وفي الفصل الأول من الكتاب، حين يتحدث اسپينوزا عن المصادر التي سوف يستمد منها بحثه في الطرق التي يتصل بها الله بالبشر، يقول: إن هذه المصادر هي كتب الأنبياء - وهو يعني بهم أنبياء اليهود بطبيعة الحال. ثم يقول: «ولما لم يكن هناك، بقدر ما أعلم، أي نبي حي في هذه الأيام، فلا مفر لنا من قراءة كتاب الأنبياء الراحلين ...»
11
ومن المؤكد أن هذه الجملة، ولا سيما عبارة «بقدر ما أعلم»، فيها نوع من الاستخفاف بالموضوع بأسره. وهذا الاستخفاف الذي يبديه اسپينوزا هنا، بطريقة مستترة، ينعكس على الكتاب كله؛ إذ إن ما يبدو فيه من احترام ظاهري لوجهة نظر أنبياء اليهود، إن هو إلا من قبيل «أخذ الناس بقدر عقولهم»، كما اعتاد اسپينوزا أن يفعل في كثير من مواقفه الفكرية.
ولسنا نود أن نمضي في تعديد الشواهد على اتباع اسپينوزا الأسلوب غير المباشر في هذا الكتاب بدوره، ويكفي أن نقول: إن كل حديثه عن الدين - مثل حديثه عن الله في الفصل السابق - يتخذ معنى جديدا كل الجدة إذا كانت الطاعة الإلهية لا تعدو أن تكون حب الجار، وإذا كان الوحي الديني في نظره ثانوي الأهمية، وشعائر الدين - كما سنرى فيما بعد - لا تفيد من حيث قيمتها العملية، وإذا كان القانون أو الأمر الإلهي لا يعدو أن يكون تعبيرا عن النظام الضروري للأشياء. فاستخدام اسپينوزا للفظ الدين، أو الإيمان، لم يكن بدوره إلا من قبيل المجاراة والتهدئة فحسب. أما معانيه الحقيقية فكانت في واد آخر تماما. ومع ذلك فلا بد من التسليم بأن هذا الأسلوب غير المباشر لم يكن ناجحا كل النجاح في هذا الكتاب؛ إذ إن طريقة الكتابة المسترسلة تؤدي إلى الكشف عن معانيه الحقيقية دون عناء كبير. وهذا ما يفسر الضجة الكبرى التي أحدثها الكتاب في الأوساط الدينية في عصره على الأخص، وهي الضجة التي ظل اسپينوزا يعاني آثارها طوال حياته. (2) موقف اسپينوزا من المسيحية
وبعد كل ما قلناه في القسم السابق، نستطيع أن نقول إن الدليل الأكبر على اتباع اسپينوزا للأسلوب غير المباشر في التعبير عن آرائه، هو الاختلاف الشديد بين الشراح حول موقفه من المسائل الدينية، ولا بد لإيضاح طبيعة هذا الاختلاف من شرح رأي اسپينوزا في اليهودية والمسيحية كل على حدة، ثم عرض آرائه في الروح الدينية بوجه عام. ولما كنا سنخصص فصلا مستقلا لشرح موقف اسپينوزا من اليهودية، فسوف ننتقل هنا مباشرة من الحديث عن موقفه من المسيحية، إلى بحث رأيه العام في الروح الدينية.
والظاهرة التي تلتف النظر في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» هي أن اسپينوزا أظهر محاباة واضحة للمسيحية بالنسبة إلى اليهودية.
فتعاليم موسى في الوصايا العشر كانت في رأيه مكيفة تبعا لأذهان اليهود، وترمي إلى تحقيق رفاه مملكتهم فحسب؛ أي إن موسى كان يخاطب اليهود بوصفه مشرعا وقاضيا، وكان يتناول في تشريعه الجانب الظاهر من سلوك الإنسان. أما المسيح فقد تناولت تعاليمه حياة الإنسان الباطنة، وكان الجزاء عنده روحيا أكثر منه دنيويا.
12
وحين يحلل اسپينوزا مختلف طرق الاتصال بين الله وبين الأنبياء حسبما جاء في الأناجيل، يرى أن الأوصاف الواردة في الأناجيل لا تدل على حدوث اتصال مباشر بين الذهن الإلهي وبين أي ذهن آخر سوى المسيح؛ فالاتصال الإلهي بموسى كان مخاطبة أو كلاما، والكلام يحتاج دائما إلى المخيلة لتفسيره أو فهمه. أما الاتصال ببقية الأنبياء اليهود فكان عن طريق أحلام أو علامات أو أمارات معينة؛ أي إنه كان يتم دائما بتوسط، والحالة الوحيدة التي تم فيها اتصال مباشر من ذهن إلى ذهن ، دون توسط اللغة أو الخيال، هي حالة المسيح.
13
Halaman tidak diketahui