53
ويقول «هرمان دونكر»: «إن اسپينوزا لم يعترف إلا بالجوهر الشامل لكل شيء، الذي يمارس فاعليته في كل شيء. أما أنه أطلق على هذا الجوهر اسم «الله» - «الله أو الجوهر أو الطبيعة» - فما ذلك إلا خدعة لاهوتية، وترضية، ظاهرية للعقلية السائدة.»
54
أما العلماء فإنهم ولا شك يرحبون كل الترحيب بأي فهم من هذا النوع لفكرة الله. وهكذا قيل عن فهم اسپينوزا لفكرة الله إنه «هو الفهم الذي يصلح للعلماء»،
55
واقتبس صاحب هذا القول تصريحا لأينشتين يقول فيه: «إنني أومن بإله اسپينوزا.» وآخر للعالم لشتنبرج
Lichtenberg
يقول فيه إن فلسفة اسپينوزا «هي عقيدة الغد».
ومع ذلك فمن الممكن أن يجد المرء لدى اسپينوزا ذاته قرائن مباشرة على أن فكرة الله لا تخرج عنده عن مجال الطبيعة، وأنه حين قال «لله أو الطبيعة» لم يكن يعني حقيقتين وإنما حقيقة واحدة (وهو أمر أدركه كثير من الشراح)، وأن من الواجب - بالتالي - أن يدرك قارئ اسپينوزا أنه في كل موضع يتحدث فيه عن «الله»، يقصد بالفعل مجموع الطبيعة أو النظام الضروري للأشياء (وهو أمر يعترف به كثير من شراحه في الموضع الخاص به من شروحهم، ولكن معظمهم يغفلونه في بقية المواضع)، وسنعرض فيما يلي بعض هذه القرائن المباشرة: (4-1) هوية مجالي الله والطبيعة (1)
في أهم القضايا التي تعبر عن فلسفة مادية خالصة في كتاب «الأخلاق»، وهي القضايا من 10 إلى 20 من الباب الثاني، لا يرد ذكر للفظ «الله» في نص القضايا ذاتها، ولكن اللفظ يستخدم دائما في براهين هذه القضايا. وهذه القضايا تأتي مباشرة بعد القضية التاسعة، التي ورد فيها هذا اللفظ لآخر مرة قبل هذه المجموعة، ونص القضية 9 هو «إن الله يكون علة لفكرة شيء فردي موجود بالفعل، لا من حيث إنه لا متناه، بل بقدر ما يكون متأثرا بفكرة أخرى لشيء موجود بالفعل، يكون هو علته، بقدر ما يكون متأثرا بفكرة ثالثة. وهكذا إلى ما لا نهاية» في هذه القضية يقول اسپينوزا صراحة: إن من الممكن التحدث عن الله على أنه «متأثر» بفكرة شيء متناه - فأي إله هذا الذي «يتأثر» بفكرة شيء جزئي؟ من المؤكد أن لهذه القضية دلالة مباشرة على أن المقصود هنا هو المقارنة بين «الطبيعة» من حيث وجهها اللامتناهي من ناحية، وبين «الطبيعة» من حيث وجهها المتناهي الذي يكون فيه للأشياء الجزئية تأثيرها؛ ففي هذا الوجه المتناهي تكون الأشياء الجزئية، بالفعل، هي التي يؤثر بعضها في البعض، ويكون من الممكن حذف الحد المتوسط بينها، فبدلا من أن يقول اسپينوزا مباشرة إن الجسم المادي لا يتأثر إلا بجسم مادي، يقول إن الله هو علة الجسم المادي عن طريق تأثره بجسم مادي آخر يكون لله علته عن طريق تأثره بجسم ثالث ... إلخ. وهكذا تكون مهمة فكرة الله هنا «توسطية» فحسب، ويكون من الممكن في الواقع حذفها تماما والاقتصار على تأثير الأجسام، الأول والثاني والثالث، بعضها في البعض. وبعد أن أوضح اسپينوزا في هذه القضية معانيه التي لا يكون فيها لفكرة الله بالفعل أي دور حقيقي، ينتقل بعد ذلك إلى تفسير مادي صرف للعلاقة بين الذهن والجسم، وللقوى الذهنية والجسمية، ولا يرد في هذه المجموعة من ذكر لكلمة «الله» إلا في البراهين فحسب، وليس من الصعب أن يدرك المرء أن «براهين» القضايا في كتاب «الأخلاق» هي أكثر الأجزاء تكلفا، وهي التي يقوم عليها البناء المصطنع في المنهج الهندسي، ووظيفتها الحقيقية هي تبرير قضاياه على نحو تبدو فيه ضرورية لا تترك مجالا للاعتراض، بحيث لا يملك من لا تروقه القضية ذاتها - من الوجهة الأيديولوجية - إلا أنه يسلم بها طالما أن البرهان عليها يتسم بالضرورة الهندسية. وهكذا يدل اقتصار ظهور فكرة «الله» على البراهين في هذه القضايا المتطرفة في ماديتها على أن الفكرة تقوم بنفس مهمة «التوسط» التي ضربنا لها مثلا من قبل؛ وهو توسط يخفف كثيرا من تأثير توالي الأفكار المادية بعضها وراء البعض، ويكون «حاجزا» يقلل من وقع هذه الأفكار. (2)
Halaman tidak diketahui