ونصف مليون، ويقتضي الحال البحث في مقدار ما يتحتم على حكومة السودان القيام به من هذه النفقات.
مصر بعد 35 سنة والسودان بعد 53 سنة
لا يبقى في مصر بعد 35 سنة شبر واحد من الأرض لم يزرع، فماذا يفعل أبناء المصريين الذين يولدون بعد أن تضيق الأرض بآبائهم؟؟ إنهم لا يجدون مكانا يلجأون إليه سوى السودان، والسودان بعد 53 سنة لا يتوصل إلى إصلاح ثلث أرض الجزيرة، إذا سلمنا بقول السير مكدونالد بأن الأرض المعدة لزرع القطن في الجزيرة ثلاثة ملايين فدان، مع أن مساحة الجزيرة وهي الأرض الواقعة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض عشرة ملايين فدان، قالوا: إن ثلاثة ملايين فدان منها صخرية، وليست أراضي السودان محصورة بالجزيرة فقط فهناك السودان الشرقي وتربته خصبة وأوديته كثيرة يسهل حصر المياه فيها، ومتى حصرت هذه المياه سهل الري، وهذه أراضي كردوفان كانوا يصفونها بأنها أهراء السودان لكثرة غلالها، وهذه بلاد دارفور ذات أرض خصبة فضلا عن المراعي الواسعة والمواشي العديدة والمعادن المتنوعة والأخشاب. فالسودان كبير جدا وغناه ناجم عن مساحاته الواسعة، ولقد عرفنا أن أول من زرع القطن في السودان هو ممتاز باشا الذي عين حاكما عاما، ولا يزال السودانيون يزرعون هذا القطن حتى الآن ويسمونه بقطن ممتاز، ومنه يصنعون الدمور السوداني الذي اشتهر في مصر ذاتها بملابس الصيف.
إن الدلتا - أي الوجه البحري من القاهرة حتى البحر المتوسط - أربعة ملايين و800 ألف فدان يزرع منها الآن زرعا دائما ثلاثة ملايين فدان ، والصعيد أي الوجه القبلي مليونان و500 ألف فدان يزرع منها الآن مليونان و200 ألف فدان، فمجموع مساحة القطر المصري سبعة ملايين و300 ألف فدان منها 5 ملايين و200 ألف فدان تزرع الآن، ولكن هناك البحيرات ومساحتها 200 ألف فدان تربى فيها الأسماك ولا يستطاع تحويلها إلى أرض زراعية، ومن المعروف المشهور أن الأهالي يودون إعداد الكثير من الأراضي البور للزراعة، ولكن الحكومة لا تجد الماء الكافي لري تلك الأراضي، مع معرفتها أن عدد الأهالي يزداد في كل عام من 200 ألف إلى 250 ألفا، وأن الحاجة ماسة إلى إصلاح 60 ألف فدان من البور؛ ليظل الرزق متوافرا للأهالي، وإلا حل بفريق منهم الضيق والعسر.
لقد كان السير جارستن يقول بتقاريره بعد استعادة السودان وقبل ظهور المطامع بمظهرها الجلي: إنه لا يجوز إعطاء السودان قطرة واحدة من الماء قبل أن تتم جميع السدود والخزانات في مصر، وقد قدر المال اللازم لهذه السدود والخزانات يومئذ بمبلغ 22 مليون جنيه، ولكن حكومة السودان أخذت منذ سنة 1902 باختبار زرع القطن في السودان فلما ثبت لها نجاح الأشموني والعفيفي حولت الأمر إلى يد الشركة فأعطتها في سنة 1903 امتيازا بزرع عشرة آلاف فدان فقط، وإذا كانوا قد قالوا إن اللقمة مفتاح الفم، فإن الشركة لم تلبث أن طلبت عشرة آلاف فدان أخرى، وكانت حجتهم لأخذ الماء أن خزان أسوان يوفر من الماء لمصر ما يؤخذ للعشرة الآلاف فدان في الجزيرة، ولما تم رفع الخزان في سنة 1912 قالوا إن رفعه يمكن حكومة السودان من إصلاح عشرة آلاف فدان أخرى، كأن هذا الخزان أنشئ لذلك، وحقيقة الواقع أنه أنشئ لغير هذا الغرض، أي لإمداد الزراعة الصيفية، فهو يخزن 2400 مليون متر مكعب فقط وهذه الكمية لا تكفي. أما خزان مكوار فقد قدروا له 500 مليون متر مكعب لري 300 ألف فدان، ولا ندخل هنا في التفصيل ولكنا نلمح الخطر من جانبين؛ الأول: تحويل قسم من مياه الري، ومصر لا تجد من الماء ما يكفيها، والثاني: تحويل طمي النيل الأزرق إلى الجزيرة وكل خصب تربة مصر من ذلك الطمي وحده، وإذا كانوا قد قالوا إن مصر بحاجة إلى 50 مليار متر مكعب من الماء وإن السودان إذا أصلح فيه مليون فدان يكون بحاجة إلى 6 مليارات متر مكعب وأن هذه الكمية من المياه لا تتوافر لمصر والسودان إلا بإنشاء الخزانات. فإن هذا العمل ذاته يقضي حتما بأن تكون مصر والسودان متحدين تحت حكم واحد فيهما يوفق بين جميع المصالح، ولا يجعل تلك المصالح متضاربة متناقضة، ولا يجعل مصر عرضة للحاجة ولاستبداد من يحكم السودان بها.
ومن العبث قول هؤلاء السياسيين الإنكليز إن المصريين يريدون حكم السودانيين، فإن المصري لا يتطلع إلى ذلك، ولكنه يقول للسوداني إنا أخوة متساوون يندمج أحدنا بأخيه وتندمج مصلحة كل منا بمصلحة الآخر حتى تكون مصلحة واحدة، فلا نفضل الجزيرة على الدلتا ولا الدلتا على الجزيرة؛ بل نعمل معا لإحياء الاثنتين لنا. فالمصري سوداني في السودان والسوداني مصري في مصر، وإذا أحيينا الجزيرة معا وعمرناها فإنا نحييها ونعمرها لأهلها وسكانها لا للشركة التي تدفع الآن لأصحاب الأراضي في تلك الجزيرة 50 قرشا ثمنا للجدعة الواحدة (والجدعة تعادل خمسة أفدنة وثلثا) قال السير مردوخ مكدونالد في تقريره عن مياه النيل (1919): إن البحث الدقيق دلنا على أن مصر تحتاج في المستقبل إلى 50 مليار متر مكعب من الماء لتروي سبعة ملايين و100 ألف فدان، وعندما تكون مصر قد بلغت هذا الحد من العمران - وهو الحد الأخير الذي لا زيادة بعده لمستزيد - يكون قد أعد في السودان مليون فدان للزراعة يحتاج إلى ستة مليارات متر مكعب من الماء؛ لأن أرض السودان تحتاج من جراء حرارة الجو إلى كمية من الماء أكبر من الكمية التي تحتاج إليها مصر، ولكن أرض السودان تحتاج إلى الراحة أكثر من أرض مصر فلا يزرع القطن في الأرض السودانية إلا مرة في كل ثلاث سنين، فإذا أعد 300 ألف فدان لزرع القطن يزرع منها في السنة مئة ألف فدان فقط.
هذا ما يقوله السير مكدونالد، وفاته أن يقول إن خصب تربة مصر ناشئ عن طمي النيل الأزرق فإذا تحول هذا الطمي إلى الجزيرة وحرمت منه مصر قل خصب مصر وزاد خصب الجزيرة.
وقد ذكر السير مكدونالد في تقريره عن انخفاض النيل سنة 1913 فقال: إن مثل هذا الانخفاض كان يحدث قديما المجاعة في مصر، وإن هذا الانخفاض لو أنه وقع وأعمال الري في السودان قد تمت لكان الضرر بمصر أشد وأكبر، ونصح هذا المهندس بإنشاء قناطر نجع حمادي ومد الترع المستمدة مياهها من قناطر إسنا.
Halaman tidak diketahui