اقترب عبد الحق أفندي من مكتب عبد الرحيم أفندي عبد اللطيف. كان هو الوحيد في المكتب الذي يمكن أن يأخذ ويعطي في الكلام معه؛ فقد كان ما يزال شابا، برغم أنه قضى عشر سنوات في الدرجة التاسعة قبل أن يشمله الإنصاف، ثم إنه يتميز بالحكمة والتعقل بالرغم من أنه - وقد تخطى الأربعين - ما يزال أعزب، وأنه ينفق ماهيته على نفسه، ولا يحرمها من المتع المحرمة على رفاقه من الموظفين.
قال عبد الحق أفندي وهو يسحب الكرسي إلى جانبه: أنت رجل عاقل يا عبد الرحيم أفندي، ومن صواب الرأي أن آخذ رأيك. - فيم؟ - ولكن في هذه القضية، ألم يصرخ في وجهي؟ ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب؟ ألم يقل لي اغرب عن وجهي، وعلى مشهد منكم؟ ألم يفعل هذا كله؟ - أنت الملوم يا عبد الحق أفندي . - يا ناس! إذا كنت مخطئا فدلوني على الصواب. إذا كنت ... - هل يثور العبد على السلطان؟ متى كان هذا يا صاحبي؟ أفعل مثلما فعلت؟ - ماذا فعلت يا عبد الرحيم أفندي؟ - إذا قال رئيسي هذا هو الشرق قلت له نعم يا سيدي، هذا هو الشرق. وإذا تردد قليلا وفكر ثم قال: لا، بل هو الغرب. أجبته قائلا: نعم، هو الغرب يا سيدي. اللباقة، اللباقة يا عبد الحق أفندي هي التي تنقص الموظفين في بلادنا. - وماذا نفعل إذا كان الله قد خلقنا كذلك؟ - أعترف بأن جو بلادنا هو المسئول عن هذا. الحرارة هي التي تشد الأعصاب، فينطق الإنسان بما لا يعرف كما نطقت أنت.
وانكب عبد الرحيم أفندي على عمله، وأمر الساعي أن يدير المروحة، ونهض عبد الحق أفندي من مكانه، وكأن الشيطان قد لبس جسده الناحل من جديد؛ فقد هاج مرة أخرى وأخذ يصيح بصوت كان أهدأ من المرة الأولى بلا مراء: ولكن يجب أن أنتقم، يجب أن أثور لشرفي. هذه سخرية والله. كيف تمنعونني من أن أثور لكرامتي؟ مرة واحدة، مرة واحدة يا ناس. كيف تمنعوني مرة واحدة بعد أربعين سنة؟
ونظر إلى ساعة الحائط. كانت تعلن التاسعة تماما، واتجه عبد الحق أفندي إلى مكتبه.
دخل رئيس قلم الحسابات الساعة التاسعة وخمس دقائق. لم يحي أحدا بتحية الصباح، وإنما قصد مكتبه مباشرة، فجلس على كرسيه المريح وأخذ يدور فيه حول نفسه؛ فقد كان الكرسي مجهزا بحيث يزيد في راحة الجالس عليه، ويتيح له أن يلف حول نفسه كما يشاء، وأخذ يدور بعينيه الواسعتين بين رءوس الموظفين، وأشعل سيجارا طويلا - كان يفضله على السجائر، ويبرز ذلك دائما بقوله إن العامة تشرب السجائر، والإفرنج وحدهم الذين يدخنون السجائر - وكانت عيناه الواسعتان تلتمعان خلف سحب الدخان المتصاعدة من فمه. وتنحنح ثم نادى على عبد الرحيم أفندي.
كان عبد الحق أفندي في هذه اللحظة يفكر في الانتقام، ويعيد في ذهنه الكلمات التي سيرددها على مسمع من الجميع، ولكن لم تهرب منه الكلمات ؟ لم يحاول أن يقبض عليها فتفلت منه كالأرانب المذعورة التي تعدو في الظلام. وشعر بقلبه يغوص في قدميه، ثم شعر به يدق دقات عنيفة كأنه قد صعد إلى مكانه مرة ثانية، واندفع يريد أن يقفز من حلقه. ونادى رئيس القلم على محمود أفندي، وعبد الخالق أفندي يراجع الكلمات التي سيقذف بها - في شجاعة وبلا أدنى خوف - في وجه رئيس الحسابات المتعجرف، وناجى نفسه قائلا: لعنة الله على رئيس قلم الحسابات، وعلى جميع رؤساء أقلام الحسابات، في حكومات العالم كله، وفي حكومة فرنسا - لم فرنسا؟ - وهربت الكلمات منه مرة أخرى. رآها وهي تهرب منه، وأخذ يلاحقها وهو يلهث. كانت كالشهب الضائعة في سديم من الضباب. - يا عبد الحق أفندي.
ووجد نفسه يهب مذعورا من مكانه. - هات دفتر الخصومات معك.
ولكنه كان قد غادر مكتبه إلى مكتب الرئيس. - أين دفتر الخصومات؟
إذن فقد نسيته يا عبد الحق، لعنة الله على النسيان! في مثل هذه الأحوال يجوز لك أن تنسى؟
وعاد مسرعا فالتقط الدفتر من مكانه ووضعه أمام رئيس قلم الحسابات، بدا له في هذه اللحظة كأن الموظفين جميعا يتغامزون ويهزون رءوسهم ويشيرون إليه فالتفت وراءه. وكم كانت سعادته حين وجدهم جميعا غارقين في دفاترهم. وحين فرغ الرئيس من مراجعة دفتر الخصومات تناوله عبد الحق أفندي وأسرع به إلى مكتب، يلوذ به كأنه مأواه. - لا تنس الإذن الإضافي يا عبد الحق أفندي.
Halaman tidak diketahui