146

التي يحددها بأنها هي «البورجوازية التجارية والمالية والاستعمارية» التي كانت تسعى أولا وقبل كل شيء إلى حفظ أنظمتها ومصالحها الخاصة.

22

هذا التفسير في نظرنا قائم على فهم ناقص لجميع أطراف فلسفة اسپينوزا. وليس خطأ المؤلف، في نظرنا، راجعا إلى محاولته إيجاد تفسير «طبقي» لتفكير اسپينوزا السياسي، وإنما هو يرجع إلى أن هذا التفسير مبني عنده على معطيات غير كافية وغير دقيقة، وبالتالي يتحتم أن يكون باطلا، ونستطيع أن نوجه إليه الانتقادات الآتية: (1)

فالمؤلف يفهم كثيرا من ألفاظ اسپينوزا ومصطلحاته فهما حرفيا. وهكذا يفوته «السر» الحقيقي لتفكير اسپينوزا؛ فهو مثلا، حين يقول في مواضع متعددة من كتابه بوجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا يعكس تناقض المجتمع الذي عاش فيه، ويحدد هذا التناقض بأنه يتمثل في المزج بين الاتجاه العلمي والاتجاه الصوفي، يخطئ إذ يتبع طريقة الفهم الحرفي لفكرة الله عند اسپينوزا. وهذا الخطأ وحده كفيل بتقديم صورة باطلة لكل جوانب هذه الفلسفة. ونستطيع أن نجد في تفسير النص الذي قدمناه من قبل مثلا جزئيا لهذا الخطأ العام؛ فهو يفسر فكرة «التقوى» التي وردت في هذا النص بأنها تعبير عن التهدئة، بينما كان المعنى الحقيقي لهذه الفكرة، كما رأينا من قبل، هو «التعاطف أو حب الجار»، وهو معنى مخالف تماما لتفسير المؤلف. هذا فضلا عن أن وصف كتاب ثائر مثل «البحث اللاهوتي السياسي» بأنه يرمي إلى تهدئة الناس أو تخدير روح الثورة فيهم عن طريق التقوى فيه إغفال تام لكل ما في هذا الكتاب من أصالة. (2)

عندما تحدث اسپينوزا في آخر النص السابق عن عدم تعارض الحرية مع مصلحة الدولة أو سلامتها، فمن المؤكد أنه كان يضع مبدأ عاما، ولم يكن يتحدث عن الدولة التي عاش فيها على التخصيص. وهذا واضح كل الوضوح من نص الكتاب نفسه؛ فكل ما أراده هو أن يقطع الطريق على الحجة القائلة إن منح الحريات قد يهدد أمن الدولة، أو يقضي على التقوى، ويثبت أن الدولة التي تمنح الحرية لرعاياها تستطيع أن تكون أكثر اطمئنانا على أمنها، وأن التقوى فيها - بمعناها الخاص عنده، وهو حب الجار أو التعاطف بين الناس - لن تتأثر على الإطلاق، فلم يكن اسپينوزا يرمي إلى أن يدافع عن الدولة التي عاش فيها إلا من حيث هي تقبل مبدأ الحرية وتعترف به فحسب. (3)

هناك شراح آخرون لا يقلون عن المؤلف إيمانا بالتفسير الاقتصادي الاجتماعي - مثل «فوير

Feuer » - أكدوا أن اتصالات اسپينوزا كانت كلها مع أحرار الفكر في عصره، وأن إعجابه ب «ديڨيت» كان راجعا إلى أن هذا الأخير كان يمثل أعلى ما يمكن أن تصل إليه الروح التقدمية في ذلك العصر، ولم يكن هذا الإعجاب مع ذلك مطلقا، بل إن اسپينوزا قد انتقد نظام ديڨيت ضمنا في انتقاده للأرستقراطية في كتاب «البحث السياسي»، وأظهر ميلا واضحا إلى إيثار الديمقراطية عليه، بل إن هناك فلاسفة ماركسيين آخرين يستنتجون من المعطيات ذاتها نتائج مضادة؛ فيرون أن اتصال اسپينوزا بالطبقة البورجوازية الناشئة هو الذي أدى به إلى «التخلي عن النزعة الغائية، وعن المثالية وعن التعلق بالعالم الآخر، والصوفية، وهي النزعات التي تميزت بها العصور الوسطى، وإلى إعلان شمول قوانين الطبيعة، والحتمية العلية الضرورية، وواحدية الجوهر الأزلي اللامتناهي»، ويؤكدون أن اسپينوزا قد عبر عن المصالح البعيدة لا المصالح العاجلة لهذه الطبقة، مما جعل أفرادها يشكون في تعاليمه ويناصبونه العداء.

23

وفي مثل هذا التفسير يستحيل أن يقال إنه كان يسعى إلى تخدير روح الثورة في الناس عن طريق الدفاع المباشر عن النظام القائم أو السلطة الدينية. (4)

وأخيرا، فإن «مادلين فرانسيس»، وهي من أكثر الباحثين تعمقا في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحياة اسپينوزا، تبدي شكها في أن يكون اسپينوزا قد ارتبط ارتباطا وثيقا بحزب «يان ديڨيت» الجمهوري أو جعل من فلسفته تبريرا فكريا له، وكل ما في الأمر أنه رأى في ذاك الحاكم أصلح من يوجد، وحاول أن يأتي في كتاباته بأفكار قد تساعد على تقوية الاتجاهات السليمة لديه.

Halaman tidak diketahui