وبلغت أنباء الثلاثة أسماع أهل المدينة. إنهم يستطيعون - بمجرد فتح ثغرة في السور العظيم - أن ينعموا بسجن هادئ مريح، وأن يناموا ملء جفونهم، ويستسلموا لأحلام صافية. وكان أن تسلل الكثيرون إلى السور في الليل، وكل من فتح ثغرة أو نقل حجرا عن موضعه أسرع إليه الحارس فقبض عليه وأسلمه لرجال الأمن. وتعددت هذه الحوادث حتى ألفت آذاننا صوت المنادي العجوز وهو يطوف بالطرقات ليعلن نبأ القبض على اللصوص. ووجد العاطلون من أهل المدينة عملا مربحا في بناء السجون الجديدة المحكمة. وأطمعت هذه الثروة المفاجئة الكثيرين، فتركوا أعمالهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم وشاركوا في البناء الجديد في همة ونشاط، ولكن الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد أن عددا من الصبية والنساء قد تسللوا ذات ليلة إلى السور العظيم - في غفلة من الحراس - فقلبوا أحجارا كثيرة عن مواضعها، وفتحوا فيه ثغرات لا يقوى عليها إلا الرجال. وكان أهل المدينة كراما مع هؤلاء المذنبين؛ فقد أثارتهم المروءة والوفاء، وهزهم الشحوب البادي على وجوههم، فدلوا رجال الأمن عليهم.
لم يكن بد إزاء هذه الأحداث من أن تؤلف المحاكم، وأن يجعل لها قضاة مهيبو الطلعة، طوال اللحى، يتلفعون في مسوح سوداء فضفاضة كمسوح الرهبان. وكثر عدد هذه المحاكم فيما بعد حتى دخلت كل حي، ومن لا يحاكم يتفرج. وتوافد الفلاحون الأتقياء من القرى البعيدة ليشهدوا، ويروا المدينة التي تقيدها سلاسل من الحجارة. أما المحاكم فلم يكن يفهم مما يدور حوله شيئا. كان يعجب لأهل المدينة الذين يسيرون إلى السجن بمحض اختيارهم، وكان أكثر ما يزيده غيظا أن يسمع أناشيدهم حين تسوقهم الشرطة إليها، وكان أشد ما عجب له أن الحراس الذين وضعهم على مسافات متقاربة من السور العظيم قد تفشى بينهم مرض النوم (لقد رآهم بنفسه يتثاءبون). وراع الحاكم ما سمع وما رأى، فأسرع يستدعي كبير قضاته. وحين مثل هذا بين يديه، وانحنى أمامه حتى كادت جبهته أن تلمس الأرض، صاح فيه: أرأيت؟ أرأيت؟ - أنا أيضا لا أكاد أصدق يا مولاي. - وماذا يريدون؟ - السجن. - أيعاقبون أنفسهم بأنفسهم؟ - ويطلبون المزيد من العقاب. - المدينة امتلأت بالسجون. ليس بوسعي أن أفعل أكثر من هذا. - نحن أيضا قد يئسنا يا مولاي؛ فقد تعطلت وظيفتنا. لم يعد لأمثالنا من القضاة ضرورة، إن الجميع يتمنون العقاب الذي نفرضه عليهم. - احكموا عليهم بعقاب أشد. - الحكم في يدك يا مولاي. - في يدي؟ - نعم. هناك حكم واحد يريحنا من هذا العذاب. - تكلم، تكلم. هل نسجنهم إلى الأبد؟ - لقد جربنا هذا. - إذن نقطع رقابهم. - ولا هذا. - ويحك! بماذا أحكم إذن؟ - احكم عليهم بالحرية. - الحرية؟ وكيف؟ - اهدم السور العظيم.
قال كبير القضاة ذلك واحمر وجهه كفتاة عذراء، ثم انحنى حتى كادت جبهته تلمس الأرض، وخرج وهو يتعثر في أطراف ثوبه الفضفاض.
وعاد القاضي من فوره إلى المحكمة، وسارت الأمور سيرها الطبيعي؛ النساء يلدن، والصغار يكبرون، والعجائز يموتون، والثيران تدور في الطواحين، وأمواج الفلاحين تترى على مدينتنا من القرى البعيدة، كل شيء يجري على ما يرام.
كان ذلك منذ زمان قديم، سحيق في القدم، ولم تزل أسوار مدينتنا كما هي، عالية، مرتفعة، تحجب عنا رياح الشمال، وتكاد تحجب النور.
وما برح أهل مدينتنا يتسللون إليها في ظلمات الليل، يغافلون حراسها، ويحفرون فيها ثغرة جديدة.
أدرك أهل المدينة أن مدينتهم قد باتت وهي سجن كبير. ولم يكن الحاكم يدري أن السجن الصغير يمكن أن يتسع ويتسع حتى يضم كل هذا العدد من الناس.
أما أنا - وإن كنت رجلا مسكينا من أهل هذه المدينة فثيابي رثة، وقدماي حافيتان ، وطعامي قليل - فقد فهمت ما يريدون . لمعت هذه الفكرة في رأسي فجأة وعلى غير انتظار؛ سوف لا يهدأ لهم بال حتى يهدموا السور العظيم، وينقضوه حجرا بعد حجر.
أنا قد لمحت هذا في عيونهم.
1951م
Halaman tidak diketahui