آلمني جدا ذلك الاستخفاف، ولكني سكت.
وكتبت بعد يومين عدة رسائل طويتها على صور شهاداتي وبعثت بها في البريد مسجلة إلى دوائر عديدة، وقعدت أنتظر الجواب فلم يرد علي أحد، وأخيرا تذكرت مثلا قرأته: «من سعى على رجله رعى»، فقمت أبرز نفسي وأصلح من هندامي، ثم حملت صور شهاداتي ورحت إلى إدارة إحدى الشركات الكبرى فقابلني مديرها باسما فاستبشرت وتجرأت عليه وعرضت مطلبي، فقال: نحن نفتش عن شاب من مثلك أنيق لطيف حسن السمت.
فأجبت على حديثه بحياء وخفر، فقال: أتعرف شيئا عن الميكانيك المركز؟! محتاج إلى من يعرف شيئا يسيرا من هذا، عليك أن تفهم المشترين شيئا عن أسرار الماكينات والمحركات وغيرها.
فقلت: لا يا سيدي، ما علمونا هذا.
فسكت هنيهة ثم قال: إني آسف يا عزيزي.
فودعت وانصرفت لأدخل باب شركة زراعية إذا بمديرها يباحثني في الأسمدة الكيماوية والتربة والغرس والمكافحة والحرث، فوجدتني كالأطرش في الزفة ... وخرجت من مكتبه يائسا.
ونمت تلك الليلة قانطا، وما أصبحت حتى تشددت فقصدت شركة تسفير فطفق مديرها يسألني عن الموانئ والمسافات بين القارات والأقطار فإذا بي لا أعي شيئا، بل نسيت كل ما أعددته من الجغرافيا لاجتياز الامتحان، مع أنه لم يمض على ذلك أكثر من ثلاثة أشهر.
وسمعت أن أوتيلا كبيرا أجنبيا يحتاج إلى كاتب فأبرزت لمديره شهاداتي فقبلني بلا بحث، واشتغلت هناك أياما، ولما استأنست صرت أشارك بعض الزبائن في الحديث عن الأدب والأدباء الكبار الذين درسناهم، وذات يوم بينما كنا نتحدث عن المتنبي إذا بالخواجا يتبرم، ولكنه انتظر انتهاء المؤتمر ليقول لي في مكتبي: ما هكذا يا عزيزي تساس الفنادق، نحن هنا في أوتيل سان فنسان لا في شارع المتنبي ... وحاولت أن أقنعه أني أتحدث عن المتنبي لا عن شارعه المعروف ولكنه لم يفهم عني.
فأنفت أن أعمل في محل لا يفهم مديره الأدب ولا يعنيه منه شيء، أردت أن أظهر ثقافتي التي أحرزت بها شهاداتي فإذا بي أخسر مركزي، فلا حول ولا ...
وقصدت بعد أسبوع إدارة جريدة كبرى فأكبروا ما في يدي من صور شهادات، فكلفوني الكتابة، ثم الترجمة فرأوني ضعيفا جدا، واستكتبوني في المواضيع المحلية والاجتماعية فما أعجبهم إنشائي لضعفه وركاكته وأخطائه الإملائية والنحوية. ولا تسل عن جرح قلبي البليغ حين سمعت رئيس التحرير يقول: عجيب! كيف نلت هذه الشهادات؟ أنا ليس في يدي شيء منها، وهذا إنشائي، اقرأ يا أستاذ.
Halaman tidak diketahui