وقد كتب «لوكاس» مدافعا عن اسپينوزا بحماسة، ولكن روايته كان فيها الكثير من الخطأ، ويغلب عليها الأسلوب الإنشائي والمبالغات الانفعالية الساذجة، وهكذا حاول أن يرسم لاسپينوزا صورة تتفق مع نظرته الرومانتيكية إليه. أما «كوليروس» فكان ينتقد اسپينوزا بشدة، وكان أسلوبه أدق وأكثر واقعية، ولكن روايته بدورها لم تكن تخلو من الأخطاء، كما أنها أغفلت جوانب عديدة هامة في حياة اسپينوزا.
والأمر الذي تفتقر إليه هذه الكتابات كلها هو أنها لم تكتب عن معرفة شخصية مباشرة باسپينوزا ذاته، وإنما كتبت بعد وفاته واستمدت من مصادر بعضها ثانوي الأهمية. وهنا يحق للباحث أن يتساءل: لماذا لم يقم أحد أصدقاء اسپينوزا المقربين بكتابة تاريخ مفصل لحياته، وخاصة عندما كانوا بصدد نشر مؤلفاته المختلفة؟ إن الرد الوحيد الممكن في نظرنا، على هذا السؤال الذي أثاره بعض من كتبوا عن اسپينوزا،
3
هو أن هؤلاء الأصدقاء قد رغبوا في إحاطة بعض وقائع حياة اسپينوزا بنطاق من الغموض، مثلما فرض هو ذاته نطاقا من السرية على تعاليمه في هذه المؤلفات المختلفة، وليس من المستبعد أن يكون ذلك الامتناع من جانبهم تلبية لرغبة منه. •••
كانت هولندا، في الفترة التي ولد فيها اسپينوزا، تمر بتحولات اجتماعية هامة؛ ففي أثناء حياة اسپينوزا، استقلت المقاطعات السبع في الأراضي الواطئة عن الحكم الإسباني الغاشم، وتحولت بسرعة إلى دولة تجارية من الطراز الأول، وهو الطابع الذي كان قد بدأ يظهر فيها بوضوح حتى قبل ذلك الاستقلال؛ ففي سنة 1602م أسست شركة الهند الشرقية التي كانت أشبه بدولة داخل الدولة، كما تكونت في 1621م شركة الهند الغربية على أسس مماثلة، وحققت هذه الشركات للبلاد إمبراطورية واسعة الأطراف، ما زالت آثارها باقية حتى اليوم، غير أن تحرر هولندا من النظام الإقطاعي الذي كان سائدا في العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة قد اقترن بنهضة علمية وفكرية لا يمكن إنكارها؛ فالأمر الذي لا شك فيه - والذي شهد به اسپينوزا نفسه - أن بلاده كانت، بالقياس إلى غيرها من البلدان في ذلك العصر، تشجع التسامح الديني وحرية الفكر، وإن يكن ذلك التحرر الفكري نسبيا فحسب. وأدى ذلك إلى نهضة علمية وفنية وفلسفية كبيرة؛ ففي ميدان العلوم، تمت في هولندا كشوف هامة في الطبيعة والفلك والميكانيكا، وكان من معاصري اسپينوزا العالم الطبيعي المشهور «هيجنز
Huygens » والعالم البيولوجي الكبير «ليڨنهويك
Leuuwenhock ». أما في ميدان الفن فقد اشتهرت المدرسة الهولندية في الرسم وعلى رأسها «رمبرانت» الذي رسم لوحة مشهورة لاسپينوزا. وفي ميدان الفلسفة، كانت هولندا هي البلد الذي آوى ديكارت حين هاجر من فرنسا، كما كان الفكر الحر، الخارج على التقاليد السياسية والدينية، أمرا مألوفا، وإن كان المفكرون المتحررون لقوا، رغم ذلك، نصيبهم من الاضطهاد. •••
في هذا الجو الاجتماعي والعلمي ولد اسپينوزا في أمستردام، في 24 نوفمبر 1632م. وقد سمي عند ولادته «باروخ
Baruch » (وترجمتها اللاتينية
Benedictus )، وكانت أسرة اسپينوزا من الأسر الإسبانية اليهودية المهاجرة، من فئة تسمى «المارانو
Halaman tidak diketahui