السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية
تأليف
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
(٦٦١ - ٧٢٨ هـ)
تحقيق
علي بن محمد العمران
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
راجع هذا الجزء
سليمان بن عبد الله العمير
جديع بن محمد الجديع
المقدمة / 3
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه هي الطبعة الثالثة من الطبعة الكاملة لكتاب السياسة الشرعية نعيدها بعد مضي عشر سنوات على طبعته الأولى. وهي تمتاز بأمور:
١ - مقابلتها على أقدم نسخة للكتاب عُرفت حيث نسخت سنة ٧٠٥ قبل سفر الشيخ إلى مصر، ومن أهم ما صححتْه هذه النسخةُ ما كنتُ ذكرتُه في مقدمة الطبعة الأولى أن الشيخ ألف الكتاب سنة ٧٠٩، لكن تاريخ هذه النسخة يقطع بخلاف ذلك. كما سيأتي في موضعه. أما من حيث النص فهي تنتمي إلى النسخ المختصرة للكتاب ونصها جيد في الجملة مع أخطاء وتصحيفات ليست بالكثيرة. وقد أفادني بها الأخ الفاضل مصعب اللهو.
٢ - تصحيحات متعددة في الكتاب في مقدمته ومتنه وحواشيه، وصلت تلك الملاحظات من عدد من الأفاضل، وكان أول من تسلمتُها منه د. طه أبو النجا، ثم من وحدة التدقيق والمراجعة بوزارة الأوقاف بقطر، جزى الله الجميع خيرًا.
علي بن محمد العمران
المقدمة / 5
مقدمة التحقيق
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذه طبعة جديدة متميزة لكتاب (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ووجه تميّزها أمور:
١ - أنها الطبعة الأولى الكاملة للكتاب؛ إذ كانت طبعات الكتاب السابقة مختصرة؛ لأنها اعتمدت على نسخٍ مختصرة أو مهذَّبة عن النسخة الأصلية الكاملة للكتاب وهي التي نخرجها اليوم ضمن سلسلة آثار شيخ الإسلام (وسيأتي الحديث بالتفصيل عن ميزات الطبعة في ص ٢٨).
٢ - أنها أول طبعة للكتاب تخرجه محققًا تحقيقًا علميًّا يليق به، نأمل أن تكون مستوفية لما تتطلبه مهمة التحقيق.
ومما ألْفِتُ النظرَ إليه بادئ ذي بدء أن الشيخ ﵀ لم يكن غرضه من تأليف هذا الكتاب أن يلمّ فيه بكل تفاصيل ما يمكن أن يدخل في موضوع «السياسة الشرعية»، ولا أن يسير على طريقة الكتب التقليدية في الفن، ككتاب الماوردي أو القاضي أبي يعلى؛ بل الشأن كما ذكر في المقدمة: أن هذه الرسالة تتضمن جوامع من السياسة الإلهية والإيالة النبوية. أي: أصول قضاياه والأمور الجامعة فيه.
وهذا هو ما اقتضاه الحال والزمان؛ فالحالُ: أن هذه الرسالة كُتبت لأحد
المقدمة / 6
الأمراء (كما سيأتي تفصيله ص ١٩ - ٢١) إما بطلب منه أو بما تقتضيه النصيحة لولاة الأمر. والزمان: أن الشيخ ألفه في ليلة واحدة!
وبعد، فقد صار هذا الكتاب من أهم ما أُلِّف في السياسة الشرعية، وهو معدود في مضمار الكتب الأساسية في الفن إن لم يكن قد أربى عليها. قال المستشرق هنري لاوست: «إن هذا الكتاب الجليل لهو أحد الآثار الإسلامية الكبرى في القانون الدولي، وأنا من جانبي لا أتردد مطلقًا في وضعه في مستوى الأحكام السلطانية للماوردي» (^١).
وسيكون حديثنا في صدر هذه الطبعة في النقاط الآتية:
- تقرير معنى السياسة الشرعية من كلام المصنف وتلميذه ابن القيم.
- اسم الكتاب.
- سبب تأليفه ولِمَن أُلِّف.
- تاريخ تأليفه.
- إثبات نسبته للمؤلف.
- ترتيب الكتاب وموضوعاته.
_________
(^١) في بحث له بعنوان: النشأة العلمية عند ابن تيمية وتكوينه الفكري. منشور في كتاب «أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان الإمام ابن تيمية» (ص ٨٣٥). ثم نشرته مفردًا ضمن كتابي «خمس تراجم معاصرة». وهنري لاوست مستشرق فرنسي متخصص في ابن تيمية، وكانت رسالته الدكتوراه عن آراء ابن تيمية السياسية والاجتماعية، وقد طبعت في ثلاثة مجلدات. انظر «موسوعة المستشرقين» (ص ٥١٠ - ٥١١) لعبد الرحمن بدوي.
المقدمة / 7
- ميزات هذه الطبعة.
- نشرات الكتاب.
- مخطوطات الكتاب.
- منهج التحقيق.
كتبه
علي بن محمد العمران
في مكة المكرمة حرسها الله في شعبان ١٤٢٨
المقدمة / 8
تقرير معنى السياسة الشرعية
من كلام المصنف وتلميذه ابن القيم
للمصنف وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى كلامٌ مفيد في موضوع السياسة الشرعية مبثوث في عدد من مؤلفاتهما، ولابن القيم كتاب مفرد في الباب هو «الطرق الحكمية»، رأيتُ من الخير أن أصَدِّر الحديثَ عن الكتاب بهذا الفصل خاصة مما ليس في رسالتنا هذه.
* قال المصنف في «مجموع الفتاوى»: (٢٠/ ٣٩١ - ٣٩٣): «وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفي تصانيفهم إذا احتجَّ عليهم محتجٌّ بمن قتله النبي ﷺ أو أمر بقتله، كقَتْله اليهوديَّ الذي رضَّ رأسَ الجارية، وكإهداره لدم السابة التي سبّته وكانت معاهدة، وكأمره بقتل اللوطي ونحو ذلك. قالوا: هذا يعمله سياسة. فيقال لهم: هذه السياسة إن قلتم: هي مشروعة لنا، فهي حق وهي سياسة شرعية. وإن قلتم: ليست مشروعة لنا، فهذه مخالفة للسنة.
ثم قولُ القائل بعدُ: «هذا سياسة»؛ إما أن يريد أن الناس يُساسون بشريعة الإسلام، أم هذه السياسة من غير شريعة الإسلام؟ فإن قيل بالأول فذلك من الدين، وإن قيل بالثاني فهو الخطأ.
ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله ﷺ وسياسة خلفائه الراشدين. وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام نبي، وإنه لا نبي
المقدمة / 9
بعدي وسيكون خلفاء يكثرون»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإنَّ الله سائلهم عما استرعاهم».
فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلَّد لهم القضاء مَن تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة= احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكمًا أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة.
والسبب في ذلك: أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصَّروا في معرفة السنّة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تُسْفَك الدماء وتؤخذ الأموال وتُستباح المحرمات. والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوعٍ من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنّة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرَّى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القويّ ومَن يرشوهم ونحو ذلك.
وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة، يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها؛ مِنْ جَعْل صاحب الحرب متبعًا لصاحب الكتاب ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومَن اتبعهم، حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم. وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ الآية [الحديد: ٢٥]، فقوام الدين بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
المقدمة / 10
ودين الإسلام: أن يكون السيف تابعًا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعًا لذلك كان أمر الإسلام قائمًا، وأهلُ المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك؛ أما على عهد الخلفاء الراشدين فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم فهم في ذلك أرجح من غيرهم. وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير، وكان السيف تارةً يوافق الكتاب وتارةً يخالفه= كان دين مَن هو كذلك بحسب ذلك ...» اهـ الغرض من كلام شيخ الإسلام (^١).
* وقال ابن القيم ﵀ في «بدائع الفوائد»: (٣/ ١٠٨٧ - ١٠٩٥): «قال ابن عقيل: جرى في جواز العمل في السلطنة الشرعية بالسياسة:
هو الحزم، فلا يخلو منه إمام.
قال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.
قال ابن عقيل: السياسةُ ما كان فعلًا يكون معه الناسُ أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسولُ ولا نزلَ به وحيٌ. فإن أردت بقولك: «إلا ما وافق الشرع» أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت ما نطقَ به الشرعُ فغلطٌ وتغليطٌ للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمُثَل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة، وتحريق عليّ في الأخاديد وقال:
إني إذا شاهدتُ أمرًا منكرًا ... أججتُ ناري ودعوت قَنبرا
_________
(^١) وانظر أيضًا «مجموع الفتاوى»: (٢٨/ ٦٤٢)، و«منهاج السنة»: (٦/ ٤٨). وللمصنف رسالتان مختصرتان في الموضوع نفسه، مطبوعتان في المجموعة السابعة من «جامع المسائل».
المقدمة / 11
ونفيُ عمر نصرَ بن حجاج.
قلت: هذا موضع مزلّة أقدام، وهو مقامٌ ضَنْك ومعترك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيَّعوا الحقوق وجرَّأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعةَ قاصرةً لا تقوم بها مصالح العباد، وسدُّوا على نفوسهم طرقًا عديدة من طرق معرفة المُحقِّ من المُبْطِل، بل عطلوها مع علمهم قطعًا وعلم غيرهم بأنها أدلة حقٍّ، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع.
والذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة= أحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم، فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شرٌّ طويل وفساد عريض، وتفاقم الأمرُ وتعذَّر استدراكه.
وأفرطت طائفة أخرى فسوَّغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أُتيَتْ من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله. فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأيِّ طريق كان فثمَّ شرعُ الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء، ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بيَّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخْرج بها العدل والقسط فهي من الدين.
لا يقال: «إنها مخالفة له»، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها
المقدمة / 12
سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرع حق. فقد حبس رسول الله ﷺ في تهمة، وعاقب في تهمة؛ لمّا ظهر أمارات الريبة على المتهم. فمن أطلق كلَّ متهم وخلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، ونقبه البيوت وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل= فقوله مخالف للسياسة الشرعية. وكذلك منع النبي ﷺ الغال من سهمه من الغنيمة، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه كله، وكذلك أخذه شطر مال مانع الزكاة، وكذلك إضعافه الغرم على سارق ما لا يقطع فيه وعقوبته بالجلد، وكذلك إضعافه الغُرْم على كاتم الضالة. وكذلك تحريق عمر حانوت الخمار، وتحريقه قرية خمر، وتحريقه قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجَبَ فيه عن الرعية، وكذلك حلقه رأس نصر بن حجاج ونفيه، وكذلك ضربه صَبِيغًا، وكذلك مصادرته عمّاله، وكذلك إلزامه الصحابة أن يقلِّوا الحديثَ عن رسول الله؛ ليشتغل الناس بالقرآن فلا يضيعوه. إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فصارت سنةً إلى يوم القيامة وإن خالفها مَن خالفها.
ومن هذا تحريق الصديق للوطي، ومن هذا تحريق عثمان للصُّحف المخالفة للسان قريش. ومن هذا اختيار عمر للناس الإفراد بالحج ليعتمروا في غير أشهره؛ فلا يزال البيت الحرام مقصودًا، إلى أضعاف أضعاف ذلك من السياسات التي ساسوا بها الأمة وهي بتأويل القرآن والسنة.
وتقسيمُ الناس الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم من قسم الطريقة إلى شريعة وحقيقة، وذلك تقسيم باطل؛ فالحقيقة نوعان: حقيقة هي حقٌّ صحيح، فهي لب الشريعة لا قسيمتها، وحقيقة باطلة، فهي مضادة للشريعة كمضادة الضلال للهدى.
المقدمة / 13
وكذلك السياسة نوعان: سياسة عادلة، فهي جزء من الشريعة وقسم من أقسامها لا قسيمتها. وسياسة باطلة، فهي مضادة للشريعة مضادة الظلم للعدل.
ونظير هذا: تقسيم بعض الناس الكلامَ في الدين إلى الشرع والعقل هو تقسيمٌ باطل؛ بل المعقول قسمان: قسم يوافق ما جاء به الرسول، فهو معقول كلامه ونصوصه لا قسيم ما جاء به. وقسم يخالفه، فذلك ليس بمعقول؛ وإنما هو خيالات وشُبَه باطلة يظن صاحبها أنها معقولات وإنما هي خيالات وشبهات.
وكذلك القياس والشرع، فالقياس الصحيح هو معقول النصوص، والقياس الباطل المخالف للنصوص مضاد للشرع.
فهذا الفصل هو فرق ما بين ورثة الأنبياء وغيرهم، وأصله مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي ﷺ بالسنّة إلى كل ما يحتاجُ إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم، وأنه لا حاجة إلى أحدٍ سواه البتة، وإنما حاجتنا إلى ما يبلغنا عنه ما جاء به. فمن لم يستقرّ هذا في قلبه لم يرسخ قدمُه في الإيمان بالرسول، بل يجب الإيمان بعموم رسالته في ذلك كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين. فكما لا يخرج أحدٌ من الناس عن رسالته البتة فكذلك لا يخرج حق من العلم والعمل عما جاء به، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه، وإنما يحتاج إلى غيره من قلَّ نصيبُه من معرفته وفهمه، فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته، وإلا فقد توفي رسول الله ﷺ وما طائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علمًا وعلَّمهم كل شيء ...
المقدمة / 14
وبالجملة فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه. ولهذا ختم الله به ديوان النبوة، فلم يجعل بعده رسولًا لاستغناء الأمة به عمن سواه، فكيف يُظن أن شريعته الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجة عنها، أو إلى حقيقة خارجة عنها، أو إلى قياس خارج عنها، أو إلى معقول خارج عنها؟ !
فمن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسولٍ آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٥١]، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩]، وقال تعالى: ﴿(٥٦) يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ [يونس: ٥٧]. وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي بعشر معشار ما الناس محتاجون إليه على زعمهم الباطل؟
ويالله العجب كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال؟ هل كانوا مهتدين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك حتى جاء المتأخرون أعلم منهم وأهدى منهم؟ ! هذا ما لا يظنه مَن به رمق من عقل أو حياء نعوذ بالله من الخذلان، ولكن مَن أوتي فهمًا في الكتاب وأحاديث الرسول ﷺ استغنى بهما عن غيرهما بحسب ما
المقدمة / 15
أوتيه من الفهم، وذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضل العظيم ...» انتهى المراد من كلام ابن القيم (^١).
* * * *
_________
(^١) وانظر أيضًا كلام ابن القيم في «أعلام الموقعين»: (٤/ ٣٧٢ - ٣٧٨)، و«بدائع الفوائد»: (٣/ ١٠٣٥)، و«الطرق الحكمية»: (١/ ٢٩ وما بعدها).
المقدمة / 16
اسم الكتاب
لم يسم المؤلف كتابه في مقدمته كما هي عادته في عامة كتبه، فهو لا يحفل بذلك ولا يهتم له؛ لكن جاءت تسمية الكتاب في مصادر أخرى، وتكاد هذه المصادر تتفق على أصل التسمية مع اختلاف قليل بينها، وسنذكر ما وقفنا عليه من ذلك ونختار ما نراه الأقرب.
١ - فقد جاءت تسميته بعنوان: «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» في كتاب «العقود الدرية» (^١)، و«مختصر طبقات علماء الحديث» (^٢)؛ كلاهما لتلميذه ابن عبد الهادي (ت ٧٤٤)، وفي جزء للذهبي في ترجمة المصنف (^٣). ومثله وقع على النسخ الخطية ذوات الرموز (ف، س، ي، ز، ونسخة الأزهر ٨٧٩٣). وهكذا جاءت التسمية في «كشف الظنون» (^٤) و«هدية العارفين» (^٥).
وهذا العنوان هو ما اخترناه تسميةً عَلَمِيَّةً للكتاب.
٢ - وسُمِّي في «أسماء مؤلفات ابن تيمية» (^٦) لتلميذه ابن رُشَيِّق (٧٤٩) بـ: «السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية»، فهو كسابقه مع تغيير يسير
_________
(^١) (ص ٥٢).
(^٢) (ص ٢٧٥ - ضمن الجامع لسيرة ابن تيمية).
(^٣) (ص ٢٤٣ - ضمن مجموع رسائل).
(^٤) (ص ١٠١١).
(^٥) (ص ١٠٦).
(^٦) (ص ٣٠٦ - ضمن الجامع لسيرة ابن تيمية).
المقدمة / 17
في كلمة (لإصلاح).
أما النسخ الخطية الأخرى فجاءت التسمية فيها كما يلي:
٣ - نسخة الأصل: «جوامع من السياسة الشرعية في صلاح الراعي والرعية»، وقد طُبع الكتاب أول ما طُبع في طبعته الأولى بالهند بعنوان قريب من هذا كما سيأتي. وواضح أن هذا الاسم مستفاد من قول المؤلف في المقدمة: «فهذه ... جوامع من السياسة الإلهية ...».
٤ - نسخة (ل): «السياسة الشرعية في صلاح الراعيين والرعية». كذا بياءين على صفحة العنوان، وفي الصفحة التي تليها وهي بداية الكتاب بياء واحدة (الراعين).
٥ - نسخة (ظ): «السياسة الشرعية والقواعد النبوية في إصلاح الراعي والرعية».
٦ - أما نسخة (ب) فاقتصرت على صدر العنوان: «السياسة الشرعية». ومثله جاء عند ابن فضل الله العمري (ت ٧٤٩) تلميذ المصنف في «مسالك الأبصار» (^١).
* * * *
_________
(^١) (ص ٣١٨ - ضمن الجامع).
المقدمة / 18
سبب تأليف الكتاب، ولِمَن أُلِّف
أما سبب تأليفه، فقد أفصح عنه المصنف في مقدمته بقوله: «فهذه رسالة تتضمن (^١) جوامع من السياسة الإلهية والإيالة النبوية ...، اقتضاها (^٢) من أوجبَ الله نُصْحَه من ولاة الأمور، كما قال النبي ﷺ ــ فيما ثبت عنه من غير وجه ــ: «إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولَّاه الله أمركم».
فاتضح أن سبب التأليف هو طلب بعض الأمراء كتابة رسالة في هذا الخصوص بلسان المقال وهو الظاهر أو بلسان الحال.
أما مَن يكون ذلك الأمير؟ فقد جاء على صفحة العنوان من نسخة ليدن (ل) ــ الآتي وصفُها ــ بيان مَن هو الأمير المكتوبة له الرسالة، إذ فيها: «كتاب السياسة الشرعية ... علّقها ــ ﵀ ــ حين سأله الأمير قيس (كذا) المنصوري فأجابه إلى ذلك. وعلَّقها في ليلة واحدة ﵁ وأرضاه».
كذا ورد اسمه في النسخة (الأمير قيس المنصوري)! وليس من أميرٍ في عصر ابن تيمية ولا بعده يسمى (قيسًا)، وأرجِّح أن يكون الاسم محرَّفًا عن (آقُش ...) ويكتب أيضًا: (آقوش) بإشباع الضمة، فالظاهر أن كاتب النسخة وجد الاسم هكذا (آقُش) فلم يحسن قراءته فجعله (قيس). وهو رسم قريب.
وهو: الأمير جمال الدين آقُش الرَّحَبي ــ بالراء والحاء المهملة
_________
(^١) في غير الأصل: «مختصرة فيها».
(^٢) أي بعثه على كتابتها وتأليفها.
المقدمة / 19
المفتوحة والباء الموحَّدة ــ المنصوري (^١).
تولى الولاية بدمشق نحوًا من إحدى عشرة سنة، من سنة تسع وسبعمائة حتى سنة تسع عشرة وسبعمائة، وكان قبلها قد باشر نيابة الكَرَك من سنة تسعين وستمائة إلى سنة تسع وسبعمائة وله بها آثار حسنة. ثم انتقل إلى شد الدواوين بالقاهرة مدة أربعة أشهر قبل وفاته. توفي سنة (٧١٩).
وكان هذا الأمير حَسَن السيرة محبوبًا عند الناس، فرح أهلُ دمشق بمقدَمه إليهم أميرًا سنة (٧٠٩)، قال ابن كثير: «وجاءت مراسيمه (أي السلطان) فقرئت على السُّدّة، وفيها الرفق بالرعايا والأمر بالإحسان إليهم، فدعوا له، وقدِم الأمير جمال الدين آقش الأفرم نائبًا على دمشق، فدخلها يوم الأربعاء قبل العصر ثاني عشرين جمادى الأولى، فنزل بدار السعادة على العادة، وفرح الناس بقدومه، وأشعلوا له الشموع».
والثناء على هذا الأمير كثير، قال البرزالي: «وكان مشكور السيرة قريبًا إلى الناس، فيه تواضع وحسن خلق، وكان الناس يحبونه ولا يختارون غيره في الولاية».
وقال الصفدي: «كان مشكور السيرة، خير السريرة، سهل الانقياد، لا يزال من الخير في ازدياد، طالت مدته في ولاية دمشق وكلٌّ يحبّه ...».
وقال ابن كثير: «وكان محبوبًا إلى العامة مدة ولايته».
_________
(^١) ترجمته في «المقتفى على كتاب الروضتين»: (٤/ ٣٧٠ - ٣٧١) للبرزالي، و«أعيان العصر»: (١/ ٥٧٦ - ٥٧٧) للصفدي، و«البداية والنهاية»: (١٨/ ١٩٦، ١٩٠، ١١٣)، و«الدرر الكامنة»: (١/ ٤٠٠) لابن حجر.
المقدمة / 20
وقد كان شيخ الإسلام ﵀ كثير المكاتبة للأمراء والملوك وأصحاب الولايات، بطلبٍ منهم أحيانًا، وابتداءً أحيانًا أخرى قيامًا بواجب البيان والنصيحة.
فمن ذلك: ما سأله «بعض ولاة الأمور وفقه الله تعالى لمعالي الأمور ... = أن يبين له سبيل حكم الولاية على قواعد بناء الشرع المطَّهر بسبب تهمة وقعت في سرقة ليكتب شيئًا في ذلك ...» (^١).
ومن ذلك: «كتابٌ كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الأمير شمس الدين سنقرچاه (^٢) المنصوري (^٣) لمّا تولى صفد المحروسة في شهر شوال من سنة أربع وسبعمئة» (^٤).
وكَتبَ الشيخ رسالة إلى البحرين وملوك العرب، ورسالة إلى ملك مصر، ورسالة إلى ملك حماة، ورسالة إلى صاحب قبرص في مصالح تتعلق بالمسلمين (^٥).
* * * *
_________
(^١) وهذه الرسالة تسمى: «الرسالة في أحكام الولاية» وهي مطبوعة في المجموعة السابعة من «جامع المسائل» بتحقيقي.
(^٢) وتكتب أيضًا «سنقرشاه».
(^٣) ترجمته في «أعيان العصر»: (٢/ ٤٨٢ - ٤٨٣)، و«الدرر الكامنة»: (٢/ ١٧٥).
(^٤) وهذه الرسالة مطبوعة في المجموعة السابعة من «جامع المسائل» بتحقيقي.
(^٥) انظر «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص ٣١١ - مؤلفات ابن تيمية لابن رشيق).
المقدمة / 21
تاريخ تأليفها
كنت قد استظهرتُ في الطبعة الأولى أن تَعْيين اسم الأمير الذي كتبت له هذه الرسالة ومتى تولى نيابة دمشق؛ يقودنا إلى تأريخ تأليف هذه الرسالة. وأنه سنة ٧٠٩، حيث وافقت سنة تولي الأمير آقش نيابة دمشق، وهي السنة التي خرج فيها شيخ الإسلام ابن تيمية من الحبس بمصر. هذا ما كان، ثم وقفت مؤخرا على نسخة جديدة من الكتاب هي أقدم نسخه، كتبت سنة ٧٠٥ بالقاهرة بخط أحد تلاميذ ابن تيمية وهو. فدل ذلك على تقدم تاريخ تأليفها وأنه قبل سنة ٧٠٩.
وهذه النسخة مؤرخة في العشر الأول من محرم سنة ٧٠٥ فيكون الشيخ قد كتبها قبل ذلك بمدة بحيث انتسخت في مصر في هذا التاريخ المبكّر، فربما كتبت سنة ٧٠٤ أو قبلها.
وقد كان كتب إليّ د. عصام يحيى أستاذ التاريخ من فرنسا بخصوص تاريخ تأليف السياسة الشرعية، وأنه استظهر من خلال المعطيات التاريخية التي ذكرها ابن تيمية أنه ألفها قبل سنة ٧٠٩ ونشر بحثا في ذلك باللغة الفرنسية، فوافقته على ذلك، وأرسلت له نسخة برنستون الجديدة التي تثبت ذلك.
* * * *
المقدمة / 22