وتختلف قيمة البراهين المفصلة التي ساقها اسپينوزا لإثبات وجود الله تبعا للتفسير العام لتفكيره؛ فإذا فهمت كتاباته بمعانيها الحرفية وضمنها كتاباته الكثيرة التي يرد فيها لفظ «الله»، كان من الضروري عندئذ أخذ هذه البراهين مأخذ الجد، ومحاسبته عليها حسابا دقيقا، سواء من حيث الخطأ وعدم الاتساق. أما إذا نظر إلى هذه الكتابات - كما فعلنا في هذا البحث - على أنها تنطوي على معان لا تكشف عنها لغته المدرسية اللاهوتية مباشرة، وإنما تستمد بعد مقارنة لمختلف أفكاره ومواقفه الرئيسية من فلسفة عصره وحضارته، فعندئذ تفقد هذه البراهين قيمتها إلى حد بعيد، وتغدو مجرد تكملة شكلية لبناء لفظي لم يكن صاحبه يعول عليه كثيرا، وفي هذه الحالة الأخيرة لا يكون المرء مضطرا إلى محاسبته على أخطائه أو عدم اتساقه عند عرضه لهذه البراهين، بل إن هذه الأخطاء تعد في واقع الأمر أدلة أخرى غير مباشرة على أن هذه البراهين لم تكن موضوعا لاهتمامه الكامل؛ لأنها هي ذاتها كانت تتعلق بفكرة لها عنده قيمة لفظية فحسب.
وعلى أساس فهمنا الخاص لفلسفة اسپينوزا ومنهجه، لن نتناول من هذه البراهين إلا جانبها السلبي؛ أعني دلالة إخفاقها على ضآلة أهميتها في نظر اسپينوزا؛ ففي البرهان الثاني الذي يقدمه اسپينوزا في النظرية من الباب الأول للأخلاق، يقول: «إن الشيء الذي لا يوجد سبب أو علة تمنع من وجوده، لا بد أن يوجد بالضرورة.» وهذه حجة باطلة؛ إذ لا شيء يمنع من وجود «السمك الماسي» مثلا، ومع ذلك فهو غير موجود، ولو فرض أنه اكتشف يوما، فلن يقول أحد: إن وجوده ضروري، وأن مجرد عدم وجود ما يمنع من وجوده يجعل ذلك الوجود ضروريا. وفي هذا البرهان، وكذلك في البرهان التالي مباشرة المبني على أساس أن «عدم القدرة على الوجود عجز»، وبالتالي أن الله بوصفه كاملا، لا بد أن يكون موجودا - خلط بين مجال الوجود ومجال الوجوب، وهو خلط كانت فلسفة اسپينوزا بأسرها محاولة كبرى لتخليص الأذهان منه، لا سيما وهو الذي عرف كمال الشيء (أو قيمته) بأنه مجرد واقعيته.
وهذه نقطة جديرة بالانتباه حقا؛ فمن الاعتراضات المعروفة والمسلم بها على كل من استخدموا الحجة الأنتولوجية في البرهنة على وجود الله، أنهم يخلطون بين مجال الواقع أو الوجود ومجال القيم أو الوجوب. إنهم يتصورون أن مجرد وجود فكرة في الذهن تتصف بجميع صفات الكمال، وكون الوجود الحقيقي كمالا بدوره، يعني أن هذه الفكرة لا بد أن تتصف أيضا - ضمن كمالاتها - بالوجود الحقيقي. فأقل ما يقال عنهم هو أنهم يفترضون وجود كمال دوني شامل، أو يصبغون المبدأ الأول للكون بصفات الكمال المطلق - نفس ذلك الكمال الذي نفهمه، نحن البشر، ولكن على أقصى نطاق يمكن تصوره، فكيف نوفق بين استخدام اسپينوزا لهذه الحجة، وبين تأكيده أنه لا كمال للشيء إلا واقعيته، وأن الكون في شموله لا يتصف إلا بالضرورة، وأنه يستبعد تماما كل وصف من أوصافنا التقويمية؟ من المؤكد أن هذا البرهان لو أخذ، في فلسفة اسپينوزا، مأخذ الجد، فإنه يهدم فلسفته كلها من أساسها؛ إذ لا يعود هناك مبرر، عندئذ، للحملة على الغائية، أو على التشبيه بالإنسان، أو لتأكيد فكرة الضرورة. وهكذا يكون على المرء عندئذ إما أن يؤكد وجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا، أو أن يحاول تفسير التجاء اسپينوزا إلى البرهان الأنتولوجي على أنه جزء من بنائه الفلسفي الشكلي فحسب، وليس جزءا من المعاني الحقيقية التي تتضمنها فلسفته.
أما إذا نظر إلى البرهان الأنتولوجي على أنه ليس، عند اسپينوزا، برهانا متعلقا بفكرة الله، وإنما يتعلق بالنظام الكلي للأشياء، أو الطبيعة، فعندئذ يختفي قدر كبير من التناقض أو عدم الاتساق الظاهر فيه، مثال ذلك أن «سيڨك» يعترض على اسپينوزا لعدم التجائه إلى الطرق التقليدية في إثبات وجود العالم: كفكرة العلية أو المحرك الأول أو وجود النظام في الكون، وينتقد التجاءه إلى إثبات وجود الله من تصور الله ذاته، أو من تحليل معنى الفكرة، قائلا إن فكرة وجود الله ليست واضحة بذاتها، بدليل عدم إدراك الكثيرين لها على التو.
49
مثل هذا الاعتراض صحيح طالما أعتقد أن البرهان يتعلق فعلا بوجود الله. أما إذا حل لفظ «الطبيعة» محل «الله» في هذه الحالة، فإن دلالة البرهان تختلف تماما؛ إذ يغدو البرهان ذاته مجرد إشارة إلى أن وجود الطبيعة ظاهر من مجرد التفكير فيها، أو أنه على الأصح ليس في حاجة إلى دليل. وهكذا فعندما يقول اسپينوزا: إن ماهية الله تتضمن وجوده، يعني أن الحقيقة الأساسية، وهي الطبيعة في مجموعها، موجودة بذاتها، وأن مجرد القول بها يستتبع أن تكون موجودة، وهو تعبير آخر عن استبعاده - الذي أشرنا إليه من قبل - لمشكلة إثبات وجود العالم.
ولو تأملنا التفسير الذي انتهى إليه «چويكم» - وهو من أدق شراح كتاب «الأخلاق» - لبراهين اسپينوزا على وجود الله لوجدنا أنه يؤيد هذا الرأي إلى حد بعيد. فهذه البراهين في رأيه تتلخص في فكرة واحدة هي: «إذا سلمت بأن أي شيء موجود فعلا
is actual . فلا بد أن تسلم بأن الله موجود فعلا بالضرورة.» وهو يعقب على هذا الشرح بقوله: «إن صحة هذا الاستدلال تتوقف على ما يعنيه اسپينوزا بفكرة الله؛ فقيمته تتوقف على ما تعنيه عبارة الوجود الضروري لله.»
50
ثم يزيد عبرته هذه إيضاحا فيقول: «والسبب في صحة برهانه على الوجود الضروري لله هو أن الإله عنده ... هو الواقع الوحيد الشامل؛ فالتجربة من حيث هي كل ينبغي أن تكون موجودة؛ لأنها كل؛ أي لأنها في جميع أوجهها ذات نسيج واحد، ولأن كل جزء منها ينطوي، بالتالي، على النسيج بأسره: وعلى ذلك فإذا لم يكن للكل وجود، ووجود ضروري، فلن يعود من الممكن، بأي معنى من المعاني، أن يوجد شيء أو يتصور.»
Halaman tidak diketahui