إن الذي عبرت لك عنه بلغة الجدود وسميته «رغبة» هو ما يسميه اليوم علماء النفس «ميلا»، ومن هذا الميل يتولد الانتباه، إن الانتباه أنواع في كتب علماء النفس، ولا يعنينا منها الآن إلا العفوي، فالانتباه العفوي يتولد فينا من اهتمامنا بالشيء وميلنا إليه، وهذا يكون في أشخاص ولا يكون في آخرين، فإذا حصلت عليه بالطبع غنيت عن التطبع، ولكنه إن لم يكن فيك طبعا فباستطاعتك تقويته إذا أردت، فعليك أن تغالب نفسك لتخضعها إلى إرادتك فتجمع فاعليتها حول مركز لا تميل إليه بالفطرة، ولكنك مضطر إليه اضطرار المريض إلى قبول علاج تتقزز منه نفسه، ولولا هذا الانتباه الإرادي ما كنت حيوانا أسمى وأفضل من جميع مخلوقات الله كما ادعينا وندعي. مارس هذا الانتباه مرارا فترى أنه استحال انتباها عفويا أو كالعفوي، وهكذا تدركه بدون مشقة. استعن بالعادة فهي التي تنفعك هنا، فإذا تجلدت وثابرت على اقتبال ما تكره استحال ما كنت تكره إلى شيء تميل إليه.
إن الرياضي يحتاج في أول أمره إلى إرادة وجهد، ولكنه متى استغرق في تفكيره ينسى نفسه، ويميل كل الميل إلى مسائله فتذلل جميع العقبات أمامه ويصبح منصرفا بكليته إلى شئون مشكلاته وكل معضلاته، أي إن انتباهه يصبح عفويا، كل ذلك بحكم العادة التي تهون علينا تحمل كل شقاء، وتخلق فينا طبيعة ثانية.
لا أنكر أن فينا - نحن الأساتذة - وجوها كالحة لا تحسن استرعاء الانتباه؛ لأن الانتباه ينتج عن أسباب انفعالية، وإذا كان الأستاذ جامدا عاجزا عن التفاعل فمن أين له أن يوقظ في طلابه العوامل الانفعالية؟!
إن معلما كهذا يا ولدي كشربة زيت الخروع، إنها كريهة الطعم ولكنها مفيدة فأجبر نفسك على قبولها، ولعلك بعد قليل تنتقل إلى حضرة أستاذ آخر ينسيك طعم هذه الشربة، والإنسان معرض دائما لاقتبال مرارة الحياة وحلاوتها.
يقول المعلم النفساني ريبو: «اجعل الشيء جذابا بصورة اصطناعية إذا كان غير جذاب بطبيعته، وهذا ما يقدر عليه أساتذة ويعجز عنه آخرون، فلا بد للأستاذ من خفة روح، فكلمة ظريفة تنعش الصف وتولد فيه حياة وانتباها، وهذا ما يجب أن يعنى المعلم بتوليده في جو الصف، فبدون الانتباه كل الأعمال ضائعة، إن الانتباه يزيد سرعة الإدراك فتتضح التصورات للمنتبه وتبين وتزداد ترتيبا، والانتباه يثبت الذكريات ويحفظها، ومن هذا يتضح لك أن نجاحك العظيم الذي تصبو إليه لا يتحقق إلا بانتباهك الأولي في المدرسة، حتى إذا خضت عباب بحر الحياة استفدت من الانتباه الذي بلغ البشرية ما بلغت إليه من عجائب الاختراعات والآثار الفنية.»
قال جيمس: «يجب على الإنسان أن يحسن ملكة الجهد فيه دائما بالتمرن عليها كل يوم.» فإذا كنت تريد أن تكون رجلا فعليك أن ترغم نفسك كل يوم أو يومين على القيام بأمور لا تميل إليها، حتى إذا دقت ساعة الشدائد وجدت نفسك قادرا على الصبر والمقاومة، وهذه ضمانة الحياة، فلا تقل لي إذن أنا لا أفهم هذا الدرس، إنه لا يدخل عقلي.
إن كلامك هذا لا يدخل عقلي أنا، إنك لم ترد، ولو أردت أن تنتبه لفهمت وأدركت، أما إذا كنت تنتبه وتريد ثم لا تفهم فالأحرى بك أن تتخلى عن مقعدك المدرسي لمواطن آخر.
إن هذا الكلام يؤلمك، ولكنه يؤلمني أيضا أن أرى تلاميذ لا يستحقون نعمة العلم، إن لهم عملا آخر في الحياة فلينصرفوا إليه، فإذا لم يخدموا وطنهم في هذه الناحية فقد يبرزون في ناحية أخرى على ما لا يقدر عليه العلماء.
ما أحلى أيام المدرسة! إنها كلمة تدور على كل شفة ولسان، وما أجملها خارجة من فم رجل انتبه واستفاد وهو يتأسف لأنه لم يغترف من العلم والمعرفة أكثر مما اغترف.
أما من يقولها من المقصرين في مضمار الحياة من الكسالى الذين لم يفلحوا، فإنه يقولها متذكرا راحته واتكاله على ذويه، حين كان ينفق من مال جناه غيره وهو لا يدري أنه يسرق نفسه، إن هذا البائس يعثر لسانه بالخيبة المرة حين يقول: ما أحلى أيام المدرسة!
Halaman tidak diketahui