وسكتت برهة، ثم قالت: اسمح لي يا أبتي بالانسحاب، فإنني خجلة مما تفوهت به.
فقبل الجنرال ابنته، وقد ظن أنها تأثرت من اعترافها بحب فيدور، وسمح لها بالذهاب ولم يفقد الأمل من لقاء فيدور رغما عن انقلاب هيئة فاننكا.
وفي اليوم نفسه توجه الجنرال، فقابل القيصر وبلغه قصة فيدور وابنته واستأذنه في الجمع بينهما لوفاة الخطيب الأول، فأذن به ثم أعلمه الجنرال خبر اختفاء فيدور، والتمس منه أن يأمر بالبحث عنه، وكان لشرميلوف معزة لدى القيصر؛ فاستحضر القيصر في الحال مدير الضابطة، وكلفه بالبحث الدقيق في جميع أرجاء المملكة عن الفتى الغائب.
وانقضت ستة أسابيع أفرغ فيها الجنرال والشرطة جهدهما ولم يقفا لفيدور على أثر.
أما فاننكا فزاد عليها الحزن واليأس من يوم تلاوة الخطاب، فاعتزلت في غرفتها مستسلمة لهمومها ، وكلما حاول الجنرال تطمين خاطرها ازدادت كآبة وانسحبت من مجلسه؛ حتى ظن أن ذكر فيدور يهيج أشجانها، فلم يكلمها بخصوصه بعد، وكان فيدور محبوبا من حاشية القصر أجمع عدا جريجوار الخائن، فلما علم الخدم أنه لم يرسل في مأمورية - كما قال سيدهم - بل اختفى بغتة، ولم يوقف له على أثر، اغتموا لهذا الخبر، وصار ذكر فيدور وغيابه موضوع حديثهم في مجالسهم يتساءلون كل يوم عن نتيجة الأبحاث عنه، ويسألون الله أن يرده لهم سالما؛ لكرم أخلاقه وحسن معاملته.
الفصل الخامس عشر
بلغ جريجوار في «حانته الحمراء» خبر اختفاء فيدور، فاندهش وزاد به العجب، لا سيما وقد ترك الفتى في غرفة مولاته ولم يغب إلا ريثما أخطر الجنرال، ثم استلفت نظره بعد ذلك أمور خال أن لها علاقة بذلك السر الغريب، منها توسع إيفان في الصرف والبذخ بما لا يعهد في عبد مثله، وسكوت إيفان التام كلما جرى ذكر فيدور حتى إذا سئل عما يعلمه أو يظنه في المسألة هز رأسه وقال: «لنتكلم في موضوع آخر»، فتضاربت ظنون جريجوار. وفي هذه الأثناء أقبل عيد الملوك وهو يوم مشهود ببطرسبرج تقام فيه الاحتفالات، وتبارك مياه النهر، فاغتنم إيفان فرصة العيد فقصد «الحانة الحمراء» وكان لدى جريجوار جمع غفير، فاستقبل إيفان بالترحيب لا سيما وقد علم القوم أنه لا يأتي عادة إلا ممتلئ الجيوب.
ودام القوم في شرب ولهو يتنقلون من حديث إلى حديث، حتى وقع الكلام على الاسترقاق، فأخذوا يغبطون جريجوار على ما ناله من الحرية والخلاص من العبودية، ويتمنى كل منهم أن يصير إلى ما صار إليه صاحب الحان، فالتفت إليهم إيفان قائلا: كم من عبد تغبطه أسياده على ما هو فيه من راحة البال، حتى ليكاد يفضل الأسر على الحرية.
فقال جريجوار، وقد لمح من وراء هذه العبارة ما أعاد إليه الظنون: وما دليلك على ما تقول؟
ثم سكب للسائق قدحا مفعما من الخمر وقدمه إليه، فقال إيفان، وقد رقصت برأسه بنت الحان: نعم، لا يكاد السيد منهم يولد حتى تأسره المدرسة، ثم إن هو شب اضطر للبحث عن وظيفة، فإن كانت في العسكرية صار مستعبدا لرئيسه، عديم التصرف في أقل حركاته، ولو بلغ مهما بلغ من الرقي، وإن كانت الملكية أصبح منغصا بمتاعب الحياة؛ فاليوم زوجة تناوئه ودهر يحاربه، وغدا أولاد لا يدري كيف يربيهم، فإن كان فقيرا قضى حياته في تعب وجهاد، وإن كان غنيا خشي شر اللصوص الذين لمثله بالمرصاد، فهل تلك حياة أيها الإخوان؟! أما العبد فلا يهتم لمعاش؛ يطعمه أسياده ويسقونه، فلو عري يكسونه، أو مرض يداوونه، وحينما يشب يزوجونه طمعا في نسله من الأولاد، وهو مع راحة باله من هموم حياته، حري بأن يكون أسعد من أسياده.
Halaman tidak diketahui