Rahsia Yang Mengganggu Saya
سر يؤرقني
Genre-genre
من أفضل ما قيل عن الكتاب
سر يؤرقني
مادة قصصية
كيف التقيت زوجي!
المشي على الماء
تسامح عائلي
قل لي نعم أو لا
مغامرة القارب
الجلادون
مراكش
Halaman tidak diketahui
المرأة الإسبانية
رياح الشتاء
مراسم التأبين
وادي أوتاوا
من أفضل ما قيل عن الكتاب
سر يؤرقني
مادة قصصية
كيف التقيت زوجي!
المشي على الماء
تسامح عائلي
Halaman tidak diketahui
قل لي نعم أو لا
مغامرة القارب
الجلادون
مراكش
المرأة الإسبانية
رياح الشتاء
مراسم التأبين
وادي أوتاوا
سر يؤرقني
سر يؤرقني
Halaman tidak diketahui
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
محمد أحمد شيخون
مراجعة
ضياء وراد
من أفضل ما قيل عن الكتاب
أليس مونرو روائية تتمتع بموهبة فريدة من نوعها، وهي بصدد أن تكون واحدة من أعظم الكتاب على مستوى العالم ... إن كل قصة قصيرة تكتبها لهي ملحمة متعددة الفصول.
ملحق النقد الأدبي بصحيفة «ذا نيويورك تايمز»
يا لها من مجموعة قصصية بديعة الجمال وبالغة الإحساس ... إنها جولة تخلب الألباب في عالم من الحب والوعيد والمفاجأة ... إن أليس مونرو ذات مواهب جمة وحس راق.
Halaman tidak diketahui
صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»
مجموعة قصصية رائعة ... متعة لا حدود لها.
صحيفة «سياتل بوست إنتليجنسر»
رحلة ثرية في خفايا عالم المرأة ... إنها مجموعة تتفوق في خصوبة خيالها وأمانتها وحساسيتها وتعاطفها مع قضايا المرأة على أدب اليوم وكتابه.
مجلة «إم إس»
رائعة أدبية ... برهان لا يطاله نقد على مقدرة أليس مونرو الواضحة على نقل جوهر الشخصية بكل ما يموج بها من أهواء النزوات البشرية ... لكم يصعب تخيل وجود إدراك للنفس البشرية يتميز بنظرة ثاقبة كهذه!
صحيفة «هيوستن بوست»
إلى شيلا، وجيني، وأندريا.
سر يؤرقني
«على أي حال، إنه يعرف كيف يفتن النساء.» هكذا قالت إت لشار. لم يكن بمقدورها أن تعرف ما إذا كانت شار قد صارت أكثر شحوبا لدى سماعها ذلك؛ نظرا لأن شار كانت بالفعل شاحبة لأقصى درجة، ومع ابيضاض شعرها الآن، صارت أشبه بشبح إنسان. بيد أنها لا تزال جميلة؛ إذ لم تفقد رونقها.
Halaman tidak diketahui
واصلت إت قائلة: «إنه لا يكترث بالسن أو الحجم. أعتقد أنها موهبة فطرية يتمتع بها، لكني آمل ألا تكون السيدات ينخدعن فيه ويقعن بين براثنه.»
قالت شار: «هذا أمر لا يقلقني.»
قبل يوم واحد، قبلت إت دعوة بلايكي نوبل للذهاب معه في واحدة من جولاته والاستماع إلى معسول كلامه. ووجهت الدعوة أيضا إلى شار، ولكنها لم تذهب بالطبع. كان بلايكي نوبل يقود حافلة، كان الجزء السفلي منها مطليا باللون الأحمر فيما كان الجزء العلوي مخططا، بحيث تشبه المظلة. وعلى جانب الحافلة كتبت الكلمات التالية: «جولات على شواطئ البحيرات، مقابر الهنود، الحدائق الجيرية، منتجع المليونيرات، مع السائق والمرشد بلايكي نوبل.» كان بلايكي يقيم في غرفة بالفندق، وكان يعمل أيضا مع أحد مساعديه بالأرض في تجزيز العشب وتقليم أشجار أسوار الحدائق وحفر الحواف. يا له من ذل بعد عز! قالتها إت في بداية فصل الصيف عندما اكتشفت عودته؛ فقد عرفته هي وشار في الأيام الخوالي.
وهكذا وجدت إت نفسها محشورة في حافلته مع الكثير من الغرباء، لكنها بحلول عصر اليوم كونت صداقات مع عدد منهم، وقطعت على نفسها وعودا بتوسعة بعض السترات، كما لو أنه لم يكن لديها ما يشغلها بالفعل. كان هذا كله على هامش الأحداث، أما ما كان يشغل بالها حقا فهو مراقبة بلايكي.
وما الذي لديه ليستعرضه؟ بضع ربى ينمو عليها العشب، مدفون تحتها جثث الهنود، بقعة من الأرض مليئة بمنحوتات جيرية غريبة الشكل، كئيبة المنظر، ذات لون أبيض مائل للرمادي - في محاكاة متكلفة لنباتات (يمكنك أن تعتبرها مقبرة إن أردت ذلك) - ومنزل عتيق ذو هيئة بشعة بني بأموال الخمور، غير أن بلايكي حقق أقصى استفادة منه؛ إذ بدأ عرضه بحديث تاريخي عن الهنود، أتبعه بحديث علمي حول الحجر الجيري. لم يكن أمام إت وسيلة لمعرفة مدى صحة ما يرويه لهم. أما آرثر فيعرف، ولكنه لم يكن هناك؛ فلم يكن هناك سوى نسوة سخيفات، يأملن أن يمشين بجانب بلايكي من المعالم السياحية وإليها، والدردشة معه وهن يحتسين الشاي في جناح الحجر الجيري، متطلعات إلى أن يضع يده القوية أسفل مرافقهن، بينما تمسد يده الأخرى مكانا ما حول الخصر، وهو يساعدهن في النزول من الحافلة (همست إت بحدة: «أنا لست سائحة» عندما حاول فعل ذلك معها).
أخبرهن أن المنزل كان مسكونا. وكانت أول مرة في حياتها تسمع إت عن ذلك، وهي التي تعيش على بعد عشرة أميال منه طوال حياتها؛ إذ إن امرأة قتلت زوجها، ابن المليونير، أو على الأقل يعتقد أنها هي من قتله. «كيف؟» هكذا صاحت إحدى السيدات في إثارة جنونية.
عندها قال بلايكي بصوت رقيق، جمع بين السخرية والحنو في الوقت نفسه: «آه، إن السيدات حريصات دائما على معرفة الوسيلة. لقد قتلته بالسم ... البطيء، أو هذا ما قالوه. بيد أن هذا كله محض إشاعات، ثرثرة أهل البلدة.» (قالت إت لنفسها: ثرثرة أهل البلدة! مستحيل.) «كل ما هنالك أنها لم تحب صديقاته من السيدات. لم تحبهن الزوجة. بالقطع لم تحبهن.»
أخبرهن أن الشبح أخذ يذرع الحديقة جيئة وذهابا، بين صفين من شجر التنوب الشائك. لم يكن القتيل هو من يمشي، بل زوجته، نادمة على فعلتها. ابتسم بلايكي في أسف لمن جاءوا معه في الحافلة. في البداية اعتقدت إت أن اهتمامه مصطنع، مجرد مغازلة تجارية عادية، لمنحهم بضاعة تعادل قيمة ما دفعوه من أموال، ولكن فكرتها تلك أخذت في التغير شيئا فشيئا؛ فقد كان ينحني على كل امرأة يتحدث إليها - بصرف النظر عن بدانتها أو نحافتها أو سخافتها - كما لو كان هناك شيء خاص فيها يود العثور عليه. كانت نظرته لطيفة وضاحكة ولكنها في حقيقتها جادة وثاقبة (هل كانت تلك هي النظرة التي تطل من أعين الرجال في نهاية المطاف عندما يمارسون الحب، تلك النظرة التي لن تراها إت أبدا؟) جعلته يبدو وكأنه يريد أن يكون غواصا في أعماق البحار، يغوص ويغوص عبر الفراغ والبرد والحطام لاكتشاف شيء واحد وطن نفسه على اكتشافه، شيء صغير ولكنه ثمين، شيء يصعب إيجاده، كياقوتة في قاع المحيط. تلك هي النظرة التي تود أن تصفها لشار. لا شك أن شار رأتها من قبل، لكن هل عرفت كيف يجري توزيعها بالمجان؟ •••
كانت شار وآرثر يخططان لرحلة ذلك الصيف لمشاهدة حديقة يلوستون وأخدود جراند كانيون، لكنهما لم يذهبا؛ إذ تعرض آرثر لسلسلة من نوبات الدوار قبيل نهاية المدرسة، ونصحه الطبيب بملازمة الفراش. كان آرثر يعاني العديد من الأمراض؛ فقد كان مريضا بالأنيميا ويعاني عدم انتظام ضربات القلب، علاوة على متاعب كليتيه. وكانت إت تخشى إصابته بسرطان الدم، حتى إن الأرق داهم لياليها من فرط القلق.
قالت لها شار بهدوء: «لا تكوني سخيفة، كل ما هنالك أنه مجهد وحسب.»
Halaman tidak diketahui
استيقظ آرثر في المساء وجلس مرتديا منامته. جاء بلايكي نوبل للزيارة، وقال إن غرفته بالفندق تقع فوق المطبخ مباشرة، وإنه كان يشعر كما لو أنهم كانوا يحاولون طهوه بالبخار، وهو ما جعله يستحسن هواء الشرفة اللطيف. لعبوا الألعاب التي يحبها آرثر، ألعاب معلم المدرسة. لعبوا لعبة الجغرافيا، وحاولوا معرفة من بمقدوره تكوين أكبر عدد من الكلمات من اسم «بيتهوفن». فاز آرثر؛ فقد حصل على أربع وثلاثين نقطة، وكان مسرورا أيما سرور.
قالت شار: «تحسب نفسك وجدت الكأس المقدسة!»
لعبوا لعبة «من أنا؟» حيث كان على كل منهم اختيار شخصية ما - حقيقية أو خيالية، حية أو ميتة، إنسان أو حيوان - فيما كان على الآخرين محاولة تخمين من تكون تلك الشخصية من خلال طرح عشرين سؤالا فقط. استطاعت إت تخمين حقيقة الشخصية التي يقصدها آرثر بعد السؤال الثالث عشر: السير جالاهاد. «لم يدر بخلدي قط أن تعرفيه بهذه السرعة.» «لقد تذكرت ما قالته شار عن الكأس المقدسة.»
قال بلايكي مقتبسا عن السير جالاهاد: «قوتي تساوي قوة عشرة؛ لأن قلبي نقي!» ثم أضاف: «لم أكن أعرف أنه بمقدوري تذكر ذلك.»
قالت إت: «كان حريا بك أن تكون الملك آرثر. فاسمك على اسمه.» «كان حريا بي ذلك، فالملك آرثر كان متزوجا من أجمل امرأة في العالم.»
قالت إت: «ها، نعرف جميعا نهاية تلك القصة.»
توجهت شار إلى غرفة المعيشة وأخذت تعزف على البيانو في الظلام:
الزهور تتفتح في الربيع، ترا ... را،
ما بيدها حيلة حيال هذا الصنيع ...
عندما جاءت إت لاهثة في يونيو الماضي، وقالت: «خمني من رأيت وسط البلدة بالشارع؟» أجابتها شار التي كانت جالسة متكئة على ركبتيها تلتقط حبات الفراولة: «بلايكي نوبل.» «أرأيته؟»
Halaman tidak diketahui
قالت شار: «كلا، كل ما هنالك أنني خمنت ذلك، أعتقد أنني خمنته من نبرة صوتك.»
اسم لم يأتيا على ذكره طوال ثلاثة عشر عاما. وكانت إت مندهشة للغاية، حتى إنها لم تستطع التفكير في التفسير الذي طرأ على بالها لاحقا. فما الذي يدعو إلى أن يكون هذا الأمر مفاجئا لشار؟ فخدمة البريد متاحة في هذه البلدة، متاحة طوال الوقت.
قالت: «سألته عن زوجته، تلك المرأة المغرمة بالدمى» (كما لو أن شار لا تتذكر ذلك). «وقال لي إنها قد ماتت منذ زمن طويل. ليس هذا وحسب، بل تزوج مرة أخرى وماتت أيضا. ولم تكن أي منهما ثرية. وأين كل مال آل نوبل، من الفندق؟»
قالت شار وهي تقضم حبة فراولة: «لن يتسنى لنا أبدا أن نعرف.» •••
افتتح الفندق مؤخرا مرة أخرى. كان آل نوبل قد تخلوا عنه في العشرينيات وتولت البلدة تشغيله فترة من الوقت كمستشفى؛ أما الآن فقد اشتراه بعض الناس من تورونتو، وجددوا غرفة الطعام، ووضعوا فيه ركنا للمشروبات، واستصلحوا المروج والحديقة، مع أن ملعب التنس بدا غير قابل للإصلاح. كذلك وضعت أدوات الكروكيه بالخارج مرة أخرى، وجاء الناس للإقامة فيه في فصول الصيف، لكنهم ليسوا من نوعية الأشخاص الذين اعتادوا المجيء إليه: أزواج متقاعدون، وكثير من الأرامل والسيدات غير المتزوجات. ما من أحد يكلف نفسه عناء المشي مسافة مربع سكني واحد لرؤيتهم وهم ينزلون من على متن القارب، ناهيك عن أنه لم يعد هناك قارب. هذا ما دار بخلد إت.
في المرة الأولى التي التقت فيها بلايكي نوبل في الشارع حرصت على ألا تفاجأ. كان يرتدي بدلة كريمية اللون، وشعره الذي طالما اكتسى بالبياض بفعل الشمس، صار الآن أبيض، كله. «بلايكي. عرفت أنه إما أنت أو أن ما أراه ليس إلا مخروط آيس كريم الفانيليا. أراهن أنك لا تعرف من أنا.» «أنت إت ديزموند، والشيء الوحيد المختلف فيك هو أنك قصصت ضفائر شعرك.» وطبع قبلة على جبينها؛ لا يزال جريئا كعهدها به.
قالت إت وهي تتساءل في نفسها عمن رأى ما حدث: «إذن فقد عدت مرة أخرى لزيارة ديارك القديمة.» «لم آت للزيارة فحسب، وإنما سترينني كثيرا.» ثم أخبرها كيف أنه علم بافتتاح الفندق مرة أخرى، وكيف أنه أصبح يمتهن قيادة الحافلات في الجولات السياحية في أماكن مختلفة بفلوريدا وبانف. وعندما سألته أخبرها بأمر زيجتيه الاثنتين، ولم يسألها قط إن كانت قد تزوجت؛ ليقينه من عدم زواجها، كما لم يسأل إن كانت شار تزوجت، حتى أخبرته هي بنفسها. •••
تذكرت إت أول مرة أدركت فيها أن شار جميلة. كانت تنظر إلى صورة التقطت لهم: هي وشار وشقيقهما الذي مات غرقا. كانت إت في العاشرة من عمرها في الصورة، أما شار فكانت في الرابعة عشرة، في حين كان ساندي يبلغ حينذاك سبعة أعوام ولم يكتب له أن يعيش بعدها سوى أسبوعين فقط. كانت إت جالسة على كرسي بدون مساند للذراعين، وشار من خلفها، طاوية ذراعيها على ظهر الكرسي، فيما كان ساندي مرتديا بدلة بحار وجالسا القرفصاء على الأرض، أو الشرفة الرخامية، كما يخيل للرائي؛ نظرا للمؤثرات التي لم تحدثها سوى ستارة متربة مصفرة اللون، ولكنها ظهرت في الصورة عمودا رخاميا مشدودة إليه ستارة، لتنحسر عن شجر الحور ونوافير عن بعد. كانت شار تزين شعرها من الأمام بدبابيس، وترتدي فستانا حريريا ذا لون أزرق متألق يصل إلى كاحلها - بالطبع لم يظهر لونه في الصورة - مع شرائط مخملية معقدة سوداء اللون. كانت تبتسم ابتسامة رقيقة تنم عن الرزانة. يخيل لمن يراها أنها في الثامنة عشرة أو الثانية والعشرين. لم يكن جمالها من النوع المبهرج المفتقر للثقة بالنفس الذي كان يظهر كثيرا على التقويمات وعلب السيجار في تلك الفترة، بل كان ذكيا ومرهفا، عنيدا، ومفعما بروح التحدي.
أطالت إت النظر إلى الصورة، ثم ذهبت ونظرت إلى شار التي كانت في المطبخ . كان هذا يوم الغسيل. كانت المرأة التي جاءت للمساعدة تسحب الملابس عبر العصارة، فيما كانت أمهما تجلس للاستراحة محدقة عبر الباب السلكي (إنها لم تتجاوز وفاة ساندي قط، ولم يتوقع أحد منها أن تتجاوزها). كانت شار تنشي ياقات أبيها الذي كان يمتلك محلا يبيع فيه التبغ والحلوى في الساحة ويرتدي ياقة جديدة يوميا. كانت إت مهيأة نفسيا لرؤية بعض التحول، كما في الخلفية، ولكن خاب أملها؛ إذ كانت شار منحنية على حوض النشا متعكرة المزاج تلوذ بالصمت (فهي تبغض يوم الغسيل حيث الحرارة والبخار وخفق الملاءات وضجيج الغسالة الشديد، في الواقع لم تكن شار مغرمة بأي من الأعمال المنزلية)، مما جعلها تظهر وجهها الحقيقي بنفس الانسجام المعبر عن الترفع، كما في الصورة تقريبا. هذا جعل إت تفهم - وإن كان بطريقة غير محببة تماما - أن صفات الشخصيات الأسطورية حقيقية، وأنها تظهر على السطح حيثما وحينما لا تتوقع ظهورها. فلطالما حسبت أن النساء الجميلات هن من صنع الخيال؛ فقد اعتادت هي وشار الذهاب لمشاهدة الناس وهم ينزلون من قارب الرحلة، أيام الآحاد، ويمشون حتى الفندق. كان اللون الأبيض من الكثرة بحيث إنه يؤذي عينيك؛ فساتين السيدات، ومظلات الشمس، وملابس الرجال المناسبة لفصل الصيف، وقبعات بنما المصنوعة من القش، ناهيك عن ضوء الشمس المبهر المنعكس على صفحة الماء، وفرقة العزف. ولكن بالنظر عن كثب إلى أولئك السيدات، وجدت إت ما يعكر صفو هذه الصورة؛ بشرة متجعدة أو أردافا سمينة أو رقبة هزيلة كرقبة الدجاج أو شعرا مجعدا كأعشاش الطيور. لم يكن أي شيء كهذا يفوت إت، على صغر سنها آنذاك. وفي المدرسة كانت محل احترام الجميع؛ نظرا لرباطة جأشها وسلاطة لسانها؛ إذ لم تكن تتورع عن إخبارك بأنك كنت تقف عند السبورة وجوربك مثقوب أو حاشية ثوبك ممزقة. كانت تقلد المدرس وهو يقرأ قصيدة «دفن السير جون مور» (ولكن في ركن آمن بفناء المدرسة بعيدا عن مسامع المدرسين).
مع ذلك كان سيلائمها كثيرا، هي وليس شار، أن تجد الجمال في إحدى أولئك السيدات . كان ذلك سيلائمها أكثر مقارنة بشار في مئزرها المبلل وتعابير وجهها المكفهر وهي منحنية على حوض النشا. فلم تكن إت ممن يحبون المتناقضات، لم تكن تحب أن تكون الأشياء في غير محلها، لم تكن تحب الألغاز أو المبالغات.
Halaman tidak diketahui
لم تعجبها السمعة السيئة البائسة التي التصقت بها جراء الربط بينها وبين غرق ساندي، لم تحب احتفاظ الناس في ذاكرتهم بمشهد والدها وهو يحمل الجثمان من الشاطئ. كان يمكن رؤيتها في الشفق، مرتدية سروالها الرياضي، تتقافز بحركات دائرية في حديقة المنزل المنكوب. وقد مطت شفتيها ساخرة، دون أن يراها أحد، عندما قالت شار يوما ما في المنتزه: «هذا أخي الصغير الذي مات غرقا.» •••
كان المنتزه يطل على الشاطئ. كانوا يقفون مع بلايكي نوبل، ابن مالك الفندق الذي قال: «تلك الأمواج قد تكون خطرة؛ فمنذ ثلاث أو أربع سنوات مضت غرق طفل ها هنا.» «إنه أخي الصغير الذي مات غرقا.» عندما قالتها شار، تصديقا على كلامه، لم تقلها بتأثر، بل من باب التسلية تقريبا، ولتثبت له أنه لا يعرف إلا أقل القليل عن أهل موك هيل.
لم يكن بلايكي نوبل أكبر من شار سنا، ولو كان كذلك لالتحق بجبهة القتال في فرنسا، ولكنه لم يكن مضطرا للعيش في موك هيل طوال حياته؛ لذا لم تكن معرفته بأهالي البلدة الحقيقيين أفضل حالا من معرفته بنزلاء فندق والده المعتادين. وفي شتاء كل عام كان يذهب مع والديه إلى كاليفورنيا بالقطار؛ حيث شاهد أمواج المحيط الهادي، وتعهد بالولاء لعلم بلاده. كان ذا مظهر غير متكلف، وذا بشرة لوحتها الشمس. كان هذا في وقت لا يكتسب فيه الناس بشرة ملوحة عادة نتيجة لقضاء أوقات الفراغ، بل بسبب العمل فقط. كذلك ابيض شعره من أشعة الشمس. كان جمال هيئته يضاهي جمال هيئة شار تقريبا، ولكن وسامته أفسدها سحره، أما هي فلا.
كان ذلك اليوم هو يوم الذروة في موك هيل وجميع البلدات الأخرى الواقعة على البحيرات، وبجميع الفنادق التي ستتحول في وقت لاحق إلى مخيمات سانشاين كامبس لأطفال المدينة، ومصحات للسل، وثكنات لتدريب الطيارين بالسلاح الجوي الملكي إبان الحرب العالمية الثانية. كان يتم تجديد الطلاء الأبيض للفندق في ربيع كل عام، وتوضع قطع خشبية مفرغة مليئة بالزهور على الأسوار، فيما تشد أصص الزهور بسلاسل وتتأرجح فوقها. تم نثر أدوات الكروكيه والأرجوحات الخشبية على المروج في الخارج، وجرى تمهيد ملعب التنس. وبالنسبة لسكان المدينة الذين لا يستطيعون تحمل نفقات الإقامة في الفندق، من عمال المصانع وكتبة المتاجر وفتيات المشاغل، فكانوا يقيمون في صف من أكواخ صغيرة يربط بينها سور شبكي يخفي سلال القمامة ودورات المياه الجماعية، ممتد حتى الشاطئ. أما فتيات موك هيل، أو تحديدا من كانت لهن أمهات يقلن لهن ما يجب عليهن فعله، فكن يحذرن من السير هناك. لكن لم يخبر أحد شار بما عليها فعله؛ لذلك كانت تسير على طول الممشى أمامهم في وضح النهار، مصطحبة معها إت بغرض الصحبة. لم يكن في نوافذ الأكواخ زجاج، وإنما مصاريع خشبية متهالكة تغلق في الليل. ومن وراء الثقوب المظلمة كانت تأتيهما دعوة أو اثنتان خافتتان، تنمان عن الأسى أو السكر، وهذا كل شيء. لم يكن في مظهر شار ولا أسلوبها ما يجذب الرجال، بل ربما كان يثنيهم. وفي جميع مراحل دراستها بالمدرسة الثانوية في موك هيل لم تتخذ صديقا واحدا. كان بلايكي نوبل أول أصدقائها، إذا اعتبرناه كذلك.
ما الذي آلت إليه تلك العلاقة بين شار وبلايكي نوبل في صيف عام 1918؟ لم يتسن لإت قط أن تعرف على وجه اليقين؛ فهو لم يتصل بهاتف المنزل، على الأقل ليس لأكثر من مرة أو مرتين، وبقي مشغولا بعمله في الفندق. وفي عصر كل يوم كان يقود سيارة الرحلات المكشوفة، مع مظلة أعلاها، على طريق شاطئ البحيرة مصطحبا السياح لزيارة مقابر الهنود الحمر وحديقة الأحجار الجيرية ولإلقاء نظرة عبر الأشجار على القصر الحجري المبني على الطراز القوطي، الذي بناه أحد مصنعي الخمور في تورونتو، والمعروف محليا باسم قلعة الخمر. كذلك كان بلايكي مسئولا عن برنامج المنوعات الذي يقدمه الفندق أسبوعيا، مع مجموعة من المواهب المحلية، والضيوف الذين يستعين بخدماتهم، والمغنين والممثلين الكوميديين المحترفين الذين يجلبهم خصوصا من أجل العرض.
بدا أن الأوقات المتأخرة من الصباح هي الأوقات المفضلة له هو وشار؛ حيث دأبت شار على قول: «هيا، يجب أن أذهب إلى وسط البلدة.» وكانت في الواقع تلتقط البريد وتمشي جزءا من الطريق حول الساحة قبل أن تغير وجهتها إلى المنتزه، وسرعان ما يخرج بلايكي نوبل من الباب الجانبي للفندق ويأتي مهرولا على الممر المنحدر. في بعض الأحيان لم يكن يعبأ حتى بالممر ويقفز من فوق السور الخلفي؛ ليثير إعجابهما. لم يكن يفعل شيئا من هذا، من هرولة أو قفز، بالطريقة التي يفعلها بعض الصبية من مدرسة موك هيل الثانوية، برعونة ولكن بتلقائية. كان بلايكي نوبل يتصرف كرجل يقلد الصبيان؛ وكان يسخر من نفسه ولكن كان رشيقا كممثل.
قالت إت لشار وهي تشاهده: «أليس مغرورا؟» كان رأيها المبدئي في بلايكي أنه شخص بغيض.
قالت شار: «بلى، هو كذلك.»
ثم وجهت حديثها إلى بلايكي، قائلة: «إت تقول إنك مغرور.» «وماذا قلت لها أنت؟» «لقد قلت لها إنك يجب أن تكون كذلك، فلا أحد غيرك يعجب بك.»
لم يلق بلايكي بالا؛ وكان رأيه المبدئي في إت أنها جديرة بالإعجاب. يمكنه بحركة سريعة مفاجئة منه أن يفك ضفائرها ويفسد تسويتها. حكى لهما أشياء عن فناني الحفل، وأخبرهما أن المغني الاسكتلندي كان سكيرا يلبس مشد الصدر، وأن مقلد الشخصيات النسائية حتى في فندقه يرتدي ثياب نوم كحلية مكسوة بالريش، وأن محركة العرائس كانت تتحدث إلى دميتيها (ألفونس وأليسيا) كما لو كانتا شخصيتين حقيقيتين، وأنها أجلستهما في الفراش من حولها ونامت بينهما.
Halaman tidak diketahui
سألته شار: «وأنى لك أن تعرف ذلك؟» «لقد أخذت لها إفطارها في غرفتها.» «أعتقد أن لديكم خادمات في الفندق يتولين تلك المهمة.» «اعتدت في الصباح التالي للعرض أن أفعل ذلك. هذا عندما أسلمهم مظروف أجرهم وأوراق مغادرتهم؛ فبعضهم قد يمكث أسبوعا كاملا إن لم تخبريه بالمغادرة. جلست محركة العرائس في الفراش وحاولت إطعامهما فتات لحم الخنزير المقدد والحديث إليهما وجعلهما تردان عليها. كان سيجن جنونك لو رأيتها.»
قالت شار بهدوء: «أعتقد أنها مجنونة.» •••
ذات ليلة من صيف ذلك العام استيقظت إت متذكرة أنها تركت فستانها الوردي المصنوع من قماش الأورجانزا على الحبل بعد غسله بيديها، وظنت أنها سمعت صوت هطول الأمطار، بضعا من أولى قطراتها وحسب. في الواقع لم تكن السماء تمطر، وما سمعته لم يكن سوى حفيف أوراق الشجر، ولكنها ارتبكت لاستيقاظها هكذا. اعتقدت أيضا أن الوقت متأخر جدا من الليل، ولكن بالتفكير في الأمر لاحقا تبين لها أنها في منتصف الليل تقريبا. نهضت ونزلت السلم، وأضاءت مصباح المطبخ الخلفي وخرجت من الباب الخلفي. وقفت بالشرفة الصغيرة وجذبت حبل الغسيل نحوها، عندئذ وتحت قدميها تقريبا من بين العشب النامي بجوار الشرفة مباشرة، حيث كانت هناك أجمة كبيرة من زهور الليلك نمت وانتشرت دون أن يعتني بها أحد لتصل إلى حجم شجرة، كان هناك شخصان لا هما بواقفين ولا بجالسين، يطلان برأسيهما كما لو كانا راقدين على الفراش، وهما لا يزالان متشابكين بطريقة أو بأخرى. لم يضئ مصباح المطبخ الخلفي الخارج إضاءة مباشرة، ولكنه أضاء الفناء بما يكفي كي ترى وجهيهما. كانا بلايكي وشار.
لم يتسن لها قط معرفة الحالة التي كانت عليها ملابسهما لترى إلى أي مدى وصلا أو سيمضيان. لم تكن تريد ذلك؛ فيكفيها أن ترى وجهيهما، وفمويهما المفتوحين المتورمين، وخديهما المصعرين للقبلات، وعيونهما الجاحظة. تركت إت فستانها وهرولت عائدة إلى المنزل، ومن ثم إلى فراشها حيث فوجئت بالنعاس يهبط عليها. في اليوم التالي لم تقل لها شار كلمة واحدة عما حدث، كل ما قالته: «إت، لقد أحضرت لك فستانك؛ فقد خشيت أن تمطر ليلا.» كما لو أنها لم تر إت في الخارج ليلة أمس تجذب حبل الغسيل، هكذا تساءلت إت. كانت تعرف أنها لو قالت: «لقد رأيتني» فلربما ردت عليها شار بأنها كانت تحلم. تركت شار تعتقد أنها انخدعت بتصديق ذلك، إذا كان هذا ما اعتقدته شار. بتلك الطريقة انفتح الطريق أمام إت لمعرفة المزيد؛ انفتح أمامها الطريق لترى كيف تبدو شار حينما تخور قواها وتترك لنفسها العنان. لم يكن ساندي يبدو أكثر ضياعا منها حينما غرق وسدت فتحتا أنفه بتلك الأشياء الخضراء. •••
قبل الكريسماس وصلت موك هيل أخبار زواج بلايكي نوبل. تزوج محركة العرائس صاحبة الدميتين (ألفونس وأليسيا)، هاتين الدميتين اللتين تلبسهما ملابس سهرة وتصفف شعرهما تصفيفات أنيقة على طريقة فيرنون وإيرين كاستل، لدرجة أنهما علقتا بالذاكرة أكثر من السيدة نفسها. الشيء الوحيد الذي يتذكره الناس على وجه اليقين عنها هو أن سنها لا تقل عن الأربعين بكل تأكيد، فيما كان بلايكي صبيا في التاسعة عشرة من عمره. ولأنه لم يترب كسائر الأولاد الآخرين؛ فقد سمح له بإدارة الفندق والسفر إلى كاليفورنيا والاختلاط بكل أنواع الناس؛ وكانت النتيجة فساد الأخلاق وعدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته.
شربت شار سما، أو ما حسبت أنه سم، ولم يكن في الواقع سوى مزهرة الغسيل؛ إذ كانت أول ما أمكنها الوصول إليه على رف المطبخ الخلفي. رجعت إت إلى البيت بعد المدرسة - كانت قد سمعت الخبر ظهيرة ذلك اليوم من شار نفسها في الواقع، وأخذت تضحك وقالت: «ألم يكن ذلك ليقتلك؟» - ووجدت شار تتقيأ في دورة المياه. صاحت فيها شار قائلة: «اذهبي وأحضري الدليل الطبي.» وندت عنها آهة ألم فظيعة لم تستطع أن تتمالكها، مستطردة: «هيا اقرئي ما يقوله عن السم.» بيد أن إت ذهبت للاتصال بالطبيب. خرجت شار مترنحة من الحمام وممسكة بزجاجة مبيض الغسيل التي كانوا يحتفظون بها خلف الحوض، وقالت بصوت هامس يخرج بصعوبة: «إذا لم تضعي السماعة فسأشرب الزجاجة كلها.» كان من المفترض أن أمهما نائمة خلف باب غرفتها المغلق.
اضطرت إت إلى وضع السماعة والنظر في الكتاب القديم القبيح الذي قرأت فيه منذ أمد بعيد عن الولادة وعلامات الوفاة، وتعرفت فيه على كيفية فحص الفم بمرآة. كان لديها انطباع خاطئ بأن شار قد شربت بالفعل من زجاجة مبيض الغسيل، ومن ثم قرأت كل ما يخص ذلك الموضوع، ثم اكتشفت أنها شربت من المزهرة. ولم يكن الدليل يحوي شيئا عنها، ولكن بدا لها أن أفضل شيء يمكنها فعله أن تحث شار على التقيؤ، كما ينصح الدليل حيال معظم السموم - وإن كانت شار تتقيأ بالفعل ولم تكن في حاجة إلى حثها على ذلك - ثم شرب لتر من اللبن. وعندما تجرعت شار اللبن أصيبت بالغثيان مرة أخرى.
وقالت شار بين تقلصات الألم: «لم أفعل ذلك بسبب بلايكي نوبل. لا تفكري في هذا أبدا؛ فأنا لست بتلك الحماقة، وما هو إلا منحرف تافه، وإنما فعلتها لأنني سئمت حياتي.»
قالت إت بتأثر بعدما مسحت شار وجهها: «ما الذي أصابك بالسأم من حياتك؟» «لقد سئمت تلك البلدة وكل أهلها الأغبياء، وأمي ومرضها بداء الاستسقاء، وتولي شئون المنزل وغسيل الملاءات كل يوم. لا أظن أنني سأتقيأ مرة أخرى. أعتقد أنه يمكنني شرب بعض القهوة؛ فالقهوة مناسبة الآن.»
أعدت إت إبريقا من القهوة وانتقت شار أفضل كوبين، وأخذت الاثنتان تضحكان مقهقهتين وهما ترتشفان القهوة.
Halaman tidak diketahui
قالت إت: «لقد سئمت اللاتينية، وسئمت الجبر. أظن أنني سأتجرع بعضا من مزهرة الغسيل.»
قالت شار: «الحياة كلها منغصات. أيتها الحياة، أين لدغتك؟» «بل أيها الموت، أيها الموت، أين لدغتك؟» «هل قلت الحياة؟ كنت أقصد الموت. أيها الموت، أين لدغتك؟ معذرة.» •••
في عصر أحد الأيام بقيت إت مع آرثر فيما ذهبت شار للتسوق وتغيير الكتب في المكتبة. أرادت إت أن تعد له شراب البيض، فذهبت للبحث عن جوزة الطيب في خزانة شار. ومع الفانيليا ومستخلص اللوز وشراب الرم الاصطناعي، وجدت بالخزانة زجاجة صغيرة لسائل غريب؛ فوسفيد الزنك. قرأت الملصق وقلبتها في يديها. إنه مبيد للقوارض؛ فهو سم فئران إذن. إنها لم تسمع شار وآرثر من قبل يشتكيان من متاعب مع الفئران، وهم يتركون القط توم العجوز نائما عند أقدام آرثر. فتحت إت غطاء الزجاجة واشتمتها للتعرف على رائحة السم. كان عديم الرائحة، بالطبع، ومن المؤكد أنه عديم الطعم أيضا، وإلا فلن يخدع الفئران.
أعادت الزجاجة حيث وجدتها، وأعدت لآرثر شراب البيض ثم قدمته له وشاهدته وهو يشربه. سم بطيء؛ هكذا عادت بها ذاكرتها إلى قصة بلايكي السخيفة. شرب آرثر كطفل صغير محدثا ضوضاء تنم عن إعجابه بالشراب، وهو ما أثار سعادتها أكثر من سعادة آرثر نفسه؛ فقد كان آرثر سيشرب أي شيء تقدمه له. تلك طبيعته. «كيف حالك هذه الأيام يا آرثر؟» «أوه، إت، في بعض الأيام أحس بأنني أقوى قليلا، ثم لا ألبث أن أصاب بانتكاسة. الأمر يستغرق بعض الوقت.»
ولكن لم ينقص من الزجاجة شيء، فالزجاجة تبدو ممتلئة. يا له من هراء فظيع! كتلك الأشياء التي تقرؤها في روايات أجاثا كريستي. سوف تتحدث إلى شار عن الأمر، ولا بد أن شار ستخبرها بالسبب.
ثم سألت آرثر: «هل تريدني أن أقرأ لك؟» فقال لها نعم. جلست بجوار الفراش وقرأت له من كتاب عن دوق ولنجتون. كان يقرأ من الكتاب بنفسه ولكن ذراعيه تعبتا من الإمساك به. كل تلك المعارك والحروب والفظاعات، ما الذي يعرفه آرثر عن تلك الأشياء؟ لماذا يهتم بها لهذه الدرجة؟ لم يعرف شيئا. لم يعرف لماذا حدث ما حدث، ولماذا لم يستطع الناس التصرف على نحو عقلاني. لقد كان خيرا على نحو مثالي، وقارئا للتاريخ، ولكنه لم يقرأ شيئا عما يجري أمام عينيه؛ لا في بيته ولا في أي مكان. كانت إت مختلفة عنه في معرفتها أن ثمة شيئا يجري في الخفاء، حتى وإن كانت لا تفهم السبب؛ كانت تختلف عنه في معرفة أن هناك من لا يمكنك الوثوق بهم.
لم تقل شيئا لشار على كل حال، وكلما كانت في المنزل حاولت اختلاق الأعذار للبقاء وحدها في المطبخ، حتى تستطيع فتح الخزانة والوقوف على أطراف أصابعها وإلقاء نظرة داخلها لترى الزجاجة من بين الزجاجات الأخرى حتى تتأكد من أنه لم ينقص منها شيء. أخذت تعتقد أنها ربما أمست غريبة الأطوار قليلا، كما تفعل العجائز؛ وخوفها هذا أشبه بالمخاوف السخيفة والبريئة التي تنتاب الفتيات الصغيرات في بعض الأحيان، من أنهن سوف يقفزن من النافذة، أو يخنقن طفلا بجلوسهن في عربته؛ مع أن مصدر خوفها لم يكن نابعا من تصرفاتها هي. •••
نظرت إت إلى شار وبلايكي وآرثر، وهم جلوس في الشرفة، محاولة أن تقرر ما إذا كانوا يريدون الدخول وإضاءة الأنوار ولعب الورق. أرادت أن تقنع نفسها بسخافة أفكارها. لمع شعر كل من شار وبلايكي في الظلام. وبينما أوشك آرثر على الصلع الكامل، كان شعر إت متناثرا داكنا. بدت لها شار وبلايكي من نفس الفصيلة؛ نفس الطول وخفة الوزن والقوة مع أبهة جامحة. جلسا متباعدين أحدهما عن الآخر، ولكنهما كانا ملحوظين معا. عشيقان. ليست كلمة رقيقة كما يظن الناس، بل قاسية ومدمرة. كان آرثر جالسا على الكرسي الهزاز واضعا لحافا على ركبتيه، يبدو لها غرا كشيء لم يكتمل نموه؛ غير أن من هم على شاكلة آرثر هم، بطريقة ما، السبب في معظم المتاعب. «أحب حبيبي واسمه يبدأ بحرف الراء؛ لأنه رقيق، واسمه ريكس، ويعيش في مطعم.» «أحب حبيبي واسمه يبدأ بحرف الألف؛ لأنه أليف، واسمه آرثر، ويعيش في قفص.»
قال آرثر: «عجبا يا إت! لم يخطر ذلك على بالي قط. ولكني لا أعرف إن كنت سأحب القفص.»
قالت شار: «تعتقد أننا كنا جميعا في الثانية عشرة من العمر.» •••
Halaman tidak diketahui
بعد حادثة مزهرة الغسيل أصبحت شار مشهورة؛ أخذت تشارك في الأعمال المسرحية التي تنظمها جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو، مع أنها لم تمتلك قط موهبة ممثلة أو مغنية. ودائما ما كانت تقوم بدور البطلة الباردة والجميلة في المسرحيات، أو سيدة المجتمع العصبية الفاتنة. تعلمت التدخين، وذلك بسبب اضطرارها للقيام بذلك على خشبة المسرح. في مسرحية لن تنساها إت أبدا، لعبت دور تمثال، أو بمعنى أدق، لعبت دور فتاة مضطرة للتظاهر بأنها تمثال، بحيث يقع شاب معين في حبها، ثم يكتشف في وقت لاحق، مما يصيبه بالحيرة وربما خيبة الأمل، أنها إنسان. كان على شار أن تقف مدة ثماني دقائق ساكنة تماما على خشبة المسرح، ملتحفة بملاءة بيضاء، تطل على الجمهور بسحنة جميلة لا تنقل أي مشاعر. وقد تعجب الجميع من قدرتها على أداء هذا الدور .
والذي شجعها على الانضمام إلى جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو كان آرثر كومبر، المدرس في المدرسة الثانوية الوافد حديثا إلى موك هيل، الذي كان يدرس التاريخ لإت في سنتها النهائية. كان الجميع يقولون إنه يعطيها درجة الامتياز لأنه يحب شقيقتها، ولكن إت كانت تعلم أن ذلك مرده إلى استذكارها بجد أكثر من أي وقت مضى؛ إذ تعلمت تاريخ أمريكا الشمالية كأن لم تتعلم شيئا آخر في حياتها. لم تنس قط تسوية ميسوري ورحلة ماكينزي إلى المحيط الهادي عام 1793.
كان آرثر كومبر يناهز الثلاثين من العمر أو نحو ذلك، يتميز بجبهة عالية صلعاء، ووجه أحمر مع أنه لم يقرب الشراب (اعترى وجهه الشحوب في وقت لاحق)، وسلوك أخرق أهوج؛ فقد أوقع بزجاجة الحبر من على مكتبه ولطخ أرضية حجرة التاريخ بعلامة لن تزول. «يا إلهي! يا إلهي!» قالها وهو يخر على الأرض متتبعا أثر الحبر المنتشر، ليمسحه بمنديله. أخذت إت تقلده، قائلة: «يا إلهي! يا إلهي!» وكل صيحاته الهوجاء وإيماءاته المشوشة. ثم، عندما أخذ مقالها عند الباب، ولمع وجهه الأحمر بإشراقة تنم عن اللهفة، ورحب بعملها وبها هي نفسها أيما ترحيب، شعرت بالأسف. وقد رأت إت أن هذا هو السبب الذي دفعها للعمل بجد؛ حتى تكفر عن سخريتها منه.
كان لديه عباءة أكاديمية سوداء يرتديها على بدلته وهو يلقي الدروس. حتى عندما لم يكن يرتديها، كان بمقدور إت أن تراها عليه. وعندما كان يهرول بطول الشارع إلى إحدى مهامه العديدة التي يؤديها بكل سرور، مسرعا إلى مطربي أوراتوريو، قافزا على خشبة المسرح - التي كانت ترتج تحت قدميه - ليري شيئا للممثلين في مسرحية، بدا لها وهو يقوم بذلك وكأنه يمتلك أجنحة الغراب الطويلة المضحكة تلك ترف من ورائه، الأمر الذي يجعله مختلفا عن غيره من الرجال، سخيفا ولكنه مثير للاهتمام، كقس متخرج في كلية هولي كروس. أقنعته شار بالتخلي عن العباءة تماما، وذلك بعد زواجهما؛ فقد سمعت أنه تعثر بها وهو يرتقي درجات سلم المدرسة فانبطح أرضا. وكانت تلك نهاية أمر العباءة التي مزقتها إربا. «خشيت أن يأتي يوم تتأذى منها حقا.»
لكن آرثر قال لها: «آه. لعلك اعتقدت أنني أبدو فيها أخرق.»
لم تنكر شار ذلك، مع أن عينيه الناظرتين إليها وابتسامته العريضة كانت تستجديها أن تنكره؛ إذ التوت شفتاها عند الزوايا رغما عنها، تعبيرا عن الازدراء والغضب. رأت إت - كلاهما رأيا - موجة جارفة هائلة من هذا الشعور تجتاحها قبل أن تتمكن من أن تبتسم في وجهه وتقول: «لا تكن سخيفا.» ثم حاولت جاهدة أن تبقي ابتسامتها وعينيها مثبتتين عليه، في محاولة للتشبث بصلاحه (الذي رأته، كما رآه الجميع، ولكنه لم يؤد في النهاية إلا إلى إثارة ثائرتها، في رأي إت، شأنه شأن أي شيء آخر فيه، مثل جبهته المتعرقة وتفاؤله الزائد عن الحد)، قبل أن تعاودها موجة الغليان مرة أخرى وتجتاحها تماما.
تعرضت شار للإجهاض خلال السنة الأولى من زواجها، وظلت بعدها مريضة فترة طويلة، ولم تحمل بعدها قط. في ذلك الحين لم تكن إت تعيش في المنزل؛ إذ كانت تقطن في سكن خاص في الساحة، ولكنها كانت تحضر للمنزل مرة واحدة في يوم الغسيل، لمساعدة شار في تعليق الملاءات على حبل الغسيل. حينها كان والداهما قد توفيا - توفيت أمهما قبل الزفاف أما أبوهما فتوفي بعدها - ولكن بدا لإت أن الملاءات تخص سريرين. «هذا يجعلك تغسلين كما هائلا.» «ما هذا؟» «تغيير الملاءات بطريقتك تلك.»
كثيرا ما كانت إت تذهب هناك مساء لتلعب الريمية بأوراق اللعب مع آرثر بينما تعزف شار على البيانو في الظلام في غرفة أخرى. أو تتحدث إلى شار وتقرأ من كتب المكتبة معها، بينما يعلم آرثر أوراقه. كان آرثر يوصلها إلى منزلها. فوبخها ذات مرة قائلا: «ما الذي يدعوك إلى مغادرتنا والعيش بمفردك؟ يجب أن تعودي وتعيشي معنا.» «ثلاثة معا عدد كبير.» «هذا لن يدوم طويلا؛ فلا بد أن أحدهم سيأتي يوما ويقع على رقبته.» «إذا كان هو من الحماقة لأن يقع على رقبته، فلن أقع أنا من أجله أبدا في المقابل، ومن ثم نعود من حيث بدأنا.» «لقد كنت أحمق ووقعت على رقبتي من أجل شار، وانتهى بها الأمر بالفوز بي.»
الطريقة التي نطق بها اسمها توحي بأن شار فوق وخارج كل الاعتبارات التقليدية؛ أعجوبة ولغز لا يمكن لأحد أن يأمل في حله، وأنهما محظوظان لمجرد السماح لهما بالتفكير فيها. كانت إت على وشك أن تقول: «لقد ابتلعت فاتنتك مزهرة الغسيل ذات مرة حزنا على رجل لم يكن لها»، ولكنها فكرت في أنه سيكون لذلك تأثير إيجابي عليه؛ إذ ستبدو شار أكثر روعة في عينيه، مثل بطلة بإحدى مسرحيات شكسبير. اعتصر آرثر خصر إت كما لو كان يؤكد على الإبهام الذي يكتنف علاقتهما الودية، وإكباره اللاإرادي لها، أمام أختها. شعرت بعد ذلك بشدة ضغطة أصابعه كما لو أنها قد تركت خدوشا حيث تربط تنورتها. بدا كما لو أن شخصا شارد الذهن يجرب الضغط على مفاتيح البيانو. •••
اشتغلت إت بمهنة تفصيل الملابس. كانت تمتلك غرفة ضيقة تطل على الساحة، كانت متجرا ذات يوم؛ حيث تقص القماش وتخيطه وتقيس الملابس وتكويها، أما النوم والطبخ فكانت تتدبر أمرهما خلف ستارة في نفس الغرفة. كانت تستلقي في فراشها وتحدق في مربعات القصدير المضغوط في سقف غرفتها، وشكل الورود الذي تتخذه. كل ذلك ملكها وحدها. لم يكن آرثر يحب حديثها عن تفصيل الملابس؛ لأنه يعتقد أنها أذكى من ذلك العمل. كل الجهد الشاق الذي بذلته في دراسة التاريخ أعطاه فكرة مبالغا فيها عن ذكائها. وقالت له: «إن قص القماش وقياس الملابس، إذا فعلته بالطريقة الصائبة، يتطلب من الذكاء أكثر مما يتطلبه تدريس حرب 1812؛ لأنك ما إن تدرسها حتى تعرف أحداثها وينتهي الأمر دون أن تغير فيك تلك المعرفة شيئا. أما كل قطعة ملابس جديدة فتمثل منتجا جديدا تماما.»
Halaman tidak diketahui
قال آرثر: «ما زلت مندهشا مما آل إليه حالك.»
لقد فاجأت الجميع، ولكن ليست إت نفسها، التي تغيرت بسهولة من فتاة تتقافز بحركات دائرية إلى أحد معالم البلدة؛ فقد استأثرت بسوق تفصيل الملابس على حساب الحائكات الأخريات؛ إذ كانت المشتغلات بتلك المهنة مجرد مخلوقات متواضعة غير مهمة على أي حال، يدرن على بيوت الناس، ويحكن الملابس في الغرف الخلفية ويعبرن عن امتنانهن لزبائنهن شكرا لهم على ما يقدمونه من وجبات. وطوال سنوات عمل إت لم يظهر أمامها سوى منافسة جدية، وهي امرأة فنلندية أطلقت على نفسها لقب مصممة أزياء. جربها بعض الناس؛ لأن الناس لا يرضون أبدا، لكن سرعان ما تبين أنها مجرد مظهر مخادع دون مهارة حقيقية. لم تأت إت على ذكرها قط، بل تركت الناس يكتشفون حقيقتها بأنفسهم؛ ولكن بعد ذلك، عندما غادرت هذه المرأة البلدة وذهبت إلى تورونتو - حيث ما من أحد يعرف التفصيل الجيد من السيئ بحسب ما استنتجت إت مما رأته في الشوارع - لم تعد إت تكبح جماح نفسها؛ إذ كانت تقول للزبونة التي تفصل لها: «أرى أنك لا تزالين ترتدين ذلك الثوب من القماش المقصوص على شكل رقم 7 الذي فصلته لك صديقتي الأجنبية، رأيتك في الشارع.»
فتقول لها الزبونة: «أوه، أعرف. ولكني مضطرة إلى ارتدائه حتى يبلى.» «لا تستطيعين رؤية نفسك من الخلف؛ لا فارق إذن.»
كانت الزبائن يقبلن منها هذا التقريع، بل وأصبح شيئا متوقعا بالنسبة لهن. صرن يلقبنها بالفظيعة، إت الفظيعة. دائما ما تضعهن في موقف غير مؤات، ولا عجب، فهي تحادثهن وهن في ملابسهن التحتية يرتدين مشدات الجسم. حتى السيدات اللاتي يبدون حازمات وقويات جدا في الخارج يتحولن هنا إلى نسوة مسلوبات الإرادة كاسفات البال يكشفن عن أفخاذ تدعو للرثاء مضغوطة بفعل المشدات، وثنيات طويلة مؤسفة في الثديين، وبطون انتفخت ثم فرغت فتجعدت بسبب الولادة والعمليات.
دأبت إت على إغلاق الستائر الأمامية بإحكام، مشبكة الفرجة بينها بدبوس. «هذا لمنع الرجال من التطفل.»
فتضحك السيدات بعصبية. «هذا لمنع جيمي ساندرز من أن يعرج إلينا ويتلصص علينا.»
كان جيمي ساندرز أحد قدامى المحاربين بالحرب العالمية الأولى، ويمتلك محلا صغيرا بجوار محل إت يبيع فيه سروج الأحصنة والمنتجات الجلدية. «أوه، إت. جيمي ساندرز لديه ساق خشبية.» «ولكن ليست لديه عيون خشبية، أو أي شيء آخر أعرفه.» «إت ، أنت فظيعة.» •••
حرصت إت على أن تفصل لشار ملابس تظهر جمالها. وأكثر انتقادين كانا يوجهان إلى شار في موك هيل هما أنها ترتدي ملابس أنيقة جدا، وأنها تدخن؛ نظرا لأنها زوجة معلم وينبغي لها أن تمتنع عن كلا هذين الأمرين، ولكن آرثر بالطبع سمح لها بفعل كل ما يعجبها، بل إنه اشترى لها مبسم سيجار حتى تبدو كسيدة تظهر على غلاف مجلة. كانت تدخن في إحدى حفلات الرقص بالمدرسة الثانوية، وارتدت فستان سهرة عاري الظهر مصنوعا من الساتان، وراقصت صبيا سبق له أن تسبب في حمل فتاة في المدرسة الثانوية، ولم يأبه آرثر لذلك. لم تتم ترقيته إلى منصب ناظر المدرسة؛ بعد أن تجاوزه مجلس المدرسة مرتين واستقدم نظارا من خارجها، وعندما منحوه الوظيفة في النهاية، في عام 1942، كان ذلك بشكل مؤقت فقط؛ لأن الكثير جدا من المعلمين كانوا بعيدين في الحرب.
كافحت شار كثيرا لكي تحافظ على قوامها. وما من أحد باستثناء إت وآرثر يعلم كم الجهد الذي بذلته لتحقيق تلك الغاية. وباستثناء إت فلا أحد يعلم كل شيء عن تلك المسألة؛ فقد كان والداهما بدينين، وورثت شار عنهما الميل إلى البدانة، مع أن إت دائما ما كانت نحيفة كالعصا. اعتادت شار ممارسة التمارين الرياضية وشرب كوب من الماء الدافئ قبل كل وجبة. ولكن في بعض الأحيان كانت تعكف على الأكل بنهم. كانت إت تعلم عنها أنها يمكن أن تلتهم دستة من كعك الكريمة واحدة تلو الأخرى، أو رطلا من حلوى الفول السوداني أو فطيرة ليمون المارنج كاملة، ثم لا تلبث أن تصاب بالشحوب والرعب فتقوم بابتلاع كميات كبيرة من الملح الإنجليزي بكميات تفوق الكمية المقررة بثلاث أو أربع أو خمس مرات، فتظل مدة يومين أو ثلاثة مصابة بالإعياء والجفاف للتكفير عن خطاياها، على حسب قول إت. وخلال تلك الفترات لا تستطيع النظر إلى الطعام. ويكون على إت أن تأتي وتطهو الطعام لآرثر، الذي لم يكن على علم بأمر الفطائر أو حلوى الفول السوداني أو خلافه، ولا حتى بأمر الملح الإنجليزي. كان يعتقد أنها زادت رطلا أو اثنين وتمر بمرحلة محمومة من الحمية الغذائية. كان يشعر بالقلق عليها.
دأب آرثر على أن يقول لإت: «ما الفارق، ما أهمية ذلك؟ فهي لا تزال جميلة.» «لن تؤذي نفسها.» هكذا ترد عليه إت مستمتعة بطعامها، وسعيدة لأن قلقه لم يفسد شهيته، فدائما ما تطبخ له طعام عشاء شهيا. •••
Halaman tidak diketahui
يتبقى أسبوع على عطلة عيد العمال، وقد ذهب بلايكي إلى تورونتو مدة يوم أو يومين، على حد قوله.
قال آرثر: «الجو هادئ من دونه.»
قالت إت: «لم أجد قط أنه ذلك المحاور البارع.»
قال آرثر: «إنما أعني الطريقة التي تعتادين بها على أحدهم.»
قالت إت: «ربما ينبغي لنا ألا نعتاد عليه.»
لم يكن آرثر سعيدا؛ فهو لن يعود إلى المدرسة بعد حصوله على إجازة بدون مرتب حتى نهاية عطلة الكريسماس. لم يدر بخلد أحد أنه سيعود عندئذ.
قال: «أعتقد أن لديه خططه الخاصة لهذا الشتاء.» «قد تكون لديه خططه الخاصة لهذه اللحظة؛ فأنت تعرف أن لدي زبائني من نزلاء الفندق، ولدي أصدقائي، ومنذ أن ذهبت في تلك النزهة وأنا أسمع أشياء.»
لم تعرف كيف أتاها ذلك الخاطر لتقول ما قالت، فلا تعرف من أين جاءها ذلك الخاطر. لم تخطط له، ولكنه جاءها بكل سهولة وبصدق. «أسمع أنه اصطحب امرأة موسرة إلى الفندق.»
كان آرثر يهتم لتلك الأحاديث، وليس شار. «أرملة؟» «مرتين على ما أعتقد. تماما كما ترمل هو مرتين. وقد ورثت أموالا من كليهما. كان الأمر محل شك لبعض الوقت وكانت هي تتحدث عنه صراحة. أما هو فلم يقل شيئا في المقابل. ألم يقل لك شيئا، ألم يقل لك يا شار؟»
قالت شار: «كلا.» «سمعت عصر اليوم أنه خارج البلدة في الوقت الحالي، وأنها قد غادرت أيضا. ليست تلك المرة الأولى التي يفعل فيها شيئا كهذا؛ فأنا وشار نتذكر شيئا كهذا.»
Halaman tidak diketahui
عندئذ أراد آرثر أن يعرف ما ترمي إليه، فأخبرته بقصة السيدة محركة العرائس، متذكرة حتى اسمي دميتيها، مع أنها لم تأت بالطبع على ذكر حكاية شار، التي حضرت ذلك الحوار بل وكانت تشارك فيه قليلا. «قد يرجعان، ولكني أظن أنهما قد يستشعران الحرج. قد يستشعر الحرج من المجيء هنا، على أي حال.»
قال آرثر: «لماذا؟» وقد سعد بقصة محركة العرائس، ثم أضاف: «نحن لا نمنع أي شخص من أن يتزوج.»
نهضت شار ودخلت المنزل. وبعد برهة تناهى إلى سمعهما صوت البيانو. •••
السؤال الذي دائما ما كان يلح على بال إت في السنوات الأخيرة: ما الذي كانت تعتزم فعله بشأن هذه القصة عند رجوع بلايكي؟ نظرا لأنه لم يكن لديها سبب يجعلها تعتقد أنه لن يرجع. والإجابة هي أنها لم تعد أي خطط على الإطلاق. كل ما هنالك أنها افترضت أنها ربما تثير مشكلة بينه وبين شار، تجعل شار تتشاجر معه، وتستثير شكوكها حتى لو لم تكن الإشاعات حقيقية، وتجعل شار تستنبط ما قد يفعله مرة أخرى في ضوء ما فعله من قبل. لم تكن تعرف ما تريده. كل ما أرادته أن تخلق حالة من الريبة؛ لأنها اعتقدت عندئذ أن شخصا ما عليه فعل ذلك قبل فوات الأوان.
تعافى آرثر بالقدر المتوقع ممن هم في سنه، وعاد إلى تدريس التاريخ لطلاب السنة النهائية في المدرسة الثانوية، مع العمل نصف الوقت حتى يحين موعد تقاعده. أما إت فقد احتفظت بمكانها بالساحة وحاولت أيضا النهوض وطبخ بعض الطعام والقيام ببعض أعمال النظافة لآرثر. أخيرا وبعد تقاعده عادت إت إلى المنزل، تاركة مكانها الآخر لأغراض العمل فقط، حيث قالت: «دع الناس يعيدوا ويزيدوا كما شاءوا عن عمرنا.»
عاش آرثر حياة مديدة بالرغم من ضعفه البدني وبطء حركته. مشى يوما ما إلى الساحة قاصدا إت، فاصطحبها معه وذهبا إلى المنتزه. كان الفندق قد أغلق وبيع مرة أخرى، وسرت إشاعة أنه سيتم افتتاحه مركزا لإعادة تأهيل مدمني المخدرات، ولكن البلدية تلقت عريضة احتجاج فتراجعت عن المشروع، وفي نهاية المطاف تم هدمه.
لم يعد بصر إت بنفس قوته المعتادة، مما اضطرها إلى الإبطاء في العمل، ورد بعض الزبائن، بيد أنها لا تزال تعمل كل يوم. في المساء كان آرثر إما يشاهد التليفزيون أو يقرأ، بينما هي إما تجلس في الشرفة أيام الطقس الدافئ، أو في غرفة الطعام أيام الشتاء، مسترخية على الكرسي الهزاز ومريحة عينيها. جاءت وشاهدت نشرة الأخبار معه، وأعدت له مشروبه الساخن، من الكاكاو أو الشاي. •••
لم يكن هناك أثر للزجاجة. ذهبت إت وألقت نظرة على الخزانة بأسرع ما يمكن؛ بعد أن هرولت إلى المنزل استجابة لمكالمة آرثر في الصباح الباكر، ووجدت الطبيب، ماكلين العجوز، يدخل البيت في الوقت نفسه. أسرعت وفتشت في القمامة، ولكنها لم تجد لها أثرا.
هل كان لدى شار الوقت لدفنها؟ كانت ترقد على السرير وهي متأنقة في كامل ملابسها، وشعرها ملموم بعناية. لم تكن هناك ضجة حول سبب الوفاة كما هي الحال في القصص. كانت قد اشتكت إلى آرثر من شعورها بالضعف في الليلة السابقة بعد رحيل إت، وقالت إنها تعتقد أنها ستصاب بالأنفلونزا. وهكذا قال الطبيب العجوز أزمة قلبية، وقضي الأمر. بيد أن إت لم تستطع معرفة السبب. ما الذي كان في الزجاجة ولا يترك أثرا على الجسم على الإطلاق؟ ربما ما كان في الزجاجة ليس ما هو مكتوب عليها، حتى إنها غير متأكدة أصلا من أن تلك الزجاجة كانت موجودة في الليلة الماضية؛ فقد كانت متحمسة للغاية تجاه ما كانت تقوله مما حال دون ذهابها وإلقاء نظرة، كما اعتادت أن تفعل. وربما تم التخلص منها في وقت سابق وتجرعت شار شيئا آخر، كالحبوب مثلا. وربما كانت أزمة قلبية حقا؛ فعمليات التطهير القاسية تلك من شأنها أن تضعف قلب أي إنسان.
كانت جنازتها في يوم عيد العمال بحضور بلايكي نوبل الذي قطع جولته بالحافلة. أما آرثر، وفي خضم أحزانه، فقد نسي القصة التي حكتها إت، ولم يفاجأ بحضور بلايكي، الذي رجع إلى موك هيل في يوم دفن شار، متأخرا بضع ساعات، كما في القصص. وفي خضم ارتباكها الطبيعي لم تستطع إت تذكر اسم مسرحية روميو وجولييت التي تذكرتها لاحقا. بيد أن بلايكي نوبل لم يقتل نفسه بالطبع، بل عاد إلى تورونتو. وظل مدة عام أو عامين يرسل بطاقات المعايدة في الكريسماس، ثم انقطعت أخباره تماما. وما كانت إت لتفاجأ لو ثبت في النهاية عدم صحة حكاية زواجه، فقط توقيتها هو الخاطئ.
Halaman tidak diketahui
في بعض الأحيان كان الكلام يقف على طرف لسان إت قبل أن تقول لآرثر: «ثمة سر يؤرقني كنت أعتزم إخبارك به.» فهي لم تصدق أنها كانت ستدعه يموت دون أن يعرفه. لم تكن لتسمح له بذلك. وقد احتفظ بصورة لشار على مكتبه، وهي صورة التقطت لها وهي ترتدي ملابس تلك المسرحية التي لعبت فيها دور الفتاة التمثال. غير أن إت تغاضت عن الأمر، يوما بعد يوم. وظلت هي وآرثر يلعبان الريمية بأوراق اللعب وقاما على رعاية حديقة صغيرة، مع قصب التوت. لو أنهما كانا متزوجين لقال عنهما الناس إنهما في غاية السعادة.
مادة قصصية
أنا لا أتابع كتابات هوجو، ولكن أحيانا أرى اسمه، في المكتبة، على أغلفة بعض المجلات الأدبية التي لا أقرؤها؛ فأنا لم أقرأ مجلة أدبية منذ أكثر من اثني عشر عاما والحمد لله. أو ربما أقرأ اسمه في الصحف أو أراه على ملصقات إعلانية - في هذه الحالة أيضا أكون في المكتبة أو بمتجر الكتب - وفي أحيان أخرى أرى اسمه بلوحة الإعلانات بالجامعة للإعلان عن استضافته بندوة أدبية، وذلك عندما يأتي هوجو لمناقشة موضوعات مثل وضع الرواية في العصر الحالي، أو القصة القصيرة المعاصرة، أو التحدث عن النزعة القومية الجديدة في أدبنا. حينها أتساءل هل يذهب الناس إلى الندوات الأدبية تلك حقا؟ هل يقوم الناس الذين في مقدورهم الذهاب للسباحة أو لاحتساء مشروب أو حتى المشي بالتوجه إلى الحرم الجامعي حتى يبحثوا عن القاعة ويجلسوا في صفوف متتالية من الكراسي للاستماع لهؤلاء الرجال المغرورين الذين يثيرون الزوبعات؟ رجال مترفون، مستبدون بآرائهم، وغير منظمين، نعم هكذا أراهم، رجال تدللهم الحياة الأكاديمية، وتدللهم الحياة الأدبية، وتدللهم النساء. يذهب إليهم الناس ليسمعوهم يتحدثون عن أن هذا الكاتب أو ذاك لا يستحق أن تقرأ له أي عمل بعد الآن، وأن هذا الكاتب أو ذاك يجب عليك أن تقرأ أعماله، يذهب إليهم الناس ليستمعوا إليهم وهم يقللون من شأن هذا ويمجدون في شأن ذاك، ويستمعون إليهم وهم يجادلون ويضحكون ويصدمون الناس. أقول الناس ولكني هنا أتحدث عن النساء، نساء مثلي في منتصف العمر، مرتجفات وفي حالة تأهب دائمة، يأملن في أن تكون الأسئلة التي يطرحنها أسئلة ذكية وألا يتم النظر إليهن على أنهن سخيفات؛ وفتيات ذوات شعر ناعم غارقات في العشق والوله حتى آذانهن، يتمنين أن تلتقي أعينهن مع أعين رجل من الرجال الموجودين على المنصة. تقع الفتيات، إضافة إلى السيدات، في غرام هؤلاء الرجال، معتقدات أنهم يمتلكون قوة كامنة فيهم.
وإن بحثت عن زوجات هؤلاء الرجال الموجودين على المنصة فلن تراهن في الحضور، ستجدهن يشترين الخضراوات أو ينظفن الفوضى في منازلهن أو حتى يحتسين شرابا. دائما ما تجد حياتهن متمحورة حول الطعام والبيت والفوضى والسيارات والمال. ستجد أنهن المسئولات عن كل شيء؛ فهن من يتذكرن وضع إطارات السيارة المانعة للتزحلق، وهن من يذهبن للبنك، وهن من يجمعن زجاجات الجعة الفارغة؛ ولم يجب عليهن القيام بذلك؟ لأن أزواجهن رجال مبدعون وموهوبون، رجال عجزة ينبغي العناية بهم، وذلك في سبيل الكلمات التي تخرج من عقولهم. أما السيدات اللاتي في الحضور فستجدهن زوجات لمهندسين أو أطباء أو رجال أعمال. أنا أعرفهن شخصيا، فهن صديقاتي، بعضهن اتجه لعالم الأدب على نحو غير جدي، تلك هي الحقيقة، ولكن أخريات أتين على استحياء ولديهن أمل كبير ولكنه سريع الزوال. هؤلاء النساء يمتصصن ازدراء الرجال الموجودين على المنصة كما لو كن يستحققنه، وهن يؤمن خفية بأنهن يستحققن ذلك بسبب منازلهن وأحذيتهن باهظة الثمن، وأزواجهن الذين يقرءون للكاتب آرثر هايلي.
أنا شخصيا متزوجة من مهندس يدعى جابرييل، ولكنه يفضل أن نناديه جايب. يفضل الاسم جايب في هذا البلد؛ حيث إن مسقط رأسه رومانيا، وقد عاش هناك حتى سن السادسة عشرة حتى انتهت الحرب الدائرة بها، ولكنه نسي كيفية التحدث باللغة الرومانية . كيف يمكنك أن تنسى؟ كيف يمكنك أن تنسى لغتك الأم التي قضيت طفولتك كلها تتحدث بها؟ لطالما اعتقدت أنه يدعي النسيان؛ لأن الأشياء التي رآها ومر بها خلال الفترة التي كان يتحدث فيها بهذه اللغة، أشياء مهولة ومريعة بحيث إنه يرغب عن تذكرها مرة أخرى. وقد أخبرني ذات مرة أن اعتقادي هذا غير صحيح؛ حيث أكد لي أن خبرته مع الحرب لم تكن بهذا السوء؛ فكان يصف الضجة التي كانت تحدث في المدرسة عندما يتم إطلاق صافرات الإنذار عند الغارات الجوية مؤذنة بإلغاء الدراسة، ولكني لم أكن أصدقه كليا. كنت أطالبه بأن يصبح سفيرا قادما من أوقات عصيبة وبلاد بعيدة، ثم بدأت أشك في كونه رومانيا بالفعل، وأنه مدع نصاب.
ولكن هذا الشك كان قبل أن أتزوجه، حينما كان يأتي لزيارتي ورؤيتي في شقتي الموجودة بشارع كلارك رود، الشقة التي كنت أعيش بها مع ابنتي الصغيرة كليا، ابنتي من هوجو، ولكن هوجو اضطر لتركها والتخلي عنها تماما. رزق هوجو بأبناء عديدين؛ حيث إنه سافر ثم تزوج مرة أخرى وقد أنجبت زوجته ثلاثة أطفال، وفيما بعد طلق هذه الزوجة ثم تزوج مرة أخرى، أما زوجته التالية التي كانت طالبة لديه فقد أنجبت ثلاثة أطفال آخرين، أول طفل منهم قد أنجبته وهوجو ما زال مع زوجته الثانية. في ظروف كهذه يصعب على الرجل أن يتشبث بكل شيء. أما جابرييل فكان معتادا على البقاء طوال الليل أحيانا على الأريكة التي يمكن استخدامها كسرير، فكنت أستخدمها في تلك الشقة الصغيرة الفقيرة التي كنت أمتلكها؛ وأتذكر حينها أنني حينما كنت أشاهده وهو نائم كان يدور بخلدي أنه مع علمي بهذا الشخص، إلا أنه قد يكون ألماني الجنسية، أو ربما روسيا، أو حتى مجرد مواطن كندي عادي يتصنع لكنة ويختلق ماضيا حتى يبدو شخصا مثيرا للانتباه. كان جابرييل لغزا بالنسبة لي، وحتى بعدما أصبح عشيقي بفترة طويلة وبعدما أصبح زوجي، كان ولا يزال لغزا غامضا بالنسبة لي؛ حتى بالرغم من كل الأشياء التي أعرفها عنه، من عاداته اليومية وسماته الجسدية؛ سواء قسمات وجهه مثل انحناءات وجهه الناعمة وشكل عينيه الضحلتين المرسومتين على وجهه تحت جفون وردية ناعمة، أو تلك التجاعيد المنقوشة على هذه الملامح الناعمة، هذا السطح الناعم الذي لا يمكن فهمه أو اختراقه؛ ومع ذلك تلك الملامح لم يكن لها أي تأثير؛ فجسده كبير وذو هيبة ويعطي إيحاء بالهدوء والراحة. دائما ما كنت أراه يبدو كمتزلج بارع وإن كان كسولا. يبدو أنني لا أستطيع وصف جابرييل دون أن أشعر بشعور مألوف من الخضوع والاستسلام. أنا لا أستطيع وصف جابرييل ولكني أستطيع أن أصف هوجو، إن سألني أحدهم عنه، أستطع وصفه حتى أدق التفاصيل؛ حينما كان عمره ثمانية عشر عاما - منذ عشرين عاما مضت - كان شعره قصيرا للغاية كشعر الجنود، كما كان نحيفا. وجميع عظامه وحتى جمجمته تبدو كما لو كانت مجمعة ومخيطة معا بالصدفة البحتة؛ فكان هناك شيء غير متسق وغير متوقع، وفي بعض الأحيان خطير، في الطريقة التي تتحرك بها قسمات وجهه أو حتى أسلوب حركة أطرافه. وحينما أحضرت هوجو أول مرة إلى الجامعة أخبرني زميل لي أنه يبدو كمجموعة من الأطراف تم تجميعها وربطها معا بواسطة حزمة من الأعصاب، وما قاله كان صحيحا؛ حيث دائما ما كنت أستطيع تخيل تلك الخيوط المتقدة التي تعمل على ربطه معا بعد هذا الموقف.
ومن جهة أخرى حين قابلت جابرييل في المرة الأولى التي رأيته بها أخبرني أنه يستمتع بالحياة. لم يقل إنه يعتقد أنه يستمتع بالحياة بل قال إنه يستمتع بها بالفعل. حينها شعرت بالأسف عليه؛ وذلك لأني لا أصدق الأشخاص الذين يقولون هذا الأمر أبدا. وعلى كل حال دائما ما ترتبط هذه الجملة في ذهني بالرجال الفظاظ محبي التباهي ضيقي الصدر المتململين الذين يضمرون ذلك. ولكن على ما يبدو أنها حقيقة جابرييل وأنه صادق بالفعل، فهو ليس بالنوع الفضولي، بل تجده قادرا على أخذ متعته، كما أنه قادر على الابتسام والمداعبة وأن يقول في حنو: «لماذا تقلقين بخصوص هذا الأمر؟ إنها ليست مشكلتك.» هذا إضافة إلى أنه قد نسي لغته الأم، وفي بادئ معرفتي به كانت طريقته في مطارحة الغرام تبدو غريبة علي؛ حيث إنها كانت تفتقر إلى العاطفة المتأججة؛ فهو يمارس الحب بفتور - إن جاز التعبير - دون أن تخالجه ذكرى أي ذنب أو رغبة في الفحش. فهو لا يراقب نفسه، ولن يقوم أبدا بكتابة قصيدة شعرية عن ممارسة الحب، أبدا، وستجد أنه قد نسي الأمر برمته بعد نصف ساعة بالفعل. هذا النوع من الرجال شائع الوجود، ربما. المشكلة أنني لم أكن أتعرف على أي من هؤلاء من قبل. وأحيانا ما تطرأ على ذهني تساؤلات عديدة بخصوصه مثل: هل كنت سأحبه إن تم محو لكنته الغريبة وماضيه المنسي، المنسي تقريبا؟ هل كنت سأحبه لو كان على سبيل المثال طالبا يدرس الهندسة في جامعتي في نفس السنة التي كنت أدرس أنا بها؟ أنا لا أعرف الإجابة عن تلك الأسئلة، ولا أستطيع أن أخمنها. فالشيء الذي يجذب أي شخص لرجل أو لامرأة قد يكون شيئا واهيا مثل اللكنة الرومانية أو الاستدارة الناعمة لجفن عينه، أو حتى لغزا ما واهي التبرير يحيط به.
أما هوجو فليس لديه أي لغز كهذا على الإطلاق، هذا ليس لأنني لم ألحظ هذا الأمر أو لعدم معرفتي به، ربما لأنني لم أكن لأصدق أن تحيط به مثل هذه الألغاز. ولكني حينها كنت أومن بشيء آخر تماما؛ هذا الشيء لم يكن إيماني بأني أعرفه أو أني أعرف كل شيء عنه، بل حينها كنت مؤمنة بأن ما أعرفه عن هوجو محفور في وجداني ويسري في دمي ومن حين لآخر كان يتسبب في إصابتي بطفح جلدي قاتل، ولكن لا شيء من هذا يحدث أبدا مع جابرييل؛ فهو لا يتسبب في إزعاجي أكثر مما يتسبب في إزعاج نفسه.
جابرييل هو من وجد رواية هوجو وأعطاني إياها. حينها كنا موجودين في المكتبة، وقد جاء إلي وهو يحمل في يديه كتابا ورقي الغلاف كبير الحجم وباهظ الثمن، كانت مجموعة مختارة من القصص القصيرة، ومكتوبا على الغلاف اسم هوجو. تساءلت كيف وجد جابرييل هذا الكتاب؟ وما الذي كان يفعله في قسم الروايات في المكتبة على أي حال؟ فهو لا يقرأ الروايات على الإطلاق، مما جعلني أتساءل عن كونه يزور المكتبة أحيانا ليبحث عن إصدارات هوجو؛ فقد كان جابرييل يهتم بإنتاج هوجو مثلما قد يهتم بأعمال ساحر أو مغن مشهور أو أحد الساسة ممن تربطهم به - من خلالي - صلة قوية، وذلك كدليل على واقعية هذه الصلة. أعتقد أن السبب وراء ذلك هو أن مهنته مهنة مجهولة، حيث العمل الذي يقوم به معروف لأقرانه فقط، وأنه مفتون بهؤلاء الذين يعملون بجرأة على مرأى من الجميع بدون حماية أي قواعد خاصة - لا بد أن الأمر يبدو له بهذا الشكل باعتباره مهندسا - في محاولة من هؤلاء الأفراد أن يثقوا بأنفسهم ويطوروا ما في جعبتهم من مهارات، على أمل أن يكون هذا كافيا ليجذبوا الانتباه.
بعد أن أحضر جابرييل الكتاب إلي، قال لي: «اشتريه من أجل كليا.»
Halaman tidak diketahui
فقلت: «أليس هذا الثمن باهظا على كتاب ورقي الغلاف؟»
فابتسم.
بعدها، توجهت بحديثي إلى كليا: «انظري، تلك هي صورة والدك، والدك الحقيقي، وهو من كتب هذه القصة، ربما قد ترغبين في قراءتها.» كانت كليا تقف بالمطبخ تجهز لنفسها خبزا محمصا لتأكل. تبلغ كليا من العمر الآن سبعة عشر عاما، وفي بعض الأيام قد تأكل الخبز المحمص والعسل وزبدة الفول السوداني وبسكويت الشوكولاتة والجبن المطبوخ وشطائر الدجاج والبطاطس المحمرة، وفي حال قيام أي شخص بالتعليق على الطعام الذي تأكله أو الذي لا تأكله، قد تجري إلى الطابق العلوي وتصفق باب غرفتها بقوة. «يبدو سمينا، لطالما أخبرتني أنه نحيف.» هكذا علقت كليا على الصورة ثم وضعت الكتاب على الطاولة. يبدو أن جميع اهتماماتها فيما يتعلق بأبيها تدور في فلك الاهتمامات الوراثية ونوعية الجينات التي ورثتها عنه؛ فكانت دائما ما تطرح أسئلة مثل: هل نوع بشرته من النوع الجميل أم الرديء؟ هل معدل ذكائه عال أم منخفض؟ هل تمتلك النساء في عائلته صدورا كبيرة؟
رددت عليها قائلة: «لقد كان نحيفا عندما كنت أعرفه.» ثم أردفت قائلة: «من أين يتأتى لي العلم بأحواله بعد كل هذه الفترة؟»
ولكن في حقيقة الأمر يبدو هوجو الآن كما تخيلت الحال التي سيبدو عليها بعد مرور كل هذا الوقت. عندما كنت أرى اسمه في الصحف والمجلات أو على الملصقات كنت أتخيل شخصا على هذه الهيئة؛ لقد توقعت الكيفية التي سيؤثر بها كل من أسلوب حياته والزمن على هيئته؛ فلم أفاجأ بأنه أصبح سمينا وإن لم يطل الصلع رأسه، بل ترك شعره لينمو بشكل عشوائي، وقد ربى لحية كاملة متجعدة، بينما تتهدل الأكياس السوداء تحت عينيه إلى وجنتيه حتى عندما يضحك. هو الآن يضحك للكاميرا، وقد أصبحت أسنانه أسوأ مما كانت عليه؛ فقد كان يكره أطباء الأسنان بشدة، وكان يردد أن السبب هو أن والده توفي جراء أزمة قلبية على كرسي طبيب الأسنان في العيادة، ولكن هذا الأمر كذبة بالطبع، مثل كثير جدا من الأشياء الأخرى، أو على الأقل ضرب من ضروب المبالغة. فيما سبق كان معتادا على أن يبتسم ابتسامة خفيفة أثناء تصويره؛ كي يخفي نابه الأعلى على الجانب الأيمن، ذلك الناب المكسور منذ أن قام أحدهم في المدرسة الثانوية بدفعه حتى سقط في نافورة للشراب. لكنه الآن أصبح لا يبالي بهذا على الإطلاق، إنه يضحك بحرية ويظهر تلك الجذور المتعفنة. الآن يبدو مكروبا وسعيدا في الوقت نفسه. يبدو ككاتب ساخر وناقد لاذع. ويظهر هوجو بالصورة وهو يرتدي قميصا صوفيا مقلما يظهر من تحته قميصه الداخلي، لم يعتد هوجو على لبس قميص داخلي من قبل. وجدت نفسي أوجه له عدة أسئلة مثل: هل تقوم بالاستحمام يا هوجو؟ هل رائحة فمك الآن كريهة بحالة أسنانك تلك؟ هل تنادي طالباتك من الفتيات بألقاب قذرة بغضب مفتعل كما اعتدت؟ هل تتلقى مكالمات هاتفية من آباء يشعرون بالإهانة من طريقتك؟ هل يقوم عميد الكلية أو أي شخص بشرح موقفك وأنك لم تقصد أي إهانة حقيقية، وأن المؤلفين والكتاب ليسوا كبقية البشر؟ ربما لا، ربما لا يمانع أحد هذه الأيام. يتمتع الكتاب الغاضبون هذه الأيام بالعديد من النعم؛ فهم يتنقلون ما بين نعمة وأخرى هذه الأيام، حائرين بين كل تلك النعم، كما هي الحال مع الأطفال المدللين.
لا أمتلك دليلا على هذا الكلام، لقد قمت بتخيل شخصية كاملة من محض صورة واحدة مشوشة، ولكني سعيدة وراضية عن استنتاج تلك الصور النمطية؛ فأنا لا أمتلك لا المخيلة ولا النية الطيبة تجاهه لأقوم بأي استنتاج مختلف؛ كما أنني على أي حال قد لاحظت مثلما لاحظ الجميع أنه بمجرد أن يصل الشخص لمرحلة منتصف العمر كيف تتلاشى الأقنعة التي يلبسها الأشخاص أو الهويات التي يتقلدونها، إذا أردت تسميتها هكذا، وكيف تضعف مع الوقت. في الأدب القصصي، نطاق عمل هوجو، لن تكون هذه الأقنعة أو الهويات كافية ولن تقوم بالغرض، ولكن على أرض الواقع تبدو هذه الأقنعة هي كل ما نرغب فيه بالفعل، ويبدو أنها الشيء الوحيد الذي يستطيع أي شخص القيام به. على سبيل المثال، انظر لصورة هوجو، انظر لقميصه التحتي، اقرأ التعليق المكتوب عن هوجو تحت الصورة:
هوجو جونسو: ولد في الريف واكتسب جانبا من تعليمه هناك في مدن التعدين وقطع الأشجار بشمال أونتاريو بكندا. شغل عدة أعمال منها حطاب وحامل لزجاجات الجعة وموظف ببقالة وعامل أسلاك تليفونات، إضافة إلى ملاحظ للعمال على ماكينة تقطيع الخشب؛ وذلك بالطبع بجانب انخراطه في مختلف الأوساط الأكاديمية بشكل متقطع. والآن يقيم معظم الوقت بالمناطق الجبلية شمال مدينة فانكوفر مع زوجته وأولاده الستة.
يبدو أن زوجته الطالبة تورطت في رعاية كل هؤلاء الأطفال وتربيتهم. ترى ماذا حدث لماري فرانسيس؟ هل ماتت؟ هل نالت حريتها؟ هل أصابها الجنون بسبب هوجو؟ ولكن استمع للأكاذيب، استمع لأنصاف الحقائق، استمع للحماقات المكتوبة: «والآن يقيم بالمناطق الجبلية شمال مدينة فانكوفر»، كما لو كان يعيش في كوخ بالبرية، وأكاد أجزم أنه يعيش في بيت عادي لطيف ومريح شمال أو جنوب مدينة فانكوفر التي تمتد الآن إلى المناطق الجبلية. وماذا عن قولهم: «انخراطه في مختلف الأوساط الأكاديمية بشكل متقطع»؟ ما المقصد الحقيقي من هذا الكلام؟ هل يقصدون أنه قام بالتدريس في الجامعات سنوات فترة نضوجه أو معظمها، وأن التدريس بالجامعات هو الوظيفة الوحيدة ذات المرتب المجزي التي حظي بها، فلماذا لا يكتبون هذا الأمر فحسب؟ يقومون بتصوير الأمر لتظن أنه شخص يخرج من الأدغال بين الحين والآخر كي يلقي علينا بقطوف من حكمته اللامتناهية، ليرينا كيف يكون «الكاتب»، الذكر الحقيقي و«الفنان» المبدع كما يجب أن يكون؛ من واقع صياغة هذه الجمل لن تتخيل أبدا أنه يعمل «بالمجال الأكاديمي». ليس لدي علم بما إن كان عمل حطابا أو حاملا لزجاجات الجعة أو موظفا ببقالة بالفعل أم لا، ولكني أعلم يقينا أنه لم يكن عامل أسلاك تليفونات، إنما كان يعمل بدهان أعمدة التليفونات، ولكنه ترك هذه الوظيفة في منتصف أسبوعه الثاني من العمل متذرعا بأن حرارة الشمس وتسلق الأعمدة يصيبانه بالغثيان. كان ذلك بعدما تخرجنا مباشرة في شهر يونيو، وكان الجو شديد السخونة. ربما كان على حق؛ لقد كانت كل من الشمس والحرارة يصيبانه بالغثيان حقا، فخلال تلك الفترة عاد مرتين إلى المنزل وتقيأ. لقد قمت بترك عدة وظائف من قبل؛ لأني لم أحتملها؛ ففي نفس فصل الصيف ذاك تركت وظيفتي في طي الضمادات في مستشفى فيكتوريا؛ حيث كدت أجن من الملل في تلك الوظيفة. ولكن لو كنت كاتبة وأقوم بكتابة مسيرتي المهنية وكل الوظائف المتنوعة والمختلفة التي عملت بها من قبل، فلا أعتقد أنني سأقوم بكتابة «وظيفتي في طي الضمادات»؛ لا أعتقد أن الأمانة ستحتم علي هذا.
بعد تركه هذه الوظيفة، وجد هوجو وظيفة أخرى يقوم فيها بتصحيح اختبارات الصف الثاني عشر. لماذا لم يقم بكتابة هذه الوظيفة؟ مصحح اختبارات. لقد كان يحب تصحيح ورق الاختبارات أكثر من تسلق أعمدة التليفونات، وربما يحبها أكثر من الحطابة أو حمل زجاجات الجعة أو أي من تلك الوظائف الأخرى التي عمل بها، إن كان عمل بها بالفعل. لماذا لم يكتب هذه الوظيفة؟ لماذا لم يكتب أنه كان «مصحح ورق اختبارات»؟
على حد علمي، لم يكن هوجو قط ملاحظا للعمال على ماكينة تقطيع الخشب. لقد عمل مرة في مصنع عمه في فصل الصيف الذي يسبق وقت تعرفي عليه، وكل ما كان يقوم به هو أن يحمل قطع الخشب وأن يسمع السباب من ملاحظ العمال الحقيقي الذي لم يكن يحب هوجو لأن عمه هو رب العمل. وفي المساء عندما لم يكن متعبا للغاية من عمله كان يمشي مسافة نصف ميل إلى جدول صغير ليعزف بآلة الفلوت الخاصة به. كان البعوض الأسود يزعجه، ولكنه كان يقوم بالعزف عليها على أي حال. كان يمكنه عزف مقطوعة «الصباح» لبيير جنت وبعض الألحان الإليزابيثية التي لا أذكر اسمها، ما عدا مقطوعة واحدة ما زلت أتذكرها هي مقطوعة «وولسيز وايلد»، التي تعلمت كيفية عزفها على البيانو كي نتمكن من عزفها معا. ترى ما القصد من اسم هذه المقطوعة؟ هل هي للكاردينال وولسي، وما المقصود بكلمة «وايلد»؟ هل هي رقصة؟ هيا دون تلك الهواية يا هوجو، «عازف على آلة الفلوت». كان هذا سيعد أمرا جيدا ومقبولا ويتبع أحدث الصيحات؛ فحسبما أفهم ما يدور من حولنا سنجد أن عزف آلة الفلوت وتلك الأشياء الغرائبية غير مغضوب عليها في العصر الحالي، بل على النقيض من ذلك، ستجد هذه الأنشطة متعارفا عليها ومقبولة أكثر من الحطابة وحمل زجاجات الجعة. يا إلهي، انظر لنفسك يا هوجو، ألم يكفك أن صورتك مزيفة، بل صورة عفى عليها الزمن أيضا؟ كان من الأفضل لك أن تقول إنك ذهبت للتأمل مدة عام في جبال «أتر براديش» بالهند. كان من الأفضل لك أن تقول إنك كنت تقوم بتدريس الدراما الإبداعية للأطفال المصابين بالتوحد، كان من الأفضل لك أن تحلق شعرك، وأن تحلق ذقنك وأن ترتدي قلنسوة الرهبان، كان من الأفضل لك أن تصمت يا هوجو.
Halaman tidak diketahui
عندما كنت حاملا بكليا كنا نعيش في منزل في شارع أرجايلز في مدينة فانكوفر. كان المنزل مطليا بالجص الرمادي المقبض من الداخل؛ مما جعلنا نقرر في شتاء ممطر أن نقوم بطلاء المنزل بأكمله من الداخل، جميع الغرف، بألوان زاهية غير متناسقة؛ حيث طلينا ثلاثة جدران بغرفة النوم بلون أزرق فاتح ضارب إلى الرمادي، والجدار الرابع بالأحمر الأرجواني، حينها كنا نقول إنها تجربة لنرى إذا ما كانت الألوان يمكن أن تدفع أي شخص للإصابة بالجنون يوما ما. أما الحمام فقد تم طلاؤه بلون أصفر برتقالي غامق، وعندما انتهينا من طلائه علق هوجو على الحمام قائلا: «يبدو كما لو أننا بداخل قطعة جبن؛ هذا صحيح، أليس كذلك؟» ورددت عليه قائلة: «هذه جملة جيدة يا صانع الجمل.» حينها كان سعيدا ولكن ليس بنفس مقدار السعادة التي كان سيشعر بها جراء كتابة تلك الجملة بدلا من قولها. فيما بعد، في كل مرة يقوم بها بعرض الحمام على أي شخص يقول: «انظر، هل ترى هذا اللون؟ إنه يبدو كما لو أننا بداخل قطعة جبن.» أو يقول: «كما لو أننا نقضي حاجتنا بداخل قطعة جبن.» وليس الأمر أنني لم أقم بنفس الشيء، حفظ بعض الجمل وترديدها مرارا وتكرارا، فربما قلت تلك العبارة عن قضاء الحاجة بداخل قطعة جبن، حيث كانت لدينا العديد من الجمل المشتركة؛ فعلى سبيل المثال كان كلانا يطلق على مالكة البيت لقب الدبور الأخضر؛ إذ إنها في المرة الوحيدة التي رأيناها بها كانت ترتدي رداء بلون السم الأخضر الذي نراه في القصص الخرافية، وكان يزين الرداء قطع من فراء الفئران وصحبة من ورود البنفسج؛ كان الرداء يعطي إيحاء بالشر. كانت ربة البيت تتعدى السبعين من عمرها وكانت تدير بنسيونا للرجال بوسط المدينة. أما ابنتها دوتي فكنا نطلق عليها لقب الغانية المقيمة. لا أدري لماذا اخترنا لها لقب «غانية»؛ فهذه المفردة غير مستخدمة عادة. أعتقد أننا استخدمناها بسبب كونها مفردة يبدو على طريقة نطقها الرقي، طريقة نطق راقية وتدل على الانحراف في نفس الوقت، الأمر الذي يتناقض وبسخرية مع دوتي نفسها؛ فأنا وهوجو نعشق السخرية.
كانت دوتي تعيش في قبو المنزل بشقة مكونة من غرفتين، وكان عليها دفع خمسة وأربعين دولارا لأمها كإيجار شهري لتلك الشقة، وقد أخبرتني في مرة أنها تحاول تدبير المال عن طريق عملها جليسة أطفال.
حينها فسرت لي اختيارها قائلة: «أنا لا أستطيع الخروج إلى العمل، فأعصابي لا تحتمل هذا الضغط. لقد أمضيت أكثر من ستة شهور مع زوجي السابق وهو يحتضر بسبب داء في الكليتين في منزل أمي، وما زلت مدينة لها بأكثر من ثلاثمائة دولار مقابل هذه الإقامة. كانت تجبرني على أن أصنع له شراب البيض بلبن خالي الدسم. لا يوجد يوم بحياتي لم أكن مفلسة فيه. كانوا دائما يقولون إن الصحة تغلب المال، وما دمت متمتعة بصحتي فكل شيء بخير، ولكن ماذا يحدث إذا لم يكن لديك لا صحة ولا مال؟ فمنذ الثالثة من عمري وأنا مصابة بالالتهاب القصبي الرئوي، ثم أصابتني الحمى الروماتيزمية وأنا في الثانية عشرة، وفي السادسة عشرة تزوجت زوجي الأول الذي لقي حتفه في حادث قطع أشجار، هذا إضافة إلى أني أجهضت ثلاث مرات، فأصبحت رحمي متهتكة؛ مما يجعلني أستخدم ثلاث علب من الفوط الصحية شهريا. فيما بعد تزوجت من مزارع يمتلك مزرعة ألبان في الوادي، ثم حدث أن أصابت الحمى قطيعه؛ مما جعلنا معدمين، هذا هو زوجي الذي توفي جراء داء بكليتيه. لا عجب، لا عجب على الإطلاق أن أعصابي منهارة.»
لقد اختصرت الكثير من الحوار. تم هذا الحوار على طاولة دوتي حينما دعيت لاحتساء الشاي ثم الجعة فيما بعد، وكان هذا الحوار أطول من هذا بكثير وفي الواقع في منتهى الحزن والتعاسة، وبالرغم من ذلك كان يوجد حس بالفخر والانشداه في حديث دوتي. هذه هي الحياة الواقعية بعيدا عن الكتب أو المقالات أو الصفوف الدراسية أو المناقشات. لقد كانت شخصية دوتي على النقيض من شخصية والدتها؛ فقد كانت صريحة ورقيقة ولينة ومغلوبة على أمرها، هذا النوع من السيدات الحائرات اللواتي لا يحملن ما يميزهن عن غيرهن، واللواتي تجدهن على محطات الحافلات في المدينة منتظرات للحافلة بأيديهن أكياس التسوق. في الواقع، لقد وجدت دوتي في نفس هذا الوضع تماما، حيث رأيتها على محطة الحافلات في وسط المدينة، ولم أتعرف عليها في بادئ الأمر حيث كانت ترتدي معطف شتاء أزرق باهت اللون. كانت غرفة دوتي مليئة بالأثاث الثقيل، أثاث جمعته من زواجها: بيانو عمودي، وأريكة كبيرة وكراسي متخمة، وخزانة مكسوة بخشب الجوز للآنية الخزفية، إضافة إلى طاولة لغرفة الطعام، تلك التي جلسنا إليها؛ وكان يوجد بمنتصف هذه الطاولة مصباح ضخم ذو قاعدة خزفية مزخرفة، مزود بكمة حريرية مطوية ذات لون أحمر داكن، وكانت تلك الكمة موضوعة بزاوية غريبة كما لو كانت تنورة مطوقة.
وصفت هذا المصباح لهوجو قائلة: «إنه مصباح بيت البغاء.» فيما بعد أردت أن يهنئني ويحييني على دقة هذا الوصف. وقد أخبرته أنه عليه أن يولي دوتي مزيدا من الاهتمام في حال إذا أراد أن يكون كاتبا. كما أخبرته عما حدث لزوجها ولرحمها وعن مجموعتها من الملاعق التي تباع في محلات الهدايا التذكارية، وكان رده حينها أنني لدي مطلق الحرية في متابعتهم بنفسي. كان حينها يقوم بكتابة مسرحية شعرية.
بمجرد نزولي للقبو كي أضع الحطب في المدفأة وجدت دوتي تقف على الباب مرتدية روبا من الشانيل وردي اللون، وهي تودع رجلا يرتدي زيا كالذي يرتديه العاملون في محطات البنزين أو رجال تسليم البضائع. حدث هذا الأمر في منتصف وقت العصر. لم تكن طريقتها في توديع هذا الرجل تدل على أي نوع من أنواع الفحش أو العاطفة، ولم أكن لأستنتج أي شيء يتعلق بهذا المنحى، ربما كنت سأحسب هذا الرجل مجرد قريب أو نسيب لولا أنها بدأت وهي سكرى قليلا في سرد قصة طويلة حول كيف ابتلت ملابسها بسبب المطر، وكان أن اضطرت أن تترك ملابسها في منزل والدتها ولبس فستان من فساتين والدتها التي كانت ضيقة عليها للغاية مما أدى لارتدائها هذا الروب؛ ولذلك هي تقف مرتدية إياه الآن. ثم بدأت في سرد كيف أن لاري رآها وهي مرتدية تلك الملابس أثناء توصيله لبعض الملابس التي طلب منها أن تخيطها لزوجته، وكيف أنني أراها الآن بنفس الملابس، وأنها لا تدري كيف تبدو صورتها الآن أمامنا. الأمر كله كان غريبا، حيث إنني قد رأيتها عدة مرات من قبل وهي مرتدية الروب. وأثناء ضحكها وشرحها للموقف قام الرجل بتجنب الحديث وخرج من الباب دون أن ينظر إلي أو يبتسم أو يقول أي كلمة من أي نوع أو حتى لدعم قصة دوتي حول ما حدث.
حينها أخبرت هوجو: «يبدو أن لدى دوتي عشيقا.»
فرد علي قائلا: «أنت لا تخرجين من المنزل كثيرا، والآن تحاولين جعل حياتك أكثر إثارة.»
طوال الأسبوع التالي لهذه الحادثة قمت بمراقبة المنزل لمعرفة ما إذا كان هذا الرجل قد عاود الظهور مجددا. لم يظهر مرة أخرى، ولكن ظهر ثلاثة رجال آخرين؛ واحد منهم جاء مرتين، كانوا يسيرون بسرعة ورءوسهم منكسة ولم يضطروا للانتظار أمام باب القبو أيضا. حينها لم يستطع هوجو إنكار ما يحدث، وعلق على هذا الأمر قائلا إن الواقع يقتبس من الخيال، وبعد كل تلك الغانيات السمينات ذوات الدوالي اللائي قابلهن في الكتب، كان من المحتم أن يحدث ذلك. حينها بدأنا في إطلاق لقب الغانية المقيمة على دوتي، وبدأنا نتباهى بها أمام أصدقائنا، فكانوا يأتون لزيارتنا كي يقفوا خلف الستائر في محاولة اختلاس نظرة خاطفة لها وهي تدخل منزلها أو تخرج منه.
كانوا يقولون: «ليست هي تلك! أهي تلك فعلا؟ أليست مخيبة للآمال؟ ألا تمتلك أي ملابس خاصة بالمهنة؟»
Halaman tidak diketahui
فكنا نرد عليهم أنا وهوجو قائلين: «لا تكونوا ساذجين، هل تعتقدون أنهن جميعا يرتدين الترتر وأوشحة الريش؟»
ثم لزم الجميع الصمت ليستمعوا لعزفها على البيانو، وبدأت هي في الغناء أو الهمهمة إلى جانب عزفها، لم يكن صوتها ذا وتيرة ثابتة بل ذا نبرة عالية، وكان صوتها ذلك الصوت المفعم بالتحدي والسخرية الذاتية الذي يستخدمه الناس حينما يكونون بمفردهم أو يعتقدون أنهم بمفردهم. قامت دوتي بغناء مقطوعة «وردة تكساس الصفراء» ومقطوعة «لا يمكن أن تكوني حقيقية يا حبيبتي». «على الغانيات أن يتعلمن إنشاد الترانيم.» «سوف نحاول تعليمها بعض الترانيم.»
وأثناء حديثنا علقت فتاة تدعى ماري فرانسيس شريكر، قائلة: «جميعكم مختلسون للنظر، أنتم جميعكم تتصفون بالخسة.» كانت ماري فرانسيس فتاة ذات بنية عظمية كبيرة، وجهها ذو ملامح هادئة، ولديها ضفائر سوداء تنسدل على ظهرها، وكانت متزوجة من أعجوبة علم الرياضيات إليسورث شريكر الذي كان قد أصيب بانهيار عصبي. كانت ماري فرانسيس تعمل أخصائية تغذية، ودائما ما كان هوجو يقول إنه لا يستطيع النظر إليها دون أن يتبادر إلى ذهنه كلمة «سمكة العفريت»، ولكنه اعتقد أن وجودها إلى جانبه سيغذيه، مثل عصيدة الشوفان، وفيما بعد أصبحت زوجته الثانية. لطالما اعتقدت أنها الزوجة المثالية له، ولطالما اعتقد أنها ستبقى بجواره إلى الأبد تغذيه، ولكن جاءت الطالبة وأزاحتها من موضعها.
كان عزف دوتي على البيانو هو وسيلة الترفيه التي نقدمها لأصدقائنا، ولكنه كان أمرا كارثيا في الأيام التي يوجد فيها هوجو بالمنزل يحاول أن يعمل. كان من المفترض أن يعمل على بحثه، ولكنه في واقع الأمر كان يعمل على مسرحيته، وكان يعمل في غرفة نومنا على طاولة معدة للعب الورق موضوعة بجوار النافذة المواجهة للسياج. وحينما تعزف دوتي على البيانو كان يخرج للمطبخ ويقرب وجهه من وجهي ويتحدث بصوت ونبرة منخفضة توضح مدى غضبه ومحاولته للسيطرة عليه، قائلا: «انزلي إليها وأخبريها أن تتوقف عن ذلك فورا.» «فلتنزل أنت إليها.»
فيصرخ: «اللعنة، هي صديقتك أنت، أنت من تحثينها، أنت من تشجعينها.» «ولكني لم أقل لها أن تعزف على البيانو!» «لقد رتبت جدولي كي أتفرغ عصر هذا اليوم للعمل، لكن لم أتمكن من العمل قط. لقد رتبت جدولي. أنا في مرحلة حرجة. فهذه المسرحية إما أن «تحيا» وإما أن «تموت». إذا ذهبت أنا إليها أخشى أن أقوم بخنقها.» «إذن لا تنظر «إلي». لا تخنقني «أنا». أرجوك سامحني على تنفسي وكل ما أقوم به.»
ولكني عادة ما كنت أنزل إلى القبو، هذا أمر مفروغ منه، ثم أطرق الباب وأطلب من دوتي إذا كان من الممكن ألا تعزف البيانو في الوقت الحالي حيث إن زوجي بالمنزل ويحاول أن يعمل. لم يحدث قط أن قلت «يكتب»؛ فقد دربني هوجو ألا أقول هذا أبدا، وكانت تلك الكلمة كالسلك العاري في علاقتنا. وفي كل مرة كانت دوتي تعتذر؛ حيث إنها كانت تخاف من هوجو وتحترم عمله وذكاءه، وكانت تتوقف عن العزف على البيانو، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أنها قد تنسى وتبدأ في العزف مرة أخرى بعد ساعة أو نصف الساعة. كانت إمكانية حدوث هذا الأمر دائما ما تشعرني بالتوتر والبؤس؛ حيث إنني كنت حاملا وقتها وأرغب في تناول الطعام طوال الوقت، وكنت أجلس إلى طاولة الطعام أتناول الطعام بنهم وتعاسة، وكنت حينها أتناول وجبات دافئة مثل طبق الأرز الإسباني. عندئذ كان هوجو يشعر بأن العالم يقف أمام كتاباته، كان يشعر أنه ليس سكان العالم من البشر فقط هم من يعادونه بل أيضا ضوضاؤه وملهياته والفوضى اليومية جميعها متفقة ضده، يمنعونه عن قصد من عمله بشكل شيطاني خبيث. وكانت وظيفتي هي أن أحول بينه وبين العالم الواقف ضده، ولكن للأسف فشلت في أداء تلك الوظيفة، ربما كان السبب وراء هذا الفشل هو اختياري أن أكون فاشلة فيها أكثر من كوني غير كفء لأدائها. فأنا لم أكن أومن بهوجو، ولم أكن أستوعب مدى أهمية أن أومن به. لقد كنت مقتنعة بأنه شخص ذكي وموهوب، أيا كان المقصود بالذكاء والموهبة هنا، ولكني لم أكن مؤمنة بأنه سوف يصبح كاتبا، فهو لم يكن يمتلك الملكات التي يجب أن يتحلى بها الكاتب، حسبما أراه؛ إذ كان عصبيا للغاية، وسريع الغضب مع كل الناس، ومغرورا أكثر من اللازم. وكنت أرى أنه يجب على الكاتب أن يكون هادئ الطباع، وأن يكون شخصا حزينا، وأن يتمتع بالكثير من المعرفة. كنت مؤمنة أن هناك فرقا شاسعا بينهما، حيث كنت أرى أن هناك صفة واضحة ومهمة يجب أن يتحلى بها الكتاب ويفتقر إليها هوجو. لطالما اعتقدت أنه سيحين اليوم الذي سيدرك فيه هذه الأمر، ولكن في الوقت نفسه كان هوجو يعيش في عالم خاص به، عالم له امتيازات وعواقب غريبة، ولا أدرى عنها شيئا، كما لو كان شخصا مجنونا. فكان يجلس لتناول العشاء شاحب اللون ويبدو عليه الاشمئزاز، وكان ينكب على الآلة الكاتبة في جنون بغرفة النوم عندما كنت أدخل لإحضار شيء منها، وأحيانا أخرى كان يقفز في غرفة المعيشة ويسألني أن أحزر من يكون (وحيد قرن يعتقد أنه غزال، أو الرئيس ماو تسي تونج يرقص رقصة الحرب في حلم يحلم به وزير الخارجية جون فوستر دالاس)، وفجأة يبدأ في تقبيل عنقي وحنجرتي مصدرا أصوات شخص جائع يقوم بالتهام الطعام، ولكني لم أكن أدرى ما هي أسباب أو مصدر نوبات غضبه أو سعادته، ولم يكن يخبرني، ولم أكن عاملا مؤثرا في تلك النوبات. أحيانا كنت أقول له مغيظة إياه: «فلنفترض أنه بعد ولادة الطفل نشب حريق بالمنزل وكان كل من الطفل والمسرحية بداخل المنزل، فأيهما ستحاول إنقاذه؟»
فيرد قائلا: «كليهما.»
فأقول: «ولكن فلنفترض أنه يمكنك أن تنقذ واحدا فقط منهما، فأيهما ستختار؟ دع عنك الطفل، فلنفترض أنني بخطر، كلا، فلنفترض أنني أغرق «هنا» وأنت أيضا «هنا» ولا يمكنك أن تنقذنا نحن الاثنين ...»
فيرد قائلا: «أنت تصعبين هذه المسألة علي كثيرا.» «أدري ذلك، أنا أدري أنني أصعبها عليك، ألا تكرهني؟» «بالطبع أكرهك.» بعد ذلك قد نذهب إلى الفراش مثارين ونصطنع الشجار ونلعب ونصيح. لقد كانت حياتنا كلها - الجزء الناجح من حياتنا معا - عبارة عن مجموعة من الألعاب. فأحيانا كنا نختلق الأحاديث بالحافلة لنثير اندهاش الناس. وذات مرة ذهبنا إلى حانة وقام بتوبيخي على تركي للأطفال وحدهم في المنزل لكي أخرج مع رجال آخرين بينما هو يعمل في الأدغال كي يقوم بتأمين معيشتنا، ثم يتضرع إلي كي أتذكر دوري كزوجة وكأم، فأنفث أنا دخان السجائر في وجهه والناس من حولنا يبدو عليهم الجدية والرضا. وعندما نخرج من الحانة نضحك حتى لا نستطيع الوقوف، ونضطر إلى أن يمسك أحدنا بالآخر متكئين على الحائط. وكنا نلعب بالفراش أدوار السيدة تشاترلي ومستر ميلرز (أبطال رواية عشيق السيدة تشاترلي)، وكنا نقتبس حوارات من الكتاب.
فيقول لي هوجو بصوت أجش: «أين ذهب هذا النذل جون توماس؟ أنا لا أستطيع أن أجد جون توماس!»
Halaman tidak diketahui
فأرد عليه بشكل راق وأرستقراطي: «أنا في قمة الأسف، يبدو أنني قد ابتلعته.» •••
كانت هناك مضخة مياه بالقبو، وكانت تصدر طرقات عالية منتظمة. لم يكن البيت بعيدا عن نهر فراسر، وكانت أرضه منخفضة قليلا عما حولها؛ لذا كان على هذه المضخة العمل معظم الوقت، في الأجواء الممطرة، لتحول دون غرق القبو تحت الماء. شهر يناير في فانكوفر دائما ملبد بالغيوم وغزير الأمطار، كذلك شهر فبراير الذي يليه. كنت أشعر أنا وهوجو بالاكتئاب؛ مما يجعلني أنام كثيرا، على العكس من هوجو الذي لم يكن يستطيع النوم، كان يدعي أن صوت المضخة هو ما يجعله مستيقظا طوال الليل، ويمنعه من العمل طوال النهار. كانت ضوضاء المضخة تحل محل صوت عزف دوتي على البيانو، وهو ما أثار حنقه وأغاظه على نحو أكبر؛ ليس فقط بسبب صوتها المزعج، ولكن أيضا بسبب تكلفتها؛ حيث إن معظم دخلنا كان يذهب لفاتورة الكهرباء، مع أن دوتي هي المقيمة في القبو، وتعتبر هي المستفيدة الوحيدة منها؛ حيث تمنع عنها دخول الماء. قال هوجو إنه يجب علي التحدث مع دوتي بهذا الشأن، لكني أجبته بأن دوتي لا يمكنها الوفاء بنفقاتها؛ فقال إنه يمكنها أن تستقبل المزيد من الرجال، فقلت له أن يخرس. فمع تقدمي في أشهر الحمل، وإذ صرت أثقل وزنا وحركتي أبطأ، تعودت على دوتي أكثر وأكثر، وأصبحت أحبها وأحفظ كلامها عن ظهر قلب، وأردده، كنت أشعر وأنا معها بأنني في بيتي أكثر من شعوري بذلك مع هوجو أو أصدقائنا.
قال هوجو: لا بأس، علي أن أهاتف ربة المنزل. فأخبرته أن عليه فعل ذلك، فأجاب بأنه لديه الكثير ليفعله. في الحقيقة كنا نحن الاثنين نعزف عن مواجهة ربة المنزل لعلمنا مسبقا بأنها ستربكنا وتهزمنا بهزل حديثها المزعج المراوغ.
استيقظت ذات مرة في نصف الليل في منتصف أسبوع مطير متسائلة ما الذي أيقظني؟ اكتشفت أنه الهدوء. «هوجو، استيقظ، لقد تعطلت المضخة، لا أستطيع سماع صوتها.»
فأجاباني: «أنا مستيقظ.» «المطر ما زال منهمرا والمضخة لا تعمل، يبدو أنها تعطلت.» «كلا، إنها ليست معطلة ، لقد أطفأتها.»
فاعتدلت في جلستي وأضأت المصباح، لأجد هوجو مستلقيا على ظهره، وعيناه تقدحان شرارا ويحاول النظر إلي بحدة في نفس الوقت، فقلت له: «أنت لم تطفئها.» «حسنا لم أطفئها.» «أنت فعلت ذلك؟» «أنا لا أستطيع تحمل تلك التكاليف الملعونة أكثر من ذلك، لا أحتمل حتى مجرد التفكير بها، ولا أتحمل الضوضاء أيضا، أنا لم يغمض لي جفن منذ أسبوع.» «سيغرق القبو.» «سوف أشغلها في الصباح، كل ما أحتاجه بضع ساعات من الهدوء والسكينة.» «سوف يكون هذا بعد فوات الأوان، المطر ينهمر بغزارة.» «كلا، إنها لا تمطر بشدة.» «اذهب لترى من الشباك.» «إنها تمطر، لكن ليس بغزارة.»
أطفأت المصباح ورقدت بجانبه، وقلت بصوت هادئ وحازم: «هوجو، استمع لي، اذهب وشغل المضخة، دوتي ستغرق.» «في الصباح.» «يجب أن تذهب وتشغلها الآن.» «حسنا، لن أذهب.» «إن لم تذهب، فسأذهب أنا.» «كلا، لن تذهبي.» «بل سأذهب.»
لكني لم أتحرك من مكاني، فقال بحدة: «لا تهولي الأمر دون داع.» «هوجو.» «لا تصيحي.» «ستتلف المياه حاجاتها.» «هذا أفضل شيء ممكن حدوثه لها. على كل حال، لن تتلف.» استلقى بجواري، دون حراك، ولكن في ترقب، على ما أعتقد، كان ينتظر مني أن أنزل، وأحاول أن أكتشف كيف أشغل المضخة، وبعدها، ماذا سيفعل؟ هو لن يضربني؛ فأنا في شهور حملي الأخيرة، وهو لم يضربني قط، إلا إذا بدأت أنا بذلك. من الممكن أن يذهب ويطفئها مرة أخرى، وأذهب أنا لأشغلها ثانية، وهكذا، إلى متى سيستمر هذا؟ ربما يعوق طريقي، لكني إذا قاومته كثيرا فسيخاف أن يؤذيني، من الممكن أن يسبني ويغادر البيت، لكننا لا نمتلك سيارة، إنها تمطر بغزارة، ولن يستطيع الانتظار بالخارج طويلا. من الممكن أن يستشيط غضبا ويعبس، أو أن آخذ أنا البطانية وأنام على الأريكة بغرفة الجلوس بقية الليل. أعتقد أن أي امرأة ذات شخصية حازمة ستفعل ذلك، أعتقد أن أي امرأة تريد لهذا الزواج أن ينتهي ستفعل ذلك، لكنني لن أفعله، بدلا من ذلك، حدثت نفسي أنني لا أعرف كيف أشغل المضخة، وأنني خائفة من هوجو، حدثت نفسي باحتمالية أن هوجو محق؛ لا شيء سيحدث، لكني أردت أن يحدث شيء ما؛ أردت أن يتراجع هوجو عن رأيه.
عندما استيقظت كان هوجو قد رحل، وكانت المضخة تطرق كالعادة، كانت دوتي تقرع الباب المؤدي لدرجات القبو بعنف. «لن تصدقي عينيك إذا رأيت ما هنا، إني غارقة في الماء لركبتي. ما إن وضعت رجلي من السرير على الأرض حتى غرقت هكذا. ماذا حدث؟! أسمعت صوت المضخة يتوقف؟»
قلت لها: «كلا.» «لا أعرف ما الذي حدث، أعتقد أنها تعطلت، لقد تناولت زجاجتي بيرة قبل النوم ورحت في سبات عميق كأني سافرت. كنت سأشعر إن حدث مكروه، أنا دائما أنام نوما خفيفا، لكني كنت نائمة هذه الليلية كالميتة، وبمجرد أن أنزلت قدمي عن السرير ... يا إلهي! لحسن حظي أنني لم أضئ المصباح في نفس الوقت، كنت سأصعق بالكهرباء. كل شيء يطفو على الماء.»
Halaman tidak diketahui