سُؤالات السُّلمي للدَّارقُطني
تأليف: أبي عبد الرحمن محمَّد بن الحُسين السُّلمي المتوفى (٤١٢هـ)
تحقيق: فريق من الباحثين، بإشراف وعناية
د. سعد بن عبد الله الحُمَيِّد
ود. خالد بن عبد الرحمن الجريسي
1 / 1
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ التَّحْقِيقِ
الحَمْدُ للهِ الَّذِي ظهر لأوليائِهِ بنُعوتِ جلالِهْ، وأنارَ قلوبَهم بمشاهدةِ صفاتِ كمالِهْ، وتَعرَّفَ إليهم بما أسداه إليهم من إنعامِهِ وإِفضالِهْ؛ فعلموا أنه الواحدُ الأحَدْ، الفردُ الصَّمدْ؛ الذي لا شريكَ له في ذاتِهِ ولا في صفاتِهِ ولا في أفعالِهْ، بل هو كما وصف به نفسَهُ وفوقَ ما يَصفُهُ به أحدٌ من خلقِهِ في إكثارِهِ وإقلالِهْ، لا يحصي أحدٌ ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسِه على لسانِ مَن أكرمهم بإرسالِهْ.
ونشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له إلهًا واحدًا أحدًا فردًا صمدًا جَلَّ عن الأشباه والأمثالْ، وتَقدَّسَ عن الأضدادِ والأندادِ والشركاءِ والأشكالْ، ونشهد أن محمدًا عبدُهُ ورَسولُهُ القائمُ له بحقِّهْ، وأمينُه على وحيِهْ، وخِيرته مِن خلقِهْ، أرسلَه رحمةً للعالمينْ، وإمامًا للمتَّقينْ، وحسرةً على الكافرينْ، وحُجَّةً على العبادِ أجمعينْ، بعثَه على حينِ فَتْرةٍ مِن الرُّسُلْ، فهدى به إلى أقومِ الطُّرُقِ وأوضحِ السُّبُلْ، وافترض على العبادِ طاعتَهُ ومحبَّتَهُ وتعظيمَه وتوقيرَهُ والقيامَ بحقوقِهْ، وسدَّ إلى جنتِهِ جميعَ الطُّرُقِ فلم يفتحْ لأحدٍ إلا من طريقِهْ، فشَرَح له صدرَهْ، ووضع عنه وِزْرَهْ، ورَفع له ذِكْرَهْ، وجعل الذُّلَّ والصَّغارَ على مَن خالَف أمرَهْ، فلم يزلْ ﷺ قائمًا بأمرِ الله لا يَرُدُّه عنه رادّ، مُشَمِّرًا في مرضاةِ اللهِ لا يَصُدُّه عن ذلك صادّ، إلى أن أشرقتِ الدنيا برسالتِهِ ضياءً وابتهاجَا، ودخل الناسُ في دينِ اللهِ أفواجًا أفواجَا. بلَّغ الرسالةْ، وأَدَّى الأمانةْ، ونَصَح الأمةْ، وجاهد في اللهِ حقَّ الجهادِ
1 / 5
وأقام الدِّينْ، وترك أمتَهُ على البيضاءِ الواضحةِ البينةِ للسالكينْ، وقال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *﴾ [يُوسُف: ١٠٨] (١) .
فصلَّى الله على نبيِّنا كلَّما ذكره الذاكرون، وغفَلَ عن ذِكْره الغافلون، أفضلَ وأكثَرَ وأزكى ما صلَّى على أحدٍ مِنْ خَلْقِه، وجزاه اللهُ عنا أفضَلَ ما جزى مُرْسَلًا عَمَّنْ أُرْسِلَ إليه.
أما بعد:
فيسرُّنا أن نضعَ بين يديكَ- أخي القارئ- أحدَ كتبِ السُّؤالاتِ المهمَّة، وهو "سؤالاتُ السُّلَميِّ للدارقطنيِّ"؛ في جرحِ الرُّواةِ وتعديلِهم.
وكتبُ السُّؤالات نمَطٌ من التصنيفِ معروفٌ؛ يجمع فيه مُصَنِّفُه مايوجِّهُه إلى شيخِه من أسئلةٍ عمَّا يُشْكِلُ عليه من المسائلِ في الفنِّ الذي اشتُهِرَ به الشيخ، أو ما يهمُّه معرفةُ رأي شيخِهِ فيه.
وتوجيهُ الأسئلةِ إلى أهلِ العلمِ والذِّكْرِ أصلٌ دلَّت عليه نصوصُ الكتابِ والسنَّةِ:
فقد أَمرَنا اللهُ في مُحكَمِ التنزيلِ بسؤالِ أهلِ الذِّكْرِ واستفتائِهم؛ قال سبحانه: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النّحل: ٤٣] .
وقد وردتْ آياتٌ كثيرةٌ فيها ذِكْرُ أسئلةٍ وُجِّهتْ إلى النبيِّ ﷺ؛
_________
(١) مقتبسٌ من مقدمة ابن القيم لكتاب "إغاثة اللهفان" بتصرُّف.
1 / 6
كما في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٨٩] (١) .
ودواوينُ السنةِ مليئةٌ بالأسئلةِ التي كان يوجِّهُها الصحابةُ ﵃ إلى النبيِّ ﷺ، وكان يمكنُ أن تكونَ أكثرَ من ذلك، لولا نهيُ الله ﷾ لهم بقولِه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ *﴾ [المائدة: ١٠١] .
فمن ذلك ما أخرجه مسلمٌ في "صحيحِه" (٢) من روايةِ محمَّدِ بنِ زيادٍ، عن أبي هريرةَ ﵁ قال: خطبنا رسولُ الله ﷺ فقال: «يا أيُّها الناسُ قَدْ فَرض اللهُ عليكم الحجَّ فحُجُّوا»، فقال رجلٌ: أَكُلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسولُ الله ﷺ: «لو قلتُ: نعم، لوجَبَتْ، ولمَا استطعتُمْ»، ثم قال: «ذروني ما تَركتُكم؛ فإنما هلك مَن كان قبلَكم بسؤالهِم واختلافِهم على أنبيائِهم، فإذا أمرتُكم بشيءٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدَعُوه» .
وخرَّجه الدارقطنيُّ من وجهٍ آخرَ مختصرًا وقال فيه: فنزل قولُهُ تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا
_________
(١) انظر من ذلك أيضًا: سورة البقرة (٢١٥ و٢١٧ و٢١٩ و٢٢٠ و٢٢٢)، والمائدة (٤)، والأعراف (١٨٧)، والأنفال (١)، والإسراء (٨٥)، والكهف (٨٣)، وطه (١٠٥)، والنازعات (٤٢) .
(٢) برقم (١٣٣٧) .
1 / 7
عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ *﴾ (١) [المائدة: ١٠١] .
وغيرُ ذلك من الأحاديثِ التي تدلُّ على النهيِ عن السؤالِ عما لا يُحتاج إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُه، وعلى النهيِ عن السؤالِ على وجهِ التَّعَنُّتِ والعبثِ والاستهزاءِ، والسؤالِ عما أخفاه اللهُ عن عبادِهِ ولم يُطلِعْهم عليه، كما تدل أيضًا على نهيِ المسلمينَ عن السؤال عن كثيرٍ من الحلالِ والحرامِ مما يُخشى أن يكونَ السؤالُ سببًا لنزولِ التشديدِ فيه (٢) .
وقد كثرتْ كُتُبُ السؤالاتِ في كلِّ فَنٍّ من الفنونِ، ومنها علمُ الجرحِ والتعديلِ، وكتابُنا هذا واحدٌ من هذه الكتبِ في هذا الفنِّ (٣) .
وقد طُبِع هذا الكتابُ- حَسَبَ عِلمِنا- ثلاثَ طبعاتٍ:
١) الأولى بتحقيق د. سليمان آتش.
٢) والثانيةُ بتحقيق مجدي فتحي السيد.
٣) والثالثةُ بتحقيق محمد بن علي الأزهري.
_________
(١) أخرجه الدارقطني في "سننه" (٢/٢٨٢) من طريق إبراهيم الهَجَري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة. وإبراهيم الهجري ضعيف، لكن أخرجه قبل هذا (٢/٢٨٠) من طريق منصور بن وردان إمام مسجد الكوفة، عن علي بن عبد الأعلى الثعلبي، عن أبيه، عن أبي البَختري، عن عليٍّ ﵁، به.
(٢) انظر "جامع العلوم والحكم" (ص١٦٨-١٧٨) .
(٣) انظر التعريف بكتب السؤالات وذكر أشهرها (ص ٤١) .
1 / 8
وسيأتي التعريفُ بهذه الطبعاتِ لاحقًا (١) .
ومما حَمَلَنا على إعادةِ تحقيقِ هذا الكتابِ وإخراجه: حصولُنا على نسخةٍ خَطِّيَّةٍ مختصرةٍ منه لم يقفْ عليها أحدٌ من المحقِّقين السابقين، وفيها فروقٌ وزياداتٌ مُهِمَّةٌ تؤكِّد أنّ في الأصلِ المخطوط نقصًا، وقد استدركنا من هذا النقص ما وجدناه في ذلك المختصر، ووقفنا في بعض المصادر على نصوص أخرى مَرْوِيَّةٍ عن الدارقطني من طريقِ السُّلميِّ وليست في المخطوطتين المعتمدتين في تحقيقنا هذا؛ مما يشير إلى احتمال وجود نقص آخر يحتاج إلى نسخة تامة منه، والله أعلم (٢) .
وقد أَتْحفَنا بهذه النسخةِ المختصرةِ فضيلةُ الدكتور الشيخ محمد ابن تُرْكي التُّرْكي، فله منا الشكرُ والدعاءُ بأن يجزلَ اللهُ له الثوابَ.
وآخِرُ دَعوانا أنِ الحَمدُ للهِ ربِّ العالَمين.
د. سعد بن عبد الله الحُمَيِّد ود. خالد بن عبد الرحمن الجريسي
_________
(١) انظر (ص ٥٥) من هذه المقدمة.
(٢) انظر (ص ٦٠-٦٢) من هذه المقدمة.
1 / 9
التعريف بالدارقطني (١)
اسمهُ ونسبُهُ ومَولدُه:
هو: الإمام الحافظُ عليُّ بنُ عمرَ بنِ أحمدَ بنِ مهديِّ بنِ مسعود ابنِ النُّعمانِ بنِ دينارِ بنِ عبدِاللهِ، الدَّارَقُطْنيُّ، البغداديُّ.
كُنيته: أبو الحسَن.
_________
(١) ترجمته في: "تاريخ بغداد" للخطيب (١٢/٣٤- ٤٠)، و"أطراف الغرائب والأفراد" لابن طاهر المقدسي (١/٤٣-٥٢)، و"الأنساب" للسَّمعاني (٢/٢٠٦- ٢٠٧)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (٤٣/٩٣- ١٠٦)، و"المنتظم" لابن الجوزي (١٤/٣٧٨- ٣٨٠)، و"معجم البلدان" لياقوت (٢/٤٢٢)، و"تكملة الإكمال" (١/٩٩- ١٠٣)، و"التقييد" (ص ٤١٠- ٤١٢) كلاهما لابن نقطة، و"طبقات الشافعية" لابن الصلاح (٢/٦١٦- ٦١٩)، و"وَفَيات الأعيان" لابن خَلِّكان (٣/٢٩٧- ٢٩٩)، و"سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٤٩- ٤٦١)، و"تذكرة الحفاظ" (٣/٩٩١- ٩٩٥)، و"العبر في أخبار من عَبَر" (٢/١٦٧)، و"معرفة القراء الكبار" (١/٣٥٠- ٣٥٢)، و"تاريخ الإسلام" (حوادث ووَفَيات سنة ٣٨٥هـ/ص١٠١- ١٠٥) جميعها للذهبي، و"مرآة الجنان" لليافعي (٢/٤٢٥- ٤٢٦)، و"الوافي بالوَفَيات" للصفدي (٢١/٣٤٨- ٣٥٠)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسُّبكي (٣/٤٦٢- ٤١١)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (١٥/٤٥٩- ٤٦٢)، و"طبقات القراء" لابن الجزري (١/٥٥٨- ٥٥٩)، و"طبقات الشافعية" للأسنوي (١/٥٠٨- ٥٠٩)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شُهْبة (١/١٦١- ١٦٣)، و"النجوم الزاهرة" لابن تَغْري بَرْدي (٤/١٧٢)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (٣/١١٦- ١١٧)، و"معجم المؤلفين" لعمر رضا كَحَّالة (٢/٤٨٠- ٤٨١/الرسالة)، و"تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان (القسم الثاني /ص٢٢٣- ٢٢٥)، و"تاريخ التراث العربي" لفؤاد سزكين (م١/ج١/ ص٤١٨- ٤٢٤)، وكتاب "الإمام أبو الحسن الدارقطني وآثاره العلمية" للدكتور عبد الله بن ضيف الله الرحيلي.
1 / 11
ونسبتُه «الدَّارَقُطْنيُّ»: إلى مَحَلَّةِ «دارِ القُطْن» ببغدادَ (١) .
كان مولدُه ببغدادَ سنة ستٍّ وثلاثِ مئةٍ كما أخبرَ هو عن نفسِه، ونقله عنه أبو عبد الرحمن السُّلميُّ في كتابنا هذا (٢) . وقيل: وُلدَ سنة خمسٍ وثلاثِ مئةٍ، ورجَّح الخطيبُ البغدادي (٣) الأوَّلَ.
نشأتُه وطَلَبُه للعِلم:
بدأ الدارقطنيُّ بطلب العلم وهو ما يزال فتىً صغيرًا، فقد كان بَدءُ كتابته للحديث في أوَّل سنة خمسَ عشرةَ وثلاثِ مئةٍ كما أخبر هو عن نفسِه، ونقله عنه البَرقانيُّ (٤) . وروى ابنُ عساكر في "تاريخ دمشق" من طريق القوَّاس قال: «كنا نمرُّ إلى ابن مَنيع، والدارقطنيُّ صبيٌّ يمشي خلفَنا بيده رغيفٌ عليه كامَخ (٥)، فدخَلنا إلى ابن مَنيع ومنعناه،
_________
(١) قال السمعاني في "الأنساب" (٢/٢٠٦): «الدَّارَقُطْنيّ: بفتحِ الدَّالِ المهملةِ، بعدها الألفُ، ثم الراءُ، والقاف المضمومة، والطاء المهملة الساكنة، وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى "دارِ القُطن"، وهي كانت مَحَلَّةً بـ"بغدادَ" كبيرةً خَرِبتِ الساعةَ، كنتُ أجتازُ بها بالجانبِ الغربيِّ، وأراني صاحبُنا الشيخ سعد الله بن محمد المقرئ مسجدَه في دار القُطن» .
وقال الأستاذ محمود مصطفى في "إعجام الأعلام" (ص١٠٨): «كان حق النسبة أن تكونَ إلى «دار» وحدَها، فإن خِيفَ اللَّبْسُ تكون إلى «قطن» . ولا تبيح العربية غيرَ هذين. فأما النسبةُ إلى المركَّب الإضافي كلِّه فغير معروفة. ويظهر أنهم لما نسبوا إليه كاملًا توهَّموا أنه صار مُركَّبًا مَزْجيًّا؛ لذلك فتحوا آخر صَدْره» .
(٢) النص رقم (٤١) .
(٣) "تاريخ بغداد" (١٢/٤٠) .
(٤) "سؤالات البرقاني" (ص٤٨) .
(٥) الكامخ- بفتح الميم وتكسر أيضًا-: إدامٌ، أو ما يُستعمَل لتشَهِّي الطعام من المُخَلَّلات وغيرها، وهو لفظٌ فارسيٌّ معرَّب، أصله: «كامه» .
انظر: "تاج العروس" (ك م خ) .
1 / 12
فقَعَدَ على الباب يَبْكي» (١) .
وقد سمعَ في صِباهُ من أبي القاسم البغويِّ، ويحيى بن محمد بن صاعِد، وأبي بكر بن أبي داود، وغيرهم (٢) .
أمَّا أبوه عمرُ بنُ أحمدَ فقد كان من المحدِّثينَ الثقات، سمع وحدَّث، إلى جانب معرفته بالقراءات (٣) .
وقد سمع منه ولده أبو الحسن الدارقطني الحديثَ، وحدَّث عنه في "سننه" (٤)، كما عرض عليه القرآنَ (٥) .
ويبدو أن الدارقطنيَّ شرع في حفظ القرآن وإتقان تلاوته وهو غلامٌ حَدَثٌ، على عادة أهل عصره، وبَرَّزَ في ذلك وتفوَّق، حتى تنبَّأ له الناسُ أن يصيرَ شيخًا كبيرًا من شيوخ الإقراء. يقول هو عن نفسه: «كنتُ أنا والكتَّاني (٦) نسمع الحديثَ، فكانوا يقولون: يخرج الكتانيُّ
_________
(١) "تاريخ دمشق" (٤٣/٩٧- ٩٨)، ونقله ابن خير في "الفهرست" (ص١٩٦)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٥٢)، و"تذكرة الحفاظ" (٣/٩٩٤) .
(٢) "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٤٩) .
(٣) ترجم له الخطيب في "تاريخ بغداد" (١١/٢٣٩) .
(٤) "سنن الدارقطني": (١/٩٩، ٢٥٢) و(٢/١٠٣، ١٧٨) و(٤/١٣٣، ٢٠٨، ٢٢١، ٢٤٥، ٢٧٨) .
(٥) قال ابنُ الجزريِّ في "طبقات القراء" (١/٥٨٩): «عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي، والدُ الحافظ أبي الحسن الدَّارَقُطنيِّ، عرض على أحمدَ بن سهل الأُشْناني، وعرض عليه ابنُه عليُّ بن عمر» .
(٦) هو: عمر بن إبراهيم بن أحمد، أبو حفص الكتاني، ولد سنة ثلاث مئة، وتوفي سنة تسعين وثلاث مئة. ترجمته في: "تاريخ بغداد" (١١/٢٦٩)، و"سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٨٢- ٤٨٤) .
1 / 13
محدثَ البلد، ويخرج الدارقطنيُّ مقرئَ البلد، فخرجت أنا محدثًا والكتانيُّ مقرئًا» (١) .
وقد ألَّف في القراءات كتابًا مختصرًا موجزًا، ذكره الخطيب البغدادي وقال عنه: «جمع الأصولَ في أبوابٍ عقدها أوَّلَ الكتاب، وسمعتُ بعض من يعتني بعلوم القرآن يقول: لم يُسبَق أبو الحسن إلى طريقَته التي سلكها في عَقْد الأبواب في أوَّل القراءات، وصار القُرَّاء بعده يسلكون طريقَتَه في تصانيفهم ويَحْذُون حَذْوَه» (٢) .
ولم يكن الدارقطنيُّ محدِّثًا ومُقْرِئًا فحسبُ، بل كان فقيهًا أيضًا، يقول الخطيب البغداديُّ في ذكره العلومَ التي تضلَّع منها الدارقطنيُّ سوى علمِ الحديث: «ومنها المعرفةُ بمذاهبِ الفقهاء، فإن كتابَ «السُّنَن» الذي صنَّفَه يدلُّ على أنه كان ممَّن اعتنى بالفقه؛ لأنه لا يَقْدرُ على جمع ما تضمَّن ذلك الكتابُ إلا من تقدَّمَت معرفتُه بالاختلاف في الأحكام، وبلغَني أنه درس فقهَ الشافعيِّ على أبي سعيد الإِصْطَخْري، وقيل: بل درسَ الفقه على صاحبٍ لأبي سعيد، وكتب الحديثَ عن أبي سعيدٍ نفسه» (٣) .
وقد كان للدارقطنيِّ عنايةٌ بمذهب الإمام الشافعيِّ، مع معرفةٍ بمذاهبِ الفقهاء، حيثُ عدَّه بعضُ من صنَّفَ في طبقات الشافعيَّة منهم. قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: «والدارقطنيُّ هو أيضًا يميل إلى مذهب الشافعيِّ وأئمَّة السنة والحديث، لكن ليسَ هو في تقليد
_________
(١) "المنتظم" لابن الجوزي (١٤/٣٨٠) .
(٢) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٤- ٣٥) .
(٣) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٥) .
1 / 14
الشافعيِّ كالبيهقيِّ، مع أن البيهقيَّ له اجتهادٌ في كثير من المسائل، واجتهادُ الدارقطنيِّ أقوى منه، فإنه كان أعلمَ وأفقَهَ منه» (١) .
وكان للدارقطنيِّ أيضًا معرفةٌ باللغة والنَّحو والأدب والشِّعر؛ فقد روى الخطيبُ البغداديُّ عن الأزهريِّ: أن أبا الحسن لما دخل مِصْرَ كان بها شيخٌ عَلَوِيٌّ من أهل مدينة رسول الله ﷺ يقالُ له: مُسَلَّم بن عُبَيدالله، وكان عنده كتابُ "النَّسَب" عن الخَضِر بن داود، عن الزُّبَير ابن بَكَّار، وكان مُسَلَّمٌ أحدَ الموصوفينَ بالفَصاحة المطبوعينَ على العربيَّة، فسأل الناسُ أبا الحسن أن يقرأَ عليه كتاب "النَّسَب"، ورغبوا في سماعه بقراءته، فأجابهم إلى ذلك، واجتَمَع في المجلس مَنْ كان بمِصْرَ من أهل العلم والأدب والفَضْل، فحَرَصُوا على أن يحفظوا على أبي الحسن لَحْنةً، أو يَظْفَروا منه بسَقْطَة، فلم يقدروا على ذلك حتَّى جعل مُسَلَّمٌ يَعْجَبُ ويقول له: وعربيَّةً أيضًا (٢)؟!
ولم يكتَفِ الدارقطنيُّ بالقراءة على علماء بغداد، بل حملته رغبتُه الشَّديدةُ في طلب العلم وتحصيله على الرِّحلة والسَّفَر، قاصدًا علماء عصره في مدن العراق المختَلِفَة وغيرها من البلدان والأمصار.
فمن مدن العراق التي ارتحل إليها: البصرة، وذلك في وقت مُبكِّر من عمره، في حدود سنة عشرينَ وثلاثِ مئة (٣)، وله حينها أربعةَ عشرَ عامًا.
_________
(١) "مجموع الفتاوى" (٢٠/٤١) .
(٢) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٥) . وسيأتي ذكرٌ لمسَلَّمٍ هذا في النص رقم (٤٦٨ و٤٦٩) .
(٣) نقله الذهبيُّ في "الميزان" (٣/٥٧٢) .
1 / 15
وذكر الخطيبُ في "تاريخ بغداد" خروجَه إلى الكوفة في قصَّةٍ وقعت له مع أبي العبَّاس بن عُقْدَة، فقال: «أخبرنا البَرْقانيُّ، قال: سمعتُ أبا الحسن الدارقطنيَّ يقول: كتبتُ ببغدادَ من أحاديثِ السُّودانىِّ (١) أحاديثَ تفرَّد بها، ثم مَضَيتُ إلى الكوفةِ لأسمعَ منه، فجئتُ إليه وعنده أبو العباس بنُ عُقدَة، فدفعتُ إليه الأحاديثَ في ورقةٍ، فنظر فيها أبو العبَّاس، ثم رمى بها واستَنْكَرَها وأبى أن يقرأَها، وقال: هؤلاءِ- البغداديين- يجيئوننا بما لا نَعرفُه. قال أبو الحسن: ثم قرأ أبو العبَّاس عليه فمَضى في جُملةِ ما قرأه حديثٌ منها، فقلتُ له: هذا الحديثُ من جُملةِ الأحاديثِ، ثم مضى آخرُ، فقلتُ: وهذا أيضًا من جُملتِها، ثم مضى ثالثٌ، فقلت: وهذا أيضًا منها، وانصرف، وانقطَعتُ عن العَوْدِ إلى المجلسِ؛ لحُمَّى نالَتْنى، فبينما أنا في الموضِعِ الذي كنتُ نزَلْتُه إذا أنا بداقٍّ يَدُقُّ عليَّ البابَ، فقلت: مَنْ هذا؟ فقال: ابنُ سعيد، فخرجتُ وإذا بأبي العباس، فوقعتُ في صدره أقبِّلُه، وقلت: يا سيدي لمَ تجَشَّمتَ المجيء؟ فقال: ما عَرَفناك إلا بعد انصِرافِك، وجعل يَعتذرُ إليَّ، ثم قال: ما الذي أخَّرك عن الحُضور؟ فذكرتُ له: أنِّي حُمِمتُ، فقال: تحضُر المجلسَ لتقرأ ما أحببتَ، فكنتُ بعدُ إذا حضَرتُ أكرمَني ورفعَني في المجلسِ، أو كما قال» (٢) .
_________
(١) هو: المحدِّث المُعَمَّر محمد بن القاسم بن زكريا، أبو عبد الله، المحاربي السوداني. ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (١٥/٧٣) .
(٢) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٧) .
1 / 16
وإذا علمنا أن السُّودانيَّ مات في سنة ستٍّ وعشرينَ وثلاثِ مئة، أدركنا أن ذهابَ الدارقطنيِّ إلى الكوفة كان قبلَ هذا التاريخ يقينًا، أي قبل أن يبلغَ العشرينَ من عمره. ولا يخفى ما في هذه القصَّة أيضًا من دلالةٍ على مكانةِ الدارقطني ومنزلته الرفيعة وهو بعدُ في بواكير شبابه ورَيِّق فُتوَّته.
ومن الأمصار والبلدان التي قصَدها ويمَّم وجَهَهُ شَطرَها: خُوزِسْتان، ومنها مصرُ التي حطَّ رحالَه فيها سنة سبعٍ وخمسينَ وثلاث مئة كما أخبر عن نفسه (١)، وفي طريقه إليها دخل دمشقَ وحدَّث بها (٢) .
وتعدُّ رحلتُه إلى مصرَ أبرز تلك الرِّحْلات وأغناها؛ لأنَّها كانت في كُهولَتِه بعد أن علا كَعْبُه في العلم، وطالَ باعُه فيه، واستوى محدِّثًا بعيدَ الغَور حاذقَ الفهم ألمعيًّا. وقد قصد فيها إلى الوزيرِ أبي الفضل ابن حِنْزابةَ (٣) وزير كافورٍ الإخْشِيديِّ لمَّا بلغه أنَّه عازمٌ على
_________
(١) "سؤالات السهمي" (ص٢١٧/رقم ٢٩٣) .
(٢) انظر: "تاريخ دمشق" (٤٣/٩٤)، و"تكملة الإكمال" لابن نقطة (١/٩٩) .
(٣) هو: الوزير جعفر ابن الوزير الفضل بن جعفر بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفُرات، أبو الفضل، البغدادي، نزيل مصر، كان من الأئمَّة الحفَّاظ الثقات، ولد ببغدادَ في ذي الحجة سنة ثمان وثلاث مئة، وتوفي في ثالثَ عشرَ ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة.
ترجمته في: "تاريخ بغداد" (٧/٢٣٤- ٢٣٥)، و"سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٨٤- ٤٨٨)، و"تذكرة الحفاظ" (٣/١٠٢٢- ١٠٢٤) .
1 / 17
جمع "المسند" (١)، فمضى إليه ليُساعدَه عليه، وأقام عنده مُدَّة، وبالغ أبو الفضل في إكرامِه وأنفَقَ عليه نفقةً واسعةً وأعطاه شيئًا كثيرًا، وحَصَلَ له بسببه مالٌ جَزيلٌ، ولم يزَلْ عنده حتى فَرَغَ "المسند"، وكان يجتمعُ هو والحافظُ عبد الغنيِّ بن سعيد الأزديُّ (٢) على تخريج "المسند" وكتابتِه الى أن نَجَزَ (٣) .
وقد تعرَّض له بعضُ من ترجَمَ له بسبب هذه الرِّحلة وما أفاضَ عليه فيها ابنُ حِنْزابَة من مالٍ وافر، فقال اليافعيُّ: «قلت: فهذا ما لخَّصتُه من أقوال العلماء فى ترجمته، وكلُّ ذلك مدحٌ في حقِّه إلاَّ سفرَه إلى مصرَ من أجل الوزير المذكور؛ فإنَّه وإن كان ظاهرُه- كما قالوا- المساعدةُ له فى تخريج "المسند" المذكور، فلستُ أرى مثلَ هذا الإيقاع (٤) بأهل العلم ولا بأهل الدِّين، نعم لو كان مثلُ هذا لمُساعدةِ بعضِ أهل العلم والدِّين، لا يَشوبُه شيءٌ من أمور الدُّنيا، كان حسنًا منه وفضلًا وحِرصًا على نشر العلم والمساعدة فى الخير، وبعيدٌ أن تُطاوع النفوسُ لمثل هذا، إلاَّ إذا وفَّق الله، وذلك نادرٌ أومعدومٌ، وما على الفاضِل المتديِّن من أربابِ الولاياتِ ألَّفُوا أو
_________
(١) ذكر هذا "المسند" إسماعيلُ باشا البغداديُّ في "إيضاح المكنون" (٢/٤٨١)، وكحَّالة في "معجم المؤلفين" (١/٤٩٣) . ونقل الذهبيُّ في "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٨٧) في ترجمة الوزير ابن حنزابة عن ابن طاهر قال: «رأيتُ عند الحبَّال كثيرًا من الأجزاء التي خُرِّجتْ لابن حنزابة، وفي بعضها الجزءُ الموفي ألفًا من مسند كذا، والجزء الموفي خمسَ مئة من مسند كذا، وكذا سائرُ المسندات» .
(٢) سيأتي ذكره في تلاميذ الدارقطني.
(٣) انظر "مرآة الجنان" لليافعي (٢/٤٢٥) .
(٤) كذا في المطبوع من "مرآة الجنان"، ولعلها محرفة عن: «لائقًا» .
1 / 18
لم يُؤلِّفوا» (١) .
وما ذهبَ إليه هؤلاءِ المنتقدون فيه نظرٌ؛ وذلك أنه يترجَّحُ لنا أن الدارقطنيَّ لم يقصِد الوزيرَ ابن حِنْزابَة سعيًا وراء المال والعَطاء، بل قصده رغبةً في العلم والأجر، فلم يكن ابن حِنْزابَة وزيرًا فحسب، بل كان قبل ذلك عالمًا وحافظًا من أهل الحديث، قال فيه الذهبيُّ: «الإمام الحافظ الثقة الوزير الأكمل ...» (٢) . ونقل عن السِّلَفيِّ أنه قال فيه: «كان ابن حِنْزابةَ من الحفَّاظ الثقاث المتبجِّحينَ بصُحبة أصحاب الحديث، مع جَلالة ورياسة، يَروي ويُملي بمصرَ في حال وزارته، ولا يختار على العلم وصُحبة أهله شيئًا، وعندي من أماليه ومن كلامه على الحديث وتصرُّفه الدَّالِّ على حِدَّةِ فهمه ووُفور علمه» (٣) .
ولم يكتفِ الدارقطنيُّ في مصرَ بمساعدة ابن حِنْزابةَ في "مسنده"، بل تنقَّل فيها ولقيَ الشُّيوخَ، وسمع الكتبَ، وأفاد طلاَّب العلم، وحرص على لقاء الشيوخ وإن خفي مكانهم، ومن ذلك ما ذكره الذهبيُّ في ترجمة أبي بكر محمَّد بن علي النقَّاش (٤): أن الدارقطنيَّ قد رحَلَ إليه إلى تِنِّيس (٥)، وكان مُنزَويًا بها، فلهذا لم ينتشر حديثه (٦) .
_________
(١) "مرآة الجنان" لليافعي (٢/٤٢٦) .
(٢) "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٨٤) .
(٣) "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٨٥) .
(٤) ولد سنة اثنتين وثمانين ومئتين، وتوفي سنة تسع وستين وثلاث مئة. ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" (٣/٩٥٧- ٩٥٨) .
(٥) بكسرتين، وتشديد النون، وياء ساكنة، والسين مهملة: جزيرةٌ في البحر قريبةٌ من دِمْياط بمصرَ. "معجم البلدان" (٢/٥١) .
(٦) "تذكرة الحفاظ" (٣/٩٥٨) .
1 / 19
مَنزلةُ الدارَقُطني العلميَّةُ، وثناءُ العلماء عَلَيه:
تقدَّم فيما مضى بيانُ تميُّز الدارقطنيِّ من لِداته وأترابه، وتفوُّقه عليهم في وقتٍ مبكِّر من حياته العلميَّة؛ لما حَباه اللهُ به من همَّة عالية، وشَغَفٍ بالعلم، ودَأَبٍ في تحصيله.
وتقدَّم أيضًا أنه لم يبرِّز في علمٍ واحدٍ، بل أظهر براعةً وحِذقًا في غير ما علمٍ وفنٍّ، منها: القراءات القرآنيَّة، والفقه، وعلوم العربيَّة.
كلُّ ذلك بوَّأه المنزلةَ الساميةَ التي ارتقى إليها، حتى عُدَّ جبلًا في العلم قليلَ النظير.
ومن الأخبار والأقوال الدالَّة على منزلته ومكانته: ما رواه الخطيبُ البغداديُّ عن محمد بن على الصُّوري قال: سمعت أبا محمد رجاءَ بن محمد بن عيسى الأنصاري المعدل يقول: سألت أبا الحسن الدارقطنيَّ فقلت له: رأى الشيخُ مثلَ نفسه؟ فقال لي: قال الله تعالى: ﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] . فقلت له: لم أُرِدْ هذا، وأنما أردتُّ أن أَعْلَمَهُ لأقولَ: رأيت شيخًا لم يرَ مثلَه، فقال لي: إن كان في فنٍّ واحد فقد رأيتُ من هو أفضَلُ مني، وأما من اجتمع فيه ما اجتَمَعَ فيَّ فلا (١) .
وقال أبوعبد الله الحاكم في كتاب "مزكي الأخبار": «أبو الحسن صار واحدَ عصره في الحِفْظ والفَهْم والوَرَع، وإمامًا في القرَّاء
_________
(١) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٥) .
1 / 20
والنَّحويِّين، أول ما دخلتُ بغدادَ كان يَحضُر المجالسَ وسنُّه دون الثلاثين، وكان أحدَ الحفَّاظ» (١) .
وقال: «صار الدارقطنيُّ أوحدَ عصره فى الحفظ والفهم والوَرَع، وإمامًا فى القرَّاء والنحويِّين، وفي سنة سبعٍ وستِّينَ أقمتُ ببغداد أربعةَ أشهرٍ، وكثر اجتماعُنا بالليل والنهار، فصادَفتُه فوق ما وُصِف لي، وسألتُه عن العللِ والشيوخ، قال: وأشهدُ أنَّه لم يخلِّف على أَديمِ الأرض مثلَه» (٢) .
وقال أبو ذَرٍّ الهَرَويُّ: سمعت الحاكمَ أبا عبد الله محمد بن عبد الله، وسُئل عن الدارقطنيِّ؟ فقال: «ما رأى مثلَ نفسِه» (٣) .
وقال الحافظُ عبد الغني بن سعيد الأزديُّ: «أحسنُ الناس كلامًا على حديث رسولِ الله ﷺ ثلاثةٌ: عليُّ بن المَديني في وقته، وموسى ابن هارونَ في وقته، وعليُّ بن عمر الدارقطنيُّ في وقته» (٤) .
ومن ذلك أيضًا: ما تذكُره المصادرُ من استفادةِ طلاَّب العلم والعلماء من الدارقطنيِّ بمصرَ واحتفائهم به، وأشهَرُ من استفادَ منه الحافظُ الكبير عبد الغني بن سعيد الأزديُّ المِصريُّ.
_________
(١) "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٥٠) . وانظر التعليقَ التالي.
(٢) "طبقات الشافعية الكبرى" (٣/٤٦٣) . وهذا النص والذي قبله رواهما ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٤٣/٩٦) عن الحاكم في سياق واحد أتم من هذا.
(٣) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (١٢/٣٥- ٣٦) ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٤٣/١٠٠) .
(٤) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٦)، و"تاريخ دمشق" (٤٣/١٠١) .
1 / 21
قال البَرقانيُّ: «كنت أسمع عبدَ الغنيِّ بنَ سعيدٍ الحافظ كثيرًا إذا حكَى عن أبي الحسن الدارقطنيِّ شيئًا يقول: قال أستاذي، وسمعتُ أستاذي، فقلتُ له في ذلك، فقال: وهل تعلَّمنا هذَينِ الحَرْفَين من العلم إلاَّ من أبي الحسن الدارقطنيِّ» (١) .
وقد أفاض الخطيبُ البغداديُّ في الثناء على الدارقطنيِّ وتعداد أوصافه الجليلة الرضِيِّة، ومن جملة ما قال: «وكان فريدَ عصره، وقريعَ دهره، ونسيجَ وَحْدِه، وإمامَ وقته، انتهى إليه علمُ الأثر، والمعرفةُ بعلل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرُّواة، مع الصِّدق والأمانة، والفِقْه والعَدالة، وقَبول الشَّهادة، وصِحَّة الاعتقاد، وسَلامة المذهَب، والاضْطِلاع بعُلومٍ سوى علم الحديث، منها: القراءات، ومنها المعرفةُ بمذاهب الفقهاء، ومنها أيضًا المعرفةُ بالأدب والشِّعر. وقيل: إنه كان يحفَظُ دواوينَ جماعةٍ من الشُّعَراء. وسمعتُ حمزةَ بن محمد ابن طاهر الدقَّاق يقول: كان أبو الحسن الدارقطنيُّ يحفظ ديوانَ السيِّد الحِمْيَري في جُملةِ ما يحفَظُ من الشعر، فنُسِبَ إلى التشيُّع لذلك» (٢) .
وقال الذهبيُّ: «كان من بُحور العلم، ومن أئمَّة الدنيا، انتهى إليه الحِفْظ ومعرفةُ علل الحديث ورجاله، مع التقدُّم في القراءات وطُرُقها، وقُوَّة المُشاركة في الفِقْه والاختلاف، والمَغازي وأيَّام الناس، وغير ذلك» (٣) .
_________
(١) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٦) .
(٢) "تاريخ بغداد" (١٢/٣٤- ٣٥) .
(٣) "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٥٠٩) .
1 / 22
وهاهُنا خبرٌ طريفٌ تحسُنُ الإشارة إليه في هذا السِّياق، فقد نُقِلَ عن البَرْقانيِّ أنه قال: «كان الدارقطنيُّ يُمْلي عليَّ العللَ من حفظه» .
وقد عقَّب الذهبيُّ على ذلك بقوله: «إن كان كتابُ "العلل" الموجودُ قد أملاه الدارقطنيُّ من حِفْظه- كما دلَّت عليه هذه الحكايةُ- فهذا أمرٌ عظيمٌ يُقْضى به للدارقطنيِّ أنَّه أحفظُ أهل الدنيا، وإن كان قد أملى بعضَهُ من حِفْظه فهذا مُمكن، وقد جَمَعَ قبله كتابَ "العلل" عليُّ بن المَديني حافظُ زمانه» (١) .
هذا، وإن استقصاءَ ما قيلَ في أبي الحسن الدارقطني يطولُ ويَعسُر، وحسبُنا ما أوردناهُ من كلام أهل العلم فيه لتَدُل هذه النصوصُ على ما وراءها، والله تعالى أعلم.
وَفاتُه:
اتَّفقت كلمةُ مَن ترجَمَ لأبي الحسن الدارقطنيِّ على أن وفاتَهُ كانت سنةَ خمسٍ وثمانينَ وثلاثِ مئة. وكان ذلك يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة.
وقد دُفنَ ﵀ في مَقْبَرة بابِ الدَّيْر قريبًا من قبر مَعْروفٍ الكَرْخي (٢) .
_________
(١) "سير أعلام النبلاء" (١٦/٤٥٥) .
(٢) "تاريخ بغداد" (١٢/٤٠) .
1 / 23
شُيوخُ الدارَقُطنيِّ:
شَرَع أبو الحسن عليُّ بن عمر الدارقطنيُّ في طلبِ العلم في وقتٍ مُبكِّر من حياته، وكثُرَت رحلاتُه في جَمعه وتَحصيله؛ فكثُر لذلك شُيوخُه الذين أخذَ عنهم وتخرَّج بهم.
وقد ذهب الدكتور محفوظ الرحمن زين الله السَّلَفي (١) إلى أن شيوخَ الدارقطني في كتاب "العلل" يربو عدَدُهم على مئتين، ثم ذكرَ منهم اثنين وعشرين راويًا من أشهر شُيوخه.
كما قام الدكتور عبد الله بن ضَيْف الله الرُّحَيلي (٢) بإحصاء شُيوخه الذين روى عنهم في كتابه "السنن" وحدَه فبلغوا تسعينَ ومئتي راوٍ، في حين بلغوا زُهاءَ واحدٍ وخمسين وثلاث مئة راوٍ في الفِهرس الذي أعدَّه محقِّقو "سنن الدارقطني" (٣) .
وذكر الدكتور موفَّق عبد القادر في مقدمة تحقيقه لـ"المؤتلف والمختلف": أن لديه قائمة بأسماء شُيوخه الذين روى عنهُم في "السنن"، و"المؤتلف والمختلف"، و"العلل"، والذين ذكرهم الخطيبُ في "تاريخ بغداد" مرتَّبين على حروف المعجم، وفي نيَّتة إخراجُها في مشيخة الدارقطنيِّ.
ولأحد إخواننا من طلبة العلم في اليمن (٤) مُصَنَّف جمع فيه شيوخ
_________
(١) في مقدمة تحقيقه لكتاب "العلل" للدارقطني (١/١٣) .
(٢) في كتابه: "الإمام أبو الحسن الدارقطني وآثاره العلمية" (ص ٥٣- ٨١) .
(٣) طبعة مؤسَّسة الرسالة..
(٤) هو الأخ: نايف المنصوري، من تلاميذ الشيخ أبي الحسن المأربي وفقهم الله.
1 / 24