قالت: دعيها تلتهم الفجرة الأشرار.
ثم جذبتها إليها الفتاة بعيدا عن الحان، فجلستا على الجليد، وأعين فاننكا تتأمل منظر النار وقد علا لهيبها في ظلام الليل؛ لتطمئن من تدمير الحان بمن فيها، أما أنوشكا فاندفعت تصلي طالبة لأخيها الغفران، قبل أن يتمثل أمام الملك الديان.
ولم يطل أمد الحريق؛ لأن الحانة كانت من خشب وطيب كأغلب مساكن القرويين من الروسيين، ولما انقض سقف الحانة على من فيها، وأمنت فاننكا شر نجاتهم، اطمأنت فتركت مكانها عائدة إلى قصر أبيها تتبعها وصيفتها، حيث دخلتا القصر دون أن يشعر بخروجهما ودخولهما إنسان.
الفصل السابع عشر
أصبح القوم في بطرسبرج ولا حديث لهم إلا حريق «الحانة الحمراء»، وقد استخرج من تحت الرماد أربع جثث عرفت من بينها جثة صاحب الحان، أما الجثث الثلاث الأخرى فعلم فيما بعد أنها جثث ثلاثة من خدام قصر شرميلوف؛ لأنهم خرجوا قاصدين الحانة ولم يعودوا منها، وبقي سر الحريق مكتوما، وقد تضاربت فيه الظنون، خصوصا وأن موقع الحانة كان منفصلا عن المدينة، وكانت الطريق قفرة في ليلة الحريق والزوابع عاصفة، وهكذا أمنت فاننكا شر ما فعلت لموت سرها بموت من أذاعوه، ولكن أخلف الخوف عذاب الضمير وكانت الفتاة نقية، فثقلت عليها جريمتها التي ساقتها إليها الظروف القاسية، فلم يطب لها عيش، ولم تهنأ لها حياة وصارت تتصور أمامها الحوادث التي مرت بها فتكدر عليها أيامها.
ومن مبادئ النصرانية أن الخطية تخف بالاعتراف بها للرئيس الديني المكلف بقبول الاعتراف، وأن كل خطية لم يعترف بها لا تقبل عنها التوبة إلى الأبد، وحكمة الاعتراف الإقرار بالذنب مع الندامة إذلالا للنفس وردعا لها.
ورأت فاننكا أن تعترف بخطاياها، فقصدت أحد البوبات الأتقياء (والبوب: الرئيس الديني عند الروسيين)، فقصت عليه أمرها والتمست منه المغفرة، فأطرق الكاهن برهة مندهشا لفظاعة ما أتته الفتاة، ثم رفع رأسه إليها رافضا ما طلبته من المغفرة، فكادت تصعق فاننكا لهذا الرفض؛ لأنه يحرمها من تناول القربان في الكنيسة ويقصيها عن المائدة المقدسة (وهي المائدة التي يجهز عليها القربان)، ولا يقصى عنها إلا كل من أتى خطية لم يسمع بمثلها أو جناية بقي خبرها مكتوما، فارتمت الفتاة على أقدام الكاهن تطلب منه الرحمة بها والشفقة عليها؛ لئلا يستجلب هذا الرفض تحويل الأنظار إليها وهتك سترها، فأطرق الكاهن برهة، ثم سمح لها بحضور الكنيسة مثل رفيقاتها والاقتراب من المائدة المقدسة، لكن دون أن تتناول شيئا من القربان.
وعلى ذلك ترك البوب كرسي الاعتراف، وسار قاصدا منزله مضطرب الفكر والحواس، وبقيت فاننكا في الكنيسة وقد دخل الليل فأثر عليها خلو المكان وهيبته وظلام الليل، مع ما هي فيه من الحزن واليأس، فازدادت كآبتها وقامت قاصدة القصر مثقلة بالهموم.
ودخل البوب منزله، فوجد زوجته إليصابات في انتظاره، وقد أرقدت ابنتهما أرينا في الغرفة المجاورة لغرفتهما، ولما شاهدت إليصابات انقلاب سحنة زوجها انزعجت، وسألته عما به فطيب خاطرها، وكانت المرأة ثرثارة فألحت عليه؛ لتعلم سبب اضطرابه، لا سيما وأنها علمت بالأمس أن أمها مريضة، فخشيت أن يكون بلغه عنها خبر يسوء وقعه، فأجهشت للبكاء ، وقالت: لقد ماتت أمي.
فحاول الكاهن عبثا أن يطمنها، وأقسم لها أن منشأ اضطرابه غير ما تظن، لكنها لم تقتنع واندفعت في البكاء، فاضطر أن يقول لها إن سبب ذلك الاضطراب سماعه اعترافا في الكنيسة بجريمة لم يسبق لها نظير، فصاحت به المرأة قائلة: مين وخداع، إنما أنت تحاول إخفاء الحقيقة.
Halaman tidak diketahui