روسيا وستالين
ستالين
الخاتمة
مصادر ومراجع استعان بها المؤلف
روسيا وستالين
ستالين
الخاتمة
مصادر ومراجع استعان بها المؤلف
ستالين
ستالين
تأليف
فرج جبران
روسيا وستالين
يصدر هذا الكتاب في الوقت الذي تحتفل فيه روسيا بمرور 40 عاما على مولد الثورة الاشتراكية، وهي الثورة التي اعتبرت من أعظم الأحداث العالمية في هذا العصر.
وقد اقترن الاحتفال بعيد هذه الثورة بظاهرة عجيبة تدعو للتساؤل؛ وهي اختفاء اسم بطل من أبطال هذه الثورة، بل لعله أعظم بطل من أبطالها بعد لينين الذي بشر بها، وحمل رسالتها في الأعوام الأولى.
حتى صور هذا البطل لم تظهر في عيد الثورة كما كانت تظهر من قبل في الأعياد السابقة، وسمح للناس بأن يروا صورة لينين فقط.
هذا البطل الذي اختفى اسمه، واختفت صورته في عيد الثورة هو ... ستالين!
ولكن ستالين مع ذلك وهو في ضريحه إلى جانب ضريح لينين، ما زال يفرض اسمه، ويفرض رسمه، ويفرض سياسته ...
ولا شك أن ستالين يستحق الدراسة إذا كان قد نجح في فرض اسمه وفرض سياسته، دون أن يسعى إلى ذلك، سواء في الحياة أو بعد الموت؛ إذا كان في وسع أحد أن يفرض نفسه بعد الموت ...
والواقع أن ما كتب عن ستالين يعتبر ضئيلا جدا بالنسبة لما كتب عن لينين، أو عن تروتسكي وهو الزعيم الثاني الذي كان مرشحا لخلافة لينين ... وقد كان هو بطبيعته ميالا للعزلة، والإقلال من الكلام أو التحدث عن نفسه، كما أن الكتاب والمؤلفين والصحفيين لم يسعوا إلى مقابلته إلا بعد أن تركزت عليه الأنظار خلال الحرب العالمية الثانية؛ نظرا لأهمية الدور الذي قامت به بلاده في تلك الحرب، وما ساهمت به في سبيل القضاء على الفاشية تحت قيادته القوية الحازمة ...
وفي حياة ستالين مراحل هامة لا في حياة روسيا وحدها، بل في حياة العالم كله؛ ومنها:
دوره في الثورة الاشتراكية، والتمهيد لها بمختلف الوسائل السرية والثورية.
دوره بعد نجاح الثورة في عام 1917، وتألق نجمه في دوائر الحزب الشيوعي.
دوره كحاكم روسيا المطلق بعد لينين، وتحويلها من دولة زراعية إلى دولة صناعية كبرى.
دوره في الحرب العالمية الثانية، ومساهمته مع حلفائه في الحرب في هزيمة الفاشية.
دوره كناشر للمذهب الشيوعي في العالم.
وقد بلغ ستالين حد الذروة من النجاح في معظم هذه الأدوار ...
ومع ذلك فيجب أن نعترف أن هناك حلقات كثيرة ما زالت غامضة في حياة ستالين، وقد تظل غامضة إلى الأبد ... إلا أن قصة مغامرات ستالين في شبابه، ودوره في الثورة والحرب الأهلية، ثم عبادته للينين، ثم صراعه مع تروتسكي على السلطة، ثم انتصاره الكامل على جميع منافسيه في الحزب الشيوعي، كل ذلك يجعل من ستالين شخصية ممتازة جديرة بالدراسة. ... وقد تكون هناك صفات سوداء في تاريخ حياته، ولكن شخصيته تتسامى في صفحات أخرى حتى لتجعل منه رجلا لا يقل عظمة عن لينين!
فرج جبران
ستالين
(1) الثورة الأولى
كتبت «ليديا لامبير» في كتابها الشيق عن أول شاعر روسي تغنى بالحرية وهو بوشكين، كتبت تصف حالة روسيا في عام 1825 تقول:
كانت المظالم والعبودية تصرخ في وجهه ... فقد كان هناك رجال «يملكون» رجالا غيرهم، وكان في وسعهم أن يعرضوهم للبيع «بالجملة أو بالقطاعي»، فيفرقون بين الولد وأمه، وبين الزوجة وزوجها، وكان في وسعك أن تقتل العبد، فلم تكن هذه جريمة، وإنما كانت «خسارة» فقط ... فقد كانت هذه الأرواح ثروة لصاحبها.
كل هذا حدث بعد مونتسيكو وفولتير وروسو ... بل بعد شيللر الذي كان يعتقد أن المجتمع قد بلغ أقصى درجات الكمال، كل هذا حدث بعد الثورة الفرنسية ... كان كل فرد يشعر بأن من المحال أن تستمر هذه الحال؛ لأنها بالية، آثمة.
وقد كان من الجنون أن يفكر أحد في مهاجمة الأوتوقراطية والعبودية، وهما الركنان الصنوان اللذان كانت تقوم عليهما إمبراطورية القياصرة، ولكن منذ سقط الباستيل، آمن الناس بأنه ليس ثمة نظام في العالم يمكن أن ييأس القوم من القضاء عليه.
وكان هذا النظام القائم في روسيا قد أكله الدود ... وعلى الرغم من نشاط البوليس الذي انتشر في كل مكان، فإنه لم يمكن انتزاع مبادئ الحرية التي كانت تعتبر جريمة موجهة ضد الدولة، حتى الجيش كان قد «تلوث» بهذه المبادئ.
ورابطت فصيلة من الحرس في تسارسكو سيلو، وكان فتيان الكلية يقفزون من فوق السور ويعقدون الصداقات مع الفرسان ... وكان بوشكين واحدا من هؤلاء الفتيان، فقد كان يحب الشمبانيا والنكت، وتناول وجبات الطعام في جو من الأخوة، ودخان التبغ، والمناقشات الحامية حول: الله، والحب، وسياسة مترنيخ ... وآخر عشيقة حظيت برضاء القيصر ... كان الفرسان يختلفون عن غيرهم من المغرورين الفخورين المسرفين ... فلقد كانوا من الضباط الشبان الذين صلصلت سيوفهم المنتصرة في جوانب باريس، ثم عادوا إلى بلادهم ورءوسهم لا تكاد تستقر على أكتافهم لفرط ما استنشقوا من نسيم الحرية ... كان بينهم «شاديف»، الجندي الفيلسوف الماسوني، الذي كان في جمال ووداعة «ملاك» هبط إلى الأرض ... وكان في وسعه أن يستمتع بالجانب الحسن من الحياة، إلا أنه فضل على ذلك الجوانب الفلسفية.
وكان بينهم «كافرين»، ابن الحظ الذي كان يشرب ويغني ويعبث؛ إذ كان جميلا، مرحا غنيا نبيلا، وكان بينهم «رافسكي»، الذي يبلغ من العمر ستة عشر عاما - مثل بوشكين - وكان والده الجنرال رافسكي هو الذي قاده بيده إلى المعركة ضد نابليون في عام 1812.
وكانت الحياة في تسارسكو سيلو واتصالها بالبلاد لا تبعث على احترام القيصرية ... فلم يكن القيصر سوى منافق متوج، يحيط نفسه بعجائز النساء والكهنة والرجعيين، وكانت الصلاة لله واستغفال عباد الله يسيران عنده جنبا إلى جنب ... فلقد استغفل الجميع: زوجته، وحلفاءه، ورعاياه، ونابليون.
ستالين أو الرجل الصلب!
كانت طبقة الأرقاء تكد في العمل في الأرض، وتسير وراء المحراث الخشبي، أما طبقة الأشراف فكانت ترقص وتتشدق بالحديث باللغة الفرنسية، وتقرأ مؤلفات جان جاك روسو، وكانت السيدات يرفعن أصابعهن الصغيرة وهن يتحدثن عن الحب الأفلاطوني، وعن حقوق العاطفة، ولكن لو سرقت الخادم من إحداهن منديلا، فإنها - أي: الخادم - كانت تتعرض لعشرين جلدة من سوط جلدي يغمس في الصمغ. •••
وكانت المعارضة في كل مكان ... كان السخط يعم الجميع: العبيد، والجنود الذين كان الواحد منهم يقضي خمسة وعشرين عاما في الثكنات، والتجار الذين كانوا يعانون من آثار الأزمة الاقتصادية، والنبلاء الذين كانوا يبيعون خبزهم بخسارة، والصناع الذين كانوا لا يجدون رأس المال لتنمية صناعاتهم ... ولكن هذا السخط العام الذي كان يمكن أن يولد الثورة لم يولد شيئا سوى الشعور المر. لم تكن المعارضة منظمة، ولم يكن لها قائد. وكانت جماعة «اتحاد الفضيلة» ضعيفة، غير منظمة، منقسمة على نفسها: كان القسم الجنوبي يتكون من اليعقوبيين، الذين كانوا يريدون جمهورية ديمقراطية تقوم على أساس المساواة، أما القسم الشمالي فكان لا يطلب أكثر من إلغاء الرقيق وإقامة ملكية دستورية. وعلى كاهل هذا القسم الشمالي المتخاذل الضعيف وقع عبء قيادة الثورة، وأدرك المتآمرون أن اللحظة مواتية؛ فإن العرش كان خاليا منذ ثلاثة أسابيع، وكان نيكولاس مكروها بسبب آرائه الرجعية، ولذلك لم يكن في موقف يحسد عليه ... وكانت إثارة الجيش أيسر السبل ما دام قد أقسم يمين الولاء لقسطنطين ... فإنه إن عاد ليقسم يمين الولاء لنيكولاس فسيبدو هذا نوعا من الحنث بالقسم.
ولكنها كانت حفنة من صغار الضباط فقط، تخرجوا جميعا في الكلية الإمبراطورية بتسارسكو سيلو، ولا يمكن أن يدعي أحدهم أنه يملك قياد فرقة بأكملها، وكان أحسن من فيهم من الحالمين، وأسوؤهم من المتفاخرين المتبجحين، ولكن أكبر مواضع ضعفهم هو أنهم كانوا من الثوار الذين يخافون الثورة، وكان شعارهم هو شعار الطغاة الأذكياء: لأجل الشعب، ولكن بغير الشعب. فقد كانوا يشككون إلى حد ما في الشعب.
ففي فجر يوم 14 ديسمبر من عام 1825 غادر سبعمائة جندي من حامية موسكو ثكناتهم وهم يحملون أعلامهم، وكان يقودهم ضابطان ممن اشتركوا في المؤامرة، وساروا إلى ميدان مجلس الشيوخ، حيث كانوا على موعد مع الفرق الثائرة الأخرى؛ لكي يمنعوا مجلس الشيوخ من أن يقسم يمين الولاء، ثم يسير الجميع إلى القصر الملكي ليجبروا نيكولاس على التنازل عن العرش، ويحصلوا على دستور حر، على أن يعقب ذلك إلغاء الرقيق.
ولكنهم وجدوا الميدان خاليا، فلا بوليس، ولا جنود، ولا حلفاء ولا أعداء، ووجدوا نوافذ مجلس الشيوخ حالكة الظلام ... فقد أقسم الأعضاء يمين الولاء في الليل، وهكذا فشل أول بند في البرنامج.
وقاد الضباط رجالهم حتى أصبحوا يواجهون المباني التي تحيط بالميدان، وأخذوا ينتظرون في البرد ... وكانت الريح تعصف بأعلامهم، كما تجمدت أقدامهم، ومن وقت لآخر كان الضباط يأمرون رجالهم بأن يصيحوا: «فليسقط نيكولاس ... فليحي قسطنطين ... فليحي الدستور.»
وبدأ الميدان يمتلئ بالناس الذين كانوا يعطفون على المتمردين، والذين أخذوا يرددون بعض صيحات التشجيع.
ووصل قواد الثورة، ولما رأوا أن عدد الجنود غير كاف انصرفوا للبحث عن إمدادات أخرى، ولم يعد بعضهم بعد ذلك لا عن جبن، وإنما عن يأس. وبدا كأن كل شيء قد ضاع ... مع أنه لم يكن قد بدأ بعد.
وبعد ساعات وصلت فرقة أخرى من المشاة وانضمت إلى الثوار، ووصل بعد ذلك رجال البحرية، وقد تمكن من كسبهم للثورة اثنان من الضباط.
وفي نفس الوقت قرر نيكولاس أن يحشد جميع القوات التي ظلت موالية له، ثم طوق بها الثوار تطويقا كاملا، وكان الطرفان ينتظران أوامر لا ترد إليهم، وكان كل فريق يتساءل: هل يطلق النار على زملائه؟ فقد كان جنود القيصر لا يشعرون بأية كراهية نحو الثوار الذين كانوا يرتدون نفس الزي الرسمي الذي يرتدونه هم ... وكان الثوار كبيري الأمل في أن تنضم الفرق الموالية للقيصر إليهم ... كما كان نيكولاس كبير الأمل في أن يعرض الثوار التسليم. ولكنه أحس في النهاية أن عدم الحركة يعرض الموقف للخطر؛ فقد كان من الواضح أن حشود الأهالي تزداد تأييدا للمتمردين، وأخذ العمال الذين كانوا يقومون ببناء كاتدرائية «سان جيمس» يلقون قوالب الطوب وقطع الأخشاب على الفرق الموالية للقيصر.
وحرضوه على أن يقضي على الفتنة، فصاح: «أطلقوا النار»، ولكن أحدا لم يجبه، وقفز أحد الضباط إلى الأرض، ثم أسرع إلى المدفعي وسأله: «لماذا لا تطلق النار؟» فأجاب الجندي وهو يبكي: إنهم إخواننا يا صاحب السعادة!
وصفعه الضابط، ثم أوقد الشعلة، وأطلق النار، ولكنه كان قد صوب إلى هدف عال، فانطلقت القنبلة لتصيب نوافذ الطابق الثاني من مجلس الشيوخ ... على أن تصويب الطلقة الثانية كان أفضل من الأولى، فقد انقسمت صفوف الثوار وأخذوا في الهرب.
إنهم لم يكونوا على استعداد لقنابل المدفعية، فتفرقوا إلى كل اتجاه، وتجمع أغلبهم على أرصفة نهر النيفا الذي تجمدت مياهه، وحاولوا عبوره، وتساقطت القنابل حولهم، فأخذت تكسر الثلوج وتذيبها ... وغرق كثيرون منهم.
وهكذا قضي على أول ثورة روسية. (2) ثورة أكتوبر 1917 (وانقضى ما يقرب من قرن من الزمان ...)
منذ أربعين عاما انهارت القيصرية في روسيا فجأة بعد أن ظلت صخرة عاتية من الحكم المطلق استعصت على كافة قوى التحرر التي نشأت في أوروبا الغربية، وقبل سقوط القيصرية بقليل شهدت روسيا حركة تمثلت في مظاهرات تجوب الشوارع، ثم انقلبت إلى ثورة ناجحة حين رفضت حامية بتروجراد عاصمة روسيا آنئذ إطلاق النار على المتظاهرين، بل وانضموا إليهم.
وكانت هذه الثورة من الأهمية بمكان لم يسبقها إليه غيرها من الثورات التي عرفها التاريخ، ولم تبذل فيها البلشفيك - كما كان الشيوعيون يسمون أنفسهم آنذاك - أي جهد ولا تدبير.
أما زعماؤهم فإن لينين - وهو أشهرهم - كان إذ ذاك في زيوريخ، وكان تروتسكي صحفيا مغمورا يكتب مقالات بأجر بخس لصحيفة روسية كانت تصدر في نيويورك، وكان ستالين منفيا في سيبيريا، وكان البلشفيك أقلية ضئيلة في سوفييت (مجلس) مندوبي العمال، الذي أصبح هيئة قوية صاحبة سلطان بعد سقوط القيصرية.
وبعد سقوط القيصرية كان هناك اتفاق على أمر واحد؛ وهو أن روسيا يجب أن تتحرر، ونشأت حكومة مؤقتة، برنامجها ما يلي:
العفو الشامل عن الجرائم السياسية والدينية، وحرية القول، وحرية الصحافة والاجتماع والإضراب وتأليف النقابات، وإلغاء كل تفرقة بسبب الدين أو القومية، والإعداد لتشغيل جمعية تأسيسية بالاقتراع السري العام المباشر تضع الدستور وتشكل الحكومة.
كان هذا بمثابة مشروع لإقرار الديموقراطية، ولم يكن في وسع الشيوعيين أن يضيفوا شيئا إلى هذه الضمانات والحريات المدنية.
كانت القيصرية تعتبر رمز الظلم والرجعية، ولذلك اغتبط العالم لأنباء سقوط القيصرية، وفي 6 أبريل سنة 1917؛ أي: بعد ثورة مارس بقليل دخلت الولايات المتحدة الحرب ضد ألمانيا، وأعرب الرئيس ولسون في رسالته إلى الكونجرس الأمريكي في تلك المناسبة عن اغتباطه لنجاح الشعب الروسي في تحقيق الحرية بعد صراع طويل، ووصف روسيا بأنها «زميل عن جدارة في رابطة الشرفاء».
وبعد فترة لم تتجاوز ثمانية أشهر من ثورة الشعب على القيصرية استولى أنصار لينين بطريقة محكمة منظمة على السلطان، وانتهت أحلام الحرية الجميلة بحرب الطبقات وحكم الحزب الواحد.
وهناك أسباب كثيرة يرجع إليها فشل كيرينسكي وزملائه في الحكومة المؤقتة ومنهم الأحرار ومنهم الاشتراكيون المعتدلون، وقد حاولوا جميعا وقف زحف لينين إلى الحكم، ومن أول هذه الأسباب أن طريقة الحكم القيصرية حرمت الشعب الروسي من نعمة تذوق تجربة الحكم الذاتي، ومن إرساء قواعد الحرية التي تنشأ عن مباشرة هذا الحكم عمليا، ومنعت الأوتوقراطية المتعلمين الروس من النشاط السياسي؛ ولذلك اعتنق عدد كبير من هؤلاء المتعلمين الاشتراكية اليوتوبية، وآمنوا بالتعاون الاختياري الذي لم يلمسوه في حياتهم الواقعية.
كانت الهوة شاسعة بين الإقطاعيين ورجال الصناعة من ناحية، وبين العمال والفلاحين من الناحية الأخرى في روسيا، أما الطبقة الوسطى بين هاتين الطائفتين فلم تكن كبيرة بحيث يكون لها أثرها في كفالة الاستقرار والاعتدال، وكان من العسير حل مشكلة إحساس صاحب الأرض بحقه في التملك، وإحساس الفلاح الفقير بحاجته إلى مزيد من الأرض، ولم يكن حل هذه المشكلة بالانتخاب العام الحر السري أمرا ممكنا، وكانت هناك عقبة كبرى تعترض طريق المؤسسات السياسية الحرة؛ وهي الجهل والأمية المتفشيان في مناطق القوقاز وغيرها من المناطق المهملة المتخلفة.
ولعل أخطر ما تعرضت له الديموقراطية الوليدة التي كانت الحكومة المؤقتة تحاول أن تنميها هي الحرب التي كانت دائرة آنذاك، وحاولت روسيا التغلب على عقبة التخلف وعقبة التسلح بأن عبأت الجيوش، ولكن تفوق الألمان في القوة أنزل بروسيا خسائر فادحة في الممتلكات والجنود.
وخابت آمال بعض المراقبين الغربيين في أن يؤدي سقوط القيصرية إلى مزيد من الجهد الحربي، فقد أحس الجنود بغريزتهم أن اليد القوية المنظمة قد تراخت بعد خلع القيصر، وهم إلى ذلك لم يكونوا يفهمون أسباب الحرب؛ ومن ثم أصغوا إلى المهيمنين الذين قالوا لهم: إن هذه الحرب من صنع الرأسماليين، وإنهم يجب أن يعودوا إلى بلادهم ليشتركوا في تقاسم الأرض.
ولقد تجلت عبقرية فلاديمير اليتش لينين - زعيم المتطرفين في الحزب الاشتراكي الديموقراطي - وبراعته الاستراتيجية في استغلال تذمر الشعب والتمهيد لإسقاط الحكومة المؤقتة، وكانت مهمته يسيرة؛ فقد تحول البندول من جانب الطغيان إلى جانب الفوضى، فلم يصغ الشعب إلى نداءات الحكومة المؤقتة وأوامرها، وكانت هذه الحكومة تنقصها القوة التي تكفل لأوامرها الاحترام.
وتولى لينين الحكم فغمره أربع موجات كبرى من موجات التفكك، أما الموجة الأولى فهي مطالبة الجنود بإقرار السلام، والثانية مطالبة الفلاحين بالأرض، والثالثة مطالبة القوميات غير الروسية بالاستقلال أو الحكم الذاتي، والرابعة مطالبة العمال بالسيطرة على المصانع.
صورة قديمة تجمع بين لينين (في الوسط) وإلى يمينه ستالين وإلى يساره كالينين.
واستطاع البلشفيك في هذا الجو من الفوضى والتفكك أن يسقطوا الحكومة المؤقتة، ويعلنوا روسيا جمهورية سوفييتية يوم 7 نوفمبر سنة 1917، وقام لينين وتروتسكي في هذا برسم الخطوات الرئيسية للثورة، واستعان البلشفيك بالعناصر الثورية من العمال والجنود.
وبعد لينين جاء ستالين الذي حكم روسيا من عام 1924 إلى 1953، فسيطر طوال هذه المدة على سياسة الكرملين، وتحكم في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وبذلك اتسع له الزمن كما لم يتسع لزعيم أو حاكم غيره لكي يوطد دعائم النظام الجديد في روسيا، ويعمل على نشر المبادئ الشيوعية في أماكن أخرى من العالم.
وإذا كان لينين هو الرسول الذي بشر في روسيا بالدين الجديد، فإن ستالين هو الذي حمل لواء الجهاد الحقيقي لنشر هذا الدين لا في روسيا وحدها، وإنما في خارجها أيضا.
وقد يكون قارئ هذا الكتاب من المعجبين بستالين، وقد يكون ممن يكرهون اسمه، لا شخصه فقط، ولكن هناك شيئا واحدا مؤكدا - كما يقول ديل كارنيجي - وهو أنك لا تستطيع أن تتجاهل ستالين، ولا تستطيع أن تنكر الدور الذي لعبه في تاريخ روسيا، ولا تستطيع أن تنكر عليه إخلاصه طوال حياته لهدف واحد لم يتحول عنه قط، وإن أنكرت عليه الوسائل التي استعملها في سبيل تحقيق هذا الهدف!
ولا يستطيع إنسان أن ينكر أن ستالين كان في يوم من الأيام أقوى رجل في العالم، ولا يستطيع أحد كذلك أن ينكر الدور الهام الذي لعبه في الحرب العالمية الثانية، وما ساهمت به بلاده في سبيل انتصار الديمقراطية على الفاشية. (3) الإله الذي أنكروه
أطلقوا عليه في حياته أسماء كثيرة لا شك أنها ترفعه إلى مقام الآلهة أو الأنبياء؛ فقد قالوا عنه: إنه «أحب البشر»، وإنه «المعلم والأب الحكيم».
ووصفه البعض فقالوا: إنه «أمل العالم ونوره وضميره»، وإنه «مجد كل من ولد بقلب أمين».
وفي السنوات الأخيرة من حياته قلت الإشارة إلى اسمه «ستالين»، اكتفاء بكلمة الرفيق وحدها كما كانت العادة من قبل، وأصبح لزاما أن يضاف إليها كلمة «العظيم»، وأطنبوا في ذلك فقالوا: إنه «شعلة البشرية التقدمية وأملها»، وإنه «صانع الحياة السعيدة»، و«صاحب القلب الحنون»، و«النسر الكبير الذي يعلم النسور الصغيرة كيف تطير».
ولم يقصر الشعراء والأدباء من جانبهم في ذلك الموكب؛ فقال أحدهم: إن الحروف التي يتكون منها اسم ستالين وهي: «س، ت، ا، ل، ي، ن» لا بد لها أن تزهو وتفاخر بين الحروف الأبجدية الأخرى بوصفها الحروف التي تكون منها اسم الزعيم الأكبر!
وقال كاتب آخر: إن صوت ستالين لا يقل تأثيرا في النفوس عن النبيذ المعتق الذي تنتجه سفوح التلال الجنوبية!
وقال شاعر آخر: إن البلابل عندما تغرد فإنها تقول له: «لك المجد! لك المجد أيها البستاني العظيم!»
وسارعت الصحف بدورها لتقدم له هي الأخرى تحيتها، فأطلقت عليه صحيفة الحياة الاقتصادية اسم «شباب الأرض»، ولاحظت أزفستيا أن ستالين يشبه «الربيع البللوري»، وقارنته صحيفة الجبهة الاقتصادية بالحكيم سقراط الفيلسوف اليوناني، وقالت: إنه «عبقري الفكر ... بل إنه أعظم المفكرين حقا ...»
ووصفه أحد كبار أعضاء مجمع العلوم الروسي (الأكاديمي) بأنه: «أعظم زعيم للعلم في جميع العصور وجميع الدول.»
وكانت الخطب التي تلقى في مختلف المناسبات حتى الفنية تمتلئ بعبارات الإطراء والمديح التي كانت تقابل من الجماهير المستمعة بالهتاف الطويل والتصفيق المتواصل، وكثيرا ما كان الخطيب يقول وهو يخاطب ستالين: «سلام عليك !» أو: «إننا لنتمنى سنوات عديدة من السعادة لزعيمنا الحكيم وحبيبنا الأوحد الرفيق ستالين.»
وفي عام 1949 عندما كان ستالين يحتفل بعيد ميلاده، وكان قد بلغ السبعين من عمره، خطب رئيس الاتحاد السوفييتي الأعلى فقال: إن ستالين «أعظم قائد عسكري ظهر في جميع العصور وفي جميع البقاع!»
كما قال مولوتوف في نفس هذه المناسبة: «إن ستالين هو الذي قاد بلادنا إلى النصر.»
وجاء في رسالة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجلس وزراء اتحاد الجمهوريات السوفييتية التي رفعت إليه عندما بلغ السبعين من عمره:
إن كل الأجيال المقبلة سوف تمجد اسمك.
وإن قلوب ملايين العمال في جميع أنحاء العالم لتمتلئ بالحب الخالص لك، يا سيد العلم العظيم، ومهندس الشيوعية الأكبر.
معلمنا ومرشدنا وأحسن أصدقائنا.
وقال راديو موسكو وهو يصف ستالين في إحدى المناسبات: «إنه الرجل الذي لا نهاية له ... إنه يشبه النور وأمواج المحيط.»
وقال كاتب روسي يصف ستالين: «إنه كالشمس ... يبدو عاليا مضيئا قويا ... والحرارة التي تنبعث من أشعته تفيض دفئا على شعوب العالم.»
ولكن كاتبا روسيا آخر هو الكساي تولستوي لم يعجبه هذا الوصف فقال: «إن ستالين أكثر من الشمس ... لأن الشمس لا حكمة لديها.»
وكانت صورته ترى في كل مكان، وكان هناك مصنع في روسيا لا عمل له إلا إنتاج تماثيل من الجبس لستالين لكي توزع على جميع الجهات.
وهكذا كان وجه ستالين يطل على التلاميذ في كل فصل من فصول المدرسة، وعلى العمال في كل مصنع، وعلى الموظفين في كل مصلحة، بل وفي معظم المنازل.
وعند مدخل القناة التي تصل بين نهري الفولجا والدون أقيم تمثال ضخم من النحاس لستالين، وكان وزنه يبلغ نحو 35 طنا ... وفي محطة «مترو» موسكو الذي يسير تحت الأرض أقيم لستالين تمثال آخر من المرمر الملون، وفوق جبال البرز في القوقاز، وهي ترتفع 18468 قدما فوق سطح البحر، أقيم تمثال آخر لستالين نقشت عليه هذه العبارة:
فوق أعلى قمة في أوروبا أقمنا تمثالا لأعظم رجل في هذا العصر.
وتضاءلت عظمة لينين أمام عظمة ستالين؛ فإن اسم لينين لم يطلق على مدينة إلا بعد موته، ولكن اسم ستالين أطلق مدة حياته على مدن كثيرة منها: ستالينجراد، وستالين آباد، وستالينيز، وستاليني، وستالينيكا، وستالينوجورسك، وأطلق اسم «ستالينسك» على مدينتين، واسم «ستالينسكويا» على مدينتين آخريين، كما أطلق اسم «ستالينسكي» على ثلاث مدن روسية، وأطلق اسم «ستالينو» على أربع مدن ...
وليس من السهل حصر عدد الشوارع والمزارع الجماعية والمتاجر والسفن والجسور التي أطلق عليها اسم ستالين في جميع أنحاء روسيا.
وكانت الجهود تبذل دائما لتصوير ستالين أكبر مما هو في الحقيقة، بل ولإبرازه في شكل يخالف شكل البشر العاديين حتى يؤمن الناس أنه إن لم يكن إلها صغيرا، فإنه - على الأقل - مخلوق ممتاز ...
فقد وصف راديو موسكو يوما في إحدى إذاعاته خواطر تلميذ صغير وهو يمر أمام الكرملين ويفكر في ستالين فيقول: عندما يغيب الضوء سيذهب «هو» - أي: ستالين - إلى فراشه، فهل يا ترى ينام هو كما ينام سائر الناس؟
وفي كل مرة تشرق الشمس على موسكو ... يخيل لي أنه هو الذي يحرك مفتاحا في يده فيضيء النور ...
وفي ذات يوم سمع في إذاعة لراديو براغ في تشيكوسلوفاكيا وصف لستالين جاء فيه: «أنت اسم آخر للخلود!»
ولكن ستالين مات في يوم من الأيام كما يموت سائر البشر، وعرف الناس في روسيا أن الخلود لله وحده، وصدر بلاغ رسمي من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجلس الوزراء ينعي ستالين للشعب، وقال الزعماء الذين نعوه في عبارات باكية: «إن أعظم القلوب الإنسانية قد نبض نبضته الأخيرة فلا حراك له بعد اليوم.» «لقد توقف قلب القائد والمعلم الحكيم عن الخفقان.» «ولكن اسم ستالين الخالد العزيز علينا سيعيش دائما، وسيظل حيا إلى الأبد في قلوب الشعب السوفييتي وجميع الشعوب التقدمية.»
وبكى مولوتوف وهو يودع ستالين الوداع الأخير وقال: «كلها بالأفكار العظيمة ستظل لنا نبراسا حيا.»
وقال مالنكوف وهو يتنهد: «وداعا أيها الصديق المحبوب! ...»
أما طاقات الزهر التي أرسلت لتوضع على نعشه فلم يكن من السهل حصرها هي الأخرى، شأنها في ذلك شأن الدموع الحارة التي أذرفت حزنا عليه يوم موته ... •••
ولكن لم تمض سنوات ثلاث على وفاة ستالين حتى فوجئت روسيا، بل فوجئ العالم كله، بعملية تحطيم عجيبة تجري بكل همة ونشاط في روسيا للقضاء على سمعة الإله الذي دفن منذ ثلاث سنوات.
وبدأ الناس يسمعون، وهم في ذهول، أن «أمل العالم ونوره وضميره» الذي تعود مئات الملايين من البشر أن يحترموه ويبجلوه بوصفه «مجد كل من ولد بقلب أمين»، قد أعيد تقدير قيمته بمعرفة زملائه السابقين، وأنه أصبح اليوم في نظرهم شخصا عابثا، جاهلا، جبانا، قاسيا، شريرا، مستبدا، مجنونا ... متوحشا!
ورأى الناس، وهم في ذهول، أن الذين بكوا وانتحبوا يوم وفاة ستالين وقالوا: إن أعظم القلوب الإنسانية قد نبض نبضته الأخيرة، رآهم وهم يهيلون التراب على صورة الرجل العظيم، الأب الحكيم الخالد، القائد، الأمل، نور الضمير العالمي، صاحب أعظم العبقريات الحربية التي تمخضت عنها جميع العصور!
إنهم لم يهيلوا التراب في صمت، بل تحدثوا وتحدثوا كثيرا، وقالوا: إن الإله الذي عبدوه مع بني وطنهم قد أنزل بالبلاد أضرارا عظيمة ...
وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يكون ضروريا أن نرى إلى أي ذروة من ذرى التأليه ارتفع ستالين على أيدي نفس الزملاء والشركاء الذين أخذوا يهيلون عليه التراب بعد ثلاث سنوات فقط من موته؟ وما هي العوامل التي ساعدته على ارتفاعه؟ (4) زعيم الشيوعية
كان ستالين أقوى حاكم مطلق في الأزمان الحديثة، كان أعظم ديكتاتور في عهده؛ لأنه كان يحكم 200 مليون من الشعب الروسي، كما كان يتحكم في مصير 600 مليون نسمة من الشعوب الأخرى التي يضمها الاتحاد السوفييتي والدول التي تدور في فلك روسيا ...
وإذا كان العالم كله يدرك اليوم مدى السلطة التي كان يتمتع بها ستالين في عهده، إلا أن الطرق التي توصل بها إلا الاستئثار بجميع هذه السلطة في يده، والاحتفاظ بها خلال السنوات الطويلة التي امتد إليها حكمه، هذه الطرق والأساليب قد نسيها الناس أو تناسوها ... كما أن جهاز الرقابة الذي أحاط به ستالين عهده كان خير معوان على طمس الحقائق وإخفائها حتى باسم التاريخ بما يتفق مع اتجاهات الشيوعية وأهدافها البعيدة.
مراحل مختلفة في حياة ستالين
ستالين (6 سنوات).
ستالين عام 1910 ... في «فيش» البوليس.
ستالين (لص البنوك!)
ستالين (في عام الثورة).
ستالين في ريعان الشباب.
ستالين (إلى اليسار) وبجانبه كالينين على ضريح لينين.
ولكن لما مات ستالين وأصبح ملكا للتاريخ، بدأ الباحثون والعلماء والكتاب يتناولونه من نواحيه المختلفة، ويتناولون عهده وما أحدثه من آثار عميقة في تاريخ روسيا، أو تاريخ أوروبا وآسيا ... بل تاريخ العالم كله.
وجاء خروشيشيف بعد ذلك فألقى خطابه السري المشهور في المؤتمر العشرين للحزب، في ليلة 24-25 فبراير من عام 1956، وفضح عدة مسائل كانت مستورة، كما نشر عدة صفحات أخرى كانت مطوية، وكان ذلك بعد وفاة ستالين بثلاث سنوات فقط.
ولا شك أن المتتبع للثورة الروسية يمكن أن يرجع بجذورها إلى أول القرن التاسع عشر، والناظر إلى وجه ستالين وهو لا يزال في ريعان الصبا يمكن أن يلمح فيه شابا تملؤه الفتوة، وتدفعه الجرأة، عندما كان أحد محترفي الثورة ... إنه لا شك شديد الاختلاف عن ذلك الصبي الذي زجت به أمه إلى المدرسة الإكليريكية وهي ترجو أن يكون يوما من بين رجال الدين!
لقد كان الرجال الذين يمهدون للثورة الروسية - وستالين من بينهم - يعيشون في روسيا القيصرية مرموقين بنظرات البطولة؛ وذلك لما كانوا يتعرضون له من أخطار دائمة، ومؤامرات واسعة النطاق، تتهدد حياتهم وحرياتهم في كل وقت.
كان البوليس السري للقيصر يبحث عنهم ويتتبع حركاتهم حتى يزج بهم إلى أعماق السجون، أو يرسلهم إلى النفي في سيبيريا.
كانت الشعلة التي تلهمهم في ذلك الوقت هي المثالية الاشتراكية التي ابتدعها كارل ماركس وانجلز، وكان أحرار العالم جميعا يؤيدونهم في جهادهم، ويتمنون لهم ولبلادهم الخلاص من الحكم القيصري الظالم الطاغي.
ولكن ستالين كان يتميز بصفات لم تتوفر لغيره من الزملاء المجاهدين العاملين في نفس القضية ...
فقد كان أشد جرأة من معظم الثوار المحترفين.
وكانت أطماعه لا تقل عن أطماع أي واحد منهم إن لم تزد عنها ...
وكان أشدهم انتهازية، فقد رسم سياسته أولا على أساس السير في ركاب لينين، والانضواء تحت زعامته حتى تسنح له الفرصة للاستئثار بالسلطة لنفسه.
ومهما قيل في ستالين فإنه ليس من المبالغة في شيء أن يقال عنه: إنه كان من أعظم الذين أثروا في تاريخ البشرية في هذا القرن الذي نعيش به. ... والآن نبدأ قصة الرجل أو «الإله» من أولها. (5) ستالين بين الحقيقة ... والخيال
أي طراز من الرجال كان هذا ال «ستالين» الذي سيطر في وقت من الأوقات على مصير 200 مليون نسمة في الاتحاد السوفييتي، وأقدار عدة ملايين أخرى في الدول المجاورة التي انتشر فيها نظام روسيا، وكان كل تصريح سياسي له يبعث الأمل أو الخوف في قلوب مئات الملايين من سكان العالم؟
ومن المشكوك فيه أن يكون ثمة رجل، خلال حياته نفسها، قد لقي هذا الاختلاف الكثير في درجة التقدير كما حدث لستالين، فقد رآه مثلا أحد الكتاب فأبدى نفورا من شكله وهيئته وقال: إن وجهه يحمل آثار الإصابة بالجدري، وإن أسنانه رديئة المنظر. ورآه أحد سفراء أمريكا السابقين في الاتحاد السوفييتي فأطنب في وصف عينيه البنيتين الحانيتين اللطيفتين وقال: «إن الطفل ليحب أن يجلس على ركبتيه.»
ووصفه تشرشل عقب اجتماعهما الأول كحلفاء في الحرب بأنه رجل ذو شجاعة ومقدرة لا ينفدان وقال: «إن ستالين تركه وقد انطبعت في نفسه الحكمة الهادئة العميقة وزوال الوهم من أي نوع كان.»
ومن أظرف ما رواه تشرشل في مذكراته عن ستالين كيف أن سيد روسيا أقام مأدبة في أحد الاجتماعات،
1
ووقف أثناء المأدبة ورفع كأسه وشرب نخب ملك بريطانيا. ويقول تشرشل: إنه ولو أن ستالين شرب نخب ملك بريطانيا بطريقة ودية مهذبة إلا أنه قرن ذلك ببضع كلمات لم ترق لتشرشل؛ إذ قال ستالين وهو يرفع كأسه: إنه بوجه عام من خصوم الملكية، وإنه يقف دائما إلى جانب الشعب لا في صف الملوك أيا كان مسلكهم، ولكنه تعلم أثناء الحرب أن يحترم الشعب البريطاني الذي يمجد ملكه ويحترمه؛ ولذلك فإنه - أي: ستالين - يدعو الحاضرين ليشربوا نخب ملك بريطانيا!
وتضايق تشرشل من هذه الكلمات الصريحة وطلب من مولوتوف أن يرجو ستالين أن يكتم مشاعره بإزاء الملكية، واقترح للتخلص من هذه المواقف المحرجة أن يشرب المحتفلون نخب رؤساء الدول الثلاث
2
في وقت واحد، وبذلك لا يتسع المجال لإبداء تعليقات. وقبل ستالين الاقتراح وصار ذلك النهج تقليدا اتبع في الاجتماعات التالية.
وروى ولتر بيدل سميث - سفير أمريكا السابق في موسكو - أنه عرف يوما شيوعيا غير روسي يتملكه نوع من الرعب والخوف من ستالين، حتى إنه ليتحاشى ذكر اسمه في الأحاديث الخاصة، ويقول عنه هامسا إذا أراد الإشارة إليه: «الرجل ذو الشارب.»
ولا شك أن ستالين كان مكروها من كثيرين من زملائه في بدء تكوين الاتحاد السوفييتي، كما أنهم كانوا يخافونه، وقد لقي هؤلاء أحد مصيرين: فإما النفي، وإما الموت ... بل إن لينين نفسه - كما سترى - لم يكن شديد الاطمئنان لستالين ...
ويرجع هذا الاختلاف البين في تقدير ستالين إلى أن معظم الذين قابلوه وكتبوا عنه فعلوا ذلك من وجهة نظر معينة ...
والحقيقة أن قليلين جدا من الناس في العالم، بل وفي روسيا نفسها، قد عرفوا ستالين الحقيقي؛ فقد كان أقوى حاكم في العالم، وكان من أقل حكام العالم ألفة واختلاطا بالناس، فقد عاش بعد أن قبض على زمام السلطة منعزلا عن شعبه، كما انعزل عن الأجانب، وراء أسوار الكرملين التي كانت تفصله عنهم، ومن حوله حشد من رجال الجيش والبوليس تولى حراسته، وأحاط حياته الشخصية بسرية تامة.
وكان العالم الخارجي يجهل أين يقيم ستالين بالضبط إذا خرج من الكرملين، وكان بعض الناس يعتقدون أنه كان يملك منزلا ريفيا يقع في الجزء الشمالي الغربي من المدينة حيث يقيم رجال الحكومة الآخرون، وحيث يفرض البوليس رقابة دقيقة، ولكن لم يكن في استطاعة أحد أن يؤكد ذلك.
حتى حياته الشخصية نفسها أحيطت بالغموض؛ فإن الروس أنفسهم لا يعرفون إذا كان ستالين قد تزوج حقا بعد وفاة زوجته الثانية في عام 1932، رغم كل ما أشيع عن ذلك.
لقد كان «ستالين» في روسيا اسما ورمزا لرجل لا يراه الروس مطلقا حتى في تلك الاستعراضات الضخمة التي كان ستالين يقف فوق قمة قبر لينين ليشهدها وهي تمر في الميدان الأحمر ... حتى في تلك الاستعراضات كانت الجماهير لا تراه لبعد المسافة، كان المارة في الميدان يرونه عن بعد كما يرون شبحا من الأشباح.
ولم يشهده أحد سائرا في شوارع موسكو، كما أنه لم يزر إلا نادرا إن لم نقل إطلاقا مصنعا أو منجما أو مزرعة جماعية، وقيل: إنه قام في أثناء الحرب العالمية الثانية بعدة زيارات لجبهات القتال المتعددة، ولكن الذين رأوه في هذه الرحلات كانوا عبارة عن عدد قليل من الضباط الكبار أصحاب الرتب العالية، ولم يعلم أحد من الجنود بوجوده بينهم في الميدان.
ولم يسمع عنه أنه سهر ليلة في فندق سوفييتي، كما لم يعرف عنه أنه قام برحلة طويلة داخل بلاد الاتحاد السوفييتي ورآه فيها الناس. وكان أهم ظهور له في العيد الرياضي السنوي بملعب «الدينامو» الضخم في ضواحي موسكو.
ولم يكن بالخطيب المفوه، بل كان يلقي خطبه دائما في مستمعين محدودي العدد مثل مجلس السوفييت الأعلى أو اجتماع الحزب الشيوعي، ولم يعمد إلى إلقاء خطبه العامة في حشود تتكون من آلاف المستمعين كما كان يفعل غيره من الحكام في مختلف المناسبات؛ لكي ينشروا آراءهم وحججهم في موضوعات السياسة العليا على الشعب مباشرة.
ورغم هذه العزلة ... فقد كان ستالين موجودا في كل مكان من روسيا ... في كل قرية، وفي كل ضيعة ... في سدس سطح الكرة الأرضية، كان معبودا بكل معنى هذه الكلمة، وكانت صورته في كل مكتب سوفييتي، وفي كل حجرة من كل مدرسة، وفي كل فرع للحزب، وفي منزل كل أسرة ... وكان له تمثال مقام في كل متنزه، وفي محطات السكة الحديدية والمطارات، وفي كل مبنى عام؛ كالفنادق ومحطات «المترو» لا دور الحكومة فقط ... وكان الشعب الروسي كلما احتفل بعيد الثورة السنوي يوم 7 نوفمبر، وضعت له الصور الضخمة في كل مدينة، وكل قرية من قرى الاتحاد السوفييتي.
لقد ظل العالم الغربي وقتا طويلا وهو عاجز عن تعليل ذلك المديح البالغ الزائد عن حده الذي تغمر به روسيا ستالين؛ إذ كانت الملايين من أفراد الشعب الروسي تنظر إليه على أنه مزيج نصفه إله والنصف الآخر أب حنون، ومع ذلك فإن هذا الشعب لم يكن يعرف شيئا عن زعيمه إلا من الصور التي تنشر له، وقلما كانت الصورة تتغير إلا بعد أن تنقضي عليها أمام الناس عدة سنوات.
وقد حدث في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية أن نشرت للناس صورة جديدة لستالين، ظهر فيها شعره وقد وخطه الشيب، وما كادت مكتبات موسكو تلصق على نوافذها هذه الصورة الجديدة للإعلان عن بيعها حتى أحدثت هزة عميقة في نفوس الناس الذين احتشدوا أمام المكتبات التي عرضتها، وأخذوا يدققون فيها النظر وهم يلاحظون في دهشة أن ستالين هو الآخر قد أخذت السن تتقدم به ... لقد كانوا يعتقدون أن زعيمهم من طينة غير طينة البشر، وأن ما يحدث لغيره من البشر لا يمكن أن يحدث له هو مطلقا؛ لأنه ليس مثلهم، فلما فاجأتهم الصورة الجديدة أثارت دهشتهم وتساؤلهم وقلقهم!
ولم تكن أنباء نشاطه اليومي تنشر أبدا، ولا قائمة زواره الرسميين، إلا إذا كانت الزيارة في مناسبة يجب أن تذاع، كاستقبال سفير جديد أو سياسي أجنبي، أو إقامة مأدبة في الكرملين لمجموعة من الضيوف.
وكانت خطط تنقلات ستالين في داخل روسيا أو في خارجها يحتفظ بها في سرية تامة في وقت السلم كما في وقت الحرب. وكان قد اعتاد قضاء إجازاته في البحر الأسود، ولم يكن أحد يعرف ذلك، وإنما كان يستنتجه الديبلوماسيون الأجانب في موسكو إذا طلب أحدهم مقابلة ستالين فأجيب بأن المقابلة غير ممكنة بسبب عدم وجود ستالين في موسكو.
هذه صورة لستالين العظيم، في أوج عظمته، وبعد أن توطد ملكه وسلطانه في البلاد، ولكن فلنعد الآن إلى الوراء لنرى كيف وصل الزعيم إلى هذا المركز الممتاز بين أهل وطنه. (6) الأعوام الأولى
كان اسمه الرسمي جوزيف فيزاريونوفيتش دجوجا شفيلي، وقد ولد في مدينة جورى من أعمال جورجيا، في ديسمبر من عام 1879.
أما اسم ستالين الذي أطلق عليه فيما بعد فكان معناه: «رجل الصلب»؛ لأن كلمة «ستال» بالروسية معناها الصلب، وكان المقصود بهذا الاسم الدلالة على قوته.
أما والده فيزاريون دجوجا شفيلي فقد كان فلاحا، اشتغل بالصناعة تارة لحسابه الخاص، وتارة بالمصنع، وقد اشتغل بصناعة الأحذية، وتوفي الرجل في عام 1890.
أما والدة ستالين وكان اسمها كاترين، فقد كانت تعيش في تفليس، وظلت على قيد الحياة بعد وفاة زوجها بمدة طويلة، حتى لقد شهدت عظمة ابنها عندما صار سيد روسيا كلها ...
كان قد مات لها ولداها الأولان وهما في سن صغيرة، فلما جاء الثالث - وهو جوزيف - أخذت تدلله كما تدلل كل أم ابنها الأوحد، ومن جوزيف ابتدعت الأم اسما صغيرا لتدليل ابنها، وكان الاسم الذي وقع عليه اختيارها هو «صوصو». وقد ظلت كاترين تنادي ستالين باسم «صوصو» حتى بعد أن بلغ شأنا كبيرا في روسيا ... بل في العالم.
وكانت الأم تحلم بأن تجعل من ابنها قسيسا؛ ولذلك فإنها أودعته المدرسة الدينية في جورى التي لم تكن تزيد في حجمها عن حجم أي ضاحية لا يزيد عدد سكانها عن خمسة آلاف نسمة.
وتحدثت الأم عن ابنها يوما فقالت: «لقد كان دائما ولدا طيبا، لم يستلزم الأمر يوما ما أن أوقع عليه عقوبة، كان يستذكر دائما بعزم، ويقضي وقته إما في القراءة أو في الحديث، محاولا أن يفهم كل شيء، وقد التحق بالمدرسة وهو في سن الثامنة من عمره.»
وهذه هي أهم المعلومات الدقيقة المعروفة عن طفولته بغض النظر عما نشره فيما بعد كثيرون من زملائه وتلاميذه مما يجب أن يتناوله المؤرخ بمنتهى الحذر. •••
وكانت يقظة ستالين الثورية يقظة مبكرة؛ لأنها بدأت في 1894 في تلك المدرسة اللاهوتية التي ألحق بها في تيفليس، فقد ثار ضد «النظم القاسية والنظام الجزويتي» الذي كانت تسير عليه المدرسة الدينية، وفضل على تلك الدراسات الدينية أن يشترك في الاجتماعات العامة التي كانت تعقد في المدينة، كما أخذ يقرأ سرا مؤلفات فيكتور هيجو وداروين وكارل ماركس.
وفي عام 1899 غادر المدرسة اللاهوتية نهائيا لكي يصبح ثوريا محترفا، وفي هذا الوقت بالذات كان لينين قد دخل السجن لأول مرة.
وهكذا يمكن اعتبار أن حياته السياسية قد بدأت في عام 1898؛ إذ تكون في هذا العام الفرع الروسي للدولية الثانية، فانضم ستالين إلى شعبة تفليس لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وتحدث أحد الذين أرخوا له فوصف شكله وقال عنه: «الملامح، على وجهه ملامح الجرأة ... وكان يسير مرفوع الرأس! ...»
وفي عام 1926 خطب ستالين في مدينة تفليس، وتحدث عن نفسه فقال: لا أزال أذكر عام 1898 حين عرض علي عمال ورش السكك الحديدية رئاسة ناديهم، وقد مضى اليوم على ذلك 28 عاما، ولكنني لا أزال أذكر كيف كنت أجتمع في منزل الزميل ستوروا بدجبيلادزيه، وتشوريد شفيلي، وبوتشريد شفيلي، وغيرهم من العمال التقدميين ... وهناك كنت أتلقى دروسا عملية، ولو قارنت نفسي بهؤلاء لأدركت أنني كنت في ذلك الوقت صفرا من ناحية الشمال. •••
ربما كنت إذ ذاك أكثر علما من كثيرين من هؤلاء الزملاء، ولكنني كنت لا أزال حدثا في فنون الجهاد العملي ... وعلى يد هؤلاء صرت «صبيا» في فنون الثورة؛ إذ تتلمذت عليهم ... فأنتم ترون أن أساتذتي الأوائل كانوا عمال تفليس ... واسمحوا لي الآن أن أعبر لهم عن اعترافي بالجميل ... كزميل.
وأذكر بعد ذلك الأعوام التي انقضت من 1905 إلى 1907 حين ألقوا بي للعمل في «باكو» بأمر الحزب؛ فقد كان لهذه الأعوام التي قضيناها هناك في التمهيد للثورة أعظم الأثر في نفسي؛ إذ جعلت مني جنديا عمليا ومحركا ...
وهكذا تلقيت في باكو التعميد الثاني في نضالي الثوري، وهناك صرت عاملا من عمال الثورة، فاسمحوا لي أن أعبر لأساتذتي في باكو - أيضا - عن اعترافي بالجميل كزميل ...
وأخيرا أذكر عام 1917 ... عندما ألقي بي بأمر الحزب إلى ليننجراد ... فهناك وسط العمال الروس، وإلى جوار المعلم الأكبر الرفيق لينين، وفي خضم الزوبعة الكبرى التي أثارتها المعارك التي نشبت بين الرأسمالية وبين الطبقة العاملة وخلال الحرب العظمى ... بدأت أفهم للمرة الأولى معنى أن يصبح الشخص من قادة حزب العمال الأكبر! ...
وهكذا تتمثل حياة ستالين الثورية في أربع مراحل هامة:
الأولى:
مرحلة التلمذة في تفليس.
والثانية:
مرحلة العمل في باكو.
والثالثة:
مرحلة القيادة في ليننجراد.
وأما الرابعة:
فهي مرحلة الدكتاتورية المطلقة في موسكو.
ولقد كانت مرحلة الصبا في حياة ستالين هي مرحلة دولة في دور الغليان.
وكان قد حدث في عام 1825، وفي شهر ديسمبر على وجه التحديد، أن ثار جماعة من الضباط الأحرار من المتمسكين بالمثل العليا ضد القيصر نيقولا الأول، ولكنهم أخفقوا في ثورتهم ولم ينجحوا في قلب الحكومة، وإنما نجحوا في إيقاظ روسيا، وحركوا روح الأمل في إنقاذ هذه البلاد من ظلام العصور الوسطى الذي كانت لا تزال تعيش فيه تحت حكم القياصرة المتعسفين الظالمين.
ولذلك فإنه عندما تحركت فكرة الاشتراكية الماركسية وبدأت تنتشر في أوروبا وجدت لها عددا كبيرا من المتطوعين في روسيا. وفي عام 1898 نظم الماركسيون الشبان حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وبعد عامين أخذوا في إصدار جريدة سرية في ألمانيا أطلقوا عليها اسم إيسكرا (أي: الشرارة)، وكان من بين محرري هذه الجريدة فلاديمير إيليانوف لينين، وكان والده مدرسا.
وحدث في لندن عام 1903 أن انقسم الحزب على نفسه، فأطلق لينين على من بقي معه اسم البولشفيك (ومعناها الأغلبية)، كما أطلقوا على المنشقين اسم المنشفيك (أي: الأقلية.) ويمكن لمن يتتبع هذا الانقسام أن يجده حتى اليوم ماثلا في تلك الفروق التي تفصل ما بين الشيوعية الروسية والاشتراكية الغربية. (7) مرحلة الصبا (1898-1905)
وقد رأينا أن ستالين لا يريد أن يعتبر نفسه لا من رجال النظريات ولا من رجال العلم، إن ما يهمه هو الجهد «العملي»، وقد اعتنق الماركسية كما يعتنق المرء دينا جديدا، ولقد حدد غيره فلسفة هذا الدين الجديد، أما دوره هو فكان دور الجندي، دور المبشر المحجب في بادئ الأمر، ولكن المؤمن العنيد الذي لا يتراجع أمام أي عقبة من العقبات، وكان يستعين في نشر أفكاره بمكر الفلاحين.
والمعلومات قليلة عن ظروف حياته الأولى كمحترف للثورة بين عمال السكك الحديدية، وعمال مصانع التبغ، وعمال صناعة الأحذية، والوسائل التي كان يستعملها في التبشير بديانته الجديدة بلغة قريبة من لغتهم واشتراكية طائعة متساوية بين الجميع.
وكان البوليس يعترض طريقه أحيانا حتى ليجعل من العسير عليه أن يؤدي واجبه، ولكنه كان يحس أنه ملك للحزب وحده بكل ما تحمل هذه الجملة من معان، وكان يتوجه دون حذر ولا خور إلى أي مكان «يرميه» فيه الحزب على حد تعبيره هو.
وكان لينين قد كتب وقتئذ يقول:
يجب علينا أن نكون رجالا يخصصون للثورة لا أوقات فراغهم كل مساء فقط، بل كل حياتهم ...
وكان يجب على هؤلاء الرجال الذين يمهدون للانقلاب أن يعيشوا على حساب الحزب، وأن يستغنوا عن البحث عن أي عمل آخر، وأن يعيشوا أطول مدة ممكنة في نفس المدينة، وأن يعملوا في الظلام، مما كان يتطلب جرأة شديدة، وخاصة لشدة البوليس في ظل النظام القيصري.
واضطر دجوجا شفيلي
3
تضليلا للبوليس، أن يتخذ لنفسه عددا من الأسماء المستعارة، وأطلق عليه مرة بعد أخرى: دافيد وكوبا ونيجيرادزيه وتشيجيكوف وإيفانوفتش وستالين.
وفي عام 1900 لم يكن غريبا على المظاهرات التي وقعت في تفليس وأدت إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى، وإلى حل اللجنة الاشتراكية الديمقراطية الخاصة بهذه المدينة.
وقال باربوس في كتابه «لمحة تاريخية عن البلشفيه» يصف هذه المرحلة من حياة ستالين: «دون أن ينطق بكلمة واحدة ثم يصغي إلى ما يقال، حتى حين الوقت لكي يتولى هو الكلام ...
وكان يصحبه دائما رفيقان أو ثلاثة، يقف واحد منهم عند الباب ليتولى الحراسة ...»
وفي عام 1901 سافر ستالين إلى باطوم، وكانت هي الباب الرئيسي لتجارة القوقاز؛ حيث كانت المنطقة غنية بالبترول عامرة بالناس، وخاصة أفراد الطبقة الوسطى. وحدث في عام 1902 بتأثيره هو أن هاجم المتظاهرون السجن، وكانوا جميعا لا يحملون سلاحا فسقط منهم عدد من القتلى.
وقبض على ستالين وعدد من المحرضين، وحجز في السجن نحو ثمانية عشر شهرا صدر بعدها الحكم ضده بالنفي الإداري إلى سيبريا لمدة ثلاث سنوات.
وهذه هي الأوصاف التي وردت في «تحقيق الشخصية» الخاصة به:
طول القامة:
2 أرشين و4,5 فرشوك.
حجم الجسم:
متوسط.
متوسط السن:
23 سنة.
علامات خاصة:
التصاق أصبعي القدم اليسرى الثاني والثالث.
المظهر الخارجي:
عادي.
الشعر:
أسمر فاتح.
الذقن والشارب:
أسمر.
الأنف:
مستقيم طويل.
الوجه:
مستطيل (به علامات جدري).
ولكنه لم يمكث طويلا في سيبيريا، فإنه بعد شهر واحد من وصوله إلى قرية نوفايا أودا، بمقاطعة أركوستنك، هرب وعاد إلى الظهور في تفليس في شهر يناير من عام 1904، وهناك وجد الحزب منقسما إلى فريقين: منشفيك، ولينينيين.
وفي عام 1905 كان ستالين قد قرر مصيره؛ إذ اختاره البلاشفة القوقاسيون مندوبا عنهم في المؤتمر البلشفيكي الذي قررت الدول الروسية عقده في تامر فورز بفنلندا، وفي ذلك المؤتمر قابل ستالين - لأول مرة في حياته - لينين.
وكتب في وصف هذا اللقاء الأول يقول:
كنت أتمنى أن أرى نسر الجبال الذي يحمي حزبنا بجناحيه في صورة رجل كبير ... ليس كبيرا في السياسة فقط، بل كبيرا أيضا في جسمه، فإنني كنت أصور لينين دائما في خيالي في هيئة مارد له قوام جميل تتمثل فيه القوة، ولكن كم خاب أملي عندما رأيت شخصا عاديا جدا، قوامه أقل من المتوسط، ولا يتميز بأي شيء عن العاديين من بني البشر.
وفي تلك السنة وقع ما يشبه التجربة أو «البروفة» للثورة، وكان الذي أثارها ما تخلل الحرب الروسية اليابانية من فضائح. وكانت القوقاز مسرحا لحوادث خطيرة لا بد أن ستالين اشترك فيها على وجه التأكيد، ولكنه ظل في الصف الثاني، أما لينين نفسه فإنه لازم الظلام التام؛ لأن دوره لم يكن قد حان. (8) ستالين العامل (1905-1907)
وكان القمع رهيبا، وهنا أعار البلشفيك للثوار الاشتراكيين جزءا من خططهم، وبدءوا يطبقون الطرق الإرهابية بدورهم دون أن يعدلوا عن العمل المشروع.
ويقول بوريس سوفارين عن هذه الخطة الجديدة في شيء من السخرية: إن ستالين باشر عمله في هذا الإطار مستعينا بمواهبه الطبيعية، فبدأ الاستيلاء بالقوة على مبالغ من المال مما كان في حوزة المصارف، أو مكاتب البريد، أو مخازن الدولة، أو أثناء نقلها بالقطار، بل مبالغ كان يملكها أفراد أيضا، وأصبحت هذه عملية عادية في عامي 1906 و1907.
وكقاعدة عامة لم تكن هذه العمليات تنتهي دون تبادل إطلاق النار، ودون سقوط ضحايا من الجانبين، إلا أن الفوضويين الثوريين كثيرا ما كانوا يخرجون من هذه الاصطدامات دون أن يصيبهم أي أذى؛ وذلك لشدة جرأتهم، ولاستغلالهم عنصر المفاجأة. أما حراس المال فإنهم هم الذين كانوا يسقطون صرعى بأعداد كبيرة في هذه الحوادث.
وكان أهم هدف لاغتصاب المال هو إمداد الخلايا الثورية بالمال، وكان الحادث الذي وقع في تفليس في 26 يونيو من عام 1907 هو أهم حادث من هذا النوع.
وإليك ما نشر عنه في الصحف يوم 27 يونيو سنة 1907:
تفليس في 26 يونيو
حدث اليوم في ميدان أريفان الذي يقع في وسط المدينة، وفي الوقت الذي كان الميدان فيه ممتلئا بالناس أن ألقيت عشر قنابل الواحدة إثر الأخرى فأحدثت دويا هائلا.
وبين كل قنبلة وأخرى كان الرصاص ينطلق من البنادق أو من المسدسات وتساقط زجاج النوافذ، كما امتلأت جوانب الميدان بالشظايا، وأجبر المسئولون عن النظام الناس على الابتعاد عن مكان الحادث ومنعوهم من الوصول إليه.
وفي اليوم التالي عادت الصحف فنشرت ما يلي:
لقد كانت السرقة هي الهدف من حادث الأمس الذي وقع في أريفان، ونجح مدبرو الحادث في سرقة 341000 روبل من إحدى عربات الخزانة العامة.
وقد ذكر جوستاف ويلتر في كتابه المحايد المؤيد بالمستندات القوية أن الذي نظم هذا الهجوم على بنك الدولة كان تلميذا شابا من تلاميذ لينين هو الجيورجياني دجوجا شفيلي المشهور بستالين.
واستطرد ويلتر يقول دون تعليق:
وجاء أحد شركاء ستالين إلى باريس وهو اليهودي والأخ، لكي يستبدل أوراق النقد التي سرقت في الحادث فقبض عليه وأودع السجن. وهذا هو الرجل الذي كان لويس بارتو وزير خارجية فرنسا وعضو الأكاديمي يدعوه بعد ذلك بسنوات في جنيف «بصديقي لتفينوف». (9) في المنفى
ومن أصعب ما يكون أن نصف مرحلة الصبا في حياة ستالين اعتمادا على مذكرات أو مستندات؛ فإن الشخص الذي عاش مثل حياة ستالين يعمد دائما إلى إحراق أوراقه، وإعدام مذكراته، ومحو كل أثر لها أينما كانت؛ حتى لا تفضحه وتساعد البوليس على تتبعه، أو القبض عليه ، أو تقديمه للمحاكمة ...
والواقع أن ستالين - كما قال عنه خصومه - لم يسترع نظر أحد إطلاقا حتى شبت الثورة البلشفية في روسيا، وقد يكون هذا صحيحا، ولكن ستالين، حتى إذا كانت الأطماع تجيش في صدره منذ ذلك الحين، فإنه كان يعرف كيف يخفيها عن جميع الناس، وذلك بطبيعته الآسيوية التي لا تنم عن شيء ولا تكشف عن نياتها.
ومع ذلك فإن من الثابت أنه فيما بين عامي 1903 و1913 قبض على ستالين ست مرات، وكان في كل مرة يقبض عليه باسم يختلف عن اسمه السابق!
وكان كلما نفي إلى سيبيريا تمكن من عقد أواصر الصداقة مع حراسه لمدد متفاوتة، ولم يكن من السهل مطلقا الهرب من سلاسل قيصر الروسيا، ولكن النظام القيصري كان من جهة أخرى قد أوشك على الانهيار؛ لأن القيصر على الرغم مما أحاط به نفسه من منظمات خاصة للتجسس، ومن بوليس سري، لم يكن في إمكانه في النهاية أن يحتفظ بأعدائه في أسرهم.
كانت الفوضى التي ضربت أطنابها في روسيا، تلك الفوضى التي ظل الشيوعيون يحاربونها مدة عشرين عاما متتابعة، كانت هذه الفوضى تتجلى عند نهاية عهد القياصرة، في خلل الإدارة الحكومية، وفي روح الاستياء التي عمت نفوس الشعب.
وإذا عرفنا ما في نفسية الروسي من عواطف متضاربة تتأرجح أحيانا حتى تتفاوت من الوحشية إلى الرقة، لو عرفنا ذلك لما أدهشنا أن نسمع أن كثيرين من المنفيين إلى سيبيريا كانوا يعاملون معاملة حسنة بواسطة حراسهم.
وسيبيريا بلاد واسعة يشتد فيها البرد شتاء كما يشتد فيها الحر صيفا، وقد كان بين الذين نفوا إلى هناك عدد كبير من الكتاب؛ ولذلك فقد تركوا لنا أوصافا شائقة للمنطقة، وكلها تقريبا تكاد تخلو من الشكوى، ويبدو مما كتبوا أنه لم يكن ينقصهم هناك أي شيء اللهم إلا الجو المناسب لمزاولة مهنتهم ومباشرة نشاطهم.
وقد كان النفي خير مساعد لستالين على التثقيف، وهي فرصة أتاحها له المنفى وما كانت لتتاح له مطلقا لولا النفي، بسبب حياته المضطربة كداعية سياسي، هذا علاوة على أن الرجل الذي يميل إلى صيد السمك وصيد الحيوانات في كل يوم لا يمل الحياة في سيبيريا. كان ستالين في صباه على وشك الإصابة بذات الرئة، ولكنه شفي تماما من هذه العلة أثناء نفيه في سيبيريا.
ستالين الشاب الثائر في عام 1915 عندما كان يحمل اسم «صوصو».
ستالين «المشبوه» صورته في صحيفة السوابق ...!
وقد حدث يوما وهو يجتاز نهرا متجمدا أن فاجأته الرياح القطبية القاسية العاتية التي تجرف مراعي «الإستبس» أحيانا - ويسمونها هناك بوران - فاجأته هذه الرياح وهو يجتاز جمد النهر، فظل ساعات طويلة يصارع الريح الصرصر، حتى تمكن بشق النفس من الوصول إلى كوخ إحدى الفلاحات، ولكن قواه كانت قد خارت تماما حتى إنه لم يتمكن من دفع الباب والدخول، وأغمي عليه عند عتبة الباب، ولحسن حظه شعر به سكان الكوخ فأدخلوه عندهم وأسعفوه، فنام مدة ثمان ساعات متتالية وهو لا يعي شيئا مما حوله.
وتقول القصة: إنه منذ ذلك اليوم أصبح محصنا ضد السل!
وهكذا أكمل ستالين تعليمه في سيبيريا نفسها، حتى إنه ليبدو أن القيصر المسكين، الذي كان يريد القضاء على أعدائه بإرسالهم إلى المنفى، إنما كان يساعدهم بهذا النفي على الاستزادة من الصحة والعافية، علاوة على الثقافة العقلية!
ولم يتمكن ستالين من فهم كارل ماركس على حقيقته إلا وهو في منفاه بسيبيريا، على الرغم من أن ثلاثة أجيال متعاقبة من الروس كانت قد أكبت على دراسته ...
ومن الأوصاف الممتعة عن هذه الفترة من الحياة في المنفى منظر للمنفي المسجون وهو يقرأ كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، وقد اجتمع حوله سجانوه من القوزاق ليستمعوا إليه وهو يشرح لهم ما يقرأ، ولكنهم يشعرون بالسأم؛ لأنهم لا يفهمون شيئا، ثم ينامون ... ولكن السجين المنفي لا ينام!
وحتى الوقت الذي شبت فيه الثورة كان زمام النظام قد أفلت من روسيا؛ إذ إنها كانت قد خسرت ثلاثة حروب في ستين عاما، كان هناك في تلك الدولة الواسعة سلم يصعد عليه الثائرون درجة درجة إلى أن يصلوا إلى المساواة ... كان هناك ثائرون بين طبقة النبلاء، كما خرج ثائرون من بين الطبقة العاملة، أما العملاء الخونة الذين كانوا على استعداد لفضح إخوانهم فإنهم كانوا قد انتشروا بين جميع الطبقات.
وكانت الطبقات العاملة التي ينشر بينها ستالين وزملاؤه دعايتهم قد تكتلت بأعداد هائلة في منطقة البترول بباكو، كان ذلك حوالي عام 1870؛ إذ وجد مئات الألوف من العمال من جميع الأجناس ومن جميع الأديان وقد تركزوا في تلك المنطقة، وكانوا يعيشون في أحوال تعسة ومنازل فقيرة، ولذلك فقد وجدت فيهم الحركة الاشتراكية أرضا خصبة جدا لنشر مبادئها ... (10) دور ستالين في الثورة
إن الحقيقة الهامة التي ينساها الناس دائما عن ثورة روسيا الاشتراكية هي أن الذين انتصروا في هذه الثورة؛ وهم البولشفيك، ليسوا هم الذين أسقطوا القيصر نيكولاس الثاني؛ ففي الوقت الذي أجبر فيه القيصر على التنازل عن عرشه كان ستالين منفيا في سيبيريا، وكان تروتسكي على وشك مغادرة نيويورك حيث كان يتكسب من قلمه.
أما لينين فقد كان في سويسرا، وعقد هناك اتفاقا مع الألمان، وهم في حالة حرب مع روسيا، فسمح له القائد الألماني الجنرال فون لودندورف بأن يغادر سويسرا في أبريل من عام 1917 في عربة قطار خاصة مغلقة تحمله وبعض رفاقه الآخرين إلى روسيا عبر الأراضي الألمانية، ويقول لينين تفسيرا لهذا: إن الألمان سمحوا له بذلك وهم في حالة حرب مع بلاده، على أمل «أن تتحول الحرب الاستعمارية إلى حرب أهلية في روسيا»، وبذلك تخرج روسيا من ميدان الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
وفي 17 يوليو من عام 1917، بعد أربعة أشهر من اعتزال القيصر للعرش، وبعد ثلاثة أشهر من عودة لينين إلى روسيا، اندلعت نيران الثورة البولشفية الأولى وتسبب عنها وفاة مئات من المدنيين في شوارع بتروغراد،
4
إلا أن حكومة كيرنسكي تمكنت من إقماع هذه الثورة وشنت هجوما عنيفا على البلاشفة، فاضطر لينين إلى الهرب.
وانقضت فترة استعداد قصيرة، وما إن جاء شهر نوفمبر، وفي الفترة الواقعة بين 7 نوفمبر و16 نوفمبر من عام 1916، حتى تمكن لينين والبلاشفة من الاستيلاء على الحكم بعد إسقاط حكومة ألكسندر كيرنسكي التي باءت محاولتها الديمقراطية بالفشل .
أما ستالين فقد كان خلال هذه الحوادث كلها لا يزال شخصية غامضة مجهولة، ولكنه ما لبث أن بدأ ينمو داخل الحزب عندما عين عضوا في اللجنة المركزية، وكان قد عاد في شهر مارس من عام 1917 إلى بتروجراد، وتولى بوصفه عضوا في اللجنة المركزية للحزب البولشفيكي إدارة جريدة برافدا بالاشتراك مع مورانوف وكامينف. ويقال: إنه ظهرت منه في ذلك الوقت وقبل وصول لينين في شهر أبريل بعض بوادر توحي بقبول أنصاف الحلول والإجراءات حتى بدأ بعض الارتياب في أمره من جانب الماركسيين المخلصين.
ولكن ما لبث لينين أن ظهر على المسرح، ومنذ ذلك الوقت تبعه ستالين، وانصهر ستالين في جهاز الحزب، وأدى للحزب أجل الخدمات الإدارية، ولكنه على حد تعبير تروتسكي لم يكن له وجود سياسي، فقد قنع ستالين بأن يكون المنفذ المخلص لخطط لينين ...
وقد كان من نتيجة هذه الخطط سقوط حكومة كيرنسكي وسيطرة البولشفية. •••
إن معظم المؤلفات التي تناولت بالتفصيل ثورة أكتوبر لا تذكر اسم «ستالين» إلا في القليل النادر، والواقع أن ستالين منذ أوائل عام 1918 أبدى شيئا كثيرا من التشكك فيما يتعلق بالثورة العالمية، وذلك في الوقت الذي كان تروتسكي فيه يبشر «بالثورة الدائمة»، وهو يؤمن بأنه إذا لم تؤد الثورة في روسيا إلى قيام حركة ثورية في أوروبا كلها فإن الدول الأوروبية ستقوم من جانبها بقمع الثورة الروسية، ولم يكن ستالين يكره أن تمتد الثورة إلى كافة أنحاء القارة الأوروبية كبداية، ولكنه كان يوصي بتحديد تاريخ قيام هذه الثورة بالشهور لا بالأسابيع.
وعين بعد ذلك عضوا بالمكتب السياسي مع لينين وتروتسكي وسفردلوف، وبدأ ستالين يباشر مهام قوميسير الشعب، وكان من المؤيدين لحقوق الشعوب الوطنية كما كان يؤيد برنامج لينين في جميع المسائل الأخرى، ولكنه ما يلبث أن يكتشف أن التطبيق العملي لا يتفق مع النظريات، وبعد أن كان ستالين يؤيد نظريا حق الشعوب في الاستقلال انقلب مؤيدا عمليا لحق الدولة السوفييتية في فرض إرادتها على الشعوب المتمردة. فقد رأى لينين وستالين بعد ذلك أن حقوق الاشتراكية أسمى بكثير من حقوق الأمم في تقرير مصيرها، وإذا كانت «الانفصالية» مبدأ اعتنقه الاثنان فلا شك أن الاتحاد عمل واقعي يحسن إتمامه.
وكان ستالين هو الذي اقترح على اللجنة المركزية للحزب البلشفيكي تأليف لجنة خاصة أطلق عليها اسم ال «تشيكا»، ومهمتها أن تقمع بالقوة وإثارة الرعب كل ثورة مضادة للثورة البلشفية.
وفي عام 1923 نشرت جريدة «برافدا» إحصاء عما قام به أعضاء ال «تشيكا» الذين بلغوا مائة ألف عضو، انتخبوا من أعظم المتحمسين للنظام الجديد، وتغلغلوا في جميع مقاطعات روسيا.
وقد قام ال «تشيكا» في جميع أرجاء الاتحاد السوفييتي بإعدام: 28 أسقفا، و3715 كاهنا، و9575 مدرسا، و8800 طبيبا، و105000 ضابطا من ضباط البوليس، و48000 رجلا من رجال البوليس، و25850 موظفا بالحكومة، و260000 ضابطا.
ومما هو جدير بالذكر أن هذا الإرهاب كان يلقى تأييدا من الجماهير، أو كما لاحظ بعض الكتاب أن حكم الإرهاب الذي اضطلع به البوليس السري الروسي كان استمرارا لحكم الفرد المطلق الذي شكا منه الروس في عهد القياصرة ... وهو حكم يقوم على امتهان النفس البشرية والإقلال من شأنها أو قيمتها.
وقال ستالين في تبرير ذلك: «إن إحدى الوظائف الرئيسية لكل سلطة سياسية هي القمع.»
وهكذا قامت ال «تشيكا» في عهد البلشفية بما قامت به ال «أوخرانا» في عهد القيصرية. •••
ولكن هذه اللجان والهيئات تؤدي أحيانا الخدمات للأشخاص، فقد تمكن ستالين وهو يقوم بوظيفة «قوميسير الشعب» من فرض رقابته على جميع مقاطعات روسيا، كما تمكن بواسطة ال «تشيكا» التي كان على رأسها صديقه دزيرجينسكي من السيطرة على الروح المعنوية لكل شخص كان يريد إهلاكه أو الإبقاء عليه ...
كان هذا هو مصدر قوته ومبعثها، وكان تروتسكي أول من تبين ذلك في عام 1925.
أما فيما يتعلق بمعاهدة برست ليتوفسك،
5
فإن ستالين كان من مؤيدي الصلح المنفصل، ولما اجتمعت اللجنة المركزية في «المسرح الكبير» بموسكو لمناقشة الموضوع ضرب ستالين حصارا على المسرح كله بواسطة الجنود الحمر، وصعد إلى منصة الخطابة ثم أعلن أن ال «تشيكا» تعرف الخونة، وأنها ستنزل بهم العقاب. وتحت ضغط هذه الظروف أعلن ثلثا المجلس تأييدهم للصلح، وبعد شهر واحد تمت الموافقة على المعاهدة.
وتلت ذلك مرحلة الحرب الأهلية، وفيها تركت قيادة الجيش الأحمر لتروتسكي، وكان رأي تروتسكي فيما يتعلق بالأسرة الحاكمة الإمبراطورية متفقا مع رأي لينين في ترك هذه الأسرة تحت حراسة بحارة وعمال بترغراد، ولكن ستالين كان يؤمن بأنه لا يجب أن يترك أي بصيص من الأمل للبيض في إنقاذ هذه الأسرة في يوم من الأيام.
وقام بدور غامض في مسألة «إيكاتريننبرج». •••
وعين بعد ذلك قوميسيرا للتفتيش، فتعدى اختصاصاته وأخذ يصدر أوامر القتال، وأخذ تروتسكي يشكوه إلى لينين الذي أمر باستدعائه إلى موسكو، ولا شك أنه أحس بشيء من الكمد والحقد عندما أعيد إلى دائرة الأعمال الإدارية.
ولما قامت الحرب بين بولندا وجيش فرانجيل ظهر ستالين في جبهة القتال، ولكنه لم يقم بأي دور استحق أن يسجله له الكتاب البلشفيك أنفسهم.
ويقول المؤرخ المحايد ويلتر: «إن ستالين عين في عام 1922 سكرتيرا عاما للحزب الشيوعي، فاستقال من جميع الوظائف الرسمية الأخرى حتى يتفرغ لأداء هذه الوظيفة. ويبدو أن المنصب الجديد كان يتفق مع الأهداف التي يسعى إليها، وكان في وسعه أن يطبق صفاته الريفية في الميدان الجديد فيتعهد المشروعات على مهل، ويقضي السنوات الطوال عاملا في سبيل تحقيقها، ويزيل العقبات من طريقه بدلا من مواجهتها، ويعمد إلى الخيانة والغدر عندما يعجز عن العثور على وسيلة أخرى للتصرف.» (11) وصية لينين
إن لينين لم ينتخب ستالين خلفا له، بل يقال: إنه على العكس من ذلك لم يكن شديد الرغبة في أن يخلفه ستالين؛ فإن لينين لم يكن شديد التحمس لكفاءة ستالين خلال فترة طويلة من حياته؛ بل إن بعض الذين أرخوا حياة لينين قرروا أنه ترك وصية سياسية يدعو فيها إلى البحث عن شخص آخر بدلا من ستالين لكي يتولى منصب السكرتير العام للحزب، وذلك بسبب حدة خلقه وشدة تمسكه بالحكم والسلطان. وها نحن أولاء ننشر تفاصيل هذه «الوصية». •••
كان المركز الأدبي لتروتسكي يرتفع كلما اشتد المرض بلينين ، وكانوا يعتبرونه ممثلا للينين وإن لم يحمل لقبا رسميا، وكان هذا سببا يدعو منافسيه إلى التكتل ضده والعمل على إبعاده.
ولاحظ تروتسكي بعد أن أخذ يتردد على صالات الاجتماعات في موسكو أن مناقشاته تقاطع، وكانت هذه أولى علامات المؤامرة التي دبرت ضده، وكانت المؤامرات هي المادة الأولى في السياسة الروسية في تلك الأعوام، وكان الناس جميعا يعرفون أن استمرار الدولة الجديدة رهن بخليفة لينين ومن يكون؟ ولكن في ظروف خطيرة كهذه يحدث أحيانا ألا تحد الوطنية من المطامع الشخصية.
ومنذ اللحظة التي دب فيها التحاسد بين أصدقاء لينين وأقوى رجال في حزبه، بدأ عمله كله يتعرض للخطر والانهيار بسبب تعرض وحدة الحزب للانقسام، ولم يكن لينين رجلا يحاول تحقيق مطامع شخصية، وإنما كان كل ما يهمه في الحياة هو العمل الذي حققه لبلاده ...
فلما استلقى على فراشه بعد أن حرم مؤقتا من المقدرة على الكلام أخذ يقلب في رأسه موضوع المرشح الذي يجب أن يلقي على أكتافه عبء السلطة، وقبل وفاته بعام واحد أملى، للعرض على مؤتمر الحزب، المذكرة الآتية، التي أطلق عليها البعض اسم الوصية:
أعتقد أن العامل الأساسي لاستقرار نظامنا يجب أن يتلخص في تأييد كبار الأعضاء في لجنتنا المركزية من أمثال ستالين وتروتسكي، وفي رأيي أن العلاقات بين هذين الرجلين تنذر بخطر شديد على وحدة الحزب، وربما كان من الممكن تجنب الفرقة بزيادة عدد أعضاء اللجنة المركزية ومضاعفته من 50 إلى 100.
إن الرفيق ستالين بعد أن أصبح سكرتيرا عاما للحزب قد ركز سلطة واسعة في يده، ولست واثقا إذا كان يستعمل هذه السلطة دائما بالحذر المطلوب. ومن جهة أخرى فإن الرفيق تروتسكي لا يتميز فقط بكفاءته الشخصية، فهو بكل تأكيد أكفأ أعضاء اللجنة المركزية، وإنما أيضا بثقته العظيمة بنفسه وميله إلى الناحية الإدارية من كل موضوع.
إن هذا الاختلاف في خلق الرفيقين اللذين يعتبران أكثر الأعضاء كفاءة في اللجنة المركزية قد يؤدي إلى انقسام ولو لم يحدث هذا باختيار أحد، فإذا لم يتخذ الحزب إجراءات لوقف هذا فقد يحدث في لحظة غير متوقعة.
وفي نفس الأسبوع الذي حرر فيه لينين مذكرته هذه أبلغ بنبأ الفضيحة التي أثارها ستالين بتصرفاته في جورجيا، فقد نكل ستالين والحقد يملأ قلبه بمسقط رأسه، وأوقف أصدقاءه القدماء عن وظائفهم، واشمأز لينين من سماح ستالين باستعمال القوة لتسوية مشاكل كان الدستور يقدم بشأنها ضمانات تقضي بالتسامح إلى أبعد الحدود.
ولما عرف ستالين أن لينين قد أبلغ تفصيل ما حدث عنف زوجة لينين؛ لأنها أبلغته إياه بدلا من أن تتركه يخلد للراحة وهو في مرضه الأخير، وعلى ضوء ما بلغ لينين من تصرفات ستالين الأخيرة قام بتقوية «مذكرته»، فأضاف إليها بعد عشرة أيام الأسطر التالية:
إن ستالين عنيف جدا، وهذا العيب وإن كان محتملا لبقائه بيننا إلا أنه يصبح غير محتمل عندما يقوم بأعباء وظيفة السكرتير العام للحزب، ولهذا السبب فأنا أقترح على الرفقاء أن نبحث عن وسيلة لإبعاده عن هذه الوظيفة حتى نرشح لها رجلا يختلف عن ستالين من جميع الوجوه ... رجلا يتحلى بصبر أكثر، وإخلاص أشد، وأدب أكبر، ورعاية أعظم لحقوق زملائه، وأقل تعرضا للنزوات منه ... وقد تبدو هذه الصفات أمورا تافهة لا معنى لها، ولكنني أعتقد أننا لو أردنا أن نتحاشى الانقسام في داخل الحزب، وأيضا من ناحية العلاقات بين ستالين وتروتسكي التي أشرت إليها آنفا، تعتبر هذه الأمور التافهة هي التي يمكن أن تتسبب في نتائج حاسمة.
ومما هو جدير بالذكر أن هاتين الوثيقتين الهامتين جدا لم تنشرا قط في روسيا، ولكن مضمونهما لا يختلف إلا قليلا جدا في معظم المصادر، وأما الأصل نفسه - أصل الوثيقتين - فقد اختفى منذ مدة طويلة جدا، وقد يكون أحرق وزال نهائيا من الوجود.
وقد أزاح خروشيشيف الستار عن حلقة شيقة من هذا النزاع المستتر في سبيل الاستئثار بالسلطة، وقدم وثيقتين للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي (فبراير 1956)، وذكر أن الوثيقة الأولى هي عبارة عن خطاب كتبته زوجة لينين مدام كروبسكايا في 23 ديسمبر من عام 1922، ويعتقد أنه إلى الرفيق كامينيف الذي كان رئيسا للمكتب السياسي، «وقد جاء به »:
ترتب على الخطاب المقتضب الذي أملاه علي فلاديمير إيليتش لينين بعد استئذان الأطباء، ترتب على ذلك أن سمح ستالين لنفسه بالأمس أن ينفجر في بغلظة وقحة.
وليس هذا يومي الأول في الحزب، كما أنني خلال الثلاثين عاما التي انقضت لم أسمع من أي رفيق كلمة تنم عن الوقاحة، وليست رسالة الحزب وجهود لينين عزيزة على ستالين أكثر مما هي عزيزة علي.
وعدا ذلك فإنني في مسيس الحاجة في أيامنا هذه إلى راحة الأعصاب والسيطرة على النفس ... وإنني لأعرف أكثر مما يعرف أي طبيب ما ينبغي أن يناقش مع لينين، وما لا ينبغي أن يناقش معه؛ ذلك لأنني أعرف المؤثرات التي تثير أعصابه أو لا تثيرها، ولا شك أنني أعرف ذلك خيرا مما يعرفه ستالين على أية حال ...
لذلك فإنني ألجأ إليك وإلى جريجوري
6
لأطلب منكما باعتباركما من ألصق الرفاق بلينين أن تحمياني من تدخل ستالين الوقح في شئوني الخاصة، ومن تجسسه علي، وتهديده لي ... ولست أشك في طبيعة القرار الإجماعي الذي سوف تتخذه في هذا الصدد لجنة المراقبة التي يستخدمها ستالين في تهديدي. ومع ذلك فإني لا أملك من القوة أو من الوقت ما أبدده عبثا في عراك أحمق، إنني امرأة متقدمة في السن، وأعصابي متوترة غاية التوتر ...
وبعد أن كتبت زوجة لينين هذا الخطاب بشهرين ونصف بعث لينين نفسه في مارس 1923 بالخطاب التالي إلى ستالين:
عزيزي الرفيق ستالين
لقد سمحت لنفسك أن تتحدث في قحة إلى زوجتي عن طريق التليفون وقد أغلظت في القول، وعلى الرغم من أن زوجتي قد اتفقت معك على نسيان ما حدث، فإن زينوفييف وكامينيف قد وقفا منها على ما حدث، ولست راغبا في أن أغتفر لك بسهولة ما حدث، وما بدر منك ضدي.
ولست في حاجة إلى أن أقول لك: إنني أعتبر كل إساءة موجهة إلى زوجتي إساءة موجهة إلى شخصي، ولهذا أود أن أعرف منك: هل ستعتذر لزوجتي أو أنك ستفضل أن تظل العلاقة بيننا على ما هي من جفوة وغلظة؟
لينين (12) مات لينين ... فليحيا ستالين!
عاش لينين طويلا حتى رأى دولته وقد اعترفت بها ست حكومات أجنبية اعترافا «واقعيا»، واثنتا عشرة حكومة اعترافا «شرعيا».
ونجح في إبرام معاهدة مع تركيا، واتفاق مع ألمانيا حتى يثبت للعالم أن الدولة السوفييتية كانت في موقف يسمح لها بإبرام المعاهدات. وكان من نتائج زيادة التوتر بين الولايات المتحدة واليابان، ذلك التوتر الذي بدت آثاره منذ 1923، كان من نتائج هذا التوتر عودة روسيا الآسيوية إلى السوفييت.
وسعد لينين في أخريات أيامه؛ إذ رأى السلم وقد ساد جميع بلاده، ومركز حزبه وقد توطد في الداخل.
وتوفي الزعيم فجأة في شهر يناير من عام 1924.
وكان تروتسكي قد سافر إلى الجنوب للعلاج، وعلم بالنبأ بواسطة رسالة برقية تلقاها من ستالين، وذكر ستالين في هذه البرقية تاريخا غير صحيح لتشييع الجنازة، وذلك حتى يحرم تروتسكي من الاشتراك فيها، وكان عجز تروتسكي عن تحديد موعد الجنازة دليلا على أن سلطته قد أخذت في التقلص.
وألقى ستالين خطاب التأبين في مناسبة جنازة لينين في الجموع الحاشدة، وقال في هذا الخطاب الهام:
عندما افترقنا أوصانا الرفيق لينين أن نحتفظ باللقب المشرف «عضو الحزب» نقيا طاهرا.
ونحن نقسم لك أيها الرفيق لينين بأن نطيع أمرك.
وأمرنا الرفيق لينين قبل أن يفارقنا بأن نعمل على تدعيم الاتحاد بين الصناع والفلاحين بجميع الوسائل.
ونحن نقسم لك أيها الرفيق لينين بأن نطيع أمرك.
وهكذا بدا ستالين أمام نعش لينين كأنه خليفته الطبيعي بلا منازع، تماما كما بدا مارك أنطوني أمام نعش قيصر، ولكن بفارق واحد هو أنه كان يستعد لسحق أوكتافيوس الغائب.
ومنذ ذلك اليوم كان ستالين قد قرر بينه وبين نفسه أن ينتصر على كل خصم أو منافس يقف في طريقه ما دامت الجماهير قد آمنت بأنه خليفة لينين، ولم يعترض أحد أو يرشح إنسانا غيره.
وفي السنوات الأربع التي تلت وفاة لينين في عام 1924 تكلم الناس كثيرا في روسيا ولم يعملوا إلا قليلا، وتعتبر هذه الفترة في حياة ستالين فترة الاستعداد للدكتاتورية، وهكذا مرت أربع سنوات لم يشيد فيها أي شيء في روسيا، وهي الفترة التي انقضت بين نهاية عهد لينين وبين استئثار ستالين بالسلطة، وقد تخلل هذه السنوات نضال سري مرير في سبيل السلطة والحكم، وكان أهم نضال تحكم في الموقف كله هو النضال بين ستالين وتروتسكي.
وقد بدأ النضال بين الاثنين؛ بين ستالين وتروتسكي، بشكل مسرحي يذكر برواية «يوليوس قيصر» لشكسبير، بدأ أمام جثة الزعيم المتوفى نفسه، كما بدأ بمناوشات بين أرملة لينين وبين ستالين.
والواقع أن مدام كروبسكايا - أرملة لينين - شنت حربا صامتة لا هوادة فيها ضد ستالين، وكان موضوع الخلاف «المذكرتين» اللتين كانت تتكون منهما وصية لينين، وكان في نشر هاتين المذكرتين أو عدم نشرهما ما سيقرر مستقبل ستالين.
كانت مدام كروبسكايا قد ظلت ثلاثين عاما وهي موضع احترام الأصدقاء والأعداء على حد سواء، وعلى الرغم من أنها لم تنجب أولادا توليهم اهتمامها إلا أنها ظلت دائما في عزلة اختيارية ولم تشهد طول الأعوام العشرين التي قضاها لينين في المنفى، والسنوات السبع التي قضاها في حكم مضطرب، تلك الحفلات التي تجتذب إليها النساء ... وكانت أرملة لينين تقنع بالاشتراك في مؤتمر الحزب.
وشرعت مدام كروبسكايا بلباقة عظيمة في مساعدة تروتسكي في كثير من الظروف، وعلى إثر وفاة زوجها فورا كتبت إلى تروتسكي خطابا تقول فيه:
أكتب إليك لأخطرك أن فلاديمير إيليتش «لينين» قبل وفاته بشهر كان يقلب كتابك، فتوقف عند فقرة ناقشت فيها مميزات ماركس ولينين، وطلب مني أن أقرأ له تلك الفقرة، ثم عاد فقرأها بنفسه مرة أخرى.
وأود أن أقول لك ما يلي، وهو: إن العواطف التي كان يشعر بها من نحوك عندما حضرت لزيارتنا في لندن بعد العودة من سيبيريا (1902) لم يطرأ عليها أي تغيير.
وإنني لأتمنى لك يا ليو دافيدوفيتش صحة حسنة وشجاعة، وأقبلك.
ن. كروبسكايا
وأخذت أرملة لينين تلح - عبثا - في ضرورة قراءة وصية لينين علنا على مسامع الجماهير، إلا أن ستالين بوصفه السكرتير العام للحزب تمكن من الحصول على الموافقة بألا تقرأ الوصية إلا في جلسة سرية للجنة، هذا على الرغم من أن اجتماع الحزب كان قد التأم في ذلك الوقت.
وبعد وفاة لينين بأربعة أشهر اجتمع تسعة عشر رجلا في الكرملين، وأخذ ستالين يقرأ عليهم تلك الوثيقة.
ولم ينطق أحدهم بكلمة واحدة، وجاء في الوصية العبارة الآتية:
إن ماضي تروتسكي الذي لا يتصل بالبلشفية ليس حدثا.
وهنا سأل تروتسكي: ما هذا؟
فأعاد ستالين قراءة الفقرة، وكانت هذه هي العبارات الوحيدة التي تبودلت في الاجتماع الهام.
وكانت وصية لينين لا تقتصر على الحديث عن خلفه، وإنما كانت تشير إلى ما قد يطرأ على الدولة من تطور سياسي، وكانت الوصية تمتدح وتنتقد كلا من ستالين وتروتسكي، ولكن لينين كان يتحدث فيها عن تروتسكي بوصفه الرجل الأكفأ، وفي نفس الوقت كان يوصي بإبعاد ستالين عن منصبه. ولما كانت المسألة لا تتعدى توصية يتقدم بها فإنه ترك الأمر في النهاية للمؤتمر حتى يتولى توجيه الدولة وتوجيه الحزب.
وقد بلغ عدد الذين تنازعوا عرش لينين بعد وفاته نحو أربعة من الزعماء، وكان كل واحد منهم يرجو أن يخلفه، إلا أن اثنين فقط من بين الستة هما اللذان كانت تتوفر فيهما الصلاحية، وهما: ستالين وتروتسكي. أما ستالين فبسبب نفوذه داخل الحزب، ذلك النفوذ الذي أحرزه بعد جهود مضنية، وأما تروتسكي فبسبب الشهرة التي أحرزها أثناء الثورة.
واحتاج ستالين إلى أربع سنوات كاملة حتى يضيع أثر وصية لينين ويتمكن من التغلب على منافسه، وليس حقيقيا ما وصف به ستالين من أنه كان بناء في حين كان تروتسكي ثائرا؛ فإن العنصرين عنصر البناء وعنصر الثورة كانا يتوفران في الرجلين معا.
وكان لينين يشعر بقلق وهو يقدر أن الرجلين: ستالين، وتروتسكي، لا يمكن أن يحكما معا، والواقع أن الاثنين كانا يتفقان في الأهداف العامة: كانا يتفقان في ضرورة إقامة دولة صناعية، وفي ضرورة القضاء على الفلاح الثري «الكولاك»، وهو الذي نجا من الثورة باعتباره وسيطا بين النبلاء من أصحاب الأراضي وبين الفلاحين العبيد، وربما كان سبب الخلاف بينهما هو وسائل الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف .
وبعد أن تناقلت الأفواه وصية لينين، وأصبحت شائعة معروفة للجميع، سارع ستالين بتقديم استقالته من منصب السكرتير العام للحزب، وكان على ثقة من أن المؤتمر الذي كان آلة في يده سوف يرفض هذه الاستقالة، وقد سمحت له خطته هذه بأن يستعمل الوسائل الديمقراطية ضد المعارضة المتزايدة من جانب تروتسكي.
كان ستالين يعتبر مجرد معارضة الأقلية مؤامرة يجب القضاء عليها وهي في المهد، وكان قد قرر ألا يسمح لأحد بالوقوف في طريقه، بعد أن رأى أن الدكتاتورية وحدها هي التي يمكن أن تساعده على تحقيق برنامجه، فأخذ يمهد لها على الرغم من مبادئ لينين، وعلى الرغم من الدستور الجديد.
ونجح ستالين أخيرا في إقامة ديكتاتوريته، ولكنه نجح بعد أن اضطر إلى طرد تروتسكي، بل وإلى طرد جميع أصدقائه القدامى من روسيا، بل ومن عالم الأحياء كله!
ولنر الآن كيف نجح! (13) ثائر في وجه ثائر!
وهنا وفي هذه المرحلة، بدأ تروتسكي التحدي، وبدأ نضاله ضد ستالين في ظروف مواتية.
كان تشيانج كاي شيك الذي عقد محالفة مع الشيوعيين قد أصدر أمره بإجراء حركة تطهير دموية واسعة النطاق في الجيش، وبدا كأن ستالين هو المسئول عن ذلك؛ إذ إنه هو الآسيوي الأصل، كان أول من وطد أواصر الصداقة مع الرئيس الصيني، وأشار بتكوين كتلة آسيوية تضم 600 مليون نسمة لاستغلالها ضد الإمبراطورية البريطانية، وهكذا وجد تروتسكي الفرصة لاتهام ستالين علنا بأنه قد خان الثورة العالمية، وتمكن تروتسكي من الحصول على توقيع 83 رئيسا مشهورا على منشوره الذي تضمن الاتهام.
ورأى ستالين الخطر محيطا به، فجازف بكل شيء في سبيل إتمام الانقلاب، وقدم للجنة المؤتمر قرارا خاصا يتضمن نفي تروتسكي، وكسب قضيته. وقد وصلت إلينا بعض تفصيلات عن المناقشات التي دارت في هذا الاجتماع، وها نحن أولاء ننشر طرفا منها:
ستالين :
أنت أيها الرفيق تروتسكي ليس عندك من الشجاعة ما يكفي للدفاع عن نظريتك ...
تروتسكي :
إنها نظرية ابتدعها شخص غيري، وليس لي صلة بهذه الاتهامات ...
ستالين :
إن الرفيق تروتسكي يعرف جيدا أن في وسعي أن أثبت كل شيء بالمستندات.
تروتسكي :
ليس في وسعك إثبات شيء ... أنت كاذب !
ستالين :
إنني أترك لك الشتائم، وسأقدم الوثائق الخاصة برفيقنا إلى المؤتمر ليبحثها.
تروتسكي أراد لينين أن يجعل منه خليفته ولكن ستالين قضى عليه.
ستالين في مرحلة الجهاد الأولى.
ستالين يتهم!
وقرر المؤتمر بعد ذلك بأيام الموافقة على نفي تروتسكي، ورفض تروتسكي تنفيذ القرار، ولما ذهب إليه البوليس للقبض عليه ظل جالسا على مقعده حتى اضطر رجال البوليس أن يحملوه بين أيديهم وينزلوا به السلم إلى أن وصلوا به إلى العربة التي كانت تنتظره عند باب المنزل.
وكان ابنه الذي يبلغ السادسة عشرة من عمره قد تمكن من الهرب، وأخذ يصيح طالبا العون والمساعدة وهو يقول: يا رفاق! يريدون أن يأخذوا تروتسكي!
وفي المحطة اعترض الجمهور الطريق ليحول دون وصوله إلى الرصيف الذي يسافر منه القطار، فاضطر رجال البوليس إلى إعادة تروتسكي إلى منزله.
وقد سبب هذا الحادث تأخيرا صغيرا في عملية الإبعاد، ولكن البوليس عاد في اليوم التالي وقد تنبه إلى ما حدث بالأمس، وقاد تروتسكي إلى قطار تحرك من محطة أخرى ...
واستمرت رحلة تروتسكي وزوجته وابنه 17 يوما في منطقة القردغيز، وهو في الطريق إلى منفاه في سيبيريا، ذلك المنفى الذي ألقي إليه تروتسكي منذ 21 عاما في نفس الوقت الذي نفي فيه ستالين أيضا، وبسبب نفس هذه الثورة التي جاهد من أجلها الاثنان، وكان ابن تروتسكي يحاول، كلما وصل القطار إلى إحدى المحطات الصغيرة، أن يشتري خبزا وزبدا وورقا للكتابة.
وأثبت تروتسكي وهو في هذا الموقف المرعب أنه زعيم يسمو فوق الحوادث والأقدار، فأخذ يداعب من معه، ويصلح من المنزل الصغير الذي خصص لهم، وهي عملية أطلق عليها اسم «مقاومة إعادة البناء»، وأطلق على ابنه اسم «مدير البريد».
وهكذا استقرت الأسرة في هذا الركن المنعزل من نهاية العالم، وفي منطقة موبوءة بحمى الملاريا، تنتشر فيها الكلاب المتوحشة، وقد استقروا وعاشوا هناك بروح تتجلى فيها البساطة والرضاء بالأمر الواقع.
واستغرق تروتسكي في دراسة الجغرافية والتاريخ والاقتصاد الآسيوي، وقد ظهرت صورة لتروتسكي وزوجته في المنفى، والزوجة تضع يدها على كتف ابنها وتنظر في نفس الوقت إلى زوجها بعينين تملؤهما الثقة التي لا حد لها.
واستفاد تروتسكي من تجارب النفي الماضية، تلك التجارب التي كانت تساعده على التخلص من القيود المفروضة على المنفيين، ولكن ستالين كان يعرف تلك الحيل التي سبق له هو نفسه أن استعملها، كما أنه كان يعرف جيدا أن الخمسة آلاف كيلومتر التي تفصل تروتسكي عن العاصمة الروسية ليست مسافة كافية، وأنه لا يمكن أن يطمئن إلا إذا غادر عدوه البلاد.
ولذلك لم ينقض عام واحد على نفي تروتسكي حتى تلقى مرسوما ينبئه بأنه قد تقرر إبعاده إلى تركيا؛ لأنه قد تآمر ضد الاتحاد السوفييتي.
وكانت رحلة شاقة في شهر يناير، اجتاز فيها المبعدون نفقا في الجبال، ومسالك وعرة، وقطعوا فيها نحو 6500 كيلومتر في عشرين يوما، حتى انتهى بهم المطاف أخيرا إلى البحر الأسود، وهناك وجدوا الناقلة التي أعدت لهم عاجزة عن الحركة بسبب الجمد التي كانت تحيط بها من كل ناحية في البحر. وكان لا بد من الاستعانة بمحطمة جليد حتى يمكن للمنفيين استئناف الرحلة إلى القسطنطينية.
ولما تسلم ستالين تقريرا ينبئه برحيل تروتسكي نهائيا شعر براحة شديدة، وأحس كأن الجمد التي كانت تحيط به هو أيضا قد تحطمت، وأن في وسعه اليوم أن يبدأ عمله الإنشائي.
وبينما كان ستالين يقرأ التقرير استرعى نظره في الجزء الأخير اسم جعله يتوقف لحظة عن الاستمرار في القراءة ويقطب حاجبيه؛ فقد وقعت عيناه على اسم الباخرة التي أقلت تروتسكي وقادته إلى خارج روسيا.
لقد كان اسم الباخرة: لينين!
وأهم ما اتهم به تروتسكي ستالين هو أنه نبذ الثورة العالمية في سبيل «الاشتراكية في دولة واحدة»، ولكن الأمر لم يكن كذلك؛ فإن ستالين لم ينبذ الثورة العالمية، وتروتسكي لم يرفض فرصة بناء الاشتراكية في روسيا.
وكان ستالين يحاول أحيانا الترويج للثورة بوسائل كان تروتسكي يصفها بالاستهتار والمغامرة، وحدث أحيانا أن تروتسكي كان يتعجل بناء الاشتراكية في روسيا بخطوات كان ستالين يعتبرها خطوات طائشة تؤدي إلى النكبات، وكلما ازدادت شقة الخلاف اتساعا ثبت الرأيان ثبوتا راسخا أكثر فأكثر، ففي النظام الستاليني كان إنشاء الاشتراكية في روسيا هو المقدم وتليه الثورة العالمية، أما في نظام تروتسكي فقد كان الأمر هو العكس.
إلا أن الخلاف بين الرجلين كان جوهره الخلاف في الطبع لا في النظريات. كان تروتسكي يعتقد أن أوروبا قد «نضجت للثورة»، والثورة الروسية من وجهة النظر هذه ما هي إلا مقدمة لثورة أعم كثيرا؛ ذلك أن تحقيق البناء الاشتراكي في روسيا وحدها يعد قليل القيمة إذا قورن بما يمكن تحقيقه بسياسة اقتصادية اشتراكية توضع على أساس أوروبي.
على أن ستالين لم يشاطر تروتسكي تفاؤله أبدا بما يتعلق «بنضوج» أوروبا للاشتراكية، وقدر أن قوة المقاومة في النظام الرأسمالي ما زالت عظيمة جدا.
أما ستالين فإن طراز الاشتراكية الخاص به كان عنده أهم بكثير من احتمال قيام الاشتراكية في الغرب، وقد رفض أن يعتبر روسيا قائمة على محيط الحضارة الغربية.
وكان مؤمنا بأنها أعدت لتكون حصن النظام الاشتراكي الجديد.
لقد كان هو الخلاف القديم بين المحبين للجنس السلافي بإيمانهم بعبقرية روسيا النوعية، والميالين إلى الغرب بإيمانهم بما تستطيع أوروبا أن تمدهم به.
وقد نشبت الحرب بين هؤلاء وأولئك في أعقاب الثورة.
وقد اضطرت روسيا بعد سنة 1921 أن تتبع سياسة مزدوجة، فقد استلزم التعمير الداخلي من ناحية عقد اتفاقيات مع الدول الرأسمالية، في حين أنها من ناحية أخرى راحت تعمل بوصفها زعيمة الكومنترن على قلب نظام الحكم في تلك الدول، وقد تحايل لينين خلال حياته على حفظ التوازن بين السياستين، ولكن اعتلال صحته اضطره في ربيع سنة 1923 إلى أن يعتزل الإشراف الفعلي. ولما مات في يناير سنة 1924 أول سلطانه إلى زينوفييف وكامينيف وستالين.
وفي سنة 1923 برز تروتسكي في المعارضة، وكان حديث عهد بالحزب، فلم يكن زعماء الصف الأول من البلاشفة يعتبرونه واحدا منهم، وكان يذهب إلى أن حكم الدولة إنما كان في أيدي رجال كان سجل أعمالهم - كمعارضين للثورة - كافيا لتفسير فشل الثورة في ألمانيا وفي كل مكان، ولذا فقد حرم من منصبه كوزير للحرب في سنة 1925، ولكنه عاد في سنة 1927 إلى الهجوم وقد أصبح يؤيده آخرون من زعماء الحزب، فحمل على سياسة ستالين الخارجية على أساس أنه أحل محل الماركسية مذهب «البورجوازية الدنيا»، أو رفع الطبقة الدنيا إلى مستوى الطبقة الوسطى في «اشتراكية الدولة الواحدة»، ولا داعي لأن نصدق أن تروتسكي كان خليقا بأن يكون أكثر توفيقا من ستالين في تحقيق الثورة لسبب بسيط؛ هو أنه ما من دولة من الدول الغربية لم تنشد الثورة كما تجلى عندما أعاد الألمان الذين كانوا أكثر الغربيين ميلا للثورة إلى الحكم في أول انتخابات بعد الحرب حكومة اشتراكية ديموقراطية معتدلة بأغلبية ساحقة، كذلك لم يكن تروتسكي - كما رأينا - محقا في اتهامه ستالين بالتخلي عن قضية الثورة العالمية.
ومع ذلك فإن سياسة ستالين أثرت في هذه القضية دون شك؛ فقد قام الحزب الشيوعي الروسي حتى سنة 1924 بدور هام في الكومنترن، ولكنه لم يكن دورا متسلطا، ومن سنة 1924 إلى سنة 1929 كشفت سياسة الكومنترن عن سلسلة من التكتلات المعارضة الداخلية كانت في البداية ضد تروتسكي ثم ضد بوخارين وراديكوف.
وكان المؤتمر السادس في سنة 1928 آخر مؤتمر أبيح فيه أي تباين في الرأي؛ ففي سنة 1929 عين ستالين كلا من مولوتوف ومانويلسكي وكوزين للإشراف على جهاز الكومنترن، وأصبحت سياسته من ذلك الحين تمليها المصالح الروسية التي كان السعي إلى تنميتها هو عماد الثورة العالمية المقبلة، ولم يكن للمناقشات العامة أي دور في تحديد سياسة المؤتمر السابع والأخير في سنة 1935، وهو المؤتمر الذي دعي لإذاعة انقلاب في السياسة قررته موسكو فعلا وبدأت تنفيذه في بعض الحالات.
وكان تشجيع الحركات الثورية في الدول الأجنبية أو وقفها يتم وفقا لمدى تمشيها مع السياسة السوفييتية ودونما كبير اعتبار لمصير أولئك الذين كانوا مسئولين عنها ... بينما دعي جيل كامل تقريبا من «الثوريين القدامى» إلى موسكو؛ حيث أجريت بينهم حركة تطهير عندما قرر ستالين في سنة 1935 - حين واجهته مسألة استفحال نفوذ ألمانيا - أن يدعو إلى إيقاف الثورة في سبيل سياسة «الجبهة الشعبية».
وظلت سياسة المؤتمر العشرين متبعة حتى توقيع ميثاق «ستالين»-«هتلر» في أغسطس سنة 1939 حين تخلى الكومنترن عن صراعه ضد الفاشية، ومن ثم أطلق على الحرب عندما أعلنت وصف «حرب استعمارية»، ثم غير الهجوم الهتلري من موقف الاتحاد السوفييتي؛ إذ دفع روسيا إلى التحالف مع الديموقراطيات الغربية.
وعلى ذلك أصبح الكومنترن - الذي لم يكن ستالين يثق به ثقة عظيمة - عقبة مطردة الاستفحال، فتم حله في يونيه سنة 1943 بمرسوم نص على أن الكومنترن قد استوفى غرضه أو أوجد حركة عالمية بروليتارية - أي: قوامها العامة أو الدهماء - بلغت في ذلك العام سن رشدها. ولم يشر المرسوم إلى السياسة الثورية التي عمل الكومنترن على تنميتها، والتي ظلت دون تبديل، في حين أن إلغاء المنظمة المركزية التي حددت ما اعتبر - ولو من الناحية النظرية على الأقل - سياسة عامة جعلت الاتحاد السوفييتي أكثر حرية من ذي قبل في رسم الخطة التي كان على أي حزب شيوعي معين أن يسلكها. (14) القضاء على المعارضة ... وإبادة المعارضين!
مات لينين في 21 يناير من عام 1924، وبدأ ستالين يتطلع إلى الاستئثار بالسلطة دون شريك، ومرت روسيا في هذا الوقت بفترة هادئة هي الفترة التي كان ستالين يمهد الطريق فيها لنفسه، ويتخلص فيها من معارضيه واحد بعد الآخر حتى يتم له ما يريد.
ووجد ستالين في البوليس السري الروسي خير مساعد للتخلص من المعارضين، والتجسس على غيرهم ممن يشتم فيهم عدم الإخلاص لزعامة ستالين أو رئاسته التي يمهد لها.
وبدأت بعد ذلك حملته على تروتسكي فاتهمه بأنه يعمل على إثارة الحرب الأهلية في روسيا وذلك «بمشروعاته الجنونية» لفرض التصنيع الإجباري، وبدقه الطبول تحريضا على قيام الثورة العالمية مما سيكون من شأنه تعريض موقف روسيا للخطر. وادعى ستالين عندئذ أن تروتسكي شديد التعلق بوسائل الذعر والإرهاب وأساليبها، وسر كثيرون عندما سمعوا ذلك؛ لأنهم فهموا منه أن ستالين لا يقر الوسيلة التي أقمع بها تروتسكي ثورة البحارة والعمال في كرونستات.
وقد رأينا كيف انتهى الأمر بإبعاد تروتسكي إلى القسطنطينية في عام 1927، وسبق ذلك طرده من الحزب الشيوعي في نفس العام، وفي عام 1931 سمح لتروتسكي بالسفر إلى إسبانيا، ومن هناك سافر إلى دول الشمال «إسكندينافيا»، وأخيرا استقر في مكسيكو حيث قتل بتحريض ستالين في يوم 20 أغسطس من عام 1940 بيد فرانك جاكسون على مقربة من مكسيكو سيتي.
وعند وفاة لينين في عام 1924 كان الطامعون في مركزه أربعة أشخاص، هم: ستالين، وتروتسكي، وزينوفييف، وكيمينيف، فقد كان كل منهم بطلا في الثورة ومساعدا للينين، وقطبا في الحكومة.
بيد أن ستالين كان أوفر حظا من زملائه بعد أن طوى الموت زعيمهم رغم أنه في العام السابق كان لينين قد كتب يقول: «إن ستالين ركز قوة هائلة بين يديه.» وأضاف إلى ذلك قوله: «وستالين رجل فظ، وهذا العيب ليس مقبولا فيمن يتولى منصب السكرتير العام، وإن كان من الصفات اللازمة في العلاقات بين الشيوعيين. ومن ثم أقترح على الرفاق أن يهتدوا إلى وسيلة لإقصاء ستالين عن هذا المنصب.»
وبعد أربعة أعوام انتهى الصراع على الخلافة بانتصار تام لستالين ...
ويرجع الفضل في انتصاره إلى أنه فعل ما فعله لينين في سنة 1917، وإلى أنه لم يكن يقل عنه كفاءة وبراعة في مزج الخطط العملية بالمذهب البلشفي نفسه، ثم إلى أنه كان يشغل منصبا قويا يمكنه من تنفيذ خططه؛ هو منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي.
والواقع أن لينين كان قد وضع الخطة التي ينبغي أن تنفذ في مثل هذه الحالة؛ إذ قال: «إذا كان هناك خمسة أطرف فانضم إلى ثلاثة لسحق الخامس، ثم تعاون مع اثنين من الباقين لإزالة الرابع، ثم أيد أحد الاثنين الباقين لتتخلص من الثالث، وعندئذ لن يبقى سوى خصم واحد يسهل القضاء عليه.»
ولقد تعاون ستالين بادئ ذي بدء مع زينوفييف وكيمينيف، مندوبي الحزب في ليننجراد وموسكو، ضد تروتسكي الذي كان يبدو في بداية الأمر أقوى المنافسين الأربعة، وبعد انقضاء عام واحد على وفاة لينين كان ستالين قد انتصر على تروتسكي ثم تحول إلى الاثنين الآخرين اللذين شرعا يقتديان بتروتسكي ويدعوان إلى تعزيز الاشتراكية وتوسيع حركة التصنيع ، وإشعال الثورات في الخارج، وإلى مزيد من حرية القول. •••
أما أتباع تروتسكي وأنصاره في روسيا فقد تحدث عن مصيرهم وعما لاقوه خروشيشيف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي في خطابه الذي ألقاه في يومي 24 و25 فبراير سنة 1956 بالمؤتمر العشرين الذي عقده الحزب؛ إذ قال: ... في الوقت الحاضر، وبعد أن انسلخت من التاريخ فترة طويلة من الزمن، نستطيع أن نتحدث عن المعركة التي خاضها الحزب ضد أتباع تروتسكي حديثا هادئا، كما نستطيع أن نحلل هذه المعركة تحليلا موضوعيا دقيقا، وينبغي أن نقول بادئ ذي بدء: إن بعض الذين التفوا حول تروتسكي كانوا ينحدرون من مجتمع لا يمكن أن نسميه بأية حال من الأحوال مجتمعا بورجوازيا؛ فبعض هؤلاء الأتباع كانوا من طبقة الحزب المثقفة، كما كان البعض الآخر من صميم الطبقة العاملة.
وفي وسعنا الآن أن نذكر أسماء أفراد كثيرين انضموا إلى جماعة تروتسكي، ولكنهم في الوقت نفسه ساهموا بنشاط في الحركة العمالية التي سبقت الثورة، كما ساهموا في ثورة أكتوبر الاشتراكية نفسها، وفي تدعيم نجاح هذه الثورة الكبرى، بل إن كثيرا منهم خرجوا على مبادئ تروتسكي واستعادوا إيمانهم بمبادئ لينين ... فهل كان من الضروري إذلال هؤلاء الأشخاص؟ إننا على يقين من أن هؤلاء الأشخاص ما كانوا ليقعوا ضحية إجراءات تعسفية لو أن لينين كان لا يزال على قيد الحياة.
وهكذا تمكن ستالين في عام 1928 من القضاء على عناصر اليسارية التروتسكية، وما كاد يقضي عليها حتى أخذ في تنفيذ برنامج تروتسكي نفسه فيما يتعلق ببرنامج التصنيع الإجباري والتأميم ونشر الشيوعية الدولية.
وكان من نتائج تنفيذ هذه السياسة القضاء على طبقة «الكولاك»؛
7
وذلك عندما تبين أن 2٪ فقط من الفلاحين قد لبوا الدعوة إلى الزراعة الجماعية، فأصدر أمره بالتنكيل بالكولاك ونفيهم إلى سيبيريا، وما إن وافت سنة 1932 حتى كان أكثر من 80٪ من الأراضي قد صار خاضعا في زراعته للطريقة الجديدة.
وقد قامت بعض النزاعات في داخل الحزب الشيوعي الروسي في الأعوام الواقعة بين 1929 و1934، وبدا بعض التذمر بين الناس، وإن لم يكن بدرجة خطيرة، وقد ظهر أنه لم يكن من الممكن تنفيذ السياسة الصناعية والزراعية الجديدة، وهي سياسة فيها مبالغة كبيرة للخطوط التي كان قد رسمها وأوصى باتباعها تروتسكي ... نقول: إنه ظهر أنه لم يكن من الممكن تنفيذ هذه السياسات تحت قيادة بوهارين وتومسكي وريكوف.
وفي صيف عام 1928 بدت بوادر الخلاف بينهم وبين ستالين، وحدث في شهر يوليو من ذلك العام أن قابل بوهارين كامنيف، وكان كامنيف مغضوبا عليه، وأبدى بوهارين لكامنيف استنكاره لسياسة ستالين وأساليبه.
وفي الجلسة العامة التي عقدتها اللجنة المركزية للحزب في شهر نوفمبر عرضت آراء بوهارين الخاصة بالسياسة الاقتصادية فرفضت قبولها ووصمتها بالانحراف والمهادنة.
وفي شهر يناير من عام 1929 عرف سر الحديث الذي دار بين بوهارين وكامنيف للمسئولين، فعزل في شهر فبراير من منصب رئيس تحرير جريدة «برافدا»، وفي نفس الوقت طرد تومسكي من عضوية اتحاد النقابات بعد أن عزل أولا من منصب الرئاسة. وفي شهر يوليو طرد بوهارين من مكتب الكومينترن، وتقرر سحب كتبه ومؤلفاته التي نشر فيها نظرياته من السوق، وفي شهر نوفمبر طرد من المكتب السياسي.
ويلاحظ أن الزعماء «اليمينيين» الثلاثة لم يكن لهم أي نفوذ في داخل الحزب، بخلاف المعارضة «اليسارية» التي قامت في عام 1926؛ ولذلك فإن أملهم في التمكن من معارضة ستالين أو الوقوف في وجهه كان معدوما، وربما كان هذا هو السبب فيما ظهر من الرفق في معاملتهم في الأعوام التالية، واستمر المسئولون في استشارتهم في السياسة الاقتصادية والمشاكل الإدارية. •••
وهكذا استتب الأمر لستالين، وأصبحت زعامته كاملة تامة لا يمكن أن تلقى أي معارضة أو تحد من داخل الحزب، وقد ظهرت في الأعوام التالية بعض حركات المعارضة، ولكن الستار أزيح عنها بسهولة، ولم يكن قادة هذه الحركات الذين أصدروا منشورات ينتقدون فيها ستالين من أتباع زينوفييف، ولا من أتباع كامنيف، ولكنهم كانوا ممن عرفوا بأنهم أذناب السكرتير العام، ومع ذلك فقد اتخذت العقوبات التي أنزلت على مدبري هذه المنشورات ذريعة لنفي زينوفييف وكامنيف إلى سيبيريا من أكتوبر سنة 1932 إلى مايو سنة 1933، ولتوجيه اللوم الشديد إلى ريكوف وتومسكي.
وتميز عام 1934 بتحسن الأحوال الاقتصادية، وتخفيف حدة الضغط السياسي، وكان أمل الحصول على نظام مخفف القيود مقترنا باسم كيروف سكرتير الحزب عن دائرة ليننجراد، وكان في ذلك الوقت هو الرجل الثاني في الدولة بعد ستالين، ولكن حدث في ديسمبر من عام 1934 أن قتل كيروف هذا، ولم يكشف قط عن الظروف الغامضة التي أحاطت بهذه الجريمة، وكان طبيعيا أن ينسبها ستالين إلى تروتسكي وزينوفييف في حين اتهم التروتسكيون ستالين بمقتل كيروف.
أما الرواية الثالثة، وقد تكون أقرب الروايات إلى الصحة؛ فهي أن مقتل كيروف كان نتيجة بغضاء شخصي.
وقبض على زينوفييف وكامنيف بعد ارتكاب هذه الجريمة، كما قبض على بعض أتباعهما المعروفين وأتباع تروتسكي، وعلى عدد كبير من عمال مصانع ليننجراد. وفي يناير من عام 1935 قدم زينوفييف وكامنيف للمحاكمة السرية أمام محكمة تتكون من بوليس أمن الدولة، وحكم عليهما بالسجن لمدة طويلة، واتخذت بعد ذلك إجراءات مشددة للمحافظة على الأمن، كما شددت الرقابة على أعضاء الحزب، ولكن مع ذلك ظل عدد المقبوض عليهم محدودا.
وفي عام 1936 كان ستالين يفكر في تخفيف بعض القيود التي تحيط بالنظام، وأراد أن يختبر الرأي العام، فاتخذ الإجراءات لتنظيم مناقشات ومناظرات عامة بين الجماهير حول مسألتين كانتا تشغلان الرأي العام وقتئذ وهما: مشروع الدستور الجديد، ومشروع القانون الخاص بحظر الإجهاض.
ولم تكن نتيجة الاستفتاء مشجعة لستالين على السير في سياسة تخفيف القيود؛ فقد ظهر أن الرأي العام معارض بشدة لقانون حظر الإجهاض، كما أن الاستفتاء في المؤتمرات الحزبية التي عقدت في موسكو وليننجراد أثبت أن عددا كبيرا من الأصوات قد جاء ضد أعضاء المكتب السياسي، بل وضد ستالين نفسه، ولكي يبرر ستالين هذه الهزيمة أخذ يبحث عن أسبابها بين العناصر المناهضة للثورة، ولما لم يكن في وسعه اتهام زينوفييف وكامنيف وأتباعهما بعد أن زج بهم جميعا في السجون، فقد وجه الاتهام إلى بوهارين وتومسكي وريكوف، ولم يكن الغرض من اتهام هؤلاء الثلاثة هو إبرازهم في مظهر المعارضين لسياسة ستالين فقط، ولكن في مظهر المتآمرين على إبعاده عن السلطة.
وقدم زينوفييف وكامنيف وأنصارهما للمحاكمة العلنية في أغسطس من عام 1936، فاعترفوا بأنهم ألفوا في عام 1932 «جبهة» بالاشتراك مع التروتسكيين الموجودين في روسيا، وأنهم تلقوا تعليمات من تروتسكي في الخارج، واعترفوا علاوة على ذلك أنهم فكروا في قلب الحكومة، وفي قتل ستالين، وأنهم هم الذين دبروا مقتل كيروف.
وفي يناير من عام 1937 بدأت محاكمة فريق آخر من زعماء الشيوعيين، كان من بينهم بياتكوف وراديك وسربرياكوف، واعترف هؤلاء أيضا بأنهم دبروا مؤامرة لقتل ستالين وغيره من زعماء الحزب، وأنهم ألفوا جبهة «تروتسكية بوهارينية»، ونظموا أعمال التخريب في حوض الدونتس، والأورال، وسيبيريا، وموسكو.
وقد اعتمد الاتهام في هذه القضية على «اعترافات» المتهمين وشهادة غيرهم من المقبوض عليهم، ويمكن القول إن الاتهام لم يكن قائما على أساس؛ فقد قرر تروتسكي أنه منذ عام 1928 لم تكن له أي علاقة بزينوفييف وكامنيف، كما لم تكن له علاقة بأحد من أتباعه؛ لأنهم جميعا سلموا لستالين، بل إن راديك نفسه الذي قدم في هذه القضية على أنه من أتباع تروتسكي كان من ألد أعدائه؛ بدليل أنه قتل صديقا من أخلص أصدقاء تروتسكي وهو بلومكين.
وقد هزت قضية هذه المؤامرة أوروبا كلها عندما أذيع أنها كانت تستهدف القضاء على شخص ستالين وعهده كله ...
وصدر الحكم بالإعدام ضد المتهمين جميعا، وفي مقدمتهم زينوفييف وكامنيف وساياكيف، وحاول بعضهم أن يتنصل من التهمة ويلقيها على غيره، حتى قال أحدهم عن نفسه وعن زملائه: لقد كنا كلابا للفاشيست!
وأكد بعضهم للمحكمة، والدموع تتساقط من عيونهم، أنهم يحبون ستالين ويقدرونه.
أما كامنيف نفسه فلم يقل أكثر من أن عريضة الاتهام التي تقدم بها النائب العام إلى المحكمة ليس فيها إلا الحق والصدق، ثم أثنى وهو يبكي على ستالين!
وهكذا صدر الحكم بالإعدام بعد أن قرر المتهمون كلهم أنهم مذنبون، واعترفوا بأنهم نادمون على جريمتهم!
وعلق تروتسكي وقتئذ - أي: في أغسطس من عام 1936 - على هذا الحكم فقال: إن البوليس السري الروسي «الأوجبيو» هو الذي ألزم المتهمين بالاعتراف كذبا بعد أن وعدهم بأنهم سينجون بأرواحهم بهذا الاعتراف الكاذب ...
ولما اعترفوا تخلى عنهم البوليس!
وعرف كثيرون بعد ذلك أن المؤامرة الموهومة التي راح ضحيتها ستة عشر شخصا لم تكن سوى رواية تمثيلية أخرجت بإتقان، وكان هدفها تخلص ستالين من بعض أعدائه، أو من بعض الذين يشك في إخلاصهم، ويخشى ما قد يتسبب له بسببهم في المستقبل.
وقد لاحظ بعض الذين شهدوا المحاكمة أن الأشقياء الستة عشر كانوا يعترفون أثناء المحاكمة كأنهم بلا إرادة ولا رأي ... فقد وقفوا أثناء المحاكمة، لا للدفاع عن أنفسهم أو عن تصرفاتهم، ولا لطلب الرحمة، ولكنهم وقفوا يطلبون الموت ... وكانت أمنية كل واحد منهم كما عبر عنها في المحكمة هي: «أن يرى الطبقات العاملة قبل أن يموت، وقبل أن يكفر بحق عن الخيانة التي ارتكبها.»
فهل يمكن أن يتصرف رجل عاقل يتحكم في قواه العقلية بهذا الشكل وهو يعلم أن مصيره الموت على أي حال من الأحوال؟
وكان من جراء ذلك أن انتشرت الشائعات المختلفة، حتى لقد ذهب البعض إلى حد القول بأن التنويم المغناطيسي قد استعمل وسيلة للتأثير على هؤلاء المتهمين الأبرياء، وأن «المنوم المغناطيسي» هو الذي أثر عليهم هذا التأثير وأمرهم بالإدلاء بهذه الأقوال في المحكمة، فامتثلوا لأمره.
بل ذهب البعض إلى أبعد من هذا فقال: إن ستالين تمكن بواسطة أطبائه من اختراع دواء يفقد كل من يشربه إرادته ... وأن المتهمين لا شك تجرعوا هذا الدواء، وهو الذي جعلهم يعترفون في المحكمة بما اعترفوا به!
ولكن الواقع هو أن البوليس السري كان يتولى بنفسه ترتيب كل شيء، و«تنظيم» عملية المحاكمة والاعتراف ...
ويجدر بنا وقد تعرضنا هنا «لاعترافات» المتهمين في هذه القضايا أن نسجل ما جاء في خطاب خروشيشيف الذي فضح أساليب ستالين خاصا بهذا الموضوع؛ إذ قال:
بدا تجبر ستالين على الحزب واللجنة المركزية واضحا وضوحا كاملا عقب المؤتمر السابع عشر الذي عقده الحزب في عام 1934.
فقد حصلت اللجنة المركزية على معلومات كثيرة في هذا الصدد تكشف عن تجبر ستالين حيال بعض أعضاء الحزب القدامى المجاهدين ، ومن ثم شكلت لجنة تخضع لرقابة المجلس الأعلى للجنة المركزية مهمتها التحقيق في حقيقة الأسباب التي أدت إلى اتخاذ إجراءات قمع جماعية ضد معظم أعضاء اللجنة المركزية السابقين، وضد أعضاء انتخبوا في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي.
ولقد وقفت هذه اللجنة على قدر كبير من المعلومات التي تضمنتها ملفات إدارة البوليس السري، كما وقفت على وثائق قد تتضمن حقائق كثيرة عن تلفيق بعض القضايا ضد شيوعيين مخلصين، وعن اتهامات زائفة وجهت إليهم، وعن سوء استغلال للشرعية الاشتراكية، وهي كلها مثالب أطاحت بعدد من الأبرياء.
ولقد كشفت هذه الوثائق والمعلومات عن حقيقة واضحة هي: أن كثيرين من أعضاء الحزب، ومن العناصر التي كانت تتولى الترويج للشيوعية في الحقل الاقتصادي، اتهموا زورا وبهتانا بأنهم «أعداء للشعب» في عامي 1937 و1938 مع أنهم كانوا دائما شيوعيين مخلصين، ولم يكونوا قط في يوم من الأيام أعداء أو جواسيس أو خونة، ولكنهم حينما وجدوا أنفسهم متهمين بارتكاب جرائم مشينة لم يرتكبوها، وحينما عجزوا عن احتمال التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له، اتهموا أنفسهم تنفيذا لأوامر القضاة والمحققين والمزيفين بارتكاب كل ما يجول في الخاطر من جرائم خطيرة وغير معقولة.
كل هذه المعلومات وقعت في أيدي اللجنة التي تبحث في تلك المآسي، وقد رفعت اللجنة إلى المجلس الأعلى للجنة المركزية مذكرات ووثائق مستفيضة تكشف عن القمع الجماعي الذي تعرض له المندوبون للمؤتمر السابع عشر وأعضاء اللجنة المركزية الذين انتخبوا أثناء انعقاد ذلك المؤتمر.
وقام المجلس بدراسة هذه المذكرات والوثائق، ويبين من تلك الوثائق أن من بين المائة وتسعة وثلاثين عضوا الذين انتخبوا في المؤتمر السابع عشر ثمانية وتسعين (أي نحو 70٪) اعتقلوا وأعدموا رميا بالرصاص خلال عامي 1937 و1938 على الخصوص.
وكتب أندريه جيد الكاتب الفرنسي المشهور - وكان قد زار روسيا في عام 1936 - أنه لاحظ أن البوليس السري قد اشتد نفوذه في البلاد، واتخذ لنفسه سلطات جديدة، أو على الأصح سلطانا عرفيا لا يعرف قانونا، ولا يوقر قضاء، ففي شهر يناير من عام 1928 قبض على ليون تروتسكي وأبعد إلى آسيا الوسطى، وكانت جريمته هي خلافه السياسي مع ستالين، وكانت هذه المشاورات والخصومات قبل الثورة، وفي عهد زعامة لينين تعرض على الحزب الشيوعي وهو وحده الذي يفصل فيها عن طريق المناقشات وأخذ الآراء، أما الآن فقد أصبح المسدس في يد البوليس السري هو الحكم الفيصل.
وشبه أندريه جيد استخدام البوليس في إنهاء كل نزاع على السياسة بأنه كان «واترلو» الحزب، أو المعركة الفاصلة التي انهزم فيها بغض النظر عما إذا كان الحق في جانب ستالين أو في جانب تروتسكي.
ويقول: «لقد استتبع الاستعانة بالبوليس على هذا النحو اعتقاد الذين أوتوا القوة في أيديهم أنهم قد أوتوا معها الحكمة، فلم يسع المخالفين لهم إلا أن آثروا السلامة على المجاهرة بالرأي، ولم يلبث خراب الذمم أن انتصر على الأمانة والنزاهة والصدق.
ولم تغب عني هذه الظاهرة وقتئذ، وإنما غاب عني إذ ذاك أنها بداية التدهور الذي أثمر اليوم هذا المين والإفك الذي نراه، وأدى إلى هذا الصمت السائد الذي نشهده، ولم يكن بد أيضا من أن تساعد هذه الظاهرة على ظهور الزعيم.»
الأستاذ والتلميذ: لينين وستالين!
صورة زيتية قصد بها أن تمثل ستالين وهو يصافح لينين حتى يبدو وكأنه زميله منذ فجر الثورة الاشتراكية.
وقد ذكر خروشيشيف في خطابه التاريخي المشهور أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي وهو يهاجم استبداد ستالين:
لم يحدث خلال المعركة الفكرية العنيفة التي شنها الحزب على أنصار تروتسكي وزينوفييف وبوخارين وغيرهم أن اتخذت إجراءات قمع متطرفة؛ ذلك لأن هذه المعركة كانت مستندة إلى أساس فكري، ولكن حدث بعد ذلك ببضع سنوات عندما وضع البناء الأساسي للاشتراكية في بلادنا، وعندما تلاشت الطبقات المستغلة تدريجيا، وعندما أدخلت تعديلات جوهرية أساسية على البناء الاشتراكي السوفييتي، وعندما أخضعت العناصر المناهضة للحزب الآراء السياسية والاجتماعية المعارضة لفلسفة لينين ... عندما تم ذلك كله بدأت إجراءات القمع توجه ضد هؤلاء الأعداء.
نعم، بدأ القمع بعد ذلك ... ففي خلال الأعوام 1935 و1937 و1938 بدأت عمليات القمع بواسطة الجهاز الحكومي، بدأت ضد أعداء فلسفة لينين أولا، ثم ضد أتباع تروتسكي وزينوفييف وبوخارين، مع أن هؤلاء كانت قد حاقت بهم هزيمة سياسية كبيرة على يد حزبنا ... ثم بدأ القمع يوجه ضد عدد كبير من الشيوعيين المخلصين، وضد بعض القادة المجاهدين الأوائل الذين تحملوا مرارة الكفاح أثناء الحرب الأهلية، وأثناء الكفاح من أجل التصنيع، وتطبيق نظام المزارع الجماعية، الذين حاربوا بقوة ضد أتباع تروتسكي واليمينيين من أجل نصرة الحق. (15) ثورة لينين وثورة ستالين
إن الماركسية بفرض أنها نظرية لها قيمتها نتاج التفكير الغربي، والواقع أن التهمة الرئيسية التي يمكن توجيهها إلى كارل ماركس بوصفه ثوريا دوليا هي أنه فكر في الثورة في حدود قصرها قصرا شديدا على الأحوال السائدة في الغرب.
وقد سار الروس على هديها في حماسة، فقد كفلت لهم الشيئين اللذين كانوا في أشد الحاجة إليهما: الثقة، والنظام. إلا أنه كان يعوزهم دائما لسوء الحظ الشعور بالنسبية، فاعتنقوا المذهب في يقين صلب لا يلين، حتى إنهم بمرور الزمن أحالوه إلى قانون متحجر جامد زعموا أنهم وحدهم القادرون على تفسيره تفسيرا صحيحا.
وقد كان رسل الشيوعية الأربعة هم: ماركس، وأنجلز، ولينين، وستالين، وإن مؤلفاتهم هي وحدها التي لها السلطان دون أن تضاف إلى هذه الشريعة أية مؤلفات أو أعمال أخرى، وقد قسم هؤلاء الرسل إلى قسمين، فاختص ماركس وأنجلز بوضع أساس النظرية الشيوعية ومزاولتها في القرن الماضي، بينما اختص لينين وستالين بتطبيق مبادئها على الأحوال الجديدة التي نشأت في القرن الحالي، وقد أدخل لينين تحسينات على الماركسية في أكثر من ناحية، ولكن يصح من الناحية العامة القول بأن أهم ما عمله في هذا السبيل كان في ميدان التنظيم الحزبي والتكتيك، أما ستالين فكان أهم ما قام به نظريته التي تقول: «الاشتراكية في وطن واحد» بكل ما توحي به هذه النظرية.
وما قيل عن لينين بوصفه ممن يهتمون بالأمور النظرية يصح أن يقال عن ستالين؛ فقد كان كلاهما مدفوعين إلى توجيه النظرية الماركسية توجيها جديدا.
وكما أن لينين كان يرجع إلى ماركس، فكذلك ستالين كان حريصا كلما دعته الحال إلى الاستشهاد بلينين، فليس من قبيل الصدفة أنه أطلق اسم «اللينينية» على المجلد الذي يحتوي على أهم كتاباته وتصريحاته .
على أنه ثمة خلاف بين الرجلين؛ فإن لينين عندما اضطر بحكم ظروف لم تكن في الحسبان إلى الأخذ بسياسات ما كان ليشير بها لولا تلك الظروف، وصفها بأنها إجراءات مؤقتة، واحتمى وراء حجة «الضرورة القاسية»، بينما كشف ستالين عن هذه السياسات في وضح النهار وأكره الحزب على قبولها بوصفها تطبيقات صحيحة للمذهب الرسمي.
وقد عجل لينين بهذا الإجراء؛ ذلك أنه شعر بالحاجة إلى أن يستمد من الماركسية المبرر على كل ما كان يفعله باسم الثورة، وكان هدف الماركسيين الغربيين دولة من الطبقة العامة يتعلم فيها الناس وقد تخلصوا من أغلال الرأسمالية، كيف ينظمون الإنتاج للصالح العام؟ إلا أن ثورة أكتوبر لم تحقق هذا الهدف؛ لأنها لم تكن «عمالية» إلا بالمعنى الذي أضفاه عليها لينين الذي عرف الطبقة العاملة بأنها هي الحزب بوصفه طليعة الجماهير، وذلك القسم منها الأشد وعيا، وقد ترتب على هذا أن زعامة الحزب أضحت تعني سيطرته، وخاصة بعد ما صادف البلاد من صعاب كثيرة.
ويبدو أن لينين قد كافح في الواقع ضد هذه النتيجة التي لم يكن منها بد، وقد تكون كتاباته المريرة التي حمل فيها على كاوتسكي قد أخفت شيئا من اضطراب الضمير الذي لم يزعج خليفته، ولكن القوى التي كان قد حركها لم تظهر في الحال؛ ولذلك وقع على كتفي ستالين التعبير «بخيانة الثورة» الذي طمعت في أيامه الماركسية بالتقاليد الآسيوية البيزنطية مع العودة إلى الأتوقراطية فيما بعد، وهو نوع الحكم الوحيد الذي عرفه الروس طول حياتهم.
على أنه من الصعب علينا أن نقول: إن لينين لو كان قد عاش لاضطر أن يفعل ما فعله ستالين؛ ذلك أن النظرية التي قامت على أساسها ثورة أكتوبر كانت مركبا من المثالية السياسية والواقعية السياسية، وما إن وجد الزعماء الجدد أنفسهم وقد واجههم الموقف الذي خلقوه هم أنفسهم حتى لم يكن مفر من أن ينتشر مبدأ الواقعية السياسية.
إلا أن هذا كان لا بد أن يتضمن تعديل الأساس الذي يقوم عليه المذهب، ومن ثم عرفت نظرية الثورة تعريفا جديدا، وحول الحزب إلى حزب استبدادي مركز يجمع السلطة كلها في يديه، وقلبت النظرية الكلاسيكية للدولة رأسا على عقب، ولو أن الخدمات ظلت تؤدى إليها في غير إخلاص، واتبعت سياسة زراعية كانت مخالفة لتعاليم ماركس وأنجلز، بل لتعاليم لينين نفسه وشجع نمو الشعور القومي.
وكانت سياسة «الاشتراكية في دولة واحدة» حافزا جديدا على حدوث التطورات، ولم يكن في هذه السياسة من بعض نواحيها ما يثير الخلاف؛ ذلك أن الجميع كانوا متفقين على وجوب قيام الاشتراكية في روسيا.
أما أهميتها فقد كانت فيما تضمنته وخاصة الأثر الذي يكون لتطبيقها على الثورة العالمية.
وقد ذكر ستالين في «أسس اللينينية» أن الحرب العالمية الأولى خلقت ظروفا مواتية لثورة الطبقة العاملة فجعلت هذه الثورة أمرا لا مناص منه؛ ذلك أن روسيا القيصرية كانت ذخيرة غير محددة للاستعمارية الغربية تزودها بميدان شاسع للاستثمار يتطلب جيوشا جرارة لحراسته.
ومن ثم فقد كانت روسيا «نقطة مركزية للثورة»؛ لأن متناقضات الرأسمالية كانت أوضح ما تكون فيها، ثم إنه استخدم «قانون التطور غير المتعادل» كأحد الدليلين الرئيسيين اللذين برر بهما مذهب «الاشتراكية في دولة واحدة» عندما نادى به في سنة 1924-1925؛ ذلك أنه زعم أنه يجعل الرأسمالية أكثر تعرضا للهجوم بإنشائها سلسلة من الدول التي لا تتساوى في الارتقاء، والتي يمكن دائما مهاجمتها في أضعف صلة من صلاتها.
ومن ثم أصبحت مناهضة الاستعمارية جزءا هاما من البرنامج الشيوعي، وكان موجها إلى توسيع الأساس الذي يقوم عليه وعي الطبقة العاملة، وفي الوقت نفسه إلى إضعاف النظام الرأسمالي بإثارة أو تأييد حركات التحرر التي تقوم بها الشعوب المتخلفة، وهي الشعوب التي كانت ضحية الاستغلال.
ولذلك أنشئت المنظمات التي لا عدد لها، والتي كانت تهز المشاعر الإنسانية تارة، أو تبذر بذور الخوف من الحرب تارة أخرى بزعمها أن الاستعمارية تسعى إليها.
ثم إن تعاليم لينين قوت الاعتقاد - ويبدو أنه لا يمكن استئصاله إلى الآن - بأن الاتحاد السوفييتي قد يصبح هو نفسه ضحية الاعتداء الاستعماري.
وهكذا وصفت الحرب العالمية الثانية بأنها «استعمارية» حين هاجم هتلر روسيا، وعندما وضعت الحرب أوزارها عاد الزعماء الروس إلى مذهبهم القديم وبذلوا من عنايتهم أكثر مما كانوا يبذلون من قبل. •••
وقد كانت ثورة لينين بوجه خاص ثورة سياسية؛ فقد قضت على النظام الإمبراطوري، كما أنها قضت على جميع الأحزاب الاشتراكية الروسية فيما عدا حزب البولشفيك، كما أنها نشرت في روسيا كلها دكتاتورية بلشفية.
ولقد حققت دون شك تغيرات اجتماعية كبيرة؛ فقد حطمت القوة الاقتصادية التي كان يتمتع بها أصحاب الأراضي ورجال الأعمال، إلا أن طبقة الغالبية في روسيا؛ وهي طبقة الفلاحين، استمرت تعيش طبقا للنظام الاجتماعي الماضي حتى بعد أن تسلمت نصيبها من الأراضي التي صودرت من أصحاب الأملاك.
إلا أن ثورة ستالين التي بدأت في عام 1929 كانت آثارها الاجتماعية أعمق من ثورة لينين؛ فقد حطمت طبقة صغار الملاك، أو بمعنى آخر أنها قضت على الفلاح المستقل.
وخلقت صناعة جديدة كبيرة، وذلك بالتجنيد الشامل للقوى الفردية والاستغلال المنظم للطبقة العاملة.
وكانت لها أيضا آثارها السياسية؛ إذ إنها استكملت إخضاع الحزب لإرادة ستالين، وكانت هذه المحاولة قد بدأت منذ عام 1920.
وأخيرا فقد أثرت هذه الثورات في كل فرع من فروع الثقافة، فأخضعت الآداب والفنون والعلوم ليس فقط للرقابة السلبية التي كانت موجودة منذ عهد لينين، ولكن لتوجيه إيجابي سيطر عليها ...
ولذلك يمكن القول إن نظام لينين كان نظاما دكتاتوريا شاملا في حين أن نظام ستالين كان نظاما فرديا.
وقد بدأت ثورة ستالين كنتيجة لنقص كميات الطعام في المدن، فإن الفلاحين وقد زاد نصيبهم من الأرض عما كان عليه في عام 1917 بدءوا يأكلون أكثر من الماضي، وكان اطراد الزيادة في عدد السكان، وتقلب الأحوال الجوية، مما يجعل تموين المدن بالمواد الغذائية غير مأمون العواقب، وكان زعماء السوفييت قد اعتزموا مستندين إلى أسباب عامة وإلى عوامل حربية تنمية الصناعة بسرعة، ولتحقيق هذا الغرض كان عليهم أن يواجهوا مشاكل الإنتاج الزراعي والتسويق.
وكان من الممكن اتباع إحدى سياستين بإزاء الفلاحين، والسياسة الأولى تتلخص في تشجيع الفلاحين على مضاعفة جهودهم مما يضاعف بالتالي إنتاجهم وبيعه بالمدن، وكانت خطة تشجيع الفلاحين على مضاعفة إنتاجهم تتطلب إمداد الأسواق ببضائع الاستهلاك حتى ولو اقتضى الأمر استيراد بعضها.
أما السياسة الثانية فقد كانت سياسة تقوم على القمع، وتتطلب مصادرة المحصولات من الفلاحين بأثمان منخفضة، كما كانت تتطلب استعمال القوة ضد أثرياء الفلاحين الذين كان يطلق عليهم اسم «الكولاك»، وكان لهذه السياسة ميزتها؛ إذ كان في وسع الدول أن تجمع ثروة كبيرة دون أن تدفع ثمنا، وكان من مزايا هذه السياسة أيضا توجيه ضربة قاضية لطبقة من الناس كان زعماء الشيوعيين لا يزالون يعتبرونها «الطبقة المعادية» الوحيدة الباقية التي تعتبر خطرا على المذهب الجديد.
واختار ستالين لنفسه السياسية التي تتفق مع المذهب الماركسي، فكان لا بد من البحث عن أعداء وأكباش فداء، وانتحال أعذار؛ ولذلك فقد نسبت أزمة التموين في عام 1927-1928 - كما حدث في أزمة التموين في عام 1918 - إلى خيانة «الكولاك». إنهم أعداء الشعب الذين يريدون أن تخضع الحكومة السوفييتية لسيطرتهم عن طريق التموين. وكان العلاج هو إثارة حرب الطبقات في القرى، وكان الشعار هو نفسه الذي استعمل في حرب الشيوعية: اعتمدوا على فقراء الفلاحين، اكسبوا المتوسطين من الفلاحين، اعزلوا الكولاك واقضوا عليهم.
ولا شك أنها كانت أعظم سخرية في التاريخ عندما نجح ستالين في تحويل روسيا إلى ما يمكن أن يعتبر في التاريخ دولة من أعظم الدول الرأسمالية في جميع العصور؛ فقد كان من بين تعاليم كارل ماركس أن «عملية الجمع البدائية لرأس المال» وهي ألزم ما يكون لخلق المجتمع الصناعي ... لا يمكن أن تتم في ظل النظام الرأسمالي إلا باستغلال العامل الذي لا بد له أن يثور يوما ضد تزايد فقره، وبهذا يضع حجر الأساس للاشتراكية العالمية.
ولكن في ظل رأسمالية الدولة تابع الاتحاد السوفييتي سياسة «عملية الجمع البدائية لرأس المال»، وذلك بواسطة حكام أقوياء يستقل كل منهم برأيه، وكان الهدف الوحيد للشيوعية، كما لا يزال يعترف به زعماؤها، هو التوصل إلى اقتصاد يؤدي إلى تحويل راحة الفرد إلى نوع من وفرة الإنتاج لا يمكن أن يحلم به أحد، وإذا كان ستالين قد استمر في اعتناق هذه الفلسفة فلأنه كان مدفوعا بأطماعه في سبيل التفوق على الغرب؛ سواء من الوجهة الحربية أم الصناعية، وقد كان مدفوعا أيضا بإدراكه أن الأولوية للصناعات الثقيلة ومركزية التخطيط اللذين تعتمد عليهما هي أسهل طريق إن لم يكن الطريق الوحيد لكي يحتفظ الحزب الشيوعي باحتكار السلطة السياسية، وأن توزيع ثمار نجاح الشيوعية قبل الأوان سوف يؤدي إلى إضعاف هذه السلطة.
وباسم الشعب حرم الكرملين الشعب من كل شيء!
وكأن جوزيف ستالين يوم موته كان على موعد مع التاريخ وتم اللقاء في الموعد المحدد بالضبط؛ إذ قبيل موته بالضبط، وعلى وجه التحديد في شهر مارس من عام 1953 بدا أنه هو نفسه منشغل بحل بعض المشاكل المتضاربة التي خلقها بنفسه.
فقد كانت وصيته الأخيرة كما جاءت في كتابه «المشاكل الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي»؛ إذ قال في ذلك الكتاب: إن حل مشاكل السوفييت في ظل الشيوعية ليس سهلا، وقال: إن حل هذه المشاكل لا يتلخص في زيادة الاستثمار ولا في زيادة الاستهلاك، ولا في الضغط على الفلاحين، ولا في استجلاب رضاهم.
ولم يوضح بالضبط ما كان ينصح به لاستبقاء الحزب في الحكم.
وبقي على نيكيتا خروشيشيف خليفته في خطابه المشهور الذي ألقاه في شهر فبراير من عام 1956 واستنكر فيه حكم ستالين المطلق؛ نقول: بقي على خروشيشيف أن يوضح الحل الذي كان يقترحه ستالين، وهو مذبحة أخرى كبيرة ليحتفظ الحكم بسيطرته واحتكاره.
ولكن لم تحدث المذبحة وقد لا تحدث مطلقا، كما أن زعماء الكرملين لا يميلون إلى تنصيب ستالين جديد، ولما خلا مكان ستالين لم يكن هناك شخص يمكن أن يخلفه كحاكم مطلق له نفس سلطته، حاكم يمكنه أن يتخلص من أي معارض يبرز له، وهنا بدأت تنحل وحدة الدكتاتورية السوفييتية.
وكان من أهم نتائج موت ستالين أن مقدرة الحكومة على استعمال الرعب والإرهاب كسلاح اقتصادي أخذت تقل شيئا فشيئا، وبدت رغبة من الزعماء في استجلاب حب الشعب.
وفي صيف عام 1953 ألقى كل من رئيس الوزراء الجديد جيورجي مالنكوف وزعيم الحزب نيكيتا خروشيشيف خطبا هامة نبها فيها إلى ضرورة بذل عناية أكبر ببضائع المستهلك وبالزراعة. (16) ستالين يحدد أهدافه
شرح ستالين في كتابه «مشاكل مذهب لينين» الذي بيعت منه ملايين النسخ في روسيا:
إن هدف روسيا في سياستها هو تعزيز دكتاتورية الطبقات العاملة حتى تصبح وسيلة للقضاء على الاستعمار في العالم كله ...
ويقول ستالين في فصل من فصول الكتاب عنوانه «السياسة والمناورات»:
إن أهم القوى المدخرة للثورة العالمية هي الدكتاتورية الشعبية في روسيا والحركات الثورية الأخرى في البلاد الخارجية.
أما الاحتياطي المدخر للحركة الثورية فيتكون من أشباه العمال وصغار الفلاحين في البلاد المتقدمة، كما أنه يعتمد على الحركات التحريرية في المستعمرات.
واستشهد ستالين بما قاله لينين من أنه لا مناص من أن تقوم الحرب في عالم استعماري كهذا الذي نعيش فيه ضد الحركات الثورية الأوروبية وثورات المستعمرات في الشرق؛ وذلك لأن اتحاد الحركات التحريرية الأوروبية مع ثورات المستعمرات في الشرق سيؤدي إلى تكوين جبهة ثورية متحدة ضد الاستعمار.
وذكر ستالين مسترشدا بآراء لينين أن خير الأوقات المناسبة لإشعال نيران الثورات العالمية هي فترات الحروب، والأزمات الاقتصادية، والنكبات الوطنية ...
كما أنه يعترف بأن من المسموح به في مثل هذه الظروف الالتجاء إلى جميع وسائل الخداع المعروفة وغير المعروفة! وهو يقول في هذا: «إن من المضحك أن تشن حربا تهدف إلى التخلص من الطبقة البورجوازية
8
في العالم كله ثم تتعفف عن استعمال الوسائل لإثارة بعض الطبقات ضد البعض الآخر، ولاستغلال تعارض المصالح بينها ... وذلك لأن هذه الحرب سوف تكون أصعب مائة مرة من الحروب العادية التي تقوم بين الدول وبعضها ...»
وهو يقول: إن الطرق تتغير في كثير من الظروف، ولكن السياسة تبقى دائما كما هي ... ولا شك أن سياسة ستالين نفسه كانت خير برهان على إيمانه بتغير الوسائل؛ فقد كانت وسائله تتغير كل يوم طبقا للظروف والضرورة، ولكن أهدافه السياسية بقيت كما هي دون تغيير.
وقدم ستالين لقادة الحركات الثورية في العالم أربع نصائح هامة طالبهم بالتزامها، وهي : (1)
ركزوا الهجوم على أشد الأجزاء حساسية لدى العدو. (2)
تخيروا الوقت الملائم للمعركة الحاسمة، ولا تدخلوها إلا إذا حل الوقت ... (3)
تابعوا العمل في سبيل أهدافكم دون كلل رغم ما قد يعترضكم من صعاب ومتاعب، وذلك حتى يظل الحرس الأمامي على علم دائم بحقيقة أغراضكم، وحتى لا تضل التكتلات الشعبية عن الطريق السوي. (4)
تقهقروا عندما لا يكون من المصلحة أن تقاتلوا، واستغلوا احتياطيكم في المناورات ...
وكان من رأي ستالين أن الحياة ليست إلا مصارعة حرة بين المذهبين، وفي المصارعة الحرة يمكنك أن تمسك بخصمك من أي مكان في جسمه وأنت تحاول أن تلقي به أرضا، أو كما يقول:
CATCH AS CATCH CAN .
وقال في ذلك جملته المشهورة: «إننا نعيش طبقا لنصيحة لينين؛ وهي أن الحياة مباراة من مباريات المصارعة الحرة، فإما أن نقضي على الرأسماليين ونوجه إليهم الضربة القاصمة ... وإما - كما قال لينين - أن يقضوا هم علينا!»
ومنذ بداية الثورة في روسيا كانت المشكلة الزراعية هي إحدى المشاكل التي واجهتها، وقد أدرك لينين في ذلك الوقت أنه من المستحيل تطبيق نظام الملكية الجماعية في الريف الروسي دون أن يقع صدام عنيف مع الفلاحين الذين كانوا يرون في امتلاك الواحد منهم لقطعة أرض غاية ما يصبون إليه من أمل.
وإزاء هذا الموقف أقدم لينين على تقسم الأراضي إلى ملكيات صغيرة فهاجمه كثير من الزعماء والكتاب، وقالوا: إن هذه الخطوة خروج على المبادئ الاشتراكية، وهي من باب أولى غير شيوعية.
وكان رد لينين على ذلك هو أنه وإن كان تقسيم الأراضي إلى ملكيات صغيرة ليس عملا اشتراكيا إلا أنه على أي حال خطوة تقدمية ديمقراطية، والماركسية ليست حقائق منزلة وإنما هي دليل يرشد إلى الطريق القويم فحسب.
وقد ظل هذا النظام سائدا في روسيا حتى أقدم ستالين على تحويل الملكية الفردية إلى ملكية جماعية في صورة «الكولخوزات»، وهي المزارع الجماعية بنظامها الاشتراكي الراهن لا الشيوعي.
وبالرغم من أن هذا التغيير حدث بعد أن رسخت أقدام الثورة بسنوات طويلة إلا أنه صادف مقاومة عنيفة من مجموعات كبيرة من الفلاحين ، وذهبت ضحيته آلاف من الأرواح.
ولا شك أن هذا الثمن الكبير الذي دفع لتحويل الملكية من فردية إلى اشتراكية كان من الأسباب التي جعلت ستالين في أواخر أيامه يرفض فكرة تحويل هذه الكولخوزات الاشتراكية إلى النظام الشيوعي الكامل، خصوصا بعد أن تعلق الفلاحون بمزارعهم الجماعية، وأصبح أهل كل مزرعة يرون أنها ملك خاص لهم؛ ولذلك فمن غير المعقول أن يقبلوا بسهولة اندماج المزارع كلها في جهاز واحد يكونون فيه عمالا وموظفين.
وقد وجه بعض الاقتصاديين الروس النقد إلى الوضع الراهن فيما يتعلق بالأسواق المتعددة والأسعار المتعددة، وهاجموا النشاط الفردي الذي ما زال موجودا بالريف السوفييتي حتى اليوم، ولكن ستالين رد على هذه الانتقادات بما معناه: إن الوضع الراهن يجب أن يبقى زمنا آخر كمرحلة انتقالية، وذكر أنه لكي يتم الانتقال إلى النظام الشيوعي الكامل في الزراعة يجب أن تتوفر عدة شروط أهمها:
أن يتم تصنيع الزراعة تماما بحيث يصبح كل العمل آليا وتتحول المزرعة إلى مصنع.
ويحتاج هذا إلى فترة طويلة تصنع فيها الآلات الثقيلة التي تنتج الآلات الزراعية نفسها.
أن يصل الإنتاج الزراعي إلى درجة تكفي كل حاجات المستهلكين.
أن يرتفع المستوى الثقافي في الريف إلى درجة تساعد الفلاح على تفهم النظام الجديد والاقتناع به. (17) تقديس الفرد
كان لينين ممددا على فراشه، في حجرة من حجرات مجلس الشيوخ، وأحس بأنه سيعاني آلام صدمة جديدة، فما لبث أن اشتد اهتمامه مرة أخرى بموضوع من يخلفه.
وفي هذه الفترة نفسها اضطر تروتسكي هو الآخر أن يلازم فراشه بسبب آلام روماتيزمية كان يشعر بها، وكانت حجرته في قسم فرسان القيصر، وكان براح الكرملين الكبير يفصل بين الرجلين، ولذلك فإنهما كانا يتبادلان الرأي في المسائل الهامة بواسطة مذكرات صغيرة يتبادلانها، أو رسائل شفوية يبعث بها كل منهما إلى الآخر بواسطة سكرتاريته، ولذلك فقد كان الموقف محزنا حقا ...
وزاد من حزن لينين في ذلك الوقت تلك الدعاية الغريبة عليه التي عمد إليها الزعماء؛ فقد استبدلوا اسم مدينة «تزاريتزين»
9
التي دافع عنها ستالين أثناء الحرب دفاعا مجيدا استبدلوه باسم ستالينجراد، وسميت مدينة أخرى «زينوفيسك»، وأطلقت أسماء الزعماء أيضا على عدد من المدارس والمصانع والبواخر.
وكان لينين طول حياته قد رفض مثل هذا التمجيد لاسمه، فلم يطلق على مدينة «بتروغراد» اسم لينينجراد إلا بعد موته.
ولكن تمجيد الأشخاص في حياتهم ما لبث أن صار طابعا للعهد؛ حتى إن أميل لودفيج في كتابه عن ستالين يروي أن زائري المعرض الدولي الذي أقيم في باريس في عام 1937 ذهلوا لكثرة عدد تماثيل وصور ستالين الضخمة التي رأوها منصوبة في ستة مواضع من القسم الروسي في ذلك المعرض.
ويقول لودفيج: إنه وجد نفسه عاجزا عن التوفيق بين هذا التمجيد للأشخاص وبين المبادئ الاشتراكية، ولذلك فقد صمم على أن يسأل ستالين في هذا الموضوع، وقال له عندما قابله: إنني في دهشة من تمجيد الأشخاص الذين تبالغون فيه هنا أكثر من أي مكان آخر ... فأنتم أيها الشيوعيون لا يجب أن تبالغوا في تمجيد أي شخص، وأنا شخصيا من المؤمنين بأن الرجال هم الذين يصنعون التاريخ، وهذا ما يجعلني أختلف عنكم؛ لأنكم بنظرتكم المادية للتاريخ كان يجب أن تعارضوا في ظهور زعمائكم على الصور المختلفة التي تعرض في كل مكان، وفي إطلاق أسمائهم على المدن أو غيرها ...
ويقول لودفيج: إن ستالين تلقى هذا الهجوم بمنتهى الهدوء ثم قال ردا عليه: إنك على خطأ؛ ففي كارل ماركس تجد أن الرجال هم الذين يصنعون التاريخ ولكن ليس بالطريقة التي تتصورها، بل بالطريقة التي يتصرفون بها أمام الحوادث التي تكتنف حياتهم السياسية، فإن كل جيل تصادفه سلسلة جديدة من الأحداث عليه مواجهتها. ويمكن القول بوجه عام: أن عظماء الرجال لا يستحقون التقدير إلا بحسب الطريقة التي يواجهون بها الظروف، وإلا كانوا عظماء من طراز «دون كيشوت». وفي رأيي أن التاريخ هو الذي يصنع الرجال، ولم ينكر ماركس بتاتا أهمية الدور الذي يقوم به الأبطال. والواقع أن هذه الأهمية كبيرة جدا ...
قال ستالين هذا ونسي أنه في الوقت الذي كان فيه بطل الثورة لينين لا زال على قيد الحياة فإن السلطة كانت قد انتقلت من يده حتى إن ستالين نفسه بوصفه سكرتيرا عاما أخذ في تعيين أصدقائه وزراء، وأخذ هؤلاء في تعيين أصدقائهم وكلاء للوزارات ... كل ذلك لأن «البطل» كان قد أصابه المرض ...
وأدرك لينين الخطر الذي يهدد النظام كله بهذه التصرفات فأملى مقالا، ربما كان آخر مقال له في حياته، وجعل له عنوانا هو: «اعملوا أقل ... ولكن أحسن!»
وفي ذلك المقال اقترح لينين إدخال عنصر الشباب في الأداة الحكومية على أساس اتساع المعرفة وأفضلية التعليم، ولكن في الوقت الذي كتب فيه لينين هذا المقال كان المكتب السياسي «البوليبيرو» المكون من ستالين وأعوانه قد أصبح في درجة من القوة جعلته يرفض نشر مقال لينين، وبلغ من جرأتهم في ذلك الوقت أن اقترحوا نشر المقال في نسخة واحدة من أعداد جريدة برافدا، وقالوا في سخرية لاذعة: «حتى يقرأها العجوز! ...»
ولم يسمحوا بنشر هذا المقال إلا بعد أن هدد تروتسكي كما هددت زوجة لينين بفضح أساليبهم.
ويقول أندريه جيد بعد زيارته لروسيا: وقد نفرت نفسي من هذا التمجيد الذي رأيته لمكانة ستالين، والمديح الذي يزجى إليه، والملق المترامي من حوله، فقد راحت الدعايات التي كان هو بالذات مسئولا عنها تصوره للناس في صورة الزعيم «المعصوم» الرحيم العليم المبدع الذي صنع كل شيء حسن في روسيا، جاء بكل خير، ومنه كانت تستفيض البركات والأنعم والطيبات، أما الأغلاط والمحن والنكبات والهزائم والنكسات فلم تكن بالضرورة إلا من عمل «المخربين» و«التروتسكيين» وأعداء الشعب وخصومه!
وقد رحت أصب جام غضبي على هذه العبادة الجديدة لشخص ستالين في مقال كتبته في موسكو ونشرته في نيويورك في عام 1930 وحملته تبعة ذلك، وأطلقت على هذه الظاهرة أسوأ التسميات، فقلت: إنها «مناقضة للبلشفية» وإن كانت في الواقع «بلشفية صميمة»؛ لأنها النهاية التي لا مفر منها للديكتاتورية، فقد رأينا هتلر وموسوليني يتوليان حركة مماثلة في باب المديح الذاتي، وإملاء التسبيح والحمد والتمجيد.
ستالين في مؤتمر الفلاحين.
في عام 1924 بعد موت لينين تظاهر ستالين بصداقة ريكوف الذي خلف لينين في منصب رئيس الوزراء. ويرى ستالين (إلى اليسار) وهو يتنزه مع ريكوف (في الوسط)، ولكن العلاقة لم تدم طويلا فقد طرد ريكوف في عام 1930 وقضي عليه في 1938.
ومما يستحق الذكر أن «أندريه جيد» الفرنسي كتب هذا الكلام قبل أن يقف خروشيشيف بوصفه السكرتير العام للحزب الشيوعي بسنوات طويلة ليتحدث في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي فبراير 1956 عن تقديس الفرد، ومدى ما يترتب عليه من نتائج ضارة، وليقول: إنه من الأمور الدخيلة على الكامل. واستشهد خروشيشيف بالخطاب الذي بعث به كارل ماركس إلى ويلهلم بلوس القائد العمالي الألماني وقد قال له فيه:
إنني أنفر من جميع مظاهر تقديس الفرد نفورا جعلني أستنكف الترويج لأي مظهر من مظاهر التقديس الذي خلعه علي البعض في خطبهم التي ألقيت في عدة دول طيلة عهد الدولية الأولى، فقد ضايقني هذا التقديس كثيرا رغم ما فيه من تأييد للمبادئ التي أنادي بها ...
وقال خروشيشيف أيضا وهو يقارن بين تواضع لينين نبي الثورة الروسية، وتجبر ستالين بعد أن قدس شخصه: لقد كان لينين يؤمن إيمانا قويا بدور الشعب كخالق للتاريخ، وبالدور التوجيهي والتنظيمي للحزب كأداة خالقة حية، كما كان يؤمن بالدور الذي تلعبه اللجنة المركزية للحزب، ومع ذلك فإن الماركسية لا تنكر الدور الذي يلعبه قادة ا لطبقة البروليتارية في توجيه حركة التحرر الثورية.
ولكن لينين كان في الوقت الذي يعلق فيه أهمية بالغة على الدور الهام الذي يلعبه قادة الكتل الشعبية ومنظموها، يستنكر بغير هوادة شتى مظاهر تقديس الفرد، كما كان يستنكر بكل قواه الآراء الدخيلة على المبادئ الماركسية، وهي التي تقيم بعض الفوارق بين «الزعيم» والشعب.
كذلك كان لينين يقول في تعاليمه: إن قوة الحزب تعتمد على وحدته التي لا تنفصم مع الشعب؛ عمال وفلاحين ومثقفين، فهو القائل: «لن يتسنى الفوز والاحتفاظ بالسلطة إلا لمن يؤمن بالشعب، ويصهر نفسه في بوتقة قوة الشعب الخالقة الحية.» (18) ستالين الديكتاتور
ويقول الأستاذ أحمد بهاء الدين:
10
إن «النظرية» التي تحكم روسيا اشترك في وضعها - بصورتها الراهنة - أربعة من الأنبياء : ماركس وأنجلز ولينين وستالين ...
وقد كان ستالين هو الوحيد من بينهم الذي أتيح له أن يحكم روسيا أطول فترة من الزمن؛ إذ حكم الدولة ثمانية وعشرين عاما، من ثمانية وثلاثين عاما هو عمرها كله
11 ...
والأمر الذي لا شك فيه والذي فهمته من مناقشاتي مع الكثيرين هناك هو أن ستالين كان ديكتاتورا طول مدة حكمه، كان ديكتاتورا بمعنى: أن إرادته كانت فوق كل إرادة أخرى في الاتحاد السوفييتي ...
ربما استمد ستالين قوته هذه من الظروف التاريخية التي جعلته أبرز صانعي الثورة، أو من أنه أحد الذين ساهموا في صنع هذه النظرية نفسها فأصبح هو أكبر حجة فيها، واستمد بذلك قوته وقداسته من قوتها وقداستها ... ولكن النتيجة على أية حال هي أن ستالين كان صاحب الكلمة العليا في البلاد ...
وتسجيل هذه الحقيقة يغنينا عن تقصي نظام الحكم وأجهزته في عهد ستالين، فقد كانت الأنهار كلها على أية حال تنبع منه.
وقد قال لي كثيرون ممن تحدثت معهم: إن ستالين حتى سنة 1939 كان محبوبا من فريق، ومكروها من فريق، ولكنه كان مهابا من الجميع.
وكان طبيعيا أن أسأل: لماذا كان مكروها ... من فريق؟ فأجابني من سألت: إن اسمه قد اقترن بكل الإجراءات العنيفة القاسية التي اقتضتها الثورة، ثم اقتضاها وضع النظرية موضع التطبيق. فقد اقترن اسمه بإعدام عدد كبير من أبرز زعماء الثورة نفسها مثل: زينوفيف وكامينيف وبوخارين، وبالمحاكمات الدامية وحركات التطهير الواسعة التي قضى فيها على الذين كانوا يعارضونه من اليسار ومن اليمين على السواء، والمعتقلات التي فغرت فاها لتتلقى الآلاف، ثم بالمذابح التي صاحبت تحويل الملكية الفردية في الريف إلى ملكية جماعية.
واخترت شيوعيا محتمسا ممن كنا نحتك بهم طوال الرحلة لكي أناقشه في هذه النقطة ...
قال لي: إن كل ثورة لها الديكتاتور، أو الدكتاتورية التي تضع مبادئها موضع التطبيق، ولو كان التطور والتغيير يتم سلميا وبالإقناع لما كان هناك داع لأي ثورة، ولكن الأمر الواقع في تاريخ كل البلاد أن كثيرا من التغيرات التقدمية تمت بطريقة الثورة ...
والثورة معناها عمل عنيف يستهدف تحطيم كيان قديم يدافع عن نفسه بالعنف أيضا ...
لقد عرفت الثورة الإنجليزية دكتاتورية كرومويل، وعرفت الثورة الفرنسية دكتاتورية اليعاقبة، والثورة الأمريكية دكتاتورية جورج واشنجطون، وكل ثورة من هذه الثورات أو كل دكتاتورية من هذه الدكتاتوريات كانت تضطر إلى إنكار حق الحرية على القليلين الذين قامت الثورة ضدهم، من أجل الكثيرين الذين قامت الثورة لحسابهم ...
إن ما صنعه ستالين ليس جديدا في تاريخ العالم؛ إنه قديم تستطيع أن تجده في تاريخ أي ثورة ... (18-1) بين ه. ج. ويلز وستالين
وكأن هذا الرفيق الذي سألته أراد أن يدعم دفاعه فقدم لي كتيبا صغيرا مطبوعا في إنجلترا عن النص الرسمي للحوار الذي دار بين ستالين وبين الكاتب الإنجليزي ه. ج. ويلز عندما زاره هذا الأخير في الكرملين سنة 1935.
وتعقيب على هذا الحوار بقلم جورج برناردشو: «لقد دار الحديث بين ه. ج. ويلز وستالين حول هذه النقطة بالضبط، كان ويلز يرى أن التطور البرلماني العادي كفيل بأن يحقق أي تغيير اجتماعي أساسي، وكان ستالين على العكس من ذلك يرى أن النظم القديمة في العادة لا تسلم معاقلها للنظم الجديدة في هدوء ...»
ولست أذكر ما قاله ستالين بحروفه، وأنا الآن أكتب من الذاكرة فحسب، ولكني أذكر أن ستالين قال ما معناه: إن النظم القديمة تدافع عن كيانها بكل الوسائل ... بالحرب والقوة المسلحة، بالسجون والمؤامرات وبالاغتيالات ... فكيف تريد من النظم الجديدة أن يقابلوا هذا كله؟ ... هل يقابلونه بالكلمات الجميلة فحسب ... أم بنفس السلاح العنيف؟ ...
وأذكر أيضا أنه قال ما معناه: إن الرجعية في دفاعها عن نفسها تحمل السلاح قبل أن يحمله التقدميون الذين يطالبون بالتغيير ... وإذا حمل خصمك السلاح فلا بد لك أن تحمله! ...
على أية حال فقد كان لا بد لستالين أن يتحمل كراهية الكثيرين له، وحقدهم عليه، ما دام قد صمم على أن يمضي بفلسفته مهما كان الثمن ... (18-2) الإله ... ستالين
ولكن ستالين خرج من الحرب الأخيرة محاطا بهالة ضخمة من التقدير؛ إذ اقترن اسمه أولا وقبل كل شيء بالنصر العسكري، وبكل الانتصارات التي أحرزتها روسيا في ميدان السياسة العالمية منذ نهاية الحرب، وبالمكانة الدولية الهائلة التي قفزت إليها روسيا خلال فترة قصيرة.
وقد سألت فتاة روسية مثقفة: ماذا كان شعورها عندما سمعت لأول مرة نبأ وفاة ستالين؟
وقالت الفتاة: لقد بكيت، ومرت بي فترة من الذهول، فقد نشأنا جميعا لنجد ستالين يصنع كل شيء، كان لا يقول شيئا إلا ويحققه، وفي موعده، كأن إرادته قدر لا يقبل التغيير أو التأجيل ...
كان يقرر تحويل الزراعة إلى نظام المزارع الجماعية فتتحول مهما كان الثمن، كان يعلن أن الإنتاج سيزيد في مدة كذا بمقدار كذا فتتحقق الزيادة، كان يؤكد اقتراب النصر والألمان يقتربون من موسكو، فيتحول التيار ويقترب النصر ... فأصبحنا نظن أنه شخص خارق خارج على نواميس الطبيعة، لا يموت!
وقد ساعدت الدعاية المركزة على شخص ستالين في خلق هذه الصورة الإلهية له! فأنت في موسكو أو في غيرها من مختلف بلاد الاتحاد السوفييتي لا تجد شارعا أو مبنى أو مصنعا أو مدرسة تخلو من صورة لستالين أو تمثال له ... حتى في بيوت الحضانة للأطفال الصغار تجد صورة ستالين معلقة في كل حجرة، قريبة من الأرض بحيث يراها الأطفال الذين لم يبلغوا ثلاث سنوات من العمر بعد، أو تجد تمثالا له وهو يحمل طفلا صغيرا في هذا الركن أو ذاك! ...
دعاية ضخمة لا أظن زعيما أو حاكما تمتع بها قط.
لقد زرت في الاتحاد السوفييتي ستة مصانع، خمسة منها كانت تحمل اسم ستالين، وفي مباراة كرة القدم التي شهدتها كانت صورة ستالين في حجم هائل تشرف على الملعب كله!
وفي مصيف هادئ مثل «سوتشي» كنت أجد تمثال ستالين في أصغر الحدائق وأخفى الخمائل ينصت إلى تنهدات العشاق!
وعند مدخل قناة «الفولجادون» كان هناك تمثال ضخم جدا لستالين، قطر القبعة التي يحملها في يده متر وعشرون سنتيمترا!
وقد صنعت هذه اللوحات والتماثيل كلها قبل أن يموت ستالين!
وقد خيل إلي أن ستالين كان هو الموضوع الرئيسي لإنتاج الفنانين في الرسم والنحت خلال حقبة طويلة من الزمن!
ولينين يشارك ستالين في كثير من الصور والتماثيل والأسماء، ولكنه لا يساويه ...
إن ستالين في نظر الروسي العادي إنسان خارق للعادة ... وهو من أجل ذلك يقول لك: إن ستالين لا يمكن أن يتكرر، ومن أجل ذلك فإن النظام بعد ستالين يجب أن يتغير.
فهل يتغير النظام حقا؟
وإلى أي اتجاه؟
أعتقد أن الشعور بالحاجة إلى التغيير قد بدأ قبل أن يموت ستالين، ربما منذ نهاية الحرب الأخيرة ... ا.ه. •••
وتساءل والتر بيدل سميث سفير أمريكا السابق في موسكو هو أيضا هذا السؤال: هل من الممكن الوصول إلى تفاهم مع ستالين؟
هل هو ديكتاتور مطلق مماثل لهتلر وموسوليني، أم أنه أسوأ منهما؟ منطو بينه وبين نفسه على نية غزو العالم، ومسئول عن سياسة الاتحاد السوفييتي العدائية ضد أمريكا التي كلفتنا كثيرا من الوقت والجهد والمال، وأنزلت بالعالم بعد الحرب الخوف المفزع المثبط من قيام حرب أخرى؟
أم أنه على العكس زعيم أقلية داخل المكتب السياسي السوفييتي تميل إلى الغرب وتود الوصول إلى ترتيب معقول معه ينفذ بإخلاص كامل لضمان سلام العالم إلا أنه لا يستطيع ذلك؛ لأن أغلبية الأصوات تجيء في جانب الزملاء الآخرين في الهيئة الخاصة الحاكمة داخل الكرملين؟
هذه الأسئلة ألقيت علي مئات المرات منذ عدت إلى الولايات المتحدة، وهي تعكس التيارات المتضاربة في الرأي العام الأمريكي ... وقد تدرج هذا الرأي العام من نظرة يائسة لحفنة من المتطرفين ينظرون إلى ستالين على أنه ديكتاتور مطلق معاد، ويعتقدون أن حربا رادعة هي الحل الوحيد ... إلى تمنيات عند الآخرين يصورونه كزعيم يعمل لصالح الغير، فإذا ما منح بعض التشجيع استطاع إقناع زملائه بأن يتخلوا عن سياستهم الفكرية الأساسية لسيادة الشيوعية في العالم، ويجعل من الممكن قيام سلام وطيد دائم على أساس من التعاون الدولي.
لقد كان مكتبي في السفارة الأمريكية بموسكو طيلة ثلاث سنوات يطل على «يوخافا بلاتزا» المجاورة لجدران الكرملين مقر السلطة السوفييتية، ومع ذلك فإنني لم أخترق هذه الجدران لعمل رسمي إلا أقل من عشرين مرة في هذه السنوات الثلاث ، وتحدثت مع ستالين حديثا طويلا أربع مرات فقط، ومع ذلك فإن أربعة أحاديث طويلة مع ستالين واجتماعا أو اثنين معه كانت أكثر مما حصل عليه أي دبلوماسي آخر في الفترة التي قضيتها في روسيا.
وهذه الفرص التي أتيحت لي لمقابلة زعيم الشعوب السوفييتية وجها لوجه مع دراسة دقيقة لما قاله وفعله خلال السنوات الأخيرة تجعل من الممكن التفريق بين ستالين «الحقيقة» وستالين «الأسطورة»، ولقد كونت عدة أحكام عن ستالين في العام التاسع والستين من حياته، والخامس والعشرين من حكمه.
فهو مثلا ليس ديكتاتورا مطلقا، وهو كذلك ليس أسير المكتب السياسي، ويمكنني أن أقول: إن مركزه أكثر من مجرد رئيس للوزارة، وإن رأيه هو القاطع، وقد توجد بلا شك انقسامات في السياسة، وأحزاب في داخل المكتب السياسي، ولكن ليس بين الأعضاء واحد ضد ستالين، فكل خصومه قد صفى حسابهم، فنفوا أو «أعيد تعليمهم»!
والسياسة الخارجية العدوانية والتوسعية للاتحاد السوفييتي في فترة ما بعد الحرب هي سياسة ستالين، ولم يكن ممكنا في ظل النظام السوفييتي الحاضر أن توضع موضع التنفيذ وتستمر دون موافقة ستالين واعتماده، ولذلك يجب أن ينظر إليها باعتبار أنه بطلها لا مجرد مؤيد متردد لها.
وعندما يقول ستالين للسياسيين الأجانب أو الصحافة الأجنبية بأن من الممكن أن تعيش الرأسمالية والشيوعية جنبا إلى جنب في سلام فإنه يناقض نفسه، أو أنه لا يعني ما يقول؛ فإنه في خطبه وكتاباته لزعماء الحزب الشيوعي يكرر تأكيد نظرية لينين الأساسية القائلة بأنه لا مناص من أن تقوم في المستقبل معركة بين الاتحاد السوفييتي والرأسمالية التي تحاصره. (19) ستالين ... كما رأوه
كان المستر أريك جونسون، رئيس الغرفة التجارية بالولايات المتحدة أحد القلائل الذين تمكنوا من مقابلة ستالين في عام 1944، ودامت مقابلته لسيد روسيا حينئذ نحو ثلاث ساعات، وقد كتب وصفا شائقا لهذه المقابلة التي تعتبر من أطول المقابلات التي سمح بها ستالين، أو أي زعيم آخر لضيف من ضيوفه.
ونحن ننقل هنا بعض ما جرى في هذه المقابلة من أحاديث كما سجله حينئذ مستر أريك جونسون نفسه في وقت كانت فيه العلاقات بين روسيا وأمريكا على خير ما يرام! وسوف يلاحظ القارئ أن هذا الوصف رغم ما مر به من زمن فإنه لا شك ينطبق في كثير من المواضع تمام الانطباق على الوقت الحاضر ...
وها هو أريك جونسون يتحدث عن مقابلته لستالين: «إن ما يعرفه العالم عن روسيا قليل، وما يفهمه من شئونها أقل من القليل، في حين ينبغي للناس أن يعرفوا عنها أكثر مما يعرفون، وأن يفهموها أكثر مما يفهمون، وإنني لأعترف بأن ما أعرف وأدرك من أمورها نزر يسير، فإنها بلاد واسعة مترامية الأطراف، كثيرة التعقيد، شديدة الغرابة. ثم إن للأمم الأخرى أسلوبا في التفكير يختلف عن أسلوبها.
وقد قطعت عشرة آلاف من الأميال في ستة أسابيع قضيتها ضيفا على الحكومة، مرتحلا أجوس خلال الأراضي السوفييتية، فعرفت كثيرا، ونبذت من الآراء التي كنت أعرفها أكثر مما عرفت، وقد وجدت «خبراء» الجاليات الأجنبية في موسكو يختلفون حتى على أبسط المسائل، على أنه من الإنصاف أن أسلم بأنه قلما تتاح لهم فرصة الاطلاع الصحيح؛ إذ قلما يسمح لهم بالخروج من موسكو.»
رجل غامض
وإذا حاولنا أن نعرف روسيا وجب علينا أن نعرف رجلا واحدا يتكلم ويعمل من أجل شعب الاتحاد السوفييتي، وهو أقوى شخص في العالم اليوم، ومع ذلك لا يعرفه العالم إلا معرفة يسيرة، ألا وهو المارشال جوزيف ستالين ...
وحتى المقابلات القليلة التي أتاحها للأجانب قلما نشر مما يدور فيها من الأحاديث إلا النزر الأقل، فكان من جراء ذلك تكاثف ضباب من الإشاعات والشكوك والمبالغات حول الرجل الذي أصبح «الرجل الغامض رقم 1».
مقابلة ليلية
وقد قضيت زهاء ثلاث ساعات مع ستالين في جناحه بقصر الكرملين، وأعتقد أنه من الخير لكي يستنير الرأي العام أن أخرج على السنة الجارية وأروي طرفا من الموضوعات التي تناولها الحديث.
وقد كان موعد المقابلة في الساعة التاسعة مساء؛ لأن العمل يقل في الكرملين أثناء النهار، ولكن أنواره تسطع متلألئة طول الليل وقد استقبلني في البناء المخصص لجناح ستالين عدد من كبار ضباط الجيش، وبعد تبادل التحيات المألوفة قادونا إلى حيث هبطنا في ممر دائر أبيض، كانت الأرض مصقولة لامعة، وفي وسطها بساط ممدود من المخمل، وكان سقف الممر ناعما صقلا مزودا بالأنوار المستورة، ولم يكن هناك من مظاهر الزينة سوى رجال أيقاظ من الحرس عند كل منحنى، وليس بينهم من تقل رتبته عن درجة «الماجور».
وسرعان ما دخلنا غرفة للانتظار، ونظرت إلى ساعة كهربائية في الحائط وسألت نفسي: ترى إلى متى يمتد بنا الانتظار؟ فقد علمتني التجارب أن رؤساء الدول اعتادوا ألا يحفظوا المواعيد، ولكن في الساعة التاسعة تماما فتح الباب وقال أحد ضباط الجيش الأحمر بصوت مرتفع: إن الماريشال ستالين يستقبلكم الآن!
ستالين ... الرجل!
وسار الرجل أمامنا إلى حجرة ذات بابين مطابقين بينهما نحو نصف متر تقريبا حتى لا يسمع أحد ما يجري في داخل الحجرة، وكانت غرفة رحبة مستطيلة، ورأيت رجلين وقفا في طرفها البعيد، وعرفت أحدهما؛ لأنني كنت قابلته من قبل وهو مولوتوف ... قوميسير الشعب للشئون الخارجية.
وكان الرجل الذي يقف إلى يساره هو الماريشال ستالين، وخيل إلي أنه ابتسم ابتسامة غامضة ونحن نتقدم إليه من أقصى الحجرة.
كان ستالين الحقيقي يبدو أكبر سنا من صاحب الصور التي رأيتها تزين المكاتب والمصانع والأماكن العامة في الاتحاد السوفييتي، فقد شمط شعر رأسه وخف، ووخط المشيب حاجبيه الأسودين الكثيفين وشاربه الكث.
وقد لاحظت أنه قصير؛ فقد كان أعلى رأسه يصل إلى طرف أذني الأسفل فقط، ولكنه ضخم الصدر، قصير الساقين.
وكانت سترته الرسمية متقنة التفصيل، وإن كان الكمان مفرطين في الطول حتى ليكاد أن يتدليان إلى أطراف أصابعه. وكانت السترة مصنوعة من القماش «الكاكي» الناعم الجميل، وقد وشيت أطرافها بالشريط الأحمر الرفيع، وعلى الكتفين شريطتان عريضتان مذهبتان تعلوهما شارة براقة ضخمة هي شارة الماريشالية.
وكان يحمل وساما واحدا، هو نجمة من الذهب معلقة في شريط أحمر هي شارة «بطل الاتحاد السوفييتي ».
وكان بنطلونه المكوي مثبتا في حذاء أسود شديد اللمعان.
يعبث على الورق!
وتم تقديمنا إليه، وكانت مصافحته عادية، ولكنه نظر إلي بعينيه الرماديتين نظرة سريعة فاحصة، ثم أشار بإجلاسي عند طرف مائدة طويلة مغطاة بقماش أخضر يحيط بها نحو 35 مقعدا، صنعت من أجود أنواع الخشب «الموجنه»، ودار فجلس أمامي، وتمثلت في ذهني وأنا أشهد مشيته وطول ذراعيه صورة الدب القطبي عندما يمشي قائما على ساقيه الخلفيتين!
وقد جلس إلى يمينه مولوتوف، وجلس إلى يساري مستر هاريمان ومستر بيدج، كما جلس المترجم الرسمي لوزارة الخارجية بافلوف في طرف المائدة.
وأخذت أتمعن في الحجرة وأنا على مقعدي، فهذه المائدة الكبيرة التي يكاد يبلغ طولها ثلاثين قدما تشغل حيزا كبيرا منها، ورأيت في أحد الأركان مكتب ستالين الضخم ومقعده الفاخر، وعلى الأرض بساط طويل أحمر اللون، وقد غطيت الجدران بخشب قاتم اللون إلى ارتفاع يبلغ ثلاثة أقدام ونصف قدم تقريبا، ويليه طلاء يميل إلى اللون الأصفر ويصل إلى السقف الأبيض الذي كان يتلألأ بالضوء المستور، وكانت الحجرة ملأى بالأثاث الجيد المتين، تتجلى فيها آيات الذوق السليم، وكان الأثاث يلمع كالمرايا الساطعة.
ولم يكد الماريشال ستالين يتخذ مقعده حتى تناول قلما أحمر من الرصاص وراح يرسم به عابثا في مفكرة من الورق الأبيض الكبير، وقد ظل خلال الحديث يرسم ذئابا ونساء وقصورا وأشكالا هندسية أخرى حتى تمتلئ الصفحة فيطويها بعناية من أسفلها إلى أعلاها، ثم يستأنف الرسم، ويكرر ذلك حتى تصبح الورقة أشبه بالشريط الضيق لكثرة الطي، فيلقي بها إلى السلة ثم يبدأ بورقة أخرى من جديد.
وقد لاحظت أن يديه مربعتان قويتان، وأظافره مقلمة ومطرفة، ولم ينظر إلي بل بدا شارد اللب منهمكا في الرسوم التي يخطها على الورق.
أما مولوتوف فكان يدخن وهو يحدق في وجهي بوجه مربع غامض السمات، كأنه رئيس قبيلة من الهنود الحمر، وكانت عيناه الزرقاوان اللتان لم تكفا عن التحديق في لحظة واحدة واسعتين أشبه بعيون الدمى المصنوعة من الخزف الصيني.
الحديث!
ومرت فترة ثقيلة محرجة ساد فيها الصمت، ولما لم يبدأ الحديث رأيت أن أبدأه أنا، وأنا أنقله من المذكرات التي دونتها في اليوم التالي عند طيراني إلى سيبيريا.
وقد بدأت الحديث بأن أبلغت ستالين تحيات عدد كبير من الأمريكيين، فقال وهو مستمر في الرسم على الورق: أشكرك!
وطلب مني كذلك أن أحمل إلى هؤلاء الناس أطيب أمانيه، وجاء اسم أحد أساطين الصناعة الأمريكية فقال: الله يرعاه!
وقلت بعد ذلك: إنني أود أن أعرب عن شكري لما لقيت من ترحيب ومجاملة في الاتحاد السوفييتي، كما ذكرت بأن زياراتي للصناعات السوفييتية المختلفة كانت ممتعة ومفيدة في وقت واحد.
فقال ستالين وهو يحدق في المائدة ويرسم عابثا دون أن ينظر إلى ما يرسم: ولم ذلك؟ قد تكون الصناعة الأمريكية أكثر متعة؟!
وبدأ يداخلني الشعور بأن هناك شيئا لا يرتاح إليه ستالين في هذا الحديث، فقلت: ربما كان هذا صحيحا من وجهة النظر الروسية، ولكننا في الولايات المتحدة نتوق إلى أن نعرف من دراستنا المباشرة مدى التقدم الذي بلغتموه.
فقال ستالين: لقد أسدت الولايات المتحدة إلى الصناعة السوفييتية خدمات جليلة، وقد أنشئت في الاتحاد السوفييتي مصانع كبيرة بواسطة المعونة الأمريكية، كما استعين في إنشاء بعضها بالخبرة الأمريكية ...
فقلت: نعم، لقد لاحظت ذلك يا ماريشال ستالين، وقد رأيت بالفعل آلات أمريكية في مصانعكم، وشهدت أساليب أمريكية وخططا أمريكية، وقد استعنتم بكثير من خبرة مهندسي الإنتاج الأمريكيين ...
لا يحب سماع النقد
ثم استطردت قائلا: ولكنكم ما زلتم تهدرون كثيرا من الجهود البشرية؛ ففي مدنكم المكتظة بسكانها اكتظاظا مروعا رأيت صفوفا طويلة من الناس تقف لتشتري الطعام، وفي ذلك إهدار لنشاط بشري أنتم في حاجة إليه، كما أنكم في حاجة إلى تحسين نظام التوسيع لرفع مستوى الكفاية والإنتاج؛ لقد استقدمتم حقا خبراء أمريكيين في الإنتاج، ولكنكم في حاجة إلى المشورة الفنية الأمريكية في التوزيع ... وإن عددا قليلا من خبرائنا في المخازن المسلسلة ...
ولم يتركني ستالين أتم هذه الجملة فقاطعني دون أن يرفع رأسه وهو ما يزال يرسم على الورق، وقال: وما هي هذه المخازن المسلسلة؟
وأخذت أشرح له نظام هذه المخازن الذي يتلخص في شراء البضائع بالجملة وتوزيعها بالجملة أيضا على سلسلة من الفروع متغلغلة في جميع القرى والمدن والولايات الأمريكية.
وأطرق ستالين برأسه ثم قال: ولكن لكي يكون هنا توزيع يجب أن يكون هناك ما يوزع! ...
بين روسيا وأمريكا
وأردت أن أبعث الأمل في نفسه فقلت: سيكون لديكم بعد الحرب ما توزعونه ...!
فسألني: وكيف عرفت هذا؟
ولم أستطع أن أتبين ماذا يكون ذلك الرسم الذي يخرج من قلمه العابث.
وقلت: لأن إنتاج بضائع المستهلك يزداد دائما بعد الحروب، ولعلك تذكر أنه على إثر حروب نابليون ظن كثيرون من الإنجليز أن بلادهم قد منيت بالدمار في حين أن إنجلترا كانت في ذلك الوقت على عتبة عهد من الرخاء منقطع النظير دام قرنا من الزمان كاد يخلو من أي حادث يعكر صفو السلام، ولذلك فإنه إذا أتيحت للعالم فرصة طويلة من السلام بعد هذه الحرب
12
استطاعت روسيا أن توجه طاقتها المطردة الزيادة إلى إنتاج بضائع الاستهلاك ...
وكان ستالين قد تململ في جلسته مرتين أو ثلاثا، بل لقد خيل إلي مرة أنني سمعته يتنهد، ولهذا غيرت موضوع الحديث وقلت: إن صداقة الشعبين الروسي والأمريكي ربما كانت ترجع إلى أيام ثورتنا؛ فإن دول أوروبا الأوتوقراطية لم تشأ في ذلك الحين أن تتبادل التجارة مع الولايات المتحدة، ولكن قيصر روسيا كان أول من تقدم للاتجار مع بلادنا الجديدة ...
وقاطعني ستالين والابتسامة على شفتيه: ذلك لأن القياصرة وجدوا من هذا السبيل بابا للحصول على المال!
فقلت: مهما يكن من أمر، فإن الصداقة العريقة بين شعبينا قد عادت عليهما بالفائدة في الماضي، وأعتقد أن التجارة بين روسيا وأمريكا سيتسع مداها بعد هذه الحرب ...
فقاطعني وهو لا يزال مطرقا وقال: إن الكساد يصيب الدول الرأسمالية بعد كل حرب، وسينزل بكم الكساد بعد هذه الحرب! ...
فتاة تتعذب!
وقلت له: ليس ذلك بالأمر المحتوم، على الأقل خلال عدة سنوات، وإذا أوتينا من الشجاعة وبعد النظر وسعة الحيلة ما يمكننا من استخدام المعلومات التي تجمعت لدينا فلربما استطعنا أن نتفادى أزمة أخرى من أزمات الكساد.
وقال معقبا: إنني لم أحدد تاريخا ...
وكان عند هذا الحد قد طوى ورقته بعناية بعد أن ملأها رسما، وشرع يرسم في وجه آخر صورة جديدة ذات خطوط مديدة مقوسة.
وكان قد طلب مني أن أختتم حديثي حتى تنتهي المقابلة إذا لم أجد من الماريشال ستالين اهتماما، كما كان بعضهم قد ذكر لي أن مقابلتي قد تستغرق نصف ساعة فقط. ونظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط البعيد فوجدتها تشير إلى التاسعة والنصف تماما، فهل أحاول أن أمهد طريق الخروج بلباقة وينتهي الحديث؟
وألقيت لمحة خاطفة على الصورة الأخيرة التي كان ستالين قد انتهى من رسمها على الورق وقلت له: يا ماريشال ستالين! إن هذا الرسم يبدو لي وأنا جالس هنا في مكاني كأنه صورة فتاة تتعذب، ولما كنت قد حدثتني بلهجة التأكيد عما سنصاب به من الكساد والضيق في أعقاب الحرب فإنني أرجو ألا تكون قد رمزت بصورة هذه الفتاة التي تتعذب إلى «مس أمريكا»! ...
وهنا ولأول مرة رفع ستالين بصره إلي، وحدجني بنظرة ملؤها الدهشة والتساؤل، ثم ما لبث أن ابتسم فجأة عندما نظر إلى الرسم الذي أمامه، وبدا عليه شيء من الحياء ثم قال: كلا، إنني أعبث ... ولا أحاول أن أرسم شيئا معينا ...
فقلت له: ربما لم تكن تحاول، ولكنك كنت تتحدث عن أزمات الكساد حديث الواثق بما يقول، وكان الشقاء واضحا على وجه الفتاة التي رسمتها حتى لقد خشيت أن تكون بين الأمرين علاقة!
فأجاب: كلا، لا علاقة بينهما إطلاقا! ...
ثم نحى الورق جانبا، ووضع القلم في مكانه وابتسم ابتسامة عريضة!
ظرف ستالين!
وقال ستالين: «ربما سمعت أنني كنت رجلا مرحا ودودا، ولكن السن يتقدم بي، وعلى عاتقي تقع جميع مشاكل الحرب ومتاعبها، ويجب أن أبحث المسائل التي تتعلق بالاتحاد السوفييتي كله ...»
ثم أشار بيده إلى الجالس عن يمينه وغمز بعينه وقال: وها هو ذا مولوتوف لا يزال مرحا ودودا، وليس لديه من سبب يجعله غير ذلك، وينبغي علي أن أبدو أكثر الناس مرحا وظرفا برغم متاعبي! ...
ولاحظت أن مستر هاريمان السفير يمد يده إلى جيبه ليخرج سجائره، وكنت قد سمعت أن الماريشال ستالين يفضل تدخين الغليون «البيب»، ولكنه لم يكن حتى هذه اللحظة قد دخن أو مس السجائر الروسية التي أمامه، فسألته قائلا: ألا تتناول سيجارة أمريكية يا ماريشال ستالين؟
ومد يده وتناول السيجارة التي قدمتها إليه وقال: أشكرك، إنني أحبها! ...
وأخذ يدخن منها بضعة أنفاس عميقة، ثم استطرد حديثه قائلا: «إن الحكومة السوفييتية وشعبها يقدران المعونة التي تلقيناها من الولايات المتحدة خلال هذه الحرب أعظم تقدير، وقد كانت آلات المصانع، ومواد التغذية، والطائرات التي أرسلتموها عظيمة القيمة، وقد ظفرت سيارات النقل التي وصلت إلينا بتقدير خاص؛ فإن هذه السيارات هي التي مكنتنا من ملاحقة الألمان المدحورين بهذه السرعة. إن الشعب الروسي يكن للأمريكيين أعظم الاحترام والتقدير ...»
كان ستالين يفضل دائما العمل واستقبال زائريه بالليل. وهو يرى هنا بمكتبه في الكرملين ومن فوقه صورة كارل ماركس نبي الشيوعية الأول.
مظاهرة صينينة لستالين!
وقاطعته قائلا: إننا نحن الأمريكيين ننظر إلى الانتصارات الروسية المجيدة بأعظم الإعجاب ...
وقال ستالين: ونحن من جانبنا مبتهجون بغزو الحلفاء الموفق لأوروبا؛ لقد وفقتم إلى عمل حربي باهر بإنزال قوات كبيرة على الساحل الأوروبي الذي كان يسيطر عليه العدو، حتى لقد أدركت ألمانيا الآن أنه لا سبيل إلى ممارسة حرب ضروس واسعة النطاق بغير أسطول، وقد كان من الحماقة أن يثير الألمان حربا كبرى بلا أسطول، وأنت لا تستطيع أن تملك أسطولا تجاريا بغير أسطول حربي، كما أن الأسطول الحربي لا يزدهر وحده، بل يجب أن يكون إلى جانبه أسطول تجاري يغذيه بالرجال ...
فأجبته قائلا: هذا صحيح يا ماريشال ستالين، وإن الحديث عن الأسطول التجاري ليذكرني بالرغبة في أن أتحدث إليك كرجل أعمال بشأن مشاكلنا التجارية المشتركة، وأحب أن أسأل: هل تريدون أن تشتروا بعد الحرب بضائع استهلاك أم معدات صناعية؟ وقد فهمت مثلا أن الجلود تنقصكم، ونحن نصنع أحذية رخيصة في أمريكا ، فهل تفضلون يا ترى في مثل هذه الحالة استيراد أحذية مصنوعة في أمريكا، أم استيراد جلود وآلات لصنع الأحذية عندكم؟
الرأسمالية والذهب!
فقال ستالين: ربما استوردنا بعض الأحذية، ولكن مطلبنا الأساسي هو استيراد الآلات التي تمكننا من صنع الأحذية هنا؛ إننا سنحتاج بعد هذه الحرب إلى كثير من المعدات والآلات ...
كان ستالين يحدجني بنظراته، وكان يجيب على أسئلتي بصوت خفيض متزن، وكانت جمله موجزة، ولم يكن يبحث عن كلمات أو ألفاظ؛ ولذلك لم يتردد عند أي جواب.
وسألته: كم تريدون أن تبتاعوا من الآلات الثقيلة من أمريكا؟
فأجاب: أي قدر منها ... تبعا لمدة التقسيط والشروط التي تتقدمون بها، وسيسدد ثمن كل شيء في موعده المحدد طبقا لشروط العقود ...
فأجبته قائلا: إنني واحد من أولئك الأمريكيين الذين يؤمنون بفكرة منح قروض طويلة الأجل للاتحاد السوفييتي، ولكن للتجارة طريقان: غاد ورائح، فيهمني أن أعلم ماذا يستطيع الروس أن يرسلوا إلى أمريكا من البضائع؟
ونظر ستالين إلى السقف برهة، ومر بأنامله على شاربه ثم قال: إن لدينا صنوفا متعددة من المواد الخام، فهل تريدون منجنيزا؟ إن لدينا منه مقادير كبيرة، وفي استطاعتنا كذلك أن نعطيكم الكروم والبلاتين والنحاس والزيت ... وهناك فوق هذا الخشب ولب الخشب لصناعة الورق ...
ثم استطرد قائلا: ربما احتجتم إلى الذهب، ونحن نستخرجه بمقادير كبيرة، وفي استطاعتنا أن نزيد هذه المقادير كثيرا بعد الحرب.
ونظر إلي بعد ذلك في شيء من السخرية الغامضة وقال: إن معظم الدول الرأسمالية تحتاج إلى الذهب!
وقلت له: لا أستطيع أن أجزم بأن الولايات المتحدة ستهتم في المستقبل بزيادة رصيدها من الذهب لمجرد دفنه في الأرض على نحو ما فعلنا في الماضي بخمسة بلايين من الدولارات الذهبية دفناها في قلعة نوكس! ...
ومد ستالين يده لكي يتناول سيجارة أمريكية أخرى قدمتها إليه وهو يواصل الحديث، فقال: إن الإنتاج السوفييتي للمواد الخام التي تصدر إلى الولايات المتحدة سيعدل طبقا لحاجات الولايات المتحدة، وفي استطاعتنا أن نقدم أي مقدار تريدون إذا استطعتم إمدادنا بالمعدات اللازمة لإنتاجها، ولهذا ترانا حريصين على الحصول على قروض طويلة الأجل، وإن كان في استطاعتنا أن نستغني عنها، ولكن النتيجة في حالة الاستغناء عنها ستكون أبطأ.
فأجبته قائلا: إذا أرسلنا إليكم شتى أنواع المعدات وبعناها بأقساط طويلة الأجل، فكم يستغرق إتمام برنامجكم الخاص بالتصنيع؟ ...
فقال الماريشال ستالين وهو يؤكد بحركة من يده ما يريد أن يقول: مثل هذا البرنامج لا يمكن أن ينتهي؛ إن بلادنا واسعة الرقعة، فهي تعادل مساحة الولايات المتحدة مرتين ونصف تقريبا، وحاجاتنا عظيمة، ونمونا ضئيل، حتى إنني لا يمكن أن أتكهن بالوقت الذي نبلغ فيه كفايتنا من أي شيء، وقد وضعنا قبل الحرب مشروع السنوات الخمس، فكنا كلما أنتجنا ما نحتاج إليه ازداد شعورنا بما نفتقر إليه، وسيكون أول واجب علينا بعد انتهاء الحرب أن نعيد تعمير مناطقنا المخربة؛ فقد دمرت مدن بأكملها، وحتى المصانع الباقية لا بد من تعديلها وإصلاحها بعد ما تبين لنا من أن كثيرا مما أعد كان ناقصا ...
الإنتاج والتصدير
وقلت له: يا ماريشال ستالين، كم يلزمكم من الوقت حتى تصبحوا مصدرين، لا للمواد الخام فقط، بل وللبضائع المصنوعة أيضا؟
فقال ستالين: لن يكون ذلك قريبا؛ إذ إن أمامنا حاجات بلادنا، وهي بالغة الكثرة، عظيمة الضخامة، ولم يحدث قط أن اشتبك الاتحاد السوفييتي في صراع على الأسواق الخارجية، وسياستنا تقضي بألا نصدر سوى البضائع التي ترتبط ارتباطا مباشرا بوارداتنا، ومثال ذلك: البضائع الخام التي ندفعها مقابل الآلات الثقيلة ...
وفي هذه المرحلة كان الحديث قد بلغ حده من السرعة والحرارة، وكان يجيبني على كل سؤال إجابة كاملة سريعة، فقد سألته: وماذا عن صناعة الصلب السوفييتي؟ ماذا كان إنتاجكم فيها قبل الحرب؟ وكم يبلغ الآن؟ وماذا يكون مستقبلا؟ ومتى تصل روسيا إلى أن تكفي نفسها بنفسها في هذه الصناعة؟
وذكر ستالين الأرقام من فوره فقال: لقد كان إنتاجها قبل الحرب 22 مليون طن، ولكن كثيرا من مصانعها قد دمر بواسطة النازي، وربما بلغت هذا العام 12 مليون طن، ويجب أن تزيد بعد الحرب حتى تصل إلى 60 مليون طن.
فسألته: وماذا تصنعون بالمقادير الزائدة من الصلب؟ هل تصدرون بعضها؟
فأجاب ستالين: لا! فإننا سنضاعف شبكة خطوطنا الحديدية، وسنبني جسورا، كما سنحتاج للفائض في التعمير والإنشاء، وسيمضي وقت طويل قبل أن تستوفى حاجة السوفييت إلى الحديد والصلب.
وتحدثنا بعد ذلك عن إنتاج الطاقة الكهربائية، وكم كان؟ وماذا يبلغ اليوم؟ وقد تبين لي أن مهمة التعمير في روسيا تبلغ من المشقة حدا لا يكاد يصدق. وتناقشنا كذلك في بعض أرقام الإنتاج الأخرى. ثم قلت: يخيل إلي أنكم تحتاجون في كل هذه البرامج إلى المعونة الفنية الأمريكية نفس حاجتكم إلى الآلات الثقيلة.
فقال ستالين: سنحتاج إليهما معا بالطبع، وقد تعلم المهندسون السوفييت كيف ينشئون مصانع حسنة، ولكننا مع ذلك نحتاج إلى معونة فنية ...
فسألته: وهل تفكرون في الانتفاع بمشورة أفراد تستخدمونهم، أم تراكم تفكرون في التعاقد مع شركة أمريكية على أن تبني لك المصنع وتتحمل مسئولية إنشائه؟
فأجاب ستالين: سيتوقف ذلك على المال والثمن ونوع الآلات وشروط الاتفاق، وسيبت في كل حالة على حدة.
سعة اطلاع
ومضيت في مناقشة الإنتاج الصناعي، وأوضحت له كيف أن التحسينات التي أدخلت على العمل من ناحية الإدارة والخبرة الفنية قد زادت الإنتاج في الولايات المتحدة نحو ثلاثة في المائة لكل رجل، وأن هذا الإنتاج يمكن أن يستوعبه قوم يرتفع مستوى معيشتهم باطراد، وقلت له مدللا على صدق هذه النظرية: «إن ما يعتبر اليوم ترفا بالنسبة لأحد الأمراء سوف يعتبر غدا من الضروريات للفلاح!»
وضحك ستالين لهذه العبارة الأخيرة وقال: «هذا مثل حسن جدا؛ إن لشعبنا مطالب كثيرة لا تقابلها إلا فرص قليلة لإشباع هذه المطالب، ولا يزال إنتاج كثير من الأشياء ضعيفا عندنا ...»
ثم هز رأسه واستطرد قائلا: إن إنتاجنا من المخارط والأدوات الزراعية قليل إذا قيس بحاجتنا إليها، ولم تزل صناعة السيارات عندنا في دور الطفولة، وأنتم - مثلا - كنتم تنتجون قبل الحرب 5000000 سيارة في العام، بينما كان إنتاجنا نحن يتراوح بين 350000 و450000 فقط.
وعلقت على هذا قائلا: ومعنى ذلك أن هناك مجالا كبيرا للتوسع في هذا الميدان .
وقال ستالين في لهجة المفكر المتأمل: نعم! إن الآمال عظيمة ولكن الفرص لمثل هذا التوسع قد لا تكون مواتية الآن، فإن علينا - مثلا - أن نبدأ بإنشاء الطرق في شتى أنحاء الاتحاد السوفييتي ...
ثم استطرد قائلا: أما أنتم في أمريكا فإنكم تنتجون الآن نحو 100 مليون طن من الصلب، في حين كنتم قبل الحرب تنتجون 66 مليون طن فقط. فماذا أنتم فاعلون بالفائض الذي يبلغ نحو 30 مليون طن؟
فأجبته قائلا: إننا نتوقع توسعا في الأسواق، وقد صرح أحد كبار صانعي السيارات عندنا بأن إنتاج السيارات الأمريكية سيزيد حتى يصل إلى سبعة ملايين سيارة سنويا؛ أي: ما يزيد بنسبة 40٪ على إنتاج ما قبل الحرب، وستزداد حركة بناء المنازل، وتظهر الحاجة إلى أنواع كثيرة جديدة من المنتجات، وربما ازدادت طلبات تصدير الصلب بمختلف أنواعه زيادة كبيرة.
وقال ستالين: ولكن مجموع صادراتكم قبل الحرب لم يكن يزيد على عشرة في المائة من إنتاجكم؟
فأجبته: أعتقد أن صادراتنا لم تزد على سبعة في المائة!
13
أليس ذلك قليلا بالقياس إلى البريطانيين؟ إن نسبة صادراتهم كانت أكثر من 40٪، ربما كانت هذه نسبة غير عادية بل خطرة. على أن أعظم مشكلة ستواجه الشعب الأمريكي بعد هذه الحرب هي تفادي البطالة درءا لأزمة أخرى من أزمات الكساد.
ليعرف كل منا صاحبه!
وقلت: هذا حق يا ماريشال ستالين، يجب أن نخلق أعمالا جديدة بالتوسع في إنتاجنا وقت السلم، وإن فترة طويلة من السلام لأكبر أثرا من أي شيء آخر في تنمية الإنتاج وضمان العمل الثابت، وإن التفاهم المتبادل بين بلدينا لخليق أن يساعد على ضمان السلم العالمي مساعدة تفوق كل حد، صحيح أن كلينا يعمل في ظل نظام اجتماعي واقتصادي شديد التباين والاختلاف، ولكن ليس بيننا من وجوه الخلاف ما يستعصي حله، نحن نحب نظامنا وأنتم تحبون نظامكم، فعلى كلا البلدين أن يعقد العزم على ألا يتعرض لشئون الآخر الداخلية، يجب أن تعرفوا عنا أكثر مما تعرفون، ويجب أن نعرف عنكم أكثر مما نعرف ...
فأجاب: هذا صحيح، ويجب على أمثالك من الرجال أن ينقلوا معلوماتهم إلى الشعب الأمريكي ...
وقلت: ولكنني فرد واحد، أما الصحفيون الأمريكيون هنا في موسكو فيمثلون مئات من الصحف لها ملايين من القراء، وفي استطاعتهم أن يزيدوا الشعب الأمريكي اطلاعا على الحقائق إذا قدم لهم العون اللازم، وأبيح لهم نصيب أوفر من حرية التنقل، ومثال ذلك أن الشعب الأمريكي يتوق إلى معرفة شيء عن إمبراطوريتكم الصناعية الجديدة في جبال الأورال، ولكن لم يسمح للصحفيين بالذهاب إلى هناك، ولهذا السبب أجد في نفسي رغبة في أن ألتمس الإذن باصطحاب أربعة من مراسلي الصحف عند زيارتي للأورال.
فقال ستالين: ولم لا؟
فسألته: هل معنى ذلك أنني أستطيع اصطحابهم؟!
فقال: طبعا!
قلت: حسنا! أشكرك يا ماريشال ستالين، ولكني لا أعرف هل يوافق مستر مولوتوف أم لا؟ ذلك لأن وزارته لم توافق على طلبي بعد ...
وهنا تحول مولوتوف ببصره إلى ستالين بعد أن كان دائم النظر إلي، وقال في سرعة وحزم: إنني أوافق دائما على أوامر الماريشال ستالين.
فاتجه ستالين برأسه إليه، وارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة ثم قال: يا مستر جونستون، أكنت تتوقع حقا أن يخالفني مولوتوف في ذلك؟
فأجبت: لا! ولكني رأيت أن أحتاط بالسؤال على أي حال!
وألقى ستالين برأسه إلى الخلف، ثم عبر عن رضائه وسروره، وقال وهو يتجه إلي بالسؤال: والآن أود أن أوجه إليك بضعة أسئلة، فهل لك أن تحدثني عن الانتخابات القادمة في أمريكا؟ ...
فقلت مازحا: لعلي أستطيع أن أنبئك عنها خيرا من مستر هاريمان؛ ذلك لأنني من حزب المعارضة، إنني جمهوري!
فقال ستالين مرددا: أنت جمهوري!
وفتل شاربه وهو يبدي دهشته، ثم رفع أحد حاجبيه متعجبا، وانحنى إلى الأمام ليحملق في وجهي، ثم التفت إلى مولوتوف وقال له شيئا لم ينقله المترجم إلي ... وبعد ذلك اتجه إلي ستالين وأخذ يحدثني في صوت خافت وهو ينظر إلي: إذا أنت جمهوري! إننا لا نرى منهم كثيرين، بل ربما كنت أول من قابلت منهم ...
فقلت: إنك تعرف على الأقل واحدا آخر من الجمهوريين وهو ويندل ويلكي.
14
فأجاب ستالين مستدركا: هذا صحيح! وبهذه المناسبة كيف حال مستر ويلكي؟
فقلت: إنه بخير، وقد رأيته قبيل مغادرتي لنيويورك، وأبدى لي رغبة خاصة في أن أذكره عندك ...
فأجاب: أبلغه تحياتي، إنه رجل عظيم ...
وعندئذ سرح ببصره، وقد ظهرت في عينيه ابتسامة هادئة ثم قال: أظنه حانقا علينا بسبب ما نشرته عنه جريدتنا برافدا؛ لقد كان مقالها سخيفا جدا ...
فقلت: إنني لم أتحدث إلى مستر ويلكي في هذا الشأن، ولكنه قد تعرض لنقد صحف كثيرة، وأنا على يقين من أنه أعظم من أن يضيق صدره بمقال واحد في صحيفة روسية.
ومال ستالين مرة أخرى برأسه إلى الوراء، وأرسل تلك الضحكة الموقرة الخافتة، وقد وجدته في حديثي عليما بشئون أمريكا، ودهشت عندما عرفت أنه يقرأ ترجمة الصحف الأمريكية، ولكنه كان في شك من أمر سياستنا بعد الحرب؛ فقد سألني مشيرا إلى ما حدث بعد الحرب العظمى (1914-1918) قائلا: هل يرفض الكونجرس إبرام المعاهدات بعد الحرب؟
فقلت: لا أعتقد أن أي رئيس للولايات المتحدة سيعيد ارتكاب الخطأ الذي وقع فيه الرئيس ويلسون في أعقاب الحرب العظمى، فلا يتشاور مع الكونجرس في شأن مفاوضات السلم، بل الواقع أن وزير الخارجية، هل، قد استشار الكونجرس بالفعل في أهداف ما بعد الحرب.
فقال ستالين: هذه معلومة هامة!
ثم استطرد قائلا: إن الروس يعتقدون بالطبع أن للصناعة والتجارة شأنا حيويا في علاقاتنا بعد الحرب، على أن للعلاقات السياسية شأنا يعادله. إن القروض والاتفاقات الاقتصادية لا يمكن عدها مستقلة تمام الاستقلال عن الحكومة، ولهذا كان من الأهمية بمكان عند إعداد المشروعات أن تلاحظ فيها صفة الاستمرار، ويجب أثناء الحرب أن تقرر السياسة الخارجية كل شيء، وأن تخضع السياسة الداخلية لمقتضيات الحرب ما دامت مستمرة.
ونظرت إلى الساعة فإذا بها قد بلغت الحادية عشرة والربع مساء، وكان قد مضى على بدء الحديث أكثر من ساعتين كاملتين.
صورة ستالين
وقلت له: يا ماريشال ستالين! إن لي رجاء قد لا يتفق مع قواعد «البروتوكول»، ولكنك تعرف أنني رجل أعمال لا رجل سياسة، وقد يبرر هذا إجابتي إلى طلبي؛ إنني أرجو أن تسمح لي بصورة عليها توقيعك ...
فأجاب ستالين: ولم لا؟ أتريدها صورة لي وحدي أو لنا نحن الاثنين؟
قلت: إنني سأغادر موسكو في الساعة الخامسة صباحا، وقد لا يتسع الوقت لاستدعاء أحد المصورين.
ولكنه تجاهل ملاحظتي ونهض، ثم أدار زرا كهربائيا في الحائط غمر القاعة بالضوء الساطع، ثم ضغط على زر خلف مقعده ففتح الباب وظهر ضابط ألقى إليه الماريشال ستالين بكلمات موجزة لم يكد ينتهي منها حتى دخل الغرفة في الحال ضباط آخرون يحملون أنوارا كشافة وآلات التصوير ...
ووقف ستالين أمام مكتبه وأشار إلي أن أقف بجانبه، فاقترحت أن يظهر مستر هاريمان كذلك في الصورة، فدعاه الماريشال، وعندما وقف هاريمان إلى يسار ستالين وأنا إلى يمينه، قال هاريمان مداعبا: لعلها أول صورة لك وأنت بين جمهوري وديمقراطي!
فقهقه ستالين وهو يضحك ثم قال: نعم! وما كنت أتصور أن ذلك سيحدث يوما ما! تصور شيوعيا يوفق بين الجمهوريين والديمقراطيين!
وقلت: يجب أن يظهر مستر مولوتوف معنا أيضا في هذه الصورة.
فقال الماريشال ستالين بصوت منخفض وهو يغمز بعينه غمزة خفيفة: من الغريب أن مولوتوف لا يحرص قط على الظهور معي في صورة واحدة.
ولكنه مع ذلك دعاه إلى الظهور معنا في هذه الصورة.
وما لبث ستالين أن انتقل من المزاح إلى الجد.
في سبيل السلام
قال ستالين: إن هتلر الأحمق قد صنع خيرا واحدا؛ وهو أنه جمع بين الشعب الأمريكي والشعب الروسي، فعلينا ألا نسمح لشيء ما أن يفرق بيننا، بل يجب أن نعمل معا بعد الحرب ...
ثم استطرد قائلا وقد خفف قليلا من نغمة الجد الصارم التي اتخذها قبلا: إنني أحب أن أتعامل مع رجال الأعمال الأمريكيين؛ فأنتم قوم تعرفون ماذا تريدون، وأنتم تحفظون وعودكم، وخير من ذلك أنكم تبقون في مراكزكم طويلا، كما هي الحال عندنا. أما رجل السياسة فهو اليوم حاضر وغدا غائب، ولا بد حينئذ من إعادة الإجراءات مع قادم جديد ...
وأخيرا شكرت له دعاباته فقد كان شديد الظرف، وقلت له: إنني أرجو أن أعود لمقابلته بعد انتهاء الحرب كلية.
فقال الماريشال ستالين مداعبا: ربما وجدتني عندئذ في عداد الأموات، فاحضر قبل ذلك!
فأجبته مازحا: لا، أنت من جورجيا،
15
وربما عشت إلى الأبد.
فقال: حسنا، إذن فلتحضر لزيارتي بعد الحرب، وسنطلعك يومئذ على تقدم جديد في تطورنا الصناعي ...
وهز يدي هذه المرة بحرارة، واجتزنا البابين المطابقين وتركنا الحجرة من ورائنا وهي شعلة من النور، وصحبنا المختصون ونحن نجتاز الأروقة إلى أن استقبلنا الهواء الرطيب في ليلة من ليالي موسكو الصيفية.
وكان الليل قد انتصف، وبينما كانت السيارة تجتاز بنا شوارع موسكو، وكانت لا تزال تخضع لنظام الإظلام التام، كنت لا أزال متأثرا بحضرة هذا الرجل الذي استولى على مشاعري بصرامته وصراحته ودعابته، وقد وجدته عمليا إلى أبعد الحدود، قلما يستعمل في حديثه صفة أو صيغة من صيغ التفضيل المطلقة.
ومضيت أفكر في أنه حين يحل السلام ستكون روسيا والولايات المتحدة أقوى أمتين في العالم، وستملكان أكبر نصيب من قوة العالم الحربية والصناعية.
أجل، إن ستالين على حق، لقد جمعت الحرب بين البلدين، ولكنهما تواجهان تيارات عاتية من المشاكل العسيرة.
فهل تستطيعان المحافظة على السير في طريق التعاون والصداقة السوي بعد سحق العدو المشترك؟
ربما كان مصير العالم معلقا على الإجابة على هذا السؤال! (20) ستالين ... الإنسان
اختلف الكثيرون في وصف ستالين، ويظهر أن الشعور الشخصي كان له أكبر الأثر في هذا الاختلاف؛ فإن بعض الذين قابلوه من كتاب الغرب وصفوه بالدمامة، وبأن آثار الجدري قد شوهت وجهه.
ومع ذلك فإن سفير أمريكا الأسبق المستر والتر بيدل سميث الذي قابل ستالين عدة مرات قال: إنه ليس بأية حال شخصية غير جذابة كما وصفه البعض، بل أكد أنه ذو سحر طبيعي عندما يريد أن يظهر هذا السحر. وقال: إنه ليس بالطويل وإنما هو ربع، منتصب القامة، يوحي لمن يراه بأنه يتمتع بصحة جيدة على الرغم مما أشيع عدة مرات من أنه يشكو من مرض القلب. ويقول بيدل سميث: إنه لاحظ بصعوبة وجود آثار الجدري على وجه ستالين.
وكانت أعظم قسمات وجهه جاذبية ... عيناه الحادتان السوداوان، اللتان تضيئان عندما يكون ثمة أمر يهمه، وفيهما يقظة وتعبير وذكاء، وهو هادئ وبطيء وواثق من نفسه. وعندما يحتد في المناقشة، وهو لا يحتد إلا عندما يريد ذلك، يبدو في قوة، وإذا زادت حدته صار فظا. وقد وصف نفسه مرة فقال: إنه رجل عجوز فظ!
وكانت تبدو عليه في السنوات العشر الأخيرة علامات تقدم السن، ولم يكن غريبا بعد أن تحمل من الأعباء ما لم يتحمله حاكم آخر في العالم، وقد فرض عليه الأطباء في السنوات العشر الأخيرة من سنه نظاما صارما للغذاء والتنقلات حتى حرموا عليه السفر الطويل سواء بالبحر أو الجو، وقد أطاع أوامرهم.
وكان ستالين رجلا دقيقا جدا، شديد الاهتمام، يبحث التفاصيل، وفحص أصغر العوامل شأنا في الحياة العامة، وفي هذا كان يختلف عن كثير من الحكام الطغاة ... وكان ستالين يقرأ جميع رسائل الإعجاب التي تصل إليه من أفراد الشعب، وكان إذا بدأ برسالة قرأها حتى آخر كلمة فيها ...
ولم يكن خطيبا يعرف كيف يؤثر في الجماهير، بل كانت خطبه أشبه بخطب رجال الأعمال لولا أنها طويلة، ملأى بالتعاليم والوصايا.
وكان بطيء الذكاء، ولكنه كان شديد الجرأة، اعتنق المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الواسطة؛ ولذلك فإن عمليات القتل الفردي أم الجماعي كانت عادية بالنسبة له؛ حتى ليقال: إن زوجته الثانية راعها ما تراه من بساطة قضاء ستالين على أعدائه وأصدقائه على حد سواء، وكان ذلك من أسباب انتهاء حياتها هي الأخرى بسرعة مريبة.
وفي عام 1922 أصبح سكرتيرا عاما للحزب، وهو المنصب الذي ساعده على توجيه الجهاز الحزبي ضد أعدائه، وفي عام 1923 بدأ لينين يشعر بالقلق من ناحيته فكتب يقول:
إن الرفيق ستالين يقبض على سلطة ضخمة ... ولست واثقا إذا كان يعرف دائما كيف يستعمل هذه السلطة ...
ومات لينين، وبقي ستالين لكي يصفي حسابه مع الملايين الذين قضى عليهم، ومن بينهم عدد من ضباط الجيش الأحمر وأسطوله لا يقل عددهم عن 30000.
وقد تميزت حياة ستالين بمقدرته الفائقة على استعمال «الموت»، وهو أنجح الأسلحة التي يمكن لإنسان أن يستعملها ضد خصمه، ومن وقت لآخر كان الموت الطبيعي يزيل من طريقه بعض الخصوم، ولكنه في معظم الأحيان كان يتسنم درجات السلطة فوق جثث الأصدقاء بعد أن يقضي عليهم بنفسه، وكان يستعمل سلاحه علنا؛ ففي عام 1918 وعد «بنشر الذعر الجماعي ضد البورجوازية «الطبقة الوسطى»».
لم يكن ستالين خطيبا ولكنه كان يعرف كيف يقنع!
ولم يكف ستالين عن القتل طوال حياته، وكان يصدر أوامره الخاصة بذلك في هدوء كأنه لم يكن ثمة مناص من ذلك، وكأن تلك الأوامر التي تصدر كانت منزهة عن الأهواء الشخصية.
وقد كتب عنه تروتسكي مرة يقول: إنه انتهازي ... يمسك قنبلة في يده!
وقد التمس له كثيرون من الكتاب والنقاد في خارج روسيا العذر على ما أصدر من أوامر بالإعدام، وقالوا: إن القتل كان خطوة ضرورية لإقامة فردوس الشيوعية على الأرض!
وقد حدث في عام 1934 لما استبد القلق بين البلشفيك أن قتل كيروف زعيم الحزب في ليننجراد وأحد أنصار ستالين وأعوانه في المكتب السياسي، وانتقل ستالين عندئذ بنفسه إلى مسرح الحادث وتولى الاتهام، وأمر بإطلاق النار على 117 من المشتبه في أمرهم دون محاكمة، كما أمر بنفي آلاف من أعضاء الحزب في ليننجراد إلى سيبيريا.
وكانت هذه هي بداية المذابح الكبرى والمحاكمات التي استمرت من عام 1935 إلى 1938، وراح ضحيتها عدد من زعماء البولشفيك ممن كانوا يخالفون ستالين في سياسته. ووصلت المذابح إلى الذروة في عام 1937 عندما كانت المحاكمات تجري في الخفاء.
ويروى أن لادي أستور سألت ستالين في يوم من الأيام: إلى متى تستمر في إعدام الناس؟
فأجابها بكل بساطة: طالما كان هذا ضروريا!
وحدث بعد أحد عشر عاما في سنة حالكة من سنوات الحرب، وهي سنة 1942، أن كان تشرشل يقضي ليلته الأخيرة في روسيا ودعاه ستالين في تلك الليلة لكي يتناول معه كأسا من الشراب.
وبعد أن تناول الاثنان كئوس الشراب وطعاما دسما متقن الطهي تخللته كئوس الأنبذة المعتقة، وبعد أن زالت الكلفة بينهما ... أخذ تشرشل يتحدث عن «تصفية» الكولاك والقضاء عليهم.
وقال له ستالين وهو يشير إليه بأصابعه العشرة: لقد كانوا عشرة ملايين ... لقد كان الأمر مرعبا ... استغرق أربع سنوات!
ويقدر عدد الذين قضى عليهم ستالين، بخلاف الكولاك، بنحو 7 مليون شخص ما بين قتيل ومنفي في سيبيريا، ولا شك أنه كان بين هذا العدد كثير من الأبرياء، كما كان بينهم قدامى زعماء الحزب البولشفيكي ممن كان يتمثل فيهم الخطر على زعامته وسلطته.
واستطاع هو نفسه بعد ذلك أن ينام نوما هادئا، فقد كان الجيل الجديد من أعضاء الحزب من طبقة الموظفين الضعاف الذين يتحكم فيهم الخوف، كان يميل إلى اختيار «الفعالين» المنفذين ويكره المفكرين والمتطلعين للمثل العليا والآراء النظرية.
أما ستالين نفسه فكان عبقريا في فن الإدارة، كما أنه كان ذا مقدرة عجيبة على تدارك أخطائه أو دفنها، ولا شك أن الأمر كان يتطلب مهارة خاصة في اختيار المخلصين، والبحث عن نواحي نبوغهم، ثم التغلب بعد ذلك على أطماعهم؛ إما بالمكافأة أو الإهمال، وإما بالمديح أو الإغراء، وإما ببث الأمل أو التهديد، وكان ستالين ماكرا يزن الأمور والتيارات المختلفة ويرقى دائما فوق الأحداث في غير تسرع.
ولم يفته، أو قل: إنه لم ينس زعيم اليساريين الذي كان يعيش بعيدا عنه في عالم آخر، فأرسل إليه شيوعيا إسبانيا اسمه ميركادير، وساعده أحد أعضاء الحزب الشيوعي في نيويورك، واشترك الاثنان في مقتل تروتسكي في مكسيكو سيتي، بعد أن ذرعا نصف الكرة الأرضية في سبيل الوصول إليه.
وكان من أظرف ما رواه خروشيشيف في خطابه المشهور الذي ندد فيه بستالين وكشف الستار فيه عن أساليبه، تلك القصة التي ذكر فيها أنه في إحدى المناسبات أثناء سفره مع بولجانين بالسيارة، قال له بولجانين هذه العبارة:
لقد كان يحدث أحيانا أن يذهب المرء إلى منزل ستالين بدعوة منه كصديق، ولكنه بعد أن يجلس مع ستالين لا يعرف إلى أين سيرسل به في نهاية الدعوة ... فهل يعود إلى منزله أم إلى السجن؟
ولم يكن للعاطفة تأثير على تصرفاته، بل لقد قال البعض: إنه إذا كان للصخر عاطفة فلستالين عاطفة ... وإذا كانت له أعصاب فإنها تجري في جلمود!
ومع ذلك فقد كان يبدو إنسانا حساسا في بعض الأوقات، ولما ماتت زوجته الثانية في عام 1932 لم يقم بإحراق جثتها، بل دفنها في قبر فاخر في دير «العذارى الجدد» الذي كان مقبرة للأرستقراطية القديمة. وأعد له مدخلا سريا خاصا، وكان يزوره بالليل، وقد برر البعض تصرف ستالين هذا بأن ضميره كان يؤنبه دائما على موت هذه الزوجة الثانية التي كان يحبها ...
وكان من العيوب التي نسبها خروشيشيف إلى ستالين «القحة»، فقد قال السكرتير العام للحزب الشيوعي في خطابه الذي هاجم فيه ستالين وأساليبه:
لقد استطاع لينين أن يكتشف في شخصية ستالين في الوقت المناسب تلك العيوب والخصائص السلبية التي أدت فيما بعد إلى نتائج خطيرة، وإذا كان لينين يخشى ما عسى أن يصيب الحزب والنظام السوفييتي بعد وفاته فقد حلل شخصية ستالين تحليلا دقيقا، وأشار إلى أنه من الضروري بحث مسألة إبعاده عن سكرتيرية اللجنة المركزية بسبب وقاحته البالغة، وافتقاره إلى حسن التصرف حيال رفاقه، وإساءته البالغة لاستخدام سلطته.
ففي ديسمبر من عام 1922 قال لينين في خطاب بعث به إلى مؤتمر الحزب: بعد أن احتل الرفيق ستالين مركز السكرتير العام للحزب أصبحت في يده سلطة غير محدودة، ولست متأكدا إذا كان يمكنه دائما أن يستخدم هذه السلطة بالدقة والعناية اللتين ينبغي أن تتوافر له ...
ولقد قال لينين أيضا في ذلك الخطاب: إن ستالين وقح جدا، ولئن كان هذا العيب أمرا يمكن التسامح فيه بين صفوفنا نحن أعضاء الحزب الشيوعي، فإنه عيب لا يمكن أن يكون موضعا للتسامح بالنسبة لرجل يشغل منصب السكرتير العام للحزب؛ ولهذا فإنني أقترح على جميع الرفاق أن يبحثوا مسألة إبعاد ستالين عن هذ المنصب وإحلال شخص آخر مكانه، على أن يكون هذا الشخص أولا وقبل كل شيء مختلفا عن ستالين بميزة واحدة وهي أن يكون أكثر تسامحا، وأكثر إخلاصا، وأكثر عطفا مع الرفاق، وأقل حدة في الطباع ...
وكان ستالين قوي الجسم، شديد الاحتمال للمتاعب رغم ما تردد عن مرض قلبي أصيب له، وكان يعرف كيف يتحكم في أعصابه ، ويلازم هدوءه، وقد كان هذا الهدوء والتحكم في الأعصاب من أكبر الأسباب التي ساعدته على الانتصار على أول خصومه: تروتسكي عندما قرر التخلص منه في سبيل الاستئثار بالسلطة. (20-1) ستالين والموسيقى
وكان ستالين يحب الموسيقى ويهتم بها، وقد روى أحد الذين عرفوه في روسيا
16
أنه دعي في مساء يوم 6 أكتوبر من عام 1947 إلى العشاء مع ستالين، وكان هناك أربعة عشر مدعوا، فلما انتهى العشاء أخذ الحاضرون يستمعون للراديو الذي كان يذيع برنامجا خاصا بمناسبة عيد الثورة ...
كان ستالين مبتهجا في ذلك المساء، وعندما سمع الخطاب الذي ألقاه مولوتوف بهذه المناسبة، قال لنا ضاحكا: لقد أوصيت مولوتوف ألا يتلعثم في خطابه أو يتلكأ في نطق الكلمات كما يفعل ملك الإنجليز،
17
فعندنا في مقاطعة جورجيا يقولون: «إن الذين يتلعثمون نهايتهم سيئة.»
ثم ابتسم ستالين واستطرد قائلا: ولكن ليس لمولوتوف ما يخشاه على أي حال ... ما دمت أنا هنا!
وبدأ المحتفلون يستمعون بعد ذلك إلى أوبرا مشهورة من تأليف «بيجوف»، وكان اسمها: «الحياة من أجل قيصر»، وعندما مال ستالين على الراوي وقال له همسا في أذنه: إن هذا المغفل بيجوف كان يريد إعادة كتابة هذه الأوبرا من جديد على أن يطلق عليها اسم «الحياة من أجل ستالين»، ولكن المبالغة مذمومة في كل شيء!
ويقول الراوي: إنه حدث بعد ذلك بمدة قصيرة أن فصل الموسيقي بيجوف من عمله، وعزل في إحدى المصحات، وفي ذات يوم وجد معلقا في شجرة وقد فارق الحياة.
ووضع ستالين يده بعد ذلك على محرك المحطات في جهاز الراديو، فاستمعنا إلى موسيقى خفيفة من محطة فرنسية. وهنا هز ستالين رأسه وقال: إننا لم ننجح بعد في خلق أوبريت روسية، والواقع أننا في حاجة إلى ممثلات؛ إذ ما تكاد تظهر كوكب في عالم الغناء حتى يختطفها أحد رجالنا اختطافا! وفي بادئ الأمر كان كالينين هو الأخصائي الأول في اختطاف الكواكب والممثلات الجميلات، أما اليوم فقد خلفه مولوتوف في ذلك ...
وكان ستالين يلمح إلى العلاقة التي كانت قد بدأت وقتئذ بين مولوتوف وبين مغنية الأوبرا إيرينا تشيرنوفا، حتى إنه منعها بعد ذلك من الغناء.
واستطرد ستالين بعد ذلك ضاحكا: يبدو أنه بات ضروريا أن نصدر قانونا نحرم فيه على زعماء الاتحاد السوفييتي اختطاف الكواكب! •••
وكان ستالين يهتم أيضا بالرقص، ولم تمنعه مشاغل الدولة ولا حرب الأعصاب، بل ولا أي حرب أخرى عن مشاهدة الرقص، وكان يحب بنوع خاص مشاهدة النجمة المشهورة «أولانوفا»، وكان إذا ذهب لمشاهدتها جلس في مقصورة خاصة لا يمكن لأحد النظارة أن يرى الجالس فيها، وهكذا كان يستمتع بمشاهدة الرقص دون أن يراه أحد.
وكثيرا ما كان يذهب وحده لمشاهدة الرقص، فيجلس بمفرده في المقصورة ويبقى إلى نهاية الحفلة، وكان يحب أن يبدي رأيه لمدير المسرح، فيستدعيه في نهاية الحفلة ليقول له جملة قصير قد تتضمن إعجابا أو نقدا.
والويل لمدير المسرح إذا أبدى ستالين رأيا يدل على عدم الإعجاب، فإن هذا كان معناه سقوط الرواية نهائيا وفصل مدير المسرح من وظيفته.
وقد حدث مرة أن استمع ستالين إلى موسيقى جديدة من تأليف موسيقيين اثنين كانا قد نالا بعض الشهرة؛ وهما شوستا كوفيتش وبروكفيف، وبعد انتهاء الحفلة استدعاهما ستالين إليه وقال لهما: في موسيقاكما «دربكة» كثيرة ... إلا أنها خالية من النغم!
ولم تقم للموسيقيين قائمة بعد هذه الحفلة! (20-2) ستالين ... الفيل!
وكان ستالين يبدو زاهدا في أي نوع من المتع البشرية التي كان يميل إليها غيره من قادة الدول الأخرى أو حكامها، كان زاهدا في الحياة، زاهدا في النساء، زاهدا في الهوايات أو جمع التحف أو طوابع البريد!
ويقول إميل لودفيج في ذلك: إنه يجد لذته الكبرى في الانتقام الصامت الذي ينزله بالدول الرأسمالية حين يدعو إلى مؤتمر يجمع فيه نفس أولئك الرجال الذين ظلوا زمنا طويلا وهم يحتقرونه، وبعد أن يستبقيهم على مائدته لتناول الطعام ويتبادل معهم شراب الأنخاب حتى الساعة الخامسة صباحا ينصرف إلى فراشه وهو يقهقه ضاحكا ساخرا. إن أذكى خصومه يفضلون لقاءه ومقابلته وهو يقوم بدور المضيف.
وقد أعجب روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة بستالين، وعبر عن ذلك الإعجاب أكثر من مرة.
ولكن على حد قول لودفيج: إن أصحاب هذه الشخصيات المتثاقلة البطيئة الحركة التي تميل للعزلة لا يمكن أن ينسوا أي إساءة تلحق بهم؛ إنهم يحملون ذلك الحقد الدفين الذي لا يموت، وهو ما يتميز به الفيل!
ولم يشعر ستالين في أي يوم من الأيام بأن أحدا من الناس قد أسدى إليه جميلا من أي نوع كان، ولذلك كان من الطبيعي أن يذكر كل من أساء إليه وأن يحاول الانتقام.
وحصل ستالين على أعظم مجد في حياته بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ وضعت ألمانيا الشرقية كما وضع جزء من برلين تحت حكمه، كما تحول عدد من الدول الأوروبية إلى الشيوعية دون ثورة، تماما كما تحول ستالين نفسه من الثائر إلى الوطني، وهكذا وجد الثمر يسقط في يده ناضجا شهيا ... ذلك الثمر الذي حاول في شبابه المجهول أن ينتزعه من مكانه بالقوة ...
لقد بدأ حياته بمهاجمة مصرف ... وانتهى به الأمر بعد ذلك إلى أن أصبح من أصحاب المصارف! (20-3) ستالين والقدر
وروى إميل لودفيج أنه عندما قابل ستالين خطر له أن يلقي عليه هذا السؤال: هل تؤمن بالقدر؟
وبدا على وجه ستالين عندما سمع هذا السؤال شيء من الجد، ثم فكر قليلا وقال: كلا، أنا لا أؤمن بالقدر، إن القدر مظلوم دائما، وإن هو إلا فكرة سخيفة!
وضحك على طريقته الصماء، ثم كرر كلمة «القدر» باللغة الألمانية عدة مرات: شيكسال! شيكسال!
واستطرد يقول باللغة الروسية: لقد كان القدر شيئا يتفق مع حياة الإغريق؛ إذ كانت لهم آلهتهم التي تنظم لهم أمورهم من فوق!
وقال له إميل لودفيج: ولكنك اجتزت مئات من المواقف الحرجة؛ إذ دخلت السجن، وأرسلت إلى المنفى، ونظمت الثورات، واشتركت في حروب ... فهل تعتبر من قبيل الصدفة المحضة أنك نجوت من جميع هذه المواقف الحرجة، وأن أحدا غيرك لم يخلفك على مقعدك هذا حتى الآن؟
فأجاب ستالين بصوت واضح له طابعه: كلا، إنها ليست الصدفة المحضة، ولكن هناك أسبابا داخلية وخارجية هي التي حالت دون موتي ، ومع ذلك فإن حادثا واحدا لو وقع لي لكان كفيلا بأن يجيء بغيري إلى مكاني؛ فالقدر ضد القانون، وفيه شيء من الغموض والسحر لا أؤمن به، ومن المسلم به طبعا أن هناك أسبابا ساعدتني على اجتياز المخاطر ... وهذا ما لا يمكن أن يحدث بمحض الصدفة.
ويستطرد إميل لودفيج فيقول: «وكان صدى كلمة «القدر» القوية لا يزال يدوي في أذني عندما صعدت إلى العربة التي كانت تنظرني لأغادر بها المكان، وفكرت وأنا أترك ورائي تلك القلعة التي عاش فيها القياصرة وحكموا منها
18
بلادهم في ابن الفلاح، الذي قدم من ولاية جورجيا وبات الآن يضحك ساخرا متحديا عندما يذكر أحد كلمة «القدر» أمامه!»
وفي الساحة الخارجية للكرملين وجدت صفا من المدافع القديمة التي كان ضوء الغروب الخافت قد بدأ يلقي عليها ظلالا شاحبة، ورأيت على فوهة كل مدفع منها حرف «ن» بارزا مطليا بالذهب اللامع
19 ...
تلك كانت شارة الضابط الفرنسي الصغير على معدات الموت التي أحضرها معه من بلاده لكي يغزو بها روسيا، وتذكرت عندئذ أن نابليون كان قد قال لجيته: «لماذا نتحدث عن القدر ونعلق عليه أهمية؟! إن السياسة في عصرنا هذا هي التي تسير القدر!» (21) ستالين والنساء!
تزوج ستالين لأول مرة في عام 1913، وتوفيت زوجته الأولى في عام 1917 بعد أن تركت له ابنا واحدا ...
والمعلومات قليلة عن زوجته الأولى «كاترين»؛ وذلك لأنه عندما تزوج لأول مرة كان لا يزال مجاهدا مغمورا لا يهتم أحد بتقصي أحواله أو تاريخه أو علاقاته، ولكن المعروف أنها كانت فتاة شابة قليلة التعليم، لكن حياتهما كانت تعسة للغاية؛ فقد كان ستالين مطاردا بصفة دائمة من البوليس، فلم يكن يستقر في بيته أياما حتى يغادره هاربا من جديد تحت جنح الظلام، فلم تنقض على زواجهما أربع سنوات حتى ماتت كاترين بداء الصدر.
أما عن زوجته الثانية فقد روي أن ستالين اجتمع في يوم من الأيام ببعض مستشاريه وشهدت زوجته طرفا من هذا الاجتماع، وسمعت بعض المناقشات التي جرت في الاجتماع، وأبدت في المناقشة بعض الانتقادات لسياسة ستالين ...
وغضب ستالين لتدخل زوجته وانتقادها إياه، ووقف غاضبا ثم أمسك بيد زوجته وجذبها بقسوة حتى أخرجها من حجرة الاجتماع على مرأى من زملائه ...
وعاد إليهم بعد ذلك ليستأنف المناقشة.
وبعد أيام من هذا الحادث وجدت الزوجة ميتة في حجرتها، ولم يسأل أحد كيف ماتت. •••
وكان ستالين قد تزوج من زوجته الثانية هذه «نادزدا» بعد عامين من وفاة زوجته الأولى «كاترين».
وكان والد «نادزدا» من زملاء ستالين الذين اشتركوا في الثورة الاشتراكية الأولى في عام 1917، وكانت «نادزدا» تعتز دائما بذكرى والدها، وتستشهد بأقواله، ويبدو أنها صرحت أكثر من مرة باستيائها من الأعمال التي يقوم بها البوليس السري السوفييتي «الأوجبيو»، وانتشرت تعليقاتها اللاذعة عن هذا البوليس في بعض الأوساط.
وفي 8 نوفمبر من عام 1932 أعلن خبر وفاتها في ظروف الحادث الذي ذكرناه، مع أنها شوهدت قبل ذلك بيومين في أحد المسارح. وقيل للناس في تعليل وفاتها الفجائية: إنها أصيبت بالتهاب حاد للزائدة الدودية، ولم يتمكن المحيطون بها من إسعافها فماتت قبل أن يحضر الأطباء أو يجروا لها الجراحة ...
ولما ماتت نادزدا انتشرت الإشاعات المختلفة في روسيا وتسربت إلى الخارج، فقالت بعضها: إن نادزدا قد ماتت بالسم بعد أن تناولت طعاما كان قد أعد لزوجها، وقالت إشاعات أخرى وإن لم تقدم دليلا على ما تقول: إن نادزدا قد «ماتت» تنفيذا لأمر زوجها!
وتوفيت زوجة ستالين الشابة نادزدا وهي في الحادية والثلاثين من عمرها خلال أزمة الكولاك، وقد كتب ستالين على رخامة وضعها على قبرها:
لقد ماتت
ومعها ماتت آخر مشاعري الحارة
لكل الجنس البشري
ودفنت نادزدا بجميع مظاهر التكريم في دير نوفود فيتشي بموسكو.
وعلى الرغم من عداء ستالين الشديد للدين فإنه أصدر أمره بالصلاة على جثمان «نادزدا» في الكنيسة، كما أمر بدفنها في دير يحمل اسم العذراء.
ولكن ذلك كله لم يخرس الألسنة، فإن الموت الفجائي إذا أصاب شخصا له مكانته، وفي بلد يحكم بالطريقة التي كانت تحكم بها روسيا في عهد ستالين ... يصبح موضوع تعليقات كثيرة لاذعة ...
وفي عام 1948؛ أي: بعد وفاة نادزدا بستة عشر عاما كاملة، لوحظ أن ستالين شديد الهم والتفكير، وقال بعض المتصلين به عامئذ: إن شبح نادزدا قد بدأ يطارده ويقض عليه مضجعه، وأن هذا هو السر الغامض الذي كان يكتنف حياته في ذلك الوقت، ويدفعه إلى أحضان «روزا» الزوجة الثالثة ... متظاهرا بالهدوء رغم ما كان يعتمل في نفسه من عواطف متضاربة لعل مصدرها الشعور بالندم أو الأسف.
زوجة ستالين الثانية «نادزدا» في نعشها!
ولما ماتت زوجته اعتزل العالم وعاش منفردا في قصر الكرملين، وذاعت حكايات مختلفة عن إسرافه وبذخه، وروجت الدعايات المضادة لكثير من هذه الحكايات والإشاعات.
وحدث في عام 1924 أن زار مهندس أمريكي كبير روسيا وطلب مقابلة ستالين، فاستقبله ودعاه إلى البقاء في ضيافته عدة أيام ليستشيره في بعض المسائل الفنية، وقبل المهندس الأمريكي الدعوة، وفي ذات يوم كان ستالين وضيفه يتناولان الطعام وحدهما، ولما جلسا إلى المائدة ظهرت خادمة شابة أحضرت أطباق الطعام ووضعتها على طرف المائدة ثم انصرفت دون أن تتولى تقديم الطعام كما جرت العادة.
وقام ستالين بنفسه وأخذ يقدم الطعام بنفسه لضيفه مما أثار دهشة الضيف، ولكنه لم يحاول معرفة حقيقة الأمر. وفي المساء تكرر نفس الأمر؛ إذ أحضرت الفتاة الطعام وتركته عند طرف المائدة ثم خرجت، وقام ستالين مرة أخرى وبدأ يقدم الطعام لضيفه.
ولما بدأ الاثنان يشربان القهوة بعد انتهاء العشاء التفت سيد روسيا إلى ضيفه الأمريكي وقال له: هل رأيت هذه الفتاة التي أحضرت الطعام ثم أبت أن تقوم على خدمتنا؟
فأجاب الضيف: نعم!
وقال ستالين وهو يبتسم: لقد انقضى عليها ثلاث سنوات وهي لا تغير هذه العادة! إنهم يقولون: إنني السيد المطلق الذي يحكم 200 مليون نسمة، وها أنت ترى بنفسك أنني عاجز عن إصدار أمر صغير لهذه الفتاة ... إنها طالبة في الجامعة تشتغل في أوقات الفراغ بالخدمة، وهي تكتفي بإحضار أطباق الطعام ثم تتركها عند طرف المائدة بدعوى أنه مما لا يتناسب مع كرامة أي فتاة مثقفة أن تقوم على خدمة أي رجل كان ... مهما سما مركزه !
وقد اقتنعت بصواب رأيها ...
وعلى الرغم من الستار الكثيف الذي أسدل على حياة ستالين الخاصة فقد عرف بعد ذلك أن حزنه وأسفه على «موت» زوجته الثانية لم يمنعه من أن يتخير لنفسه زوجة ثالثة كان اسمها «روزا كاجانوفيتش»، وكانت شقيقة لأحد وزراء المواصلات الذين اشتركوا معه في الحكم في إحدى الوزارات.
وقد عرف عن «روزا» أو روزالي أنها تحب المرح، وأنها ذات صوت جميل، ولون وردي، وأن ستالين ينسى إلى جانبها شواغل الدولة كلها، ولم تكن تتدخل في الشئون السياسية؛ إذ يبدو أنها كانت قد تعلمت درسا قاسيا مما حدث للزوجة الثانية من قبلها بسبب السياسة! ولذلك فإنه لم يكن لديها أي تأثير على ستالين من هذه الناحية ...
ولم ير الناس في موسكو هذه السيدة غير مرة واحدة، وكان ذلك في حفلة افتتاح خط «مترو» موسكو، وقد وجهت إليها الدعوة لشهود هذه الحفلة بوصفها «روزا كاجانوفيتش» شقيقة وزير المواصلات، ولم يذكر قط أنها زوجة ستالين!
وقد كان هذا مما أثار تساؤل الناس مدة طويلة: هل تزوج ستالين حقا من روزا كاجانوفيتش أم أن العلاقة بينهما كانت مجرد علاقة حب وصداقة عززها ما كان ستالين يشعر به من راحة نفسية عند هذه المرأة المرحة الطروب؟
وقد أشار إلى هذه الحقيقة ولتر بيدل سميث سفير أمريكا السابق في موسكو؛ إذ قال في معرض حديثه عن مدى جهل الناس بحقيقة ستالين: «والروس أنفسهم لا يعرفون إذا كان ستالين قد تزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجته الثانية في عام 1932 أم لا.»
20
وعلى أي حال فقد كانت روزا - أو روزالي - كاجانوفيتش وثيقة الصلة بجميع المتصلين بستالين وأفراد أسرته، حتى ابنه «فاسيلي» وابنته «سفيتلانا» التي رزق بها من زوجته الثانية، وقد تمكنت روزا من اكتساب «فاسيلي» بنوع خاص؛ إذ ساعدته على حل مشاكل شخصية كان قد سببها بإسرافه في شرب الخمر «الفودكا» وحب النساء، وإسراعه وهو يقود السيارات سرعة تزيد على الحد القانوني.
وكان أهم ما ساعد على انتشار الشائعات فيما يتعلق بحقيقة علاقة ستالين بروزا كاجانوفيتش، وهل هي علاقة زواج أم علاقة حب فقط، أنه كان لا يقيم معها؛ إذ إنه كان يفضل أثناء إقامته في موسكو أن يعيش وحده، ولذلك وضعها هي في «فيلا» كان يملكها بضواحي «أوسوفا» القريبة من موسكو، وكان يتردد عليها في تلك «الفيلا» كلما أراد، وخاصة بعد أن يشهد حفلة راقصة أو مسرحية فقد كان يحب أن يتجه إليها بعد انتهاء الرقص أو التمثيل ليقضي معها بقية السهرة ويتناول معها وجبة الليل، وهي غير وجبة العشاء التي كان يتناولها قبل الذهاب إلى المسرح.
وكانت روزا تستعد لزياراته المفاجئة فتعد له السجائر التي يدخنها، وخمر القوقاز الذي كان يفضله على غيره، فقد كان ستالين يفضل السجاير، وإن كان يدخل الغليون أحيانا أمام الجماهير.
وكان عدد كبير من الخدم والحشم يقوم على خدمة روزا في منزلها بخلاف عدد آخر من رجال البوليس السري كان يتولى حراستها، وكان عدد رجال البوليس السري يتضاعف طبعا كلما حضر ستالين لزيارتها.
وكانت روزا من الأشخاص القلائل الذين سمح لهم ستالين أن يخاطبوه باسم من أسمائه الخاصة التي كان يفضلها على غيره وهو «كوبا»، كما نال شقيق روزا وزير المواصلات نفس الامتياز، وقد كان كوبا من الأسماء المستعارة التي استعملها ستالين وهو يهرب من وجه البوليس القيصري الروسي عندما كان يمهد للثورة؛ ولذلك فإنه كان يعتز كثيرا بهذا الاسم ويحبه ولا يسمح إلا لأوثق الأخصاء اتصالا به باستعماله.
أم ستالين التي أرادت أن تجعل منه كاهنا!
زوجة ستالين الثانية وهي الوحيدة التي أحبها.
وفي عام 1949 هرب من روسيا رجل من أقارب ستالين كان اسمه «جوزيف سفانيدز»، ولجأ إلى السويد، وفي استكهلم أطلق الرجل لسانه بالحديث عن ستالين وحياته الخاصة، وكان من بين ما قاله الرجل أن روزا كاجانوفيتش كانت زوجة غير شرعية لستالين، وأن ستالين كان يحب تغيير النساء من آن لآخر ...
وقال سفانيدز: إن ستالين الجيورجياني يؤمن كسائر أهالي القوقاز بمثل يؤمنون به، وهو أن المرأة يجب أن تكون بالنسبة للرجل كالقمر بالنسبة للشمس؛ أي إنها يجب أن تستمد منه السلطة كما يستمد القمر الضوء من الشمس، ويتبعها في حركتها، ويتأثر بها في كل شيء ... وفي عبارة أخرى: إن الرجل يجب أن يكون كل شيء بالنسبة للمرأة!
وقد أشار سفانيدز إلى أن صلة ستالين «بالزوجة» الثالثة روزا كاجانوفيتش لم تدم إلى أبعد من عام 1936؛ لأن قلب ستالين كان قد علق بحب امرأة أخرى صغيرة السن، كما أنه كان قد سئم روزا.
وفي هذه المرة أشار ستالين بالاكتفاء «بتسريح» روزا كاجانوفيتش، وكان من أهم الشروط التي تؤخذ عليها في مثل هذه الحالة الصمت التام. •••
كان ستالين إذ ذاك قد بلغ السابعة والخمسين من عمره، وكانت المحبوبة الجديدة سيدة صغيرة السن في الخامسة والعشرين من عمرها اسمها «مارينا راسكوفا»، وكان ستالين قد رآها لأول مرة في عام 1933 عندما قدمت إليه على رأس فريق من الطيارين الروس كانوا قد اعتزموا القيام بمحاولة للوصول إلى القطب، وكانت مارينا راسكوفا قد نشأت في منطقة بحر أزوف، وهي قريبة من مسقط رأس ستالين، ولعل ذلك كان من الأسباب التي قربتها إلى قلبه ...
واشتد إعجاب ستالين بجسم مارينا القوي، وقوامها الفارع، فصحبها إلى قصر «سوتشي» وهو المصيف الذي كان يفضله على غيره، وأمضى معها وقتا طيبا لم ينشغل فيه ستالين بغير النزهة في البحر والتودد إلى مارينا، وكثيرا ما رآهما سكان هذه المنطقة معا وهما يستقلان قارب ستالين الخاص الذي كان اسمه «النسر» وقد ارتسمت على وجه كل منهما أمارات السعادة ...
ولما عاد بعد ذلك إلى موسكو نمت الصداقة بين مارينا وابنة ستالين التي كان يؤثرها على غيره من أبنائه واسمها «سفيتلانا» ...
وفي أواخر شهر أبريل من عام 1937 استدعى ستالين الماريشال فوروشيلوف، وكان موضع سره في ذلك الوقت، وصارحه بأنه قرر الزواج من مارينا، كما أخبره أن هذا الزواج لا يهم أحدا غيره - أي: غير ستالين - ولذلك فإنه لا يريد أن يسمع به أحد ...
وذكر سفانيدز قريب ستالين الهارب أنه كان أحد القلائل الذين شهدوا حفل زواج ستالين الجديد، وأنه كان من بين الذين شهدوه كذلك بولجانين وفوروشيلوف ومولوتوف، وقام بالإجراءات الإدارية الخاصة بالزواج من تسجيل العقد وما يتصل به موظفان انتدبا لهذا الغرض.
وفي المساء أقيمت حفلة صغيرة شهدها خاصة أصدقاء ستالين، وكان ستالين رائق المزاج في تلك الحفلة وبدت عليه أمارات السعادة، حتى إنه طلب من «ميكويان» أن يروي بعض النكت والقصص الفكاهية ...
وضحك ستالين عندما أحضر المحتفلون «فونوغرافا» وأداروا بعض «الأسطوانات»، وأخذوا يرقصون على نغماتها، وطلب بعضهم مراقصة مارينا فلم يعترض ستالين على طلباتهم، وكان الجو مرحا.
ولما أراد فوروشيلوف أن يلقي كلمة تناسب المقام اعترض ستالين وقال له: إن الوقت ليس وقت إلقاء خطب!
واحترم الجميع رغبة ستالين فلم يتحدث أحدهم عن زواجه وتكتموا الخبر، وكذلك لم تشر إليه الصحف إطلاقا، وكانت مارينا نفسها قد استفادت بدروس الماضي، وبما حدث لغيرها، فعاشت في عزلة ولم تظهر قط إلى جانب ستالين. (22) عندما تقابل ستالين
وصف المستر ولتر بيدل سميث، الذي تولى سفارة أمريكا في موسكو فترة من الزمن مقابلته الخاصة لستالين فقال: كان الليل صافيا وباردا، وكانت السماء مليئة بالنجوم عندما غادرت دار السفارة إثر الساعة الثامنة والنصف مساء، وانطلقت سيارة السفارة تحمل العلم الأمريكي مسرعة فوق الجليد إلى «الأربات» الذي يمكنني أن أقول: إنه أكثر شوارع العالم اكتظاظا برجال البوليس؛ وذلك لأنه الطريق الذي يسلكه ستالين وأعضاء المكتب السياسي من مكاتبهم في الكرملين إلى منازلهم في الريف، ويقال: إن المحلات التجارية والمنازل التي تقوم على جانبي هذا الشارع يفتشها البوليس السري بمنتهى العناية والتدقيق، وكل ضيف أو زائر لا بد من التأكد من شخصيته ووضعه تحت المراقبة، ويوجد رجل بوليس على الأقل عند كل مائة ياردة، واثنان إلى أربعة عند كل تقاطع.
وإذا ما اقتربت سيارة رسمية تتمتع بما يسمونه «امتيازات الكرملين» فإن جميع أضواء المرور تنقلب خضراء وتعطي السيارة حق السير في الطريق الذي تريد، وعندما وصلنا إلى بوابة الدخول عند الحائط الغربي للكرملين أوقف السيارة ضابط البوليس السري وأعوانه؛ إذ عليهم أن يتأكدوا من شخصية المارين، وأن يلقوا نظرة سريعة داخل السيارة.
وقادت سيارة السفارة سيارة إرشاد وجدناها واقفة في انتظارنا خارج البوابة الرئيسية، بينما أخذ جرس التنبيه يدق باستمرار حتى وصلنا إلى فناء الكرملين الداخلي، ولم يستوقفنا أحد عند البوابة نفسها للتأكد من شخصياتنا، فمررنا وسط تحية الحراس وضباط البوليس السري المنوط بهم الحراسة.
ومرت السيارة وهي تنطلق من البوابة عبر الشارع الداخلي الواسع الذي زرعت على جانبيه الأشجار بالمبنى الذي يضم مكاتب الماريشال ستالين وأعضاء المكتب السياسي، كما مرت بمتحف الكرملين وصالة المجلس السوفييتي الأعلى، وبكنائس الإغريق الأرثوذكس القديمة البديعة، وببرج الجرس الذي يوجد في أسفله الجرس الكبير المكسور المعروف.
ولما اقتربنا من مدخل الكرملين المضيء شاهدت حاجبا في الزي الرسمي للكرملين ولونه رمادي داكن، وعلى الياقة والأكمام أشرطة مزركشة حمراء، وكان يقف معه ضابط طويل يحمل فوق أكتافه العلامات الذهبية التي تميز رتبته العسكرية، وكانت تبدو عليه مظاهر الجندية الكاملة بمعطفه ذي اللون الزيتوني الداكن، وبنطلونه القصير الأزرق القاتم ذي الخطوط الحمراء، وحذائه الجلدي الطويل الأسود. وكان يضع في حزامه مثل جميع العسكريين في الكرملين مسدسا.
وعندما فتح الحاجب باب السيارة حياني هذا الضابط بابتسامة ودية وذكر بعض كلمات بالروسية، وأشار إلي أن أتبعه.
وحملنا مصعد إلى الدور الثالث، وسرنا في ردهة طويلة ضيقة ذات سقف عال، وكان يقف حارس مسلح من البوليس السري في زيه الرسمي عند كل منعطف فيها، ويقتضي الدخول إلى جناح الماريشال ستالين المرور من باب مزدوج عال مغطى ومبطن بجلد أخضر قاتم، ويفتح على حجرات استقبال متتالية، وفي الثانية منها كان يقف عدة ضباط من البوليس السري قريبا من مكتب كان يجلس عليه رجل كامل الصلع في زيه الرسمي، وعلى كتفيه شارة الجنرال، وعرفت فيما بعد أنه سكرتير ستالين في مجلس الوزراء.
وتوقفنا في هذه الحجرة حتى أبلغ نبأ وصولنا، ثم أدخل بي إلى حجرة اجتماع كان يقف في طرفها الآخر ستالين ومعه مولوتوف وبافلوف الموظف الشاب المحبوب بوزارة الخارجية والذي اشتغل مترجما للثلاثة الكبار
21
في طهران ويالتا وبوتسدام .
وحياني ستالين رسميا وصافحت مولوتوف وبافلوف، ثم أشار لنا ستالين إلى المائدة لنجلس عليها، وجلس عليها مواجها لي وظهره إلى الحائط المعلق عليها صور مارشالي روسيا العظيمين سفروف وكتزوف، وجلس مولوتوف إلى يمين ستالين، ولكنه لم يشترك في المناقشة إلا في مناسبة أو اثنتين عندما أسر إلى المارشال يذكره ببعض النقاط، وجلس بافلوف بين ستالين وبيني، وقام بالترجمة لكلينا بأن كان يدون في اختزال عبارات كل متحدث ثم يقوم بترجمة ما دون بعد انتهاء كل متحدث، وكانت إنجليزيته ممتازة.
وبدأ ستالين المحادثة بالتحية شبه الرسمية المعتادة، وبالاستفسار عن رحلتي من الولايات المتحدة، والسؤال عن صحة الرئيس ترومان
22
معبرا عن أمله في أن يكون متمتعا بصحة جيدة، ثم أشار إلى اتحادنا في الحرب وذكر أني معروف جيدا للجيش والشعب في روسيا.
فناولته بعد ذلك على الفور رسالة الرئيس ترومان، فسلمها إلى بافلوف الذي قرأها له بالروسية، وأنصت إليها ستالين دون أن يظهر ما أفهم منه شعوره وإحساسه إزاءها، ولما انتهى بافلوف من قراءتها هز ستالين رأسه ولم يعلق عليها بكلمة واحدة مما أثار عجبي.
وبعد ساعتين عندما انتهى حديثنا، عاد ستالين فأشار إلى دعوة الرئيس ترومان له وقال: «لقد كنت أود كثيرا أن أزور الولايات المتحدة، ولكن السن يقتضي مني ضريبته، فأطبائي يحرمون علي السفر لمسافات طويلة، كما أني ألتزم نظاما دقيقا في الطعام، سأكتب إلى الرئيس ترومان وأخبره أنني لا أستطيع تلبية دعوته؛ إذ يجب على الواحد منا أن يحافظ على صحته. لقد كان الرئيس روزفلت ذا تقدير عظيم لواجباته وإحساس عظيم بمسئولياته، ولكنه لم يصن صحته، ولو فعل ذلك لكان من المحتمل أن يكون حيا إلى اليوم.»
ولقد روت مدام شيروتي زوجة سفير إيطاليا الأسبق في موسكو أنها بقيت مع زوجها في موسكو أكثر من خمس سنوات، ومع ذلك لم تتح لها فرصة رؤية ستالين إلا مرة واحدة! وكانت هذه المرة الواحدة غريبة في ظروفها وملابساتها.
وقد روت مدام شيروتي في كتابها الذي أصدرته في باريس بعنوان «لقد عرفتهم » قصة هذه المقابلة فقالت:
لقد كنت أتحرق شوقا لكي أرى ستالين، ولقد كان كل الناس يتحدثون عنه، وموسكو كلها تعلق صوره، وتمنيت وقد قضيت أربع سنوات في موسكو لو تتاح لي الفرصة قبل أن أغادرها لكي أرى ستالين ... وذات يوم كنت أنا وزوجي نتنزه في إحدى الغابات القريبة من موسكو، وفجأة إذا بسائق سيارتنا يقف ويقول وهو يرتجف: إن ستالين وراءنا!
وكنت في دهشة من أمر السائق؛ فقد بلغ من ارتباكه أن احتقن وجهه، ولم أستطع أن أنظر إلى الوراء فاكتفيت بالتطلع إلى المرآة العاكسة، وبعد قليل كانت سيارة ستالين السوداء الكبيرة قد لحقت بنا، وخيل لي أنها خففت سرعتها وهي تسير بحذائنا، والتفت وإذا وجه ستالين المعروف ينحني لينظر من نافذة السيارة نحو سيارتنا ...
وبدا لي ستالين تماما كما يبدو في الصور.
وهكذا ... ببساطة رأيت ستالين مرة واحدة خلال أربع سنوات في الاتحاد السوفييتي.
وكتب كارنيجي عن ستالين في حياته الخاصة يقول:
ويقطن ستالين - بصفته الحاكم الأعلى لروسيا - بقرب القصر الإمبراطوري الذي عاش فيه القياصرة تسعة وستين عاما.
وقد كان في وسعه لو أراد أن يقيم في حجرات ضخمة تزينها اللوحات الزيتية الخالدة والسجاد الثمين، وينام في الفراش الذي نام فيه القياصرة، لكن جوزيف ستالين اختار لسكنه شقة صغيرة من أربع غرف كان يقطنها يوما أحد خدم القيصر!
أما طعامه فيأتيه من مطبخ قصر «الكريملين»، ويقدمه إليه على المائدة جندي، وهو نفس الطعام الذي يقدمه للمئات من موظفي القصر الحكومي! ... وستالين يمقت الظهور، ويرتبك في حضرة الغرباء، وقد قضى بعض سفراء الدول العظمى أعواما طويلة في موسكو بغير أن يقع بصرهم عليه مرة!
لكنه مولع بالتأنق في ملبسه، وله ذوق خاص في اختيار نسيج ستراته وألوانها، وقد قابله المبعوث الأمريكي المرحوم ويندل ويلكي أربع أو خمس مرات، فلم يره بنفس الثياب أكثر من مرة! ... وفي إحدى المرات كانت سترته زرقاء فاتحة ، وبنطلونه قرنفلي اللون، وحذاءاه أسودين لامعين ...
وحين يهنئه الزائرون على المعجزات التي حققها، يكتفي بالجواب: «إنها لا شيء بالقياس إلى ما نعتزم القيام به» ... وهو برغم جبروته من الفطنة بحيث يدرك أنه ليس معصوما من الخطأ، وقد كتب مرة: «إن فضيلة الإنسان الرئيسية هي أن تكون له الشجاعة ليعترف بأخطائه، والقوة على أن يصلح هذه الأخطاء في أقصر وقت!»
وستالين يصل إلى تحقيق أغراضه، لكن أساليبه تكون أحيانا فظة قاسية ... حتى لقد قال فيه لينين - أبو الثورة الروسية: «هذا الطاهي سوف يترك الطعام يسخن حتى درجة الغليان؟» ... ولكن لو لم يعد هذا الطاهي الروسي وجبة في درجة الغليان لهتلر وأتباعه النازيين، فهل في وسعنا أن نتصور كم ألفا آخرين من جنود الحلفاء كان لا بد من التضحية بأرواحهم قبل أن تنهار قلعة هتلر؟!
ذلك أن جوزيف ستالين - الطاغية - لكي ينقذ روسيا ساهم بنصيب كبير في إنقاذ الديموقراطية، وإنه ليفزع المرء أن يفكر فيما كان عساه أن يحدث لنا - لك ولي - لولا بطولة جيش ستالين الأحمر وتضحياته ... (23) عشاء مع ستالين
كان كل من يدعى إلى مائدة ستالين يتلقى بطاقة دعوة هذه صورتها إذا كانت الدعوة للعشاء، وفي الغالب كان ستالين لا يدعو ضيوفه إلا لتناول العشاء:
الماريشال ستالين:
يرجو من السيد: ...
التفضل بالاشتراك في عشاء الكرملين
مساء يوم ...
ولم يكن يحظى بهذا الشرف غير عدد محدود جدا من الأجانب، وفي أغلب الأحوال كان ستالين إذا وجه دعوة العشاء إلى أجنبي، يهدف التحدث معه في شئون هامة تتصل بالسياسة أو غيرها.
ولم يكن من حق الضيف الأجنبي الذي يدعى إلى مائدة ستالين أن يستعمل عند ذهابه إلى الكرملين سيارته الخاصة، فيما عدا السفراء، وكان هذا من باب الاحتياط على حياة ستالين.
وقبيل الموعد المحدد للحفلة كانت إحدى سيارات الكرملين الفاخرة تتجه إلى مقر الضيف وتنقله رأسا إلى الساحة الداخلية للقصر، وعند مدخل هذه الساحة يظهر حارسان بكامل سلاحهما ويستوقفان السيارة، ويضغط أحدهما بحذائه على جرس أرضي فيسرع في الحال أربعة ضباط ممن ينتظرون في حجرة الحراس لكي يتولوا فحص الأوراق الخاصة بالضيف والتحقق من سلامتها.
وتسير السيارة بعد ذلك إلى ساحة داخلية أخرى، وفي تلك الساحة يستوقفها ستة ضباط آخرون لكي يعيدوا من جديد فحص الأوراق وتفتيش السيارة تفتيشا دقيقا ...
وإذا انتهت هذه المرحلة تحركت السيارة في طريقها واجتازت عدة ساحات داخلية أخرى في ظل عدد من الأعمدة التي تتميز بها قلعة الكرملين، ويرافق السيارة في تنقلها من ساحة إلى أخرى ضابط يقف على سلمها.
وأخيرا تقف السيارة أمام باب متواضع يقف عنده حاجب يرتدي الملابس الزرقاء، وهو مخصص لاستقبال ضيوف ستالين من الأجانب، ويصعد الضيف يتقدمه الحاجب إلى الدور الثاني بواسطة المصعد، ويسير الاثنان في رواق طويل يصطف الحجاب على جانبيه حتى يصلا إلى قاعة كسيت جدرانها بالخشب، وعلقت بها صور زيتية تمثل جميع أبطال روسيا الوطنيين ... ومن بينهم بعض أمراء موسكو.
ويقف ستالين مرتديا كسوة «الماريشال» وراء مائدة مصنوعة من خشب الزان السميك وقد غطيت بالمرايا، واعتاد ستالين أن يحيي ضيفه الأجنبي بعبارة تقليدية هي: راد فيديت داس جوسبودين!
ومعناها بالروسية: إنني سعيد جدا بلقائك ... يا سيدي!
وبعد أن تنتهي مراسيم التحية والترحاب يجلس الجميع طبقا لمراسيم وبروتوكول لا يقل دقة عن المراسيم التي تتبع في أي قصر ملكي عريق التقاليد!
وإلى جانب ستالين اعتاد أن يقف رجل صغير الحجم، تبدو عليه هيئة الجد، ويضع منظارا على عينيه، وهو لا يفارق ستالين عندما يقابل ضيفا أجنبيا.
وكان هذا الرجل هو «بافلوف» مترجم ستالين الخاص، ويقول المترجم للضيف في لغة إنجليزية صحيحة: إن مستر ستالين سعيد جدا برؤياك؟
وكان المعروف عن ستالين أنه إذا اشترك في مؤتمر من المؤتمرات جلس ليستمع أكثر مما يتكلم؛ بحيث لا يتقدم إلا بملاحظات قليلة جدا ... أما في المآدب فإن ستالين كان يسرف في الحديث إلى درجة لا تتيح الفرصة لبافلوف حتى يترجم له كل كلامه.
وكان بافلوف يغادر أحيانا مكانه الملاصق لمكان ستالين ويتمشى في الحجرة، ولكنه ما يلبث أن يعود إلى الضيف في الوقت المناسب لينقل إليه ملاحظات ستالين وكلماته بعد أن يكون ستالين قد انتهى منها!
وقبل تناول الطعام كان ستالين يرفع كأسه ليشرب النخب، وكان ستالين إذا أراد المبالغة في إكرام ضيفه أزاح من أمامه جميع المشروبات المألوفة وأمر بأن يقدم له كأس من مشروبه الخاص.
وحتى اليوم لم يعرف أحد حقيقة الشراب الذي كان يقدمه ستالين لضيوفه، وحدث مرة أن سياسيا بريطانيا ممن كانوا يفاخرون بمعرفتهم لجميع أنواع المشروبات بمجرد تذوقها، حدث أن هذا السياسي سئل بعد تناوله العشاء مع ستالين عما إذا كان قد تذوق شراب ستالين السري، فلما رد بالإيجاب سئل عما يكون هذا الشراب، فقال: إنه ليس إلا نبيذ «البورتو» المشهور مزج به بعض «الجين»!
ولكن السياسي المشهور اعترف مع ذلك أنه عجز عن إنتاج شراب ستالين!
وكانت مائدة ستالين من الموائد الحافلة بأشهى الأطعمة حتى في سنوات الحرب، وكانت لا تخلو يوميا من «الكافيار»، كما أن أطباق الخضر كانت قليلة بعكس أطباق اللحوم والبيض ...
وبين كل طبق وآخر كان ضيوف ستالين يتناولون كئوس الشمبانيا بدلا من الماء!
وكان تشرشل ممن يحبون أنواع الطعام الجيد، وممن يعرفون أسرار الطبق اللذيذ الطعم، وفي ذات مرة كان يتناول العشاء على مائدة ستالين، فسأله: ترى ماذا تقدم لي الليلة؟
وابتسم ستالين وقال: إنه أعد لضيفه مفاجأة!
وأكل تشرشل واعترف بأن الطبق لذيذ، ولكنه اعترف أنه لم يعرف أي لحم يأكل؟
وابتسم ستالين مرة أخرى وقال: إنه قدم له طبقا من لحم الأرانب! •••
وأثناء تناول الطعام كان يقف وراء كل ضيف من ضيوف ستالين خادم خاص يتولى تلبية كل طلب يصدر منه، وكان ستالين يختار الذين يتولون الخدمة على مائدته من بين قدامى الجنود الذين اشتركوا في المعارك وأبلوا فيها بلاء حسنا ... ولكنهم كانوا يتقنون عملهم إلى أبعد حد، ولا يختلفون عن الخدم الذين يعملون في أكبر الفنادق وأشهرها.
واعتاد ستالين ألا يبارح المائدة بعد الطعام، بل كان يبقى مع ضيوفه أكثر من ساعة وهو يتبادل معهم الأحاديث المختلفة.
وبعد تناول القهوة تبدأ مرحلة الأحاديث الهامة، وكان يقدم لضيوفه مع القهوة أنواع الفطائر الصغيرة المصنوعة بالملح، وبعد القهوة يقبل الخدم وهم يحملون كئوس الفودكا التي لا مفر من شربها بوصفها الشراب القومي الروسي!
وإذا انتهت القهوة والفودكا بقي الضيوف في انتظار إشارة تصدر إليهم من رئيس التشريفات لكي يدعوهم إلى القيام ومغادرة المائدة، وقد يستبقي ستالين أحدهم أو بعضهم إذا شاء، لكي يوجه إليه حديثا خاصا.
ولم يحدث أن باح أحد قط بأسرار هذه المحادثات الليلية الخاصة التي كانت تبدأ عادة بعد العشاء، وقد تستمر حتى ساعات الصباح الأولى ...
إن ستالين كان يفضل هذا الوقت من الليل لمعالجة المشاكل السياسية، وإجراء ما يريد من مباحثات خاصة، ولقد عرف على وجه التأكيد أن أخطر القرارات التي اتخذها في حياته جاءت وليدة المباحثات والمداولات الخاصة التي تمت بين منتصف الليل وفجر اليوم التالي. (24) ستالين والحرب العالمية الثانية
كان ستالين قد تعلم شيئا هاما من المذابح وعمليات التطهير الواسعة التي قام بها ... لقد تعلم وأدرك مدى تأثير قوة الرأي على عقول الناس؛ ولذلك فقد رأى أن يستغل أسطورة خلود مبدأ «اللينينية-الستالينية»، وطلب من كل كاتب وشاعر وموسيقي ورسام في الاتحاد السوفييتي أن يخصص جهوده كلها لنشر هذه الأسطورة وتأكيدها وتثبيتها في عقول الناس عن طريق التكرار المستمر.
وهكذا أطلق اسمه على أعلى قمة في روسيا، كما أطلق اسمه أيضا على 15 مدينة روسية على الأقل، وعلى عدد لا يحصى من المصانع والشوارع، وطبعت ملايين النسخ من كتبه ومؤلفاته، وأطلق على معدن جديد اكتشف في روسيا اسم «الستالينايت»، كما تعلم الأطفال في مدارسهم أن يقولوا كل صباح قبل أن يبدءوا دروسهم: «شكرا لستالين على هذه الحياة السعيدة!»
واستمرت هذه الأسطورة في إعمال أثرها حتى عام 1939 عندما نشبت الحرب العالمية الثانية، وعقد هتلر اتفاقيته مع روسيا، ولكن هذه الأسطورة لم تمنع الجيش الألماني من اكتساح الحدود الغربية لروسيا قبل أن ينقضي عامان على التحالف الألماني الروسي، وفي أربعة شهور كان الألمان قد وصلوا إلى ضواحي موسكو وليننجراد .
وقد كان من أسباب نجاح الألمان في هذا الغزو اندحار مئات من قواد روسيا الذين كانوا يكرهون ستالين وتسليم 4 ملايين روسي من الجنود الفلاحين، ولكن في ذلك العام أيضا تدخل الحظ وجاء الشتاء حليفا صادقا لستالين ولروسيا، كما فعل قبل ذلك بمائة وثلاثين عاما عندما غزا نابليون موسكو فرده نفس الشتاء القاسي مدحورا.
ستالين يصافح فون رينتروب وزير خارجية ألمانيا بمناسبة التحالف الروسي الألماني!
وتغيرت الدعاية الشيوعية خلال الحرب العالمية، وأهملت المبادئ الماركسية، وبدأ المسئولون ينشرون الدعاية للوطنية القومية وينادون بها ويدعون الناس إلى التمسك بها.
وقال ستالين في ذلك: «فلتستلهموا الوحي من صور أسلافنا العظام: ألكسندر نفسكي، وديمتري بوزارسكي، وألكسندر سيرفوف، وميخائيل كوتوزوف.»
وبدأت مصانع الأورال في إمداد الجيوش بالطائرات والأسلحة خلال شتاء 1941-1942، وفي ذلك الشتاء خلق ستالين جيشا لروسيا جند فيه كل قادر على حمل السلاح من الرجال والنساء، وكان يقود المعركة من الكرملين.
ولما حاصر الألمان ستالينجراد وأخذ قواد حاميتها من الروس يطلبون الإمدادات، قال ستالين لرئيس هيئة أركان الحرب فاسيليفسكي: مهما صاحوا ومهما اشتكوا فلا تعدهم بإرسال أي جنود من الاحتياطي، ولا تبعث إليهم بفصيلة واحدة من حامية موسكو.
وكان تيتو في زيارة خاصة للكرملين قبل أن تنتهي الحرب بفترة وجيزة، فسمع ستالين يوبخ الماريشال مالينوفسكي الذي كانت قواته قد توقفت عن التقدم، سمع تيتو ستالين وهو يصيح في مالينوفسكي قائلا: إنك نائم هناك! بل إنك تغط في نومك وتقول: إنه ليس عندك فرق دبابات، لو كانت جدتي في مكانك لعرفت كيف تقاتل الدبابات، لقد حان الوقت لأن تتقدم، هل تفهم ما أقول؟!
وشقت جيوش ستالين طريقها نحو برلين، ولكن الثمن كان غاليا ... فقد كلفه ذلك نحو 8 مليون قتيل!
وفي عام 1943، وفي وقت كان الألمان فيه يحتلون جزءا من روسيا أبدى ستالين استعدادا للتفاهم مع الحلفاء؛ أمريكا وبريطانيا، وكتب روزفلت لتشرشل يقول له: أظن أن في وسعي التفاهم مع ستالين!
وفي اجتماع الأقطاب الثلاثة بطهران ألح ستالين على روزفلت أن ينزل في دار السفارة الروسية، وأثار تشرشل في ذلك الاجتماع موضوع فرض رقابة دولية على الانتخابات البولندية، فقال تشرشل: ليس في الإمكان تنفيذ ذلك ؛ لأن البولنديين شعب مستقل وهم لا يقبلون أن يراقب انتخاباتهم أحد بالمرة!
وجاء ذكر الفاتيكان على لسان تشرشل، فتساءل ستالين: كم عدد الفرق العسكرية التي لدى البابا؟
وكتب تشرشل فيما بعد يقول: إن ستالين والروس لا يطمعون في شيء لا يخصهم، ولو أنهم قد يستولون على جزء من ألمانيا ...
ولم يمر عام واحد على هذا حتى أخذ ستالين يطالب ببورت آرثر ودارين وجزر كوريل، وذلك مقابل وعد كان قد تلقاه بالحصول على هذه الجزر لو دخل الحرب ضد اليابان. وقال ستالين وهو يطالب بكل هذا: إن كل ما أريد هو أن أعيد لروسيا ما أخذه اليابانيون من بلادي!
وقال روزفلت معلقا على هذا: يبدو أن هذا الكلام معقول جدا! (25) قياصرة الكرملين
كانت الفكرة السائدة هي أن «المكتب السياسي» الذي يشرف على السياسة العليا في اتحاد الجمهوريات السوفييتية جسم متناسق الأعضاء، صلب العود ... ولكنه في الواقع جسم مملوء بالانقسامات الداخلية والمنافسات ...
هكذا يقول الكولونيل الروسي جريجوري توكايف، وهو من كبار ضباط الجيش الروسي الذين فروا من روسيا.
ويستطرد الضابط الروسي الكبير فيقول: إنه منذ أنشئ هذا المكتب السياسي في عام 1917، لم يحدث مطلقا أن استكمل مدته القانونية المحددة بسنوات خمس دون أن يبتر عضو من أعضائه أو أكثر من عضو، بل لقد حدث هذا مدة الحرب نفسها، على حين كانت الظروف تقتضي وقتئذ تركه كما هو.
وقد كان هذا المكتب أول مكتب سياسي يتكون من أفراد «الحرس القديم» أو «حرس لينين» كما كان يطلق عليه ... ولم يبق من أفراد هذا الحرس في النهاية إلا ستالين.
أما باقي الأعضاء وهم: زينوفييف وتروتسكي وكامنيف وبوخارين وكرستينسكي وغيرهم فقد بتروا من المكتب بترا - كل بدوره - لسبب واحد هو خلافهم مع الزعيم!
وقد عين ستالين مكانهم أنصاره وزملاءه في الجهاد، وجلهم من مسقط رأسه في القوقاز، وكان هذا التغيير يقتضي في كل مرة مذابح ومجازر دموية يروح ضحيتها آلاف الأشخاص. •••
وهكذا جمع ستالين من حوله في الكرملين حفنة من الرجال يعاونونه ويقفون وراءه، ويشتركون معه في تكييف الأحداث.
ستالين ... صاحب أكبر تمثال أقيم لكائن حي.
وكان أبرز رجال الكرملين هم أعضاء المكتب السياسي ...
وكان أبرز أعضاء المكتب السياسي هو «ياستيلاف ميخايلوفيتش مولوتوف» الذي شغل مقعد وزير الخارجية والنائب الأول لرئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفييتي.
وقد بدأ مولوتوف حياته السياسية سنة 1906 بالانضمام للحزب الشيوعي، وانتهى به الأمر إلى أن أصبح عضوا في مجلس السوفييت الأعلى، ثم عين عضوا في المكتب السياسي سنة 1926.
ويبدو مولوتوف أبعد ما يكون في منظره عن رجال السياسة، وربما كان لينين نفسه - نبي الشيوعية - أصدق من رسم صورة لمولوتوف.
مولوتوف.
بيريا.
ميكويان.
بولجانين.
فقد حدث أن جاء ستالين مرة يقترح على لينين في حياته أن يعين مولوتوف عضوا في مجلس السوفييت الأعلى.
وسأل لينين باستنكار: مولوتوف؟!
وقال ستالين: نعم مولوتوف، لقد كان من أوائل الذين انضموا إلى الحزب، ثم هو من مؤسسي جريدة برافدا ...
وقاطعه لينين: نعم ... نعم ... أعرف كل هذا، ولكن يخيل إلي أن مولوتوف يصلح بهيئته أن يكون موظف أرشيف!
ولقد أصبح موظف الأرشيف في رأي لينين ... وزيرا لخارجية روسيا سنة 1939.
وقد كان مولوتوف هو الذي وقع مع ألمانيا ميثاق عدم الاعتداء في أغسطس سنة 1939، وكان هو الذي سافر إلى ألمانيا سنة 1941 ليحسن العلاقات، وكانت النتيجة وقد رواها الماريشال جورنج على لسانه: بعد أن انتهت زيارة مولوتوف ومقابلته لهتلر، التفت إلى الفوهرر - أي: هتلر - وقال: «يظهر أننا يجب أن نسرع بغزو روسيا»!
وقد تولى مولوتوف خلال الحرب الأخيرة - علاوة على عمله كوزير للخارجية - مهمة الإشراف على برنامج إنتاج الدبابات.
ولقد شوهد مولوتوف مرة واحدة يضحك من أعماقه، وقد روى الجنرال «ولتر بيدل سميث» سفير الولايات المتحدة السابق في موسكو قصة هذه المرة، فذكر أنه حدث أثناء اجتماع وزراء خارجية الدول الأربع الكبرى في موسكو أن أقيمت حفلة عشاء تكريما لهم في السفارة الأمريكية، وفي ركن من الصالون بعد العشاء جلس مولوتوف وبيفن يتبادلان النكت الساخرة ...
وفجأة سمع السفير الجنرال بيدل سميث صوت قهقهة عالية غريبة، فالتفت وإذا مصدرها مولوتوف، وأسرع السفير يتقصى السبب، وظهر أن بيفن روى نكتة عن لينين ورفض المترجم «الرفيق تريانوفسكي» الذي كان ينقل الأحاديث بين الوزيرين أن يترجمها إلى الروسية، وقال للمستر بيفن بالإنجليزية وصوته ينتفض غضبا: سيدي ... نحن هنا في روسيا لا نروي نكتا عن لينين!
وأحرج بيفن وتلعثم ... وأحس مولوتوف أن هناك شيئا فطلب من المترجم أن يروي القصة، ولما سمعها كانت هذه القهقهة المرتفعة ... الوحيدة التي سمعها العالم علنا من مولوتوف.
وكان الرجل الثالث في الكرملين هو الرفيق «جيورجي ماكسيجليانوفيتش مالنكوف».
وكان يشغل أيضا - كمعظم أعضاء المكتب السياسي - منصب نائب رئيس الوزراء.
وعين مالنكوف عضوا في المكتب السياسي من سنة 1946، وتولى سكرتارية الحزب الشيوعي، وهو نفس المنصب الذي كان يشغله الماريشال ستالين.
وقد كان مالنكوف سكرتيرا خاصا لستالين، وكان ستالين هو الذي دربه على العمل بنفسه، وشجعه، ووضعه في أخطر المناصب.
وثمة أوجه شبه كبيرة في تاريخ حياته وتاريخ حياة ستالين ...
فقد كان كلاهما من جورجيا، وكلاهما شغل تقريبا نفس المناصب.
وكان الرجل الرابع في الكرملين هو «لافرنتي بافلوفيتش بيريا»، وكان اسم «بيريا» يلقي الذعر في كل مكان؛ لأن «بيريا» كان مدير البوليس السري، وكان أيضا وزير الداخلية، وعضو المكتب السياسي المسئول عن الأمن في كل أنحاء الاتحاد السوفييتي.
وكان «بيريا» من أقرب رجال الكرملين إلى ستالين الذي أيد تعيينه عضوا في المكتب السياسي سنة 1946، وجعله عضوا في مجلس السوفييت الأعلى، ومنحه رتبة «ماريشال الاتحاد السوفييتي».
وكان «بيريا» هو الرجل المسئول عن الذرة في روسيا، فرأس شبكة الجاسوسية المخصصة لمعرفة أسرار الذرة في العالم الخارجي، والهيئة المشرفة على موارد الذرة. •••
وكان كل الناس في موسكو يقولون: إن «بيريا» يجلس على نفس القمة الخطرة التي جلس عليها قبل ذلك «ياجودا» و«يزهوف»، وقد اختفى كل منهما في ظروف مثيرة، وتحقق يقينا ما تنبأ به الناس.
وكان الرجل الخامس في الكرملين هو «نيكولا ألكسندروفيتش بولجانين».
وقد كان «بولجانين» وزيرا للقوات المسلحة أيام الحرب.
ودخل المكتب السياسي عضوا احتياطيا سنة 1946، وفي سنة 1948 أصبح عضوا أصيلا في المكتب.
ستالين يتوسط فوروشيلوف وكالينين (في المؤتمر السادس عشر للحزب).
وكان «بولجانين» هو الوحيد - تقريبا - من أعضاء المكتب السياسي الذي يظهر في الحفلات الديبلوماسية في موسكو.
وكان الرجل السادس في الكرملين هو «لازار موسييفيتش كاجانوفيتش»، وكانوا يطلقون عليه في الاتحاد السوفييتي «القوميسير الحديدي»؛ ذلك لأن «كاجانوفيتش» برع في التنظيم براعة ليس لها نظير في العالم، حتى أصبح كل إصلاح يحتاج إلى حزم أمرا يعالجه ستالين بإرسال «كاجانوفيتش» الذي كان قبل الثورة صانع أحذية!
أما الاسم الثاني الذي كانوا يطلقونه على «كاجانوفيتش» فهو اسم: «اليهودي»؛ ذلك لأن «كاجانوفيتش» كان اليهودي الوحيد من بين أعضاء المكتب السياسي.
وكان الرجل السابع في الكرملين هو «أندريه أندريفيتش أندرييف»، وكان يتولى الإشراف على المزارع الجماعية التي تعتبر العمود الفقري في الاقتصاد الروسي.
وكان رجل الكرملين الثامن هو «نيكيتا خروشيشيف».
وكان الرجل التاسع في الكرملين هو «أليكس نيكولاييفيتش كوزيجين»، وكان يشغل في نفس الوقت منصب وزير مالية الاتحاد السوفييتي.
وكان الرجل العاشر هو «أناستاس إيفانوفيتش ميكويان»، وميكويان من مواليد أرمينيا، وكان يشغل منصب وزير التجارة الخارجية.
والرجل الحادي عشر هو الماريشال «كليمنتي أفريموفيتش فورشيلوف».
وكان آخر رجال الكرملين والرجل الثاني عشر في المكتب السياسي هو «نيكولاي ميخايلوفيتش شفرنيك»، وكان رئيس الدولة في روسيا بوصفه رئيس مجلس السوفييت الأعلى.
وكان لكل عضو من هؤلاء كامل السلطة في اتخاذ الإجراءات ضد أي فرد أو جماعة داخل الاتحاد السوفييتي ... وينطبق هذا القول بصفة خاصة على ستالين وبيريا.
وكان بيريا يرأس هيئة «م. ف. د» التي تدير حركة حكم الإرهاب في روسيا كلها، ولم يكن نائب ستالين فقط، بل كان أخلص أصدقائه؛ إذ كان يدين بمركزه لعلاقته بستالين بوصفه حارسه الخاص داخل المكتب السياسي، فما يكاد عضو من الأعضاء يعارض ستالين حتى يجد نفسه وجها لوجه أمام بيريا.
وكان أقرب الأعضاء اتصالا بمحور ستالين بيريا هو ميكويان بوصفه من أصدقاء ستالين أيضا ومن أبناء وطنه الأصلي ...
ومن هؤلاء الثلاثة: ستالين وبيريا وميكويان كانت تتكون السلطة العليا في المكتب السياسي، وكان أكبر خطر يتهدد هذه السلطة الثلاثية هو خطر زدانوف، فلما تخلصوا منه تنفسوا الصعداء!
وكان أكبر من يؤيد سياسة الأقطاب الثلاثة في المكتب فورشيلوف وخروشيشيف ... وكانا من طراز الأعضاء الذين يبدءون بقراءة التوقيعات التي تذيل ما يقدم إليهم من وثائق، فإذا وجدوا توقيع ستالين وقعوا دون أن يقرءوا أو يناقشوا.
أما قوة مولوتوف فكانت ترجع إلى أنه ظل من عام 1922 إلى عام 1930 يشغل منصب سكرتير اللجنة المركزية، كما أنه كان يشغل من عام 1930 إلى 1940 منصب رئيس مجلس وزراء الشعب.
وهكذا تبوأ أكبر منصب في الاتحاد السوفييتي بعد منصب ستالين نفسه ... والمعروف أن ستالين هو الذي رفعه إلى هذه المناصب العليا ... (26) قضية الأطباء
يبدو أن ستالين في عامه الأخير كان يفكر في مجزرة دموية كبيرة من نوع تلك المجازر التي وقعت بين عامي 1935 و1939.
ففي مستهل عام 1953 وجه الاتهام إلى بعض كبار أطباء الكرملين، وقيل: إن المسئولين قد «اكتشفوا» أن هؤلاء الأطباء قد دسوا السم لأندريا زادنوف ولألكسندر شيرباكوف، وكان الاعتقاد سائدا قبل ذلك بأنهما قد ماتا موتا طبيعيا.
وما لبث الأطباء الذين وجهت إليهم هذه التهمة أن «اعترفوا» بأنهم كانوا يدبرون جرائم أخرى بدس السم البطيء المفعول لبعض كبار ماريشالات الجيش وقواده.
وكانت إزاحة الستار عن مؤامرة الأطباء مصحوبة بالنداء المعتاد في مثل هذه الظروف؛ وهو ضرورة اتخاذ الحيطة والحذر الشديد من الجواسيس والمخربين والمدمرين، كما وجه الاتهام إلى القوات المسئولة عن المحافظة على الأمن الداخلي بقيادة لافيرنتي بيريا بأنها قد فشلت في حماية حياة الذين راحوا ضحية لتآمر هؤلاء الأطباء، كما فشلت في اكتشاف مؤامراتهم.
وكثر الحديث وقتئذ عن «مرض الإهمال والتساهل والغباوة والخطأ».
وقيل: إن المؤامرة أوسع نطاقا مما يتصور الناس، وإن لها اتصالات بهيئات معادية خارج الاتحاد السوفييتي، وإن عددا من الدول الاستعمارية كان يعمل على تشجيع هذه المؤامرة ويمولها، كما جاء في البلاغ الرسمي الذي نقلته وكالة تاس السوفييتية ونشرته جريدة برافدا في يوم 13 يناير سنة 1953 أن الهيئات التي شجعت المؤامرة في الخارج كانت تعمل على: «... نشر التجسس الواسع المدى والإرهاب وأعمال التخريب الأخرى في بلاد كثيرة من بينها الاتحاد السوفييتي.»
وذكر البلاغ كذلك أن ثلاثة من الأطباء الذين اشتركوا في المؤامرة ثبت أنهم عملاء للمخابرات البريطانية.
وكانت الاستعدادات تجري لمحاكمة هؤلاء الأطباء والقضاء عليهم، إلا أن المنية عاجلت ستالين؛ ففي أقل من شهرين من إذاعة نبأ اكتشافها (13 يناير 1953) سقط ستالين على فراشه مصابا بنزيف في المخ (ليلة 1 و2 مارس 1953)، ومع ذلك فقد عرف أن اثنين من الأطباء الذين وجهت إليهم التهمة ولم يكن عددهم يقل عن اثني عشر طبيبا، عرف أن اثنين منهم قد توفيا في السجن بسبب ما لقياه من تعذيب.
وخير من يقص علينا قصة «قضية الأطباء» هو الرفيق خروشيشيف في خطابه المشهور الذي فضح به زعيمه السابق ... فهو يقول:
والآن دعونا نتذكر قضية الأطباء المتآمرين المزعومة.
الواقع أنه لم تكن هناك قضية ما ... فكل ما أقيمت عليه القضية من أسانيد هو تصريح الدكتورة تيماسول التي كان من المحتمل أنها تأثرت أو تلقت أمرا من شخص ما «ومن المحتمل أنها كانت تتعاون بصفة غير رسمية مع إدارة البوليس السري» بأن تكتب رسالة لستالين تزعم فيها أن الأطباء كانوا يطبقون وسائل غير صحيحة في علاجه.
وهكذا كان هذا الخطاب وحده هو الدليل الذي جعل ستالين يستنتج وجود أطباء متآمرين في الاتحاد السوفييتي، ومن ثم أصدر أوامره بالقبض على جماعة من أطباء الاتحاد السوفييتي الأخصائيين البارزين، وأصدر بنفسه التوجيهات اللازمة لتحقيق الموضوع وطريقة استجواب الأشخاص المقبوض عليهم.
وكذلك قال ستالين نفسه: إن الأكاديمي فينوجرادوف يجب أن يكبل بالأغلال، وإن شخصا آخر يجب أن يضرب. ومن بين الحاضرين في هذا المؤتمر وزير أمن الدولة السابق الرفيق إيجناتييف الذي قال ستالين له بقسوة: إذا لم تحصل على اعترافات من الأطباء فستفصل رأسك عن عنقك!
كذلك استدعى ستالين شخصيا القاضي المحقق وأصدر إليه تعليماته، وشرح له الوسائل التي يجب أن تتبع في التحقيق.
وكانت هذه الوسائل بسيطة: اضرب واضرب ثم اضرب مرة أخرى ...
وبعد القبض على الأطباء بفترة قصيرة تلقينا نحن أعضاء المكتب السياسي عدة محاضر تشتمل على «اعترافات» الأطباء بجرائمهم، وبعد توزيع هذه المحاضر علينا قال لنا ستالين: إنكم عميان كالقطط الصغيرة! ماذا كان عساه يحدث لولاي؟ سوف تضيع البلاد لأنكم لا تعرفون كيف تميزون الأعداء؟!
ولقد عرضت القضية بشكل يعجز معه أي شخص عن معرفة الحقائق التي يبنى عليها التحقيق، كما كان من المستحيل الاتصال بأولئك الذين «اعترفوا» بجرائمهم لمعرفة الحقائق منهم. ولكننا كنا نشعر بأن تلك القضية تكتنفها الشكوك؛ ذلك أننا كنا نعرف بعض هؤلاء الرجال شخصيا، فهم قد تولوا علاجنا في بعض الأحيان.
وعندما درسنا هذه «القضية» بعد موت ستالين تبين لنا أنها كانت ملفقة من الألف إلى الياء.
إن هذه «القضية» الشائنة كانت من تلفيق ستالين. ومن حسن حظ الأطباء أن ستالين لم يتسع له الوقت الذي يمكنه من إنهاء «القضية» على النحو الذي كان يرتئيه، ولهذا السبب ما زال هؤلاء الأطباء على قيد الحياة.
وقد رد إليهم جميعا اعتبارهم وهم يعملون في نفس الأماكن التي كانوا يعملون فيها من قبل، ويعالجون كبار الأفراد بما فيهم رجال الحكومة، كما أنهم يتمتعون بثقتنا الكاملة، ويؤدون واجبهم بأمانة مثلما كانوا يفعلون من قبل. (27) وفاة ستالين
لم يحدث في التاريخ أن جمع حاكم في يده مثل هذه السلطة المطلقة التي كانت لستالين، سواء كان «خان» أم «قيصر».
لقد كان أعظم من بطرس الأكبر فمد إمبراطورية روسيا حتى شملت ربع الأرض، كما امتد ظلها إلى باقي الكرة الأرضية ...
كانت كلمته «إنجيلا» ...
وكانت رغبته قانونا!
كان الكثيرون يعتبرونه: «من لا يقهر» و«العم» و«الأخ الكبير» و«الأب العظيم» و«القائد» و«المعلم».
وقال فيه أحد الشعراء السوفييت:
زعيم جميع الناس ...
الذي يدعو المخلوقات إلى الحياة
ويوقظ الأرض!
ولكنه مع ذلك كان لا يعدو أن يكون مخلوقا آخر بين المخلوقات وقع له ما يقع لسائر المخلوقات العادية، فقبيل الساعة العاشرة من مساء يوم الخميس 5 مارس من عام 1953 توفي جوزيف فيساريو نوفيتش، المشهور باسم كوبا «الذي لا يقهر»، أو ستالين «رجل الصلب».
وكانت وفاته مثل حياته، يكتنفها الظلام والسر والغموض، ولم يعرف العالم الخارجي حتى في هذه المناسبة التاريخية الهامة إلا ما أراد أن يقدمه له المحيطون بستالين من معلومات.
عرف العالم أنه حدث في مساء يوم الأحد السابق للوفاة أن أصيب ستالين بإغماء نتيجة انفجار شريان من شرايينه، وقد أعقب الانفجار نزيف شديد في الجهة اليسرى من المخ، وكان من نتيجة ذلك أن شلت حركة يده اليمنى وساقه اليمنى كما أنه فقد النطق ...
ودعي أكبر الأطباء في الاتحاد السوفييتي، وعلى رأسهم وزير الصحة ومعه تسعة من الأخصائيين لعلاج المريض، وقد فرضت عليهم جميعا رقابة شديدة، وأحصيت كل همسة من همساتهم أثناء تشاورهم.
كان هناك تسعة أطباء يراقب كل واحد منهم الآخر، كما أن وزير الصحة كان يراقب الأطباء، كما أن اللجنة المركزية والحكومة كانتا تراقبان الوزير، وكان كل ذلك يعلن للعالم.
وكتم السر العظيم مدة 48 ساعة فلم يعلم به إلا المقربون والأطباء ...
وفي صبيحة يوم الأربعاء، عند الساعة الثامنة تماما أذيعت الأخبار على العالم كله بعد أن ردد راديو موسكو صوت أجراس الكرملين التي تلتها موسيقى حزينة هادئة، ثم تكلم المذيع بصوت بطيء فقال:
إن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بالاتحاد السوفييتي ومجلس وزراء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية يعلنان ما حل من مصاب أليم بالحزب والشعب؛ وهو خبر المرض الخطير الذي ألم بالرفيق ج. ف. ستالين، إذ حدث خلال ليلة 1-2 مارس أن أصيب الرفيق ستالين بنزيف أثر على أجزاء حيوية من مخه.
إن اللجنة المركزية ومجلس الوزراء ليعبران عن ثقتهما في أن الحزب وجميع أفراد الشعب السوفييتي سيظهرون في هذه الظروف أعظم الاتحاد والائتلاف وسمو الروح المعنوية والحذر.
وتبع ذلك بلاغ ثان أصدره أطباء جوزيف ستالين العشرة، وجاء به:
اتخذت في يومي 2 و3 مارس الإجراءات الضرورية للعلاج مستهدفة تحسين التنفس المضطرب والدورة الدموية ...
وفي الساعة الثانية من صباح يوم 4 مارس كانت حالة ج. ف. ستالين الصحية لا تزال خطيرة ... فالتنفس 3600 في الدقيقة ... والنبض 120 وهو غير منتظم بالمرة.
وتعطل صدور صحف الصباح في روسيا عدة ساعات حتى ساورت أهل موسكو وهم في طريقهم إلى العمل الشكوك والمخاوف، وأخذوا يجتمعون ويقفون أمام أكشاك بيع الصحف وهم يتساءلون ويستفسرون، وبعد الساعة الثامنة بقليل وصلت الصحف وكلها ملأى بالتفاصيل التافهة، وبدأ الروس يعلمون مثل باقي الناس في أنحاء العالم كله تفاصيل دقيقة خاصة عن ستالين وهو على فراش موته أكثر مما علموا خلال الأعوام التسعة والعشرين التي حكم فيها.
وفي داخل الكرملين كان الطب يبذل أقصى جهوده مع المريض الذي يبلغ الثالثة والسبعين من عمره، واستعمل الأطباء البنسلين، وقناع الأوكسجين، وحقن «الجلوكوز» للتغذية، و«الكافيين» للتقوية، بل لقد استعملوا وسائل قديمة في العلاج ومنها طريقة الدود الذي وضعوه لكي يمتص الدم من بعض أوردته!
وصدر بلاغ آخر:
في خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية ظلت حالة ستالين خطيرة، واستمر النزيف في المخ فأثر على الأعصاب، وعلى التنفس، وعلى الدورة الدموية، والمريض في حالة غيبوبة ... وفقدان تام للوعي.
وتغير الجو فجأة فانقلب من سماء مارس الصافية إلى سحب داكنة وثلوج متساقطة، وأخذ الناس يجتمعون في كل أنحاء روسيا حول مكبرات الصوت وحول الأمكنة التي كانت تعلق فيها النشرات، وفي موسكو تجمع عدد كبير من الناس أمام بوابات الكرملين، وكانوا يرتجفون من شدة البرد وهم يقفون تحت وابل من الثلوج المتساقطة وقد ارتدوا جميعا الملابس الثقيلة ...
كان الحزن الشديد باديا على وجوههم ...
وكانوا يتبادلون الهمسات إذا أرادوا أن يتحدثوا ...
وانسابت الدموع من عيون كثيرين ...
وكان بعضهم ينشج بالبكاء ...
وبعد أربع عشرة ساعة صدرت النشرة الطبية الثالثة، وقد جاء بها:
خلال ليلة الأربعاء والجزء الأول من النهار ساءت حالة جوزيف ستالين، وعند الساعة الثامنة هذا الصباح بدت بعض علامات تشير إلى انهيار ... وفي الساعة الحادية عشرة والنصف حدث انهيار ثان خطير ...
ودعا رؤساء رجال الدين من مختلف الأديان والملل جميع أتباعهم إلى إقامة الصلوات حتى يمن الله بالشفاء على رجل كان ينكر وجود الله!
واستمر الأطباء داخل الكرملين في القيام بجهودهم ... وكانت حركاتهم تحصى عليهم وتراقب بكل دقة، فقد كان «القتل بمساعدة الطب» فنا معروفا في ذلك العالم الذي بناه ستالين، وكان خلفاؤه يسعون إلى تسجيل لحظات زعيمهم الأخيرة وما يطرأ في كل ثانية منها بكل عناية ...
ودعي «أفراد الأسرة» للحضور، وكان بينهم ابنه فاسيلي، وكان سنه إذ ذاك 32 عاما، وكان يشغل وظيفة قائد القوات الجوية، وجاءت كذلك ابنته «سفتلانا» وكان سنها 30 عاما، ولم يذكر أحد زوجة ستالين الثالثة روزا شقيقة زميله القديم لازار كاجانوفيتش.
ولكن الرجل المحتضر لم يستيقظ مطلقا لكي يودع أهله وأقاربه وأصدقاءه وأبناءه ...
وفي الساعة التاسعة والدقيقة 50 من تلك الليلة صعدت روحه إلى بارئها ...
وبعد ست ساعات صدر البلاغ الرسمي التالي:
توقف عن الدق قلب الرفيق الموهوب حامل رسالة لينين، الزعيم الحكيم، معلم الحزب الشيوعي والشعب السوفييتي ... جوزيف فيساريو نوفيتش ستالين.
أيها الرفقاء الأعزاء والأصدقاء.
إن الوحدة الشبيهة بالصلب والائتلاف الوطيد بين صفوف الحزب هما الشرط الأساسي لقوته وصلابته.
إن مهمتنا هي أن نقوم على حراسة وحدة الحزب الصلبة المتكتلة كما تحرس حبات عيوننا ... اليقظة السياسية العالية ... عدم المهادنة ولا التردد في الصراع ضد الأعداء سواء في الداخل أو الخارج ... إن أعظم واجب للحزب والحكومة هو ضمان الزعامة المستمرة الصحيحة ... وأعظم وحدة للقيادة ومنع وقوع أي نوع من الفوضى أو الذعر ...
فلتحي تعاليم ماركس وأنجلز ولينين وستالين العظيمة المنتصرة.
فليحي وطننا القوي الاشتراكي!
فليحي شعبنا السوفييتي البطل!
وأعقبت ذلك حوادث غريبة: فإن وزير الصحة ترتياكوف، الذي تولى بنفسه مباشرة علاج ستالين في مرضه الأخير، اختفى دون أن يترك أثرا. وفي نفس الليلة التي مات فيها ستالين اختفى كذلك الجنرال بوسكريبيشيف رئيس سكرتارية ستالين الخاص، وهو الذي كان يعهد إليه بعمليات التطهير.
ستالين في نعشه.
وتخلف ابن ستالين، فاسيلي، وكان قائد القوة الجوية في دائرة موسكو العسكرية عن الاشتراك في جنازة والده، ولم يسمع عنه شيء بعد ذلك.
وإلى جانب هؤلاء اختفى أيضا قائد حامية الكرملين في موسكو وهو الجنرال سبيرودوتوف، وكذلك قائد حامية مدينة موسكو نفسها: الجنرال سينيلوف، وقائد منطقة موسكو العسكرية: الجنرال أرتميف.
وكان قد مضى على موت ستالين ست ساعات وعشر دقائق قبل أن يعلن رجال الكرملين والمسئولون فيه هذا النبأ للعالم، ولا شك أن هذا التأخير في إعلان النبأ، في عصر يعلن فيه مثل هذا النبأ، بل وما هو أقل أهمية منه بعد ثانية واحدة من وقوعه، لمما يثير التساؤل والشكوك ... بل لقد قال البعض: إن هذا الموت الذي أعلن عنه إما أنه قد جاء في أوانه، وإما أن الوقت الذي حدد له كان مضبوطا! فإن كل من كان يطلع على البلاغات المتتابعة عن المرض وتطوره كان يستنتج أن قوانين الحياة والموت تسير وراء أسوار الكرملين بشكل يختلف عن سيرها في أي مكان آخر ... (28) خلافة ستالين
وصف هاريسون سالسبوري الذي كان يقوم بوظيفة مراسل جريدة النيويورك تايمز الأمريكية في روسيا، وصف موسكو يوم وفاة ستالين وأثر وفاته وصفا دقيقا قال فيه: حتى الساعة الخامسة صباحا من ذلك اليوم لم يكن ثمة أي شيء غير عادي في قلب مدينة موسكو؛ فالحركة في الشوارع عادية، والبوليس العادي ساهر عند إشارات المرور وحول أركان الكرملين، وكانت الليلة التي انقضت من ليالي مارس الباردة ولكنها لم تكن أكثر برودة من المعتاد في موسكو، وعند الفجر كان الثلج كله قد أزيل من الشوارع كما جرت العادة.
ولكن الآن وعندما أعلنت العقارب الذهبية الفخمة في الساحة الموجودة في بورج سباسكي السادسة، بدأ التغير يظهر، لقد بدأت تتدفق على المدينة من كل مكان أسراب من سيارات اللوري ... من شارع جوركي العريض، ومن تلال لوبيانكا، وعبر الكوبري الحجري الضخم فوق نهر الموسكوفا، من جميع الأطراف كانت أسراب سيارات اللوري تتدفق على الميادين الرئيسية في المدينة.
وعلى مقاعد هذه اللوريات الخضراء كان جنود البوليس السري في ملابسهم ذات اللونين الأزرق والأحمر يجلسون كل 22 في سيارة، إنها القوات الخاصة بوزارة الأمن الداخلي آتية من معسكراتها التي تقع قريبا من ضواحي موسكو، وظلت السيارات تتدفق بكثرة وتخترق شوارع المدينة حتى خيل إلي أول الأمر أنني إزاء «انقلاب»، فلما بدأت هذه القوات تأخذ مراكزها اتضحت الحقيقة لي.
إن ما أراه هو حركة من أذكى الحركات العسكرية التي رأيتها في حياتي، ومن أخطرها أيضا؛ ففي دقة عقارب الساعة بدأت قوات الأمن الداخلي تأخذ أماكنها في جميع الشوارع الرئيسية المؤدية إلى قلب المدينة، أما السيارات التابعة لها فقد كانت تقف بحيث تسد مداخل كل الشوارع الجانبية، وفي حلقات متتابعة كأنها متاريس تحكم إغلاق منافذ هذه الشوارع الجانبية تماما.
وعندما عدت في الساعة التاسعة صباحا إلى شارع جوركي بعد أن أرسلنا برقياتنا إلى الخارج بنبأ وفاة ستالين وجدت تغيرا آخر؛ فإلى جانب قوات الأمن المعسكرة عند النواصي بحيث تسيطر على الطرقات كلها ظهرت طوابير من الدبابات، وكنت أسمع صوت دبابات أخرى تزحف في الشوارع القريبة متجهة إلى قلب المدينة أيضا، كانت كل القوات والسيارات والدبابات تابعة لوزارة الأمن الداخلي.
لم تكن هناك كتيبة واحدة تابعة لقوات الجيش النظامي.
وأعترف بأن هذا كله لم يلفت نظري أول الأمر، ربما لأنني كثيرا ما رأيت قوات الأمن الداخلي تملأ الشوارع في خلال أيام الاحتفال؛ كيوم أول مايو ويوم 7 نوفمبر، وربما لأنني كثيرا ما رأيت المعسكرات الضخمة التي تقيم فيها هذه القوات على طول الطرق الزراعية المحيطة بموسكو، ولم أجد غرابة في أن تظهر قوات الأمن الداخلي في هذه المناسبة الخاصة؛ فمهمتها على أية حال هي المحافظة على الأمن والنظام خلال الساعات التي سوف يتم فيها نقل جثمان ستالين.
وبالرغم من أن قلة عدد السيارات والأوتوبيسات جعلتني أدرك أن بعض الطرق قد أغلقت بالفعل، إلا أنه كان ما يزال ممكنا أن أدخل الميدان الأحمر، وأن أسير فيه لأرى ما هنالك.
كان هناك حوالي ألفين من الناس قد تجمهروا عند بوابة سباسكي، في انتظار خروج جثمان ستالين، كانت هذه أول مرة أرى فيها تجمهرا ما في موسكو.
وبعد قليل دخلت بعض قوات الأمن الداخلي الميدان الأحمر، أغلقت الميدان أول الأمر حتى لا يدخل مزيد من الناس، ثم بدأت تجلي الناس المتجمهرين تدريجيا وتدفعهم من حول بوابة سباسكي إلى مدخل الميدان من ناحية متحف الثورة.
كان واضحا أن قوات الأمن لا تريد أن تخلي الميدان الأحمر وحده، بل والميادين المتصلة به أيضا: ميدان مانزيتي، وميدان الأوبرا، أي: تخلي قلب موسكو بأكمله، وقد اكتشفت بعد ذلك أن قوات الأمن الداخلي قد عزلت مدينة موسكو كلها أيضا.
فبواسطة صفوف اللوريات والدبابات، وحلقات الجنود الذين يقفون كتفا إلى كتف أغلقت هذه القوات مداخل موسكو كلها، وامتنع أي دخول أو خروج منها أو إليها ...
وفي الساعة العاشرة من صباح 6 مارس 1953 لم يكن أي مخلوق يستطيع أن يدخل أو يخرج من موسكو إلا بإذن من وزارة الأمن الداخلي.
وفي هذه الأثناء كنت قد خرجت مع الناس من الميدان الأحمر ولم أجد ما أستطيع أن أفعله في الشارع، فعدت إلى فندق متروبول واتخذت مركزا للمراقبة في حجرة القائم بأعمال مفوضية المكسيك، وهي في الدور الثالث، ولها نافذة كبيرة تطل على الميدان، ومن النافذة راقبت عملية إجلاء الناس من قلب موسكو.
وعندما خلت هذه الميادين من الحركة، خيم على المدينة صمت غريب، كان النشاط الوحيد ينحصر أمام بهو الأعمدة الذي كان فيما مضى ناديا للنبلاء، وكنت أراه من الميدان، وعند ناصية شارع بوشكين كان العمال عند مبنى بهو الأعمدة ينصبون الرايات والأزهار، ويعلقون صورة ضخمة جدا لستالين تغطي طابقين من المبنى.
ستالين السيد! الوداع الأخير!
وظهرت في الميدان سيارة نقل عادية زرقاء اللون خلفها ثلاث سيارات زيس سوداء، جاءت من الميدان الأحمر، ووقفت سيارة النقل أمام الباب وتقدم عدد من الجنود وأخرجوا منها تابوتا لا شك يضم جثة جوزيف ستالين، ودخلوا به إلى المبنى، لكي يرقد في نفس المكان الذي رقد فيه لينين من قبل ... لكي يمر الناس من أمامه محيين.
وبدأت سيارات الليموزين تتدفق على مبنى بهو الأعمدة، كان واضحا أن كبار رجال الدولة قد جاءوا لتحية ستالين.
وسمعت إشاعة تقول: إن قطارات محملة بمئات الآلاف من الناس وصلت إلى موسكو، وأن الناس يتدفقون من كل مكان لرؤية ستالين بعد موته، ونزلت إلى الطريق لأتأكد من ذلك، وحاولت الوصول إلى محطات السكة الحديد ...
إن الحصار المضروب على المدينة أكثف مما أحسب؛ قوات الأمن في حلقات متتالية من قلب المدينة حتى أطرافها، تعزل المدينة تماما من الداخل ومن الخارج ...
وعندما عدت إلى الميدان الأحمر في صمته المخيم، وبعد أن رأيت هذه القوات الضخمة بدأت الفكرة تدق رأسي لأول مرة: أي قوات هذه التي تسيطر على المدينة؟ قوات الأمن. هل هناك أي قوات أخرى في المدينة؟ كلا. هل تستطيع أي قوات أخرى أن تدخل المدينة؟ كلا، إلا بإذن خاص من قوات الأمن، أو بأن تقاتل هذه القوات شارعا شارعا ومتراسا وراء متراس. والقوات الجوية؟ لن تنفع؛ إنها ستدمر المدينة كلها، وتبقى قوات الأمن مسيطرة على كل طريق وكل نقطة استراتيجية فيها.
وماذا عن الكرملين؟ الذين يجلسون فيه الآن جاءوا بإذن من قوات الأمن، وهم لا يستطيعون الخروج إلا بإذن منها. إنهم في الواقع أسرى هذه القوات سواء كانوا يعرفون ذلك الآن أم لا يعرفونه، ورجال مثل رجال الكرملين بخبرتهم في الثورات والانقلابات والحرب الأهلية لا يمكن أن يكونوا غير ملمين بعناصر الموقف وحقيقته، لقد كانت الحقيقة واضحة، قوية، تفرض نفسها فرضا.
إن قوات الأمن ليست فرعا من الحكومة؛ إنها لرجل قوي قاس ذو قدرة خارقة اسمه لافرنتي بافلوفتس بيريا، ولقد كانت قوات بيريا وسيارات بيريا ودبابات بيريا هي التي قامت بهذه المناورات العسكرية العجيبة، واستولت على مدينة موسكو في نفس الوقت الذي كان فيه راديو موسكو يعلن نبأ وفاة ستالين على المواطنين المذهولين ...
لقد وضع بيريا يده على موسكو في دقة الساعة ونعومتها، وإذا استولى بيريا على موسكو فقد استولى في واقع الأمر على روسيا كلها.
فمنذ فجر 6 مارس حتى عصر 9 مارس كان بيريا هو سيد روسيا وحاكمها، كان هو الأعلى، لم يكن هناك أي فرد آخر يجسر على تحديه، لا مالينكوف ولا خروشيشيف ولا مولوتوف، ولا الجيش نفسه!
كان بيريا يستطيع في خلال ال «خمس وسبعين ساعة» التي حكم فيها أن يعلن نفسه دكتاتورا وخليفة لستالين، ولكنه لم يوجه ضربته في هذه اللحظة بالذات، وبتأجيلها حدد مصيره.
إن الحياة التي انتهت بالإعدام ليلة عيد الميلاد سنة 1953 في لوبيكا قد تقرر مصيرها منذ تلك الأيام في مارس عندما فشل بيريا في استخدام سلطته.
لقد كان «استعراض القوة» الذي نفذه بيريا ناعما بارعا، كاملا إلى درجة أن أي شخص لمح ذلك لا يمكن أن يلتقط أنفاسه في هدوء إلا إذا وثق في بيريا تماما، أو خضع لسلطته المطلقة.
وفي اليوم التالي عندما رقد ستالين بجوار لينين وقف بيريا في الميدان الأحمر جنبا إلى جنب مع مالينكوف ومولوتوف.
وعندما وقفت تحت شمس مارس الشاحبة أستمع إلى بيريا خيل إلي أن ثمة تيارا خفيا في خطبته ينبع من ثقته المطلقة في قوته.
وفي تلك الليلة أرسلت في برقيتي إلى النيويورك تايمز أقول: «كانت نبرات مستر بيريا بالذات تنم عن ثقة ملحوظة.»
ثم يضيف سالسبوري - موضحا أهمية بيريا - فيقول: إن البوليس كان أقوى جهاز فردي في الدولة كلها، كانت جذوره تمتد في جميع فروع الدولة والحزب والجيش على السواء، والأهم من ذلك أن بيريا هو المسئول عن الأبحاث الذرية والإنتاج الذري في روسيا.
كان هو الرجل الذي أشرف على إدارة القنبلة الذرية، وهو الذي أدار الجهود التي أدت بعد القبض عليه بقليل إلى تفجير القنبلة الهيدروجينية ... •••
ولكن بيريا وغيره من الزعماء رأوا في الفترة التي أعقبت وفاة ستالين أن يتظاهروا بحرصهم التام على الوحدة أو الاتحاد، وأن يحترموا إرادة ستالين بتسليم مقاليد الأمور لمالنكوف، وهو الرجل الذي وقع عليه اختيار ستالين نفسه ليكون خليفته منذ عقد المؤتمر التاسع عشر، فقد انتخب مالنكوف في ذلك المؤتمر لوضع التقرير السياسي العام.
كان مولوتوف قد تنحى حتى قبل وفاة ستالين عن رئاسة اللجان معتذرا بأسباب تتصل بسنه وصحته، كما أنه اعتذر عن الرئاسة في حالة اختفاء ستالين.
أما خروشيشيف فقد كان مالنكوف نفسه هو الذي عينه سكرتيرا عاما للحزب دون أن يلقى اعتراضا على ذلك.
وأما بيريا فقد كانت له أطماعه الخاصة؛ ولذلك فقد وقف وحده يحارب هذا الاتجاه الجماعي كما سبق له أن حارب كل ميل كان يبدو لدى أحد أعضاء مجلس الرئاسة.
ستالين مع تلميذه وخليفته: مالنكوف.
وعندما اختير مالنكوف ليخلف ستالين قوبل هذا الاختيار بشيء من الدهشة؛ وذلك لأن الناس كانوا ينظرون إليه على أنه فرد عادي من أفراد الحزب، ولم يكن له ماض في الثورة الاشتراكية، وكانت تنقصه الكثير من صفات القائد ...
ولكن لماذا وقع اختيار ستالين على مالنكوف ليخلفه؟ ولماذا لم يوص باختيار مولوتوف ... الذي كان المرشح الطبيعي لخلافته؟ لقد تضاربت الأقوال في ذلك وذهب البعض إلى أن مولوتوف هو الذي اعتذر عن خلافة ستالين بسبب صحته وتقدم سنه، وقال البعض الآخر: بل إن ستالين هو الذي آثر أن يختص مولوتوف برعاية ابنه وابنته.
وقد تقدم خلفاء ستالين بعد وفاته، وعلى رأسهم مالنكوف، وجميع المظاهر تدل على وحدتهم التامة، ونشرت الصحف تأبين مالنكوف وبيريا ومولوتوف للزعيم الراحل وقد خلدوا اسمه بين أنبياء الشيوعية: ماركس وأنجلز ولينين، ولوحظ أن مولوتوف في خطبته لم يشر بالمرة إلى مالنكوف، أما بيريا فقد نعته ب «تلميذ لينين الموهوب وزميل ستالين في السلاح».
ولكن الواقع الذي يعرفه الجميع هو أن مالنكوف لم يشترك قط في ثورة لينين التي نشبت في عام 1917، أو في الحرب الأهلية التي تلتها.
وبدأ مالنكوف يتحدث عن السلام وإمكان توطيده في أنحاء العالم.
وحدث فجأة بعد أربعة أيام من موت ستالين أن أعلن انتهاء الحداد عليه، وقد أعلن انتهاء الحداد بعد سبع دقائق فقط من إغلاق ضريحه، وطلب من الناس أن ينظروا منذ الآن إلى الأمام لا إلى الخلف ... (29) ستالين يموت ... للمرة الثانية!
ليس عليك إلا أن تنزل بضع درجات فتجد نفسك فورا أمام خزانة كبيرة مصنوعة من الرخام الأخضر، وترى الخالدين، وتنظر إلى لينين النائم في تابوته البللوري، فتراه وقد أغلق عينيه، ووضع يده اليسرى على صدره، وترك يده اليمنى في استرخاء إلى جانب جسمه، ويستريح رأسه الكبير على وسادة من المخمل الأحمر، وقد بدت على وجهه ابتسامة، إنه ينام هناك منذ عام 1924.
وعلى بعد خطوتين منه وفي تابوت آخر يماثل الأول تماما، وفي ظلال نفس الضوء ينام ستالين وهو مرتد زيه العسكري، وقد حلي صدره بجميع الأوسمة التي أنعم بها عليه، ولا يزال على وجهه لون الحياة، ويدرك الناظر إليه في الحال أنه لم ينقض على نومه المدة التي انقضت على نوم الأول، وأنه ليس مستغرقا في نومه استغراق زميله وزعيمه ... وأنه، ربما لهذا السبب، لا يستحق أن يستمتع بالراحة الأبدية التي يستمتع بها لينين!
ويمر الزائرون بهما، كل اثنين معا في صمت وسكون ودهشة بعد أن انقضت عليهم الساعات وهم وقوف في الميدان الأحمر، في جو موسكو المثلج، انتظارا لدخول هذا الضريح، وهو البقعة الوحيدة المقدسة في العالم الشيوعي؛ إن الزائرين اليوم أشد حاجة منهم في أي يوم آخر لمشاهدة المعبودين: لينين وستالين، وإلى لمس التابوتين البللورين.
وعلى بعد ثلاثمائة متر من ضريح لينين وستالين، ووراء الأسوار العالية التي تضم الكرملين، وفي صالة العرش القديمة التي كانت تتجلى فيها عظمة وقوة القياصرة في الماضي، يجتمع المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي،
23
ولأول مرة في التاريخ ينبذ هذا المؤتمر وأعضاؤه ذلك الزعيم الذي طالما أطلقوا عليه في الماضي اسم: صقر السلام، ووالد الشعوب، والحكيم، والذي لا يقهر، ويعكس المؤتمر وأعضاؤه الدور الذي قام به كل من الاثنين اللذين رأينا مومياء كل منهما في كل تابوت من الاثنين.
إن شبح لينين ينمو ويكبر، ولأول مرة منذ 5 مارس من عام 1953، وهو يوم أعلن لأول مرة خبر وفاة ستالين بدأ خلفاؤه وورثته ينكرون جهوده وفضله؛ لقد بدءوا يستنكرون دكتاتوريته، ويفضحون أخطاءه، ويعترفون أن الناس قد عاشوا خلال ثلاثين عاما في خضم من الأكاذيب، وأعلنوا أن الوقت قد حان لإنكار تقديس الفرد.
وهكذا تمكن هؤلاء الذين طالما أشادوا بفضائل الستالينية في الماضي من إصدار الحكم ضد أخطائها وزيفها بنفس القوة، يساعدهم في ذلك تلك المقدرة العجيبة على النسيان.
والواقع أنه سيكون للمؤتمر الشيوعي العشرين نفس الأهمية التاريخية التي كانت للمؤتمرات الدينية الكبرى في تاريخ المسيحية عندما كان يجتمع أقطابها لاتخاذ قرار ما يمس العقائد الدينية، إلا أن الذين اشتركوا في المؤتمر الشيوعي ممن لا يؤمنون بالدين، ولم يسمح بالدخول إلى المؤتمر إلا لأعضائه الذين بلغ عددهم 1645 عضوا، ولبعض «المراقبين» الشيوعيين المخلصين الذين وفدوا من دول أخرى مثل: توريز الفرنسي، وشوتين الصيني، وراكوزي المجري، وبيروت البولندي.
وهؤلاء الأعضاء ال 1645 يمثلون سبعة ملايين روسي، أي: نحو 5٪ من مجموع سكان الاتحاد السوفييتي، ممن يحملون بطاقة عضوية الحزب الشيوعي؛ إنهم خلاصة الشعب الروسي، وهم يواجهون القرارات الحاسمة في المؤتمرات، وعليهم أن يصدروا تأييدهم للرئاسة وهي تدلي إليهم بهذه القرارات.
لقد وفد ال 1645 عضوا من جميع جمهوريات الاتحاد السوفييتي إلى موسكو، وكان من بينهم بعض المتقدمين في السن ممن يذكرون البطولة في عهد لينين، عندما كان المؤتمر يعقد تلو المؤتمر، وكانت هذه المؤتمرات مسرحا للنضال بين أقطاب المذهب الشيوعي وعلمائه وفلاسفته من أمثال: تروتسكي وبوخارين وزينوفييف، وكانت تتخلل النضال السخرية والخطب المختلف وسط الدخان المتكاثف المتصاعد من «البيب» ولفائف التبغ.
إلا أن العدد الأكبر من الأعضاء ممن يقل سنهم عن الثلاثين لم يشهدوا إلا المؤتمرات التي عقدت بين عامي 1939 و1952، وهي المؤتمرات التي كان يرأسها «بوذا» الشيوعية، فيتربع بين كهنته على منصة الرئاسة وسط مظاهر العظمة والأبهة والقوة والتمجيد، وإنهم ليذكرون آخر اجتماع لهم في نفس النظام، وفي ظلال نفس الأنوار الساطعة المنبعثة من نفس «النجف»، وفي نفس قاعة العرش ... فلقد كان ذلك في يوم 5 أكتوبر من عام 1952 عندما شهدوا الزعماء يدخلون بنفس النظام الدقيق واحدا تلو الآخر، فرأوا ستالين يتبعه مولوتوف، ثم مالنكوف، ثم فورشيلوف، ثم بولجانين، ثم بيريا، ثم كاجانوفيتش، ثم خروشيشيف، ثم أندرييف، ثم ميكويان، ثم كوسيجوين، هؤلاء هم الآلهة الذين يعتلون منصة الرئاسة، وقام الأعضاء عندما دخل الآلهة، ثم صفقوا لهم، ثم عادوا فجلسوا.
ولكن أعضاء المؤتمر العشرين ال 1645 دخلوا القاعة في عام 1956، ثم استقروا في أماكنهم، وروت «برافدا» أنه ما كاد يظهر خروشيشيف بصلعته اللامعة، وقامته المديدة، وما كادت أيديهم تتحرك بالتصفيق، وما كاد التصفيق الذي لا نهاية له يصل إلى أذنه حتى صاح خروشيشيف: لماذا تقفون؟ ماذا تظنون؟ هنا ... كلنا سواء! وأنتم مثلنا تماما!
بعد هذا المؤتمر كان في وسع الأعضاء بعد انصرافهم من القاعة وقبل اجتياز أسوار الكرملين العالية أن ينظروا إلى نافذة قاعة مكتب ستالين المغلقة نظرة عادية، وقد وضع من يشاء منهم يده في جيبه، في حين أنه في الاجتماعات الماضية لم يكن الواحد منهم يجرؤ على أن يتطلع بنظره إلى هذه النافذة؛ سواء كانت مغلقة أم مفتوحة. •••
واستغرق خطاب خروشيشيف التاريخي سبع ساعات، استعرض فيها مخازي العهد «الستاليني» ببلاغة أبناء الفولجا. ومحا خروشيشيف أو حاول أن يمحو صورة ستالين، كما رسم مكانها أو حاول أن يرسم صورة من شبح لينين نبي الشيوعية وأستاذها الأول، وإلى جانبه «رفيقة» حياته ناديجدا كروبسكايا وهي تعيش إلى جانبه في الغرف الصغيرة في لندن وميونيخ وزيوريخ وجنيف.
وأخيرا عندما خرج الأعضاء من المؤتمر في مساء الثلاثاء 14 فبراير 1956، خيل إليهم أنهم قلبوا صفحات من تاريخ كانوا يجهلونه، وكانت هناك عواطف مختلفة متضاربة في صدورهم؛ فإن خروشيشيف كان قد زجرهم في عدة مواضع من الخطاب؛ إذ قال مرة: إنني لا أريد أن أراكم من أجل كلمة نعم أو لا، تنتقلون في السيارات الرسمية، وكفاكم استغلالا للسائقين، اعملوا مثلي وتعلموا القيادة!
ثم نزع منظاره ذي الإطار الحديدي عن عينيه، وألقى عليهم نظرة مرحة وقال: ما لي لا أراكم تصفقون لي هذه المرة؟! •••
إن روسيا التي خنقها ستالين أخذت تتنفس بعد المؤتمر أحسن مما كانت تتنفس في الماضي!
ولكن كان واضحا منذ ذلك الوقت أن خروشيشيف إنما يسعى إلى تسلم السلطة، وأنه يسير بخطى حثيثة حتى يصل إلى عرش ستالين، وإذا كان ستالين قد احتاج إلى عشرين عاما حتى يوطد حكمه ويقضي على منافسيه، فإن نيكيتا خروشيشيف لم يحتج إلى أكثر من أربع سنوات!
وكان على خروشيشيف لكي يحقق غرضه أن يمحو من الأذهان صورة ستالين، وأن يحطم تمثاله، ويكشف عن حقيقته، ويبدد الأسطورة التي انتشرت حول اسمه، ويمحو تلك الهالة التي كان هو نفسه أحد الذين طوقوا بها رأس ستالين! (30) ... وبعد ستالين؟!
في النصف الأول من شهر يوليو 1957 لم يكن في الجو السياسي مطلقا ما يوحي بوجود أزمة داخلية في روسيا، ولكن فوجئ الناس بتأجيل رحلة خروشيشيف رئيس الحزب وبولجانين رئيس الوزراء لتشيكوسلوفاكيا، كما فوجئوا أيضا بإلغاء الاستعراض الجوي الكبير الذي كانت حكومة موسكو قد دعت كثيرا من الدول الأخرى لمشاهدته، وأخذ زعماء الشيوعية يفدون تباعا وفي هدوء من جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي إلى موسكو.
وعرف بعد ذلك أن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي قد دعيت لاجتماع غير عادي، وظهرت بعد ذلك الحلقة المفقودة لما نشرت جريدة «برافدا» في مقالها الافتتاحي مديحا للبرنامج الذي وضعه خروشيشيف ووافقه عليه المؤتمر العشرين للحزب في فبراير من عام 1956.
ثم قالت صحيفة الحزب محذرة:
إن الحزب ليس ناديا للمناقشات، والنظام المتناسق للحزب نظام يتقيد به جميع الأعضاء، لا مجرد الأنفار ... ولكن هؤلاء الذين في القمة أيضا ...
وكان خروشيشيف في المؤتمر العشرين للحزب قد نبذ السياسة التي سار عليها الاتحاد السوفييتي مدة 35 عاما متوالية، فاستنكر سياسة «تقديس الفرد»، وتأليه ستالين، كما كشف عن سياسة الإرهاب التي كان ينشرها البوليس، كما أعلن فساد تلك النظريات التي كانت تنادي بوجود «طرق مختلفة» تؤدي كلها إلى الاشتراكية، ونادى بضرورة اتباع سياسة خارجية جديدة تقوم على أساس القوة في سبيل السلام والتعايش السلمي.
وقد فهم مما نشرته برافدا أن بعض زعماء الحزب المتمسكين بسياسة ستالين قد تحدوا زعامة خروشيشيف، وأنه لا بد من إقالتهم من مناصبهم.
كان الفصل الأخير من الصراع بين خلفاء ستالين قد بدأ رغم يمين الإخلاص للزعامة المشتركة الذي أقسموه أمام نعشه عام 1953.
ولكن ماذا كان وراء هذه الأزمة الفجائية في الزعامة السوفييتية؟ وكيف أمكن لخروشيشيف الذي كان يتولى برنامج المزارع الجماعية عند وفاة ستالين أن يتقدم إلى هذا المدى ... وبهذه السرعة؟
لقد كان أول من خلف ستالين كرئيس للوزراء وسكرتير أول للحزب الشيوعي هو جيورجي مالنكوف الذي كان ستالين يشمله برعايته، ويعتبره يده اليمنى، ولكن لم يمض أسبوع واحد حتى سلم مالنكوف سكرتيرية الحزب لخروشيشيف، وعرف أن هذا الأوكراني قد بدأ يصعد السلم، ولقد سار تماما على سياسة ستالين، فاتخذ الحزب وسيلة للقبض على زمام السلطة، وحتى في لجنة الرئاسة التي خلفت المكتب السياسي كان يتحكم دائما في ستة أصوات من الأحد عشر صوتا التي تتكون منها اللجنة.
ولعب خروشيشيف الدور الأول بالاشتراك مع الجيش الأحمر في القضاء على لافرنتي بيريا رئيس البوليس السري في عهد ستالين، وكانت هذه هي المحاولة الأولى في سبيل الاستيلاء على السلطة.
وفي عام 1955 أجبر مالنكوف على الخروج من الحكم؛ وذلك بسبب اقتراحه التحول من الصناعات الكبرى إلى بضائع الاستهلاك.
وبعد عام آخر طرد الزعيم القديم «فياشسلاف مولوتوف» من منصب وزير الخارجية؛ وذلك بسبب اقتراحه سياسة التهدئة مع يوغوسلافيا.
إلا أن لجنة الرئاسة ما لبثت بعد ذلك أن عارضت خروشيشيف ووقفت في وجهه واتهمته بأن سياسته هي التي أدت إلى نشوب الثورة في بولندا والمجر، ومرت أحرج الساعات في حياة خروشيشيف السياسية عندما اجتمعت اللجنة المركزية للحزب في ديسمبر من عام 1956، ووافقت على اقتراح تقدم به «الجناح» الستاليني في اللجنة وهو يقضي بفرض سياسة مركزية للصناعة السوفييتية تحت قيادة دكتاتور اقتصادي جديد هو نائب الرئيس ميخائيل بيرنوكين.
ولو انتهز الستالينيون الفرصة وقتئذ وأجمعوا رأيهم لتمكنوا من طرد خروشيشيف، ولكنهم ترددوا في ذلك مما ترك الباب مفتوحا لتدخل الماريشال جيورجي زوكوف وماو تسي تونج، وتمكنا بذلك من إنقاذ خروشيشيف والإبقاء عليه في منصبه ... بل ربما كان تدخلهما هو الذي أنقذ حياته.
وعرف خروشيشيف كيف يتقهقر تقهقرا منتظما فأعلن على الملأ: «إننا جميعا ستالينيون!»
ولكن في شهر فبراير من عام 1957 كان خروشيشيف قد بدأ يستعيد سلطاته، فاجتمعت اللجنة المركزية من جديد ووافقت على مشروع تقدم به خروشيشيف نفسه وهو يقضي باتباع سياسة اللامركزية في الصناعة للقضاء على ما كان يعتبره بيروقراطية عقيمة.
وعارض مالنكوف في ذلك القرار، وانضم إليه مولوتوف وقطب الصناعة السوفييتية كاجانوفيتش؛ فقد تبين مالنكوف أن اتباع سياسة اللامركزية في الصناعة سوف يشتت مديري الصناعة في الاتحاد السوفييتي، وهم الذين خلق منهم مالنكوف طبقة من أقوى الطبقات في الاتحاد، كما أنه سيؤثر على قوام الصناعة الذي بناه كاجانوفيتش خلال 22 عاما.
وتمكن الرجلان: مالنكوف، وكاجانوفيتش من ضم مولوتوف إليهما، وقرر الثلاثة معارضة برنامج خروشيشيف في اجتماع دعيت إليه اللجنة المركزية في شهر يوليو 1957.
وكان خروشيشيف وبولجانين يقومان بزيارة رسمية لفنلندا في شهر يونيو من عام 1957، ولما عادا من هذه الزيارة بدأ الصراع بين الفريقين في الأسبوع الأخير من شهر يونيو 1957، وفي لحظة من اللحظات خلال هذا الصراع تمكن الستالينيون من التحكم في الأغلبية؛ إذ انضم إليهم شبيلوف؛ وزير الخارجية السابق.
24
ووقف خروشيشيف يخطب، ودامت خطبته ثلاث ساعات، واتهم فيها مولوتوف ومالنكوف وكاجانوفيتش وشبيلوف بأنهم كونوا جبهة مناهضة للحزب في موسكو، وأن أذنابهم منتشرون في روسيا.
واعترف مولوتوف ومالنكوف وكاجانوفيتش بأنهم اتفقوا فعلا على معارضة خروشيشيف وبرنامجه، وحسم الجيش الأحمر هذا الموقف عندما أعلن الماريشال زوكوف تأييد الجيش لخروشيشيف.
وذكرت بلاغات الحكومة والحزب بقية القصة؛ فقد قررت اللجنة المركزية بإجماع الآراء (وقد تغيب مولوتوف عن حضورها) فصل مولوتوف ومالنكوف وكاجانوفيتش من عضوية لجنة الرئاسة وعضوية اللجنة المركزية، ومن وظائفهم التي كانوا يشغلونها في الحكومة بوصفهم النواب الأول لرئيس الوزراء، كما فصل مولوتوف أيضا من وظيفته كوزير للرقابة (المحاسب العام)، وفصل مالنكوف أيضا من وظيفته كوزير لمحطات القوى الكهربائية، وأقيل شبيلوف من وظيفته كسكرتير للحزب، كما ألغي قرار تعيينه كعضو احتياطي في لجنة الرئاسة وعضو في اللجنة المركزية، وسمح للأربعة بالاحتفاظ بعضوية الحزب فقط.
وعرف أيضا من البلاغات الرسمية أن خروشيشيف لم ينجح فقط في الحصول على تأييد اللجنة المركزية في استبدال الأعضاء المطرودين بغيرهم ممن يثق بهم هو، ولكنه نجح أيضا في الحصول على موافقتها على زيادة عدد أعضاء لجنة الرئاسة وجعلها تتكون من 15 عضوا، وذلك حتى يتمكن من ضم عدد آخر من مؤيديه للجنة، وكان أبرز الأعضاء الجدد هو الماريشال زوكوف.
وهكذا لم تقنع الطبقة الجديدة من حكام الاتحاد السوفييتي بمحاربة ذكرى ستالين، وبتشويه سمعته وبتنحية تلميذه المختار مالنكوف، وبإعدام رئيس بوليسه بيريا، لم تقنع بكل ذلك فقررت التنكيل بأربعة من الزعماء بينهم ثلاثة من الرعيل الأول.
وأذاعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بيانا تضمن أسباب فصل هؤلاء الأقطاب الثلاثة، وكلهم ممن عملوا إلى جانب ستالين وعاونوه طوال مدة حكمه، وتتلخص التهم التي وجهت إليهم في:
العمل على إيجاد الفرقة في صفوف الحزب الشيوعي وقيامهم بأعمال لا تتفق مع مبادئ لينين.
معارضة سياسة الحزب الداخلية والخارجية، والوقوف في طريق جهوده الصناعية.
محاولة تعديل نظام الحزب وهيئاته التمثيلية المنتخبة بمعرفة لجنته المركزية.
مقاومة سياسة لينين القائمة على التعايش السلمي بين الدول، وإحباط الجهود المبذولة لتخفيف حدة التوتر الدولي، والمعارضة في توسيع حريات وحقوق الجمهوريات التي يتألف منها الاتحاد السوفييتي.
مقاومة الخطط والمشروعات الاقتصادية والصناعية وبخاصة ما يتصل منها بالصناعات الثقيلة.
القصور عن فهم وإدراك التطور الزراعي، والمعارضة في إلغاء النظم البيروقراطية المركزية القديمة.
التمسك بمبدأ حكم الفرد وسيطرته، وهو المبدأ الذي أصبح معروفا باسم «مبدأ ستالين».
وقد كان إبعاد هؤلاء الزعماء من الحزب محاولة للقضاء على زعامة عهد ستالين ورجاله في القيادة الشيوعية، وقد اتهمت جريدة «النجم الأحمر» - التي تنطق بلسان الجيش - المطرودين بالخيانة، والعمل على تعريض وسائل الدفاع السوفييتية لأخطار شديدة، بل وتقويض أركانها، وإثارة الشقاق بين الأمة والجيش، كما شن راديو موسكو حملة شعواء على المطرودين، وذكر أن الغرض من فصلهم هو المحافظة على وحدة الأمة والجيش.
كما خطب بعد ذلك خروشيشيف فهاجم المعزولين هجوما عنيفا وقال: إنهم كانوا يريدون الحرب ويعملون لإشعالها، ويقفون في وجه الإنتاج الروسي حتى لا يلحق بالإنتاج الأمريكي. وقال: إن الثلاثة تآمروا للسيطرة على قيادة الحزب الشيوعي.
واتهم مالنكوف بأنه ملفق مؤامرات، كما اتهم مولوتوف بأنه كان يعارض سياسة التعايش السلمي.
ويبدو وإن لم تعرف بعد جميع الحقائق، أن الجيش الروسي لعب دورا هاما في هذه الحركة التي قصد بها إقصاء آخر من بقوا من الحكام الروس ممن كانوا يؤمنون بستالين وسياسته، ولا شك أن تأييد الجيش الأحمر لحكومة خروشيشيف معناه أن مولوتوف وأنصاره قد انتهوا ولن تقوم لهم قائمة.
وهكذا أصبح خروشيشيف دكتاتورا يخلف ستالين، ولكن يبدو أن الدكتاتورية في هذه المرة دكتاتورية تحت رقابة الجيش الأحمر ووصايته، وقد فرض الجيش أول شرط له بترقية الماريشال زوكوف أعظم قواد روسيا إلى عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
ويلاحظ أن ستالين كان قد نجح في تحقيق سلطاته الدكتاتورية عن طريق إنشاء البوليس السري وتدعيمه،
25
وكان البوليس السري بمثابة جيش خاص يستعمله ستالين في التجسس على الجيش الوطني نفسه، وعلى كل سلطة أخرى في البلاد.
وما كاد ستالين يختفي عن الميدان في 1953 حتى أعلن الجيش تأييده لمالنكوف، وكان من أول الشروط التي اشترطها الجيش ثمنا لهذا التأييد هو القضاء على البوليس السري الذي كان يرأسه لابرنتي «بيريا» الرجل الذي كان اسمه يثير الذعر في روسيا.
كما طلب الجيش إعادة الماريشال زوكوف إلى موسكو وإسناد منصب حكومي له.
ونفذت شروط الجيش، واعتقل بيريا، بل ونفذ فيه حكم الإعدام، ووقف خروشيشيف يتهم بيريا في خطابه المشهور الذي استنكر فيه سياسة ستالين وأساليبه ويقول:
لقد لعب بيريا عدو حزبنا اللدود، وعميل المخابرات الأجنبية الذي استحوذ على ثقة ستالين دورا سافلا دنيئا في تلفيق مختلف القضايا القذرة الشائنة. فما هي الطريقة التي كان هذا الرجل يستطيع بواسطتها أن يفوز بمنصب في الحزب والدولة حتى أصبح النائب الأول لرئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفييتي وعضوا باللجنة المركزية للمكتب السياسي؟ لقد تأيد الآن أن هذا الأفاق ارتقى السلم الحكومي على أشلاء عدد لا يحصى من الضحايا.
بل لقد اتهمه خروشيشيف علاوة على هذا بأنه كان عدوا للحزب. •••
وبينما كان الناس في العالم كله يرقبون تطورات الموقف في روسيا فوجئوا في النصف الثاني من شهر أكتوبر من عام 1957
26
بتطهير جديد قام به خروشيشيف؛ فقد أقيل الماريشال زوكوف من وظيفته في الوقت الذي كان الناس فيه يظنون أن الجيش الأحمر قد بدأ يسيطر على الموقف في روسيا لأول مرة في التاريخ منذ بدأ حكم ستالين.
وأخذ العالم كله يسأل عن سر إقالة زوكوف، وعن سر هذه الإقالة عقب عودته توا من رحلة كان يقوم بها في يوغوسلافيا، وأخذ الناس يتكهنون ويعللون؛ فقال البعض: إن زوكوف مرشح لتولي منصب آخر كبير قد يكون منصب رئيس الدولة أو رئيس الوزراء.
وقال البعض: بل إن زوكوف خرج من منصبه نهائيا وأن مصيره هو نفس مصير مولوتوف ومالنكوف وجاكانوفيتش وشبيلوف.
والواقع أن قرار إقالة الماريشال زوكوف من منصبه قد اتخذ أثناء غيابه في زيارته ليوغوسلافيا وألبانيا، وقد لوحظ أن القرار لم يذع إلا بعد وصوله إلى موسكو.
ولوحظ أيضا أنه عندما أذاع راديو موسكو نبأ قيام زوكوف بالطائرة من ألبانيا قال المذيع: «إن المارشال زوكوف وزير الدفاع الروسي في طريق عودته إلى الاتحاد السوفييتي!»
وبعد أربع ساعات بالضبط، وبعد هبوط طائرة زوكوف في موسكو قال المذيع: «وصل المارشال زوكوف!» دون ذكر منصبه، وبعد ذلك بقليل أذيع القرار بإعفائه.
ولا شك أن البيان الذي صدر بإعفاء زوكوف دل على وجود صراع خفي في الكرملين بين الجيش والسياسيين بعد أن كان الاعتقاد السائد هو أن الحزب يعتمد اعتمادا كليا على الجيش.
والواقع أن خروشيشيف مدين بحياته السياسية للمارشال زوكوف؛ فقد كان للقائد الروسي الكبير وضباطه الفضل في إنقاذ خروشيشيف في أكثر من مناسبة؛ فليس هناك شك في أن الجيش قام بدور فعال في الأحداث التي أدت إلى اعتقال لابرنتي بيريا رئيس البوليس السري في عام 1953 وإعدامه!
ولو أن بيريا نجح في تولي السلطة بعد موت ستالين لما عاش خروشيشيف حتى اليوم!
وهناك من الأسباب أيضا ما يحمل على الاعتقاد بأن المارشال زوكوف قد لعب دورا هاما في المعركة التي قامت في صيف 1957 عندما تخلص خروشيشيف من مالنكوف ومولوتوف وكاجانوفيتش.
فهل كان معنى إقالة زوكوف أن الجيش الأحمر الذي ذاق الأمرين تحت حكم ستالين سيقبل حكم «ستالين الجديد» بنفس السهولة؟!
وبينما كان الناس يتساءلون عن أسرار إقالة زوكوف أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بيانا تندد فيه بزوكوف، وبأنه كان هو الآخر من أنصار «تقديس الفرد ». وقد جاء بالبيان:
في أواخر شهر أكتوبر من هذا العام (1957) اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي بكامل هيئتها، وبحثت اللجنة الوسائل المؤدية إلى تحسين جهود الحزب السياسية في الجيش والأسطول.
وقد حققت القوات المسلحة الروسية نصرا تاريخيا في الحرب العالمية الثانية من أجل روسيا، ولهذا استحقت عن جدارة حب الشعب الروسي وثقته.
وفي سنوات ما بعد الحرب اهتم الحزب الشيوعي والحكومة السوفييتية بالعمل على تنمية الصناعات الثقيلة والعلوم الفنية. وأثناء هذا التطور ارتفعت القوات الروسية المسلحة إلى مركز أعلى بعد أن سلحت بجميع أنواع الأسلحة الحديثة ومن بينها الأسلحة الذرية، والهيدروجينية، والصواريخ، وأصبحت الحالة المعنوية والسياسية للقوات في مستوى عال، كما كان جميع الضباط والقواد السياسيين للجيش والبحرية مخلصين لوطنهم وللحزب الشيوعي.
الماريشال زوكوف أعظم قواد روسيا في الحرب العالمية الثانية طرد من منصبه كوزير للحربية في أكتوبر 1957، واعترف بأخطائه!
شبيلوف كان رئيسا لتحرير جريدة برافدا ثم عين وزيرا للخارجية، ولقي نجاحا كبيرا. انضم لجبهة مولوتوف مالنكوف فطرد!
ودعت الحالة الدولية المعقدة، وسباق التسلح في الدول الرأسمالية، وكذلك دواعي الدفاع عن الوطن الروسي إلى بذل الجهد المتواصل من جانب القادة، والمنظمات السياسية، ومنظمات الحزب الشيوعي في سبيل إعداد القوات إعدادا تاما، وتقوية روح النظام في صفوفها وتمرينها على الإخلاص النفسي للوطن والحزب الشيوعي، والعمل على تحقيق الراحة المعنوية والمادية للجنود.
وتنادي تعاليم لينين بأنه يجب دائما أن توجه الإدارات الحربية وجميع الإدارات الأخرى حسب الأسس التي أصدرها الحزب بواسطة اللجنة المركزية له، وتحت إشرافه.
وقد لاحظت اللجنة المركزية بكامل هيئتها أخيرا أن وزير الدفاع الروسي السابق الرفيق زوكوف خرق مبادئ لينين أثناء توليه قيادة القوات الروسية المسلحة، فقد اتبع سياسة من شأنها وقف عمل منظمات الحزب، والهيئات السياسية، والمجالس العسكرية، وتصفية نفوذ الحزب واللجنة المركزية والحكومة في الجيش والبحرية.
ووجدت اللجنة المركزية أيضا أنه إلى جانب تدخل زوكوف الشخصي بدأ بعض المتزلفين والانتهازيين في الترويج لتقديس شخصيته، ومديحه وإطرائه في المحاضرات، والتقارير، والمقالات، والأفلام السينمائية، والنشرات التي كانت تكيل المديح لشخصه والدور الذي أداه في الحرب العالمية الأخيرة.
ولهذا، ومن أجل إرضاء الرفيق زوكوف شوهت الحقيقة عن قصة الحرب العالمية الثانية، وقلل من أهمية الجهود الجبارة التي بذلها الشعب السوفييتي أثناء الحرب، والبطولة التي أظهرتها جميع قواتنا المسلحة، والدور الذي لعبه القواد والسياسيون، والمقدرة التي أبداها القواد في الجبهة الأمامية في الجيش والأسطول، والدور الذي قام به الحزب الشيوعي في القيادة والتوجيه ... كل ذلك قلل من شأنه في سبيل زوكوف.
وقد قدرت الحكومة والحزب خدمات الرفيق زوكوف، وأنعمت عليه بلقب مارشال الاتحاد السوفييتي، ولقب بطولة الاتحاد السوفييتي 4 مرات، وكذلك منحته الكثير من النياشين، كما اكتسب ثقة سياسية عظيمة.
وفي الاجتماع العشرين للحزب انتخب عضوا في الحزب الشيوعي السوفييتي، واختاره الحزب عضوا بديلا في المجلس السوفييتي الأعلى، وبعد ذلك عضوا عاملا.
ولكن الرفيق زوكوف بسبب عدم تجاوبه نفسيا مع الحزب تجاوبا تاما أساء فهم هذا التقدير له ولخدماته، وفقد التواضع في الحزب الذي علمنا إياه لينين، وبدأ يتخيل نفسه البطل الوحيد لكل الانتصارات التي حققها شعبنا والقوات المسلحة تحت قيادة الحزب الشيوعي، وخرق مبادئ الحزب الخاصة بالقوات المسلحة.
وبذلك لم يحقق زوكوف الثقة التي وضعها فيه الحزب، واتضح أنه قائد غير كفء من الناحية السياسية، كما أنه يميل إلى التهور في فهم واجبات السياسة الخارجية السوفييتية، وفهم واجباته كوزير للدفاع.
ومن أجل ما سبق ذكره وافقت اللجنة المركزية المنعقدة بكامل هيئتها على مرسوم بطرد الرفيق زوكوف من عضوية المجلس السوفييتي الأعلى واللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
وعبرت اللجنة عن أملها وثقتها في أن يواصل الحزب توجيه جهوده في سبيل تقوية إمكانيات الدفاع عن روسيا الاشتراكية، وهو ما نص عليه القرار الصادر في الاجتماع العشرين للحزب.
انتهى بيان اللجنة المركزية
وبدلا من أن يحاول زوكوف الدفاع عن نفسه وتفنيد التهم التي وجهتها إليه اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، فوجئ الناس مرة أخرى ب «اعترافه» بأخطائه وبصحة ما نسب إليه!
وقالت صحيفة «برافدا»: إن المارشال زوكوف اعترف بأخطائه التي أدت إلى طرده من مجلس السوفييت الأعلى ومن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وقالت الصحيفة الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الروسي: إن زوكوف تعهد بعدم تكرار هذه الأخطاء.
وقد نشرت الصحيفة الشيوعية اعترافات زوكوف في مقالها الافتتاحي الذي احتل ثلاثة أعمدة جنبا إلى جنب مع البلاغ الرسمي الذي أصدرته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وأعلنت فيه طرد زوكوف من مجلس السوفييت الأعلى ومن عضوية اللجنة.
وقال زوكوف في اعترافاته أمام اللجنة التي كانت مجتمعة بكامل هيئتها: «إن هذا الاجتماع كان بمثابة مدرسة حزبية لي، إنني أشعر بأسف عميق؛ لأنني أدركت هنا أمام اللجنة فقط أهمية الأخطاء التي ارتكبتها في زعامة القوات المسلحة خلال الفترة الأخيرة بصفة خاصة، وكذلك الأخطاء السياسية التي وقعت فيها بوصفي عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وفي مجلس السوفييت الأعلى.»
وقال زوكوف في اعترافاته: «إنني أود أن أعترف بصحة الانتقادات التي وجهت إلي في اجتماع اللجنة المركزية، إنني أعتبر هذه الانتقادات بمثابة مساعدة شخصية لي من جانب زملائي في الحزب، ومساعدة لبقية العسكريين على فهم مطالب وسياسة الحزب فيما يتعلق بزعامة الجيش والأسطول، والتعاليم السياسية الصحيحة للقوات المسلحة.»
ومضى زوكوف الذي كان قد فصل قبل ذلك من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في عام 1946، عندما كان ستالين لا يزال على قيد الحياة، مضى يقول: «إنني لم أستطع في ذلك الوقت أن اعترف بالأخطاء التي فصلت من أجلها من عضوية اللجنة، كما أنني لم أعترف بأن طردي من اللجنة كان إجراء صائبا، وفي الوقت نفسه رفضت الاعتراف بصحة الأخطاء المنسوبة إلي، أما الآن فالمسألة تختلف؛ إنني أعترف بأخطائي، وأنا مدرك لهذه الأخطاء إدراكا تاما، وأعد اللجنة المركزية للحزب بالتخلص منها تخلصا تاما.»
خروشيشيف (تفوق على ستالين!)
وقد أضافت صحيفة برافدا بعض التفصيلات الأخرى إلى الأسباب التي وردت في بلاغ اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عن طرد زوكوف، فقالت: إن زوكوف سمح لنفسه بتوجيه الإهانات إلى مرءوسيه ، وأنه لم يفهم التعاليم الخاصة بجيش دولة اشتراكية.
وقالت صحيفة الحزب الشيوعي الروسي: إن بعض الأصدقاء المقربين لزوكوف من زملائه في الحرب الأخيرة قد انقلبوا ضده أثناء اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ووصفوه «بالقصير الخطير». وقالت: إن المارشال مالينوفسكي الذي خلف زوكوف في منصبه والمارشالات كونيف وركوسنسكي وفاسيلي سكولوفسكي رئيس هيئة أركان حرب الجيش الروسي وتيموشنكو، وغيرهم من الذين عرفوا زوكوف منذ أعوام طويلة مضت قد استنكروا بالإجماع مسلكه الخاطئ الذي لا يتمشى مع سياسة الحزب عندما كان وزيرا للدفاع.
وقد لوحظ في عدة دوائر دبلوماسية أنه بالرغم من القسوة التي اقترنت بطرد زوكوف، فإنه لا يمكنه أن يدعي الجهل بأن التطهير إنما هو جزء ثابت من سياسة الحزب الشيوعي السوفييتي.
لقد عرف زوكوف وهو ضابط قديم بالجيش الأحمر وعضو مجرب في الحزب الشيوعي منذ 1946، وهو في أوج شهرته كأكبر بطل عسكري في اتحاد الجمهوريات السوفييتية في الحرب العالمية الثانية، أن الحزب الشيوعي ودائرته الحاكمة لا تسمح لكائن أن يتدخل في سيطرته المطلقة.
وفي عام 1946 كان ستالين - الذي أغضبه على ما يبدو نمو مكانة زوكوف وثناءه على قادة الحلفاء العسكريين لما قدموه من معونة لهزيمة ألمانيا النازية - هو الذي جعل المارشال زوكوف في حكم المنفي.
فقد أسند عامئذ إلى زوكوف منصب عسكري صغير في أوديسا، وظل بعيدا عن أنظار الناس إلى أن مات ستالين في عام 1953، فعين على الفور وزيرا للدفاع بالنيابة.
واستعانت موسكو بزوكوف في السنوات السبع التي قضاها في غربته رغم أن نشاطه ظل خافيا عن الشعب الروسي؛ إذ قيل: إنه عمل مستشارا للقوات الشيوعية الصينية التي هاجمت جمهورية كوريا في عام 1950.
ويبلغ زوكوف الآن الثانية والستين من العمر، وقد ولد بمدينة ستيركوفا بالقرب من موسكو في عام 1895، وأحرز أول امتياز عسكري أثناء خدمته بالجيش الإمبراطوري الروسي، وانضم إلى الحزب الشيوعي في عام 1919، وسرعان ما نال شهرة واسعة، وعرف أنه من أخلص المتمسكين بالحزب.
ويبدو أن هذه الشهرة هي التي أنقذت حياته في عام 1937 عندما قام ستالين بحركة التطهير العسكرية الدموية التي أدت إلى إعدام 374 قائدا من قواد الجيش الأحمر و30000 ضابط رميا بالرصاص.
وقد أرسل زوكوف في ذلك الوقت إلى الشرق الأقصى حيث نالت عمليته ضد الجيش الياباني السادس ثناء موسكو، ورشحته للفوز بجائزة «بطل الاتحاد السوفييتي»، وشغل زوكوف أيضا في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية التي سبقت الحرب العالمية الثانية منصب «كبير المراقبين العسكريين في موسكو».
وفي عام 1941 عين زوكوف رئيسا لأركان حرب الجيش ونائبا لوزير الدفاع، ثم قامت بعد ذلك شهرته في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن سرعان ما انطوى في زوايا النسيان بين عامي 1946 و1953.
وفي عام 1953 بدا أن مستقبل زوكوف قد بدأ يتألق بعد فوزه برضاء الحزب، وفي فبراير عام 1955 عين وزيرا للدفاع، وساد الاعتقاد وقتئذ بأن أقدامه قد ثبتت من جديد بين أفراد الطبقة الحاكمة.
وقد تعزز هذا الاعتقاد في صيف عام 1957 عندما عين عضوا في مجلس الرئاسة السوفييتي، وهي الهيئة الشيوعية المختارة التي تحكم الاتحاد السوفييتي، وفي هذه الفترة هب زوكوف إلى نجدة نيكيتا خروشيشيف رئيس الحزب في أثناء الكفاح على السلطة، الذي انتهى بإقصاء أربعة من الزعماء الشيوعيين القدماء وهم: مالنكوف، ومولوتوف، وكاجانوفيتش، وشبيلوف.
ومما يستحق الذكر أن خروشيشيف قال في خطابه بالمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي في فبراير 1956 ما يلي:
لقد كان ستالين شديد الاهتمام بتقدير الرفيق زوكوف كزعيم عسكري، وقد قلت له وقتئذ: لقد عرفت زوكوف وقتا طويلا، فهو قائد كفء وزعيم عسكري قدير. وبعد الحرب بدأ ستالين يكثر من الكلام الفارغ عن زوكوف ... وربما يكون ستالين نفسه قد اختلق هذه التهم بفرض الإقلال من دور المارشال زوكوف ومواهبه العسكرية.
وتضمن أمر طرد زوكوف اتهامه بما يلي:
بمساعدة المتملقين ولاعقي الأحذية بدأ إطراؤه «زوكوف» إلى حد رفعه إلى السموات العلا ... وهكذا شوه التاريخ الحقيقي للحزب لإرضاء زوكوف ... واتضح أنه زعيم سياسي غير رزين يميل إلى المغامرة، سواء في فهم أهم أعمال السياسة السوفييتية الخارجية، أم في قيادة وزارة الدفاع.
ولا شك أن خروشيشيف قد تفوق وهو يسعى إلى الانفراد بالسلطة على أساليب ستالين، وحقق أهدافه بسرعة تزيد على السرعة التي استغرقها ستالين، حتى تمكن من إقصاء جميع منافسيه وإبعادهم عن الحكم؛ فإن الفلاح الذي جاء من أوكرانيا - أي: خروشيشيف - لم يحتج إلى أكثر من أربع سنوات بعد أن عين في منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي حتى يتغلب على جميع المنافسين، في حين أن الثائر الجيورجياني - أي: ستالين - احتاج إلى ما لا يقل عن عشرين عاما حتى يحقق نفس الهدف.
الخاتمة
بعد 40 سنة
يقول نيجلي فارسون وهو أحد مراسلي الصحف البريطانية الذين شهدوا قيام الثورة الروسية منذ 40 عاما: إن أهم شيء يجب الاعتراف به هو أن ثورة أكتوبر الروسية قد شبت في شهر مارس من عام 1917، كما أن هذه الثورة لم تكن تدبيرا ... ولكنها وقعت!
حتى البولشفيك أنفسهم الذين كانوا يدبرون الثورة منذ أعوام فوجئوا بوقوعها يومئذ ...
لقد كانت الثورة الفجائية، التي أدهشت القائمين بها أنفسهم، لشعب لم يعد في طاقته أن يحتمل أكثر مما احتمل ... ولم يعد في إمكانه أن يحتمل مقتضيات الحرب.
لقد كان في وسع المراقب الأجنبي في بتروغراد أن يدرك أنه لا يمكن لنظام من الأنظمة ولا لجيش من الجيوش مهما كان شجاعا أن يصمد لفساد حكومة بتروغراد ... وهنا في موسكو خسر آل رومانوف المعركة ولم يخسروها في جبهة القتال.
ففي أواخر شهر يناير من عام 1917 كانت صفوف الناس تملأ الشوارع وهي تطالب بالخبز، وكانت هذه الصفوف في أحياء العمال تطوق المباني لمسافات بعيدة ليلا ونهارا دون أن يتناقص عددها ... وكان الثلج يتساقط على الجماهير.
وأخيرا خرج 20000 عامل من عمال مصانع الصلب المشهورة «يتيلوف» وساروا في مظاهرة تقصد وسط بتروغراد وهم يصيحون: أعطونا الخبز ... فليسقط القيصر!
شبيلوف، زوكوف، مولوتوف، مالنكوف
بعض أقطاب الشيوعيين الذين عملوا مع ستالين وطردهم خروشيشيف ويرى بينهم من اليمين: مالنكوف ومولوتوف وزوكوف وشبيلوف.
وامتلأت شوارع العاصمة الروسية بالجنود الهاربين من جبهة القتال.
ومع ذلك كله لم يشعر أحد أن هذه الحوادث هي مقدمة الثورة أو بشائرها.
وفي يوم 12 مارس خرجت من فندق فرنسا بعد أن تناولت طعام الغداء ولم أفهم ماذا يقصد سائق زحافتي عندما أشار بالكرباج الذي كان يحمله في يده وقال لي: إنها هنا يا سيدي!
لم أفهم ما يقصد إلا بعد أن نظرت إلى واجهات المحال التجارية التي أشار إليها بالكرباج فرأيت أصحابها يغلقونها بسرعة، وقد تجلى الانزعاج الشديد على وجوههم.
ولما وصلنا إلى شارع نفسكي، وكان أوسع شارع في العالم وقتئذ رأينا القوزاق الذين كانوا يحاولون إخلاء الطرقات من شاغليها وهم يمتطون صهوات جيادهم، رأيناهم يضحكون وهم يحاولون إبعاد الناس دون أن يستعملوا كرابيجهم ذات الأطراف المنتهية بقطع صلب.
وكان معي رجل إنجليزي قال لي: هذه هي الثورة ... لقد كنت هنا في عام 1905 وأنا أعرف ما هي ...!
واستوقفنا حشد كبير من الناس سد علينا منافذ الطرق، وكانوا يحيطون بعربة من عربات الترام، كانوا قد قتلوا سائقها عندما حاول أن يسير بقطاره مخترقا صفوفهم، وقد قتلوه بنفس المفتاح الذي كان يحاول أن يحرك به قطاره!
ورأينا فصيلة من الرماة الروس وقد اصطفت وهي على استعداد لإطلاق النار، وكان الرماة يحملون رماحهم أفقية حتى لا تؤذي القوم، ولم نقف لعد الذين قتلوا أو جرحوا من الجمهور، ولكن سرنا في طريقنا بواسطة زحافاتنا بعد أن أحدثت النار التي أطلقت ثغرة في وسط الجماهير المتظاهرة.
وعند محطة نيكولاس وجدنا طلبة يحملون البنادق وأخذوا يهددوننا بها، ولكنهم لما عرفوا أننا من الأجانب تحولوا عنا، واتجهنا نحو طريق شلوسلبرج على مقربة من نهر نيفا، وكان هذا الحي حيا صناعيا، وفي هذا الحي فقد أكبر عدد من الأرواح في ثورة مارس.
ووصلنا في موعد تناول الشاي إلى منزل صديق بريطاني كنا نعيش معه، وكان أحد شقيقين يملكان مصنعا للصوف، وكنت قد أحضرت معي أربع زجاجات من الويسكي عثرت عليها في مخازن «فندق فرنسا»، وقلت لصديقي: هذه هي الثورة ... يا آرثر!
ولكنه كان منشغلا عني بفتح زجاجة الويسكي!
وكانت زوجته روسية مثقفة، وكانت تعمل سرا على مساعدة بعض السيدات الاشتراكيات، وقد أسرعت إلى حجرتها بعد أن سمعت ما قلت وعادت إلينا وقد وضعت شارة حمراء على ذراعها ...
وفي صباح اليوم التالي دق جرس التليفون في حجرتي، وكان المتحدث هو هذا البريطاني، فسألني قائلا: هل تنوي أن تذهب اليوم إلى بتروغراد؟
فأجبته قائلا: نعم! ولقد طلبت من سائقي أرسيني أن ينتظرني!
وقال لي: انظر أولا من النافذة ...!
ونظرت من النافذة فرأيت عمودا من الدخان الأسود يتصاعد في سماء بتروغراد كأنه ريشة في جو لا رياح فيه ... وقال مضيفي: لقد قلت حقا، فقد انطلق الجحيم في بتروغراد، وهذه محطة نيكولاس تحترق، كما أن فرقتين من فرق الجيش قد تمردتا.
ثم استطرد قائلا: وأرسيني لا ينتظرك فقد أمرته بعدم إخراج الزحافة اليوم، وأعتقد أننا بعد ساعات قليلة سنصبح في حالة حصار تماثل الحالة التي تعرضنا لها في عام 1905 ... أرجو أن تتولى العناية بالنساء.
وفيما كنت أنتهي من ارتداء ملابسي رأيت الخادم تدخل مندفعة وهي تصيح في ذعر: إنهم قادمون!
ونظرت من النافذة التي تطل على النهر فوجدت الشاطئ مملوءا بالناس وعلى رأسهم بعض رجال البوليس وهم يمتطون جيادهم وسيوفهم تلمع في ضوء الشمس.
واستجمع الشقيقان شجاعتهما وقالا للثوار الذين كان عددهم لا يقل عن 4000: ادخلوا في هدوء ولكن لا تحطموا أي شيء هنا ...
وسارعت إلى الشقيقين فوقفت بجانبهما، وكان الثوار يطلبون خروج عمال المصنع الذين لا يقل عددهم عن 3000 عامل للاشتراك معهم، وبينما كانت المناقشات دائرة حول هذا الموضوع وصلت سيارة ملأى بالطلبة المتحمسين، وقفز منها الزعماء في الحال ولوحوا في صدورنا بالمسدسات التي كانوا يحملونها وصاحوا: لقد جئنا إلى هنا لإخراج عمالكم ... فإذا لم يتحقق لنا ذلك حطمنا المصنع.
ونظر الشقيقان إلى بعضهما لحظة كأنهما يتشاوران ثم صاح الأكبر: خذوهم! وردوا السلاح إلى مكانه ... أو لعلكم تريدون قتل أحد!
وتدافع العمال وهم يخرجون من المصنع هاتفين صائحين وهم يلوحون بالأعلام الحمراء التي كانوا يحملونها، واتجهوا في سيرهم بحذاء نهر النيفا ... فلم يتحطم شيء ...!
هذا ما رآه شاهد عيان عندما شبت الثورة الاشتراكية ب «بتروغراد» في شهر مارس من عام 1917 ...
ومنه يمكن أن يرى القارئ أن بعض المصانع الروسية كانت في يد الأجانب منذ 40 عاما ...
ويقول الكاتب البريطاني: إن روسيا وقتئذ لم تكن بها طبقة من رؤساء العمال، وأنه إذا كسرت آلة من الآلات لم يكن هناك من يصلحها إلا إذا أغرى رئيس عمال من الأجانب على إصلاحها ...
أما اليوم وبعد مرور 40 عاما على تاريخ هذه الثورة فإن روسيا تسبق العالم في السباق ... نحو النجوم!
وقد نجحت روسيا في سياسة التصنيع، وأرست قواعد الثورة الاشتراكية في بلادها، ولا يمكن أن تقارن حالتها اليوم بما كانت عليها حالتها تحت حكم القياصرة ...
ستالين في منفاه (1915) ومعه بعض المنفيين الآخرين (ستالين هو الثاني من اليسار).
وقد نتج عن انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا نظام دكتاتورية الطبقة العاملة، وهي السلطة الثورية الجديدة القائمة على أساس التحالف بين الطبقة العاملة وجماهير الفلاحين العاملين بقيادة البروليتاريا، وكان شكل الدولة في ظل السلطة الجديدة عبارة عن «سوفييتات» نواب العمال والفلاحين التي تمخض عنها النشاط الثوري.
ومنذ السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية كان الاتحاد السوفييتي قد تحول من دولة زراعية إلى دولة صناعية ذات زراعة جماعية تستخدم الآلات على نطاق واسع، وظهر مجتمع جديد في روسيا لا توجد بين طبقاته تلك الفروق الحادة التي كانت تميز المجتمعات الأخرى السابقة في روسيا.
وكان من أقسى التجارب التي تعرضت لها روسيا الهجوم الألماني الغادر عليها في الحرب العالمية الثانية، وكانت ألمانيا تعتمد في تلك الفترة التي هاجمت فيها روسيا على الإنتاج الحربي لأوروبا المحتلة كلها، ولكن روسيا خرجت من تلك الحرب بمساعدة حلفائها، وقد وطدت دعائم نظامها على الرغم مما عانته من خسائر في الأرواح والمصانع والمدن ... وتمكنت روسيا من الشفاء العاجل من الجراح العميقة التي سببتها لها الحرب، كما تمكنت من إصلاح كافة فروع الاقتصاد القومي وتنميتها.
وفي عام 1956 بلغ إنتاج الاتحاد السوفييتي في الصناعة ثلاثة أضعاف ما كان عليه في عام 1940، وأصبح الاتحاد السوفييتي من أقوى الدول اقتصاديا، كما زادت حصته في الإنتاج العالمي فبلغت نحو 20٪ عام 1957 بعد أن كانت في عام 1917 تتراوح بين 2 و3٪.
ولكن هل هذا هو كل ما كان يطمع فيه أنبياء الشيوعية حين بشروا بثورتهم؟
لقد شرح ستالين حقيقة أهداف الشيوعية عندما قرر: «أن هدف روسيا في سياستها هو تعزيز دكتاتورية الطبقات العاملة حتى تصبح وسيلة للقضاء على الاستعمار في العالم كله ...»
كما ذكر في مكان آخر: «إن أهم القوى المدخرة للثورة العالمية هي الدكتاتورية الشعبية في روسيا والحركات الثورية الأخرى في الدول الخارجية ...»
وكان من رأى ستالين أيضا أن أحسن الأوقات المناسبة لإشعال نيران الثورة العالمية هي فترات الحروب والأزمات الاقتصادية والنكبات الوطنية! •••
أما لينين فقد كان من رأيه هو الآخر أن لا مناص من أن تقوم الحرب في النهاية بين حركات التحرير الأوروبية ضد قوى الاستعمار ... ودعا إلى استعمال كافة الوسائل وجميع أنواع الأسلحة في مثل هذه الحروب حتى تنتهي في النهاية بهزيمة الاستعمار. •••
ولذلك فإن المشكلة اليوم في هذه الفترة الحاسمة من الحياة التي نعيشها هي: هل يمكن أن تعيش الشيوعية في سلام إلى جانب الأنظمة السياسية الأخرى التي تسير عليها دول العالم؟
هل يمكن أن يصبح «التعايش السلمي» حقيقة واقعة، أم أن الحرب لا بد واقعة في يوم من الأيام بين الشيوعية وبين غيرها؟ وأنه كما قال لينين: «إما أن نقضي على الرأسماليين ونوجه إليهم الضربة القاصمة، وإما أن يقضوا هم علينا ...»
ويلاحظ أنه عندما قامت ثورة أكتوبر 1917 كانت الحرب دائرة بين مجموعتين من الدول الاستعمارية؛ فالمجموعة الأولى كانت تتكون من الإنجليز والفرنسيين والروس، والمجموعة الأخرى تتكون من ألمانيا، وكان النزاع يدور حول إعادة تقسيم العالم ...
وقامت في كافة البلاد حركة قوية تطالب بوقف الحرب ... ولم يؤد القضاء على النظام القيصري في فبراير 1917 إلى تغيير الصورة الأصلية للحرب، حتى إن الحكومة الروسية المؤقتة تقدمت للشعب بشعار يصر على مواصلة الحرب «حتى النصر»، وأخذت الأحزاب الثورية التابعة للمنشفيك والاشتراكيين تؤيد هذه السياسة.
إلا أن حزب البلشفيك وحده هو الذي عارض الحرب ووقف ضدها منذ البداية، ونادى بضرورة وقفها، حتى إن لينين في عام 1915 كتب يقول:
ماذا تفعل البروليتاريا لو أن الثورة جاءت بها إلى الحكم في أثناء الحرب الحالية؟
1
إننا نجيب على هذا بأننا سوف نعمل على نشر السلم، وتحرير كافة المستعمرات والأمم المغلوبة على أمرها، والشعوب المضطهدة.
وقد حدث فعلا أن أعلنت الثورة الاشتراكية في عام 1917 مبدأ «السلام للشعوب».
وكان أول مرسوم للسلطة السوفييتية هو مرسوم السلام، فبعد أن أعلن مؤتمر السوفييتات الثاني لكل روسيا، الذي عقد في بتروجراد في 25-26 أكتوبر سنة 1917 أن كافة السلطات قد انتقلت إلى السوفييتات، ناقش مرسوم السلام ووافق عليه بالإجماع، وتحدث لينين في المؤتمر عن السلام.
وفي كلمات قليلة واضحة شرح الأهمية البالغة لهذا القرار، ثم قرأ نص المرسوم المقترح.
وسجلت هذه الوثيقة التاريخية لأول دول اشتراكية، دولة العمال والفلاحين، أساس سياستها الخارجية السلمية، وقام المرسوم على أساس مبدأ الاعتراف بالحقوق المتساوية لكافة الأمم، وحق كل منها في تقرير مصيرها وتنظيم كيانها بالطريقة التي تختارها، وألغى الدبلوماسية السرية والمعاهدات السرية التي وقعتها الحكومات القيصرية والحكومة المؤقتة.
وقد صيغ مرسوم السلام في شكل بيان إلى حكومات وشعوب البلاد المتحاربة، ودعا الشعوب المتحاربة وحكوماتها إلى عقد هدنة وإجراء مفاوضات عاجلة من أجل سلام عادل ونظام ديموقراطي.
ولم تكن الحكومة السوفييتية تعتبر مقترحاتها السلمية مقترحات نهائية، بل كانت على استعداد لمناقشة أية شروط أخرى ما دامت واضحة تماما وخالية من الاتفاقيات السرية.
وأيد مندوبو السوفييتات الإقليمية ووحدات الجيش والبحرية الذين حضروا المؤتمر مرسوم السلام الذي اقترحه لينين تأييدا إجماعيا.
وقال فيليكس درشنسكي: إن الاشتراكيين الديموقراطيين في بولندا ولتوانيا يؤيدون مرسوم السلام بحماس، وفي اليوم التالي لإصدار المرسوم نشرته الصحف وأعلنته الإذاعة.
وفي نفس الوقت أصدر «الوفد المبعوث إلى الخارج» والتابع للجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي «البولشفيك»، والهيئة الاشتراكية الدولية، وهما الهيئتان اللتان كانتا في استكوهولم، أصدرا بيانا إلى البروليتاريا في كافة البلاد يدعوانها إلى تأييد الخطوات التي اتخذتها الحكومة السوفييتية. وقال البيان:
لتعش الهدنة العاجلة! ليقف إطلاق النار! إلى مفاوضات السلام!
وإذ كانت الجمهورية السوفييتية قد بدأت حياتها وهي تنشد السلام وتنادي به، وتعمل على نشره، وتعتبره مبدأ من مبادئها، فما الذي حدث اليوم وجعل منها قوة مخيفة تملك أسطولا هائلا من الغواصات، وأسرابا من الطائرات النفاثة والصواريخ عابرة القارات، وعددا من الأقمار الصناعية، وغير ذلك من آلات ومعدات الدمار؟
لعل الاستعداد للحرب هو خير وسيلة لاتقاء الحرب كما يقولون، ولعل الاتحاد السوفييتي يملك هذه القوة الهائلة لكي يستعملها يوما في الدفاع لا في الهجوم، ولعله يملكها لكي يقيم شيئا من التوازن في القوى التي تعمل بالمحيط الدولي ...؟!
إننا نعيش اليوم في عالم أفعمت قلوب سكانه بالحب والسلام، وقد انتشرت فكرة السلام بين جميع الناس وخاصة بعد أن تنوعت أسلحة الخراب والدمار، ولمس الجميع مدى تأثيرها على البشر وجنايتها عليهم ...
ولا شك أن الجيل الذي ولد في ظل السلام لن يشترك في عدوان ضد أي إنسان، ولما كان الناس قد ولدوا أحرارا فإنهم لذلك يجب أن يتركوا أحرارا عند اختيارهم النظام الذي يلائمهم، وليس لقوة في الوجود أن تتحكم في إرادتهم أو ترغمهم على قبول نوع معين من نظام الحكم.
ولقد كان ستالين حاكما قويا فرض إرادته وسلطته على روسيا نحو 29 عاما، فلم يتمكن صوت واحد من الارتفاع بمعارضته، وتعددت في عهده المظالم، وحاول الكثيرون تبريرها بأن النظام كان لا يزال في أول عهده، وبعد وفاته عرف الناس في روسيا وخارجها أسرارا كثيرة في السياسة الداخلية والخارجية وصمت العهد كله بالدم والطغيان.
وبعد أن ألقى خروشيشيف خطابه المشهور الذي استنكر فيه أساليب ستالين ظن الناس أنه سيتنكب أساليبه فعلا لا قولا فقط، ولكن روح ستالين أثبتت أنها ما زالت تسيطر على الموقف كله في روسيا وخارجها.
ولقد ظهر ذلك في حفلة أقيمت في رأس عام 1957 بموسكو تكريما لشواين لاي رئيس وزراء الصين الوطنية؛ فقد سمع خروشيشيف آنئذ يقول: «كان ستالين محاربا للاستعماريين ... وحين يكون الأمر أمر محاربة الاستعماريين فنحن جميعا ستالينيون.»
وبعد ذلك بأسبوع تحدث خروشيشيف إلى مراسلي صحف ألمانيا الشرقية عن زيارته للمجر وامتدح وحدة الشيوعيين، وأشاد بستالين، وانضم شواين لاي إليه - وكأنما يؤكد العودة إلى الستالينية - فقال في أثناء زيارته لبولندا لرئيس وزرائها فلاديسلاف جومولكا المعروف بمناهضته للستالينية: «أقترح أن نشرب نخب ... تضامن الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي.»
وكان معنى هذا عند بعض المراقبين أن النظام القديم قد أعيد مرة أخرى.
وستظهر الأيام القادمة إذا كان هذا الاستنتاج صوابا أم خطأ ...
وكل ما يطالب به الناس في جميع أنحاء العالم هو السلام ...
فمن أجل السلام يجب أن يعمل كل إنسان! (ا.ه. بحمد الله)
مصادر ومراجع استعان بها المؤلف
(1) مراجع عربية (1)
أحمد بهاء الدين: شهر في روسيا. (2)
عباس حافظ: المعبود الذي هوى. (3)
فتحي الرملي: لينين أكبر ثائر في التاريخ. (4)
عصام محمد سليمان: روسيا البلشفية. (2) مراجع أجنبية (1)
Emil Ludwig-STALINE. (2)
Walter Bedell Smith-My Three Years in Moscow. (3)
Hugh Ston-Watson-From Lenin To Malenkov. (4)
Bertram D. Wolfe-Khrushchev and Stalin’s Ghost. (5)
Maxmilieu Gauthier-STALINE. (6)
Boris Shrub & Bernard Quint-Since Stalin. (7)
Stephen Graham-STALIN. (8)
H. & P. Lazareff-The Soviet Union After Stalin. (9)
Stefau Possony-A Century Of Conflict. (10)
Klaus Mehnert-Stalin Versus Marx.
Halaman tidak diketahui