وقد كان في لهجة فاننكا ما يدل على ثبات العزيمة وقوة التصميم، حتى ذعر الفتى من كلماتها، فلم يسعه إلا أن يصرخ منكرا عليها ما تنويه، إلا أن ثباتها وقوة جنانها أعلماه صعوبة ما يحاوله من إمكان ردها إلى رشدها؛ إذ رآها صلبة المراس كالقضبان تكسر ولا تعصر، لكنه من وجهة أخرى شعر بفرح داخلي أنعش فؤاده الذابل من الأسى كما ينعش قطر الندى أزهار الصباح؛ لأنه تيقن من كلمات الفتاة أنها تحبه محبة صادقة مخلصة تحاول إخفاءها عنه وعن الناس حفظا لكرامة نفس نشأت على العظمة وربيت في مهد الكبرياء.
الفصل التاسع
مضى على ما تقدم من الحوادث بضعة أيام كان بعدها ما شهدناه في الفصل الأول من توقيع العقاب بالكنوت على جريجوار خادم وحلاق الجنرال لذنب أتاه أسخط عليه مولاته فاننكا، فاضطرت أن تشتكيه إلى أبيها، حيث كلف فيدور بمباشرة التأديب كما ذكر في الفصل المذكور.
وقد باشر فيدور مهمته، وسمع ما فاه به الخادم من كلمات الوعيد، إلا أنه لم يهتم بها، ولما حمل الخادم إلى غرفته قام إيفان بتضميد الجراح التي صنعتها يداه، فصار طبيبا بعد أن كان جلادا، ولزم جريجوار الفراش ثلاثة أيام نقه بعدها من الجراح وباشر أعماله، وقد تناسى القوم الحادثة، أما جريجوار فإنه أسرها في نفسه، ولو كان روسيا لطوى عنها كشحا لتعود أبناء الموسكوف على مثل ما أصابه، أما هو فقد عرفناه رومي الجنس، أي من قوم عرفوا بالبطش والإقدام والخديعة وحب الانتقام.
وكان جريجوار عبدا للجنرال قد عهد إليه بوظيفة الحلاقة، فقربته من مولاه وخصته بما امتاز به عن باقي الخدم من مقابلته الجنرال ومحادثته بلا حجاب ولا تكلف.
وذات يوم أراد الجنرال أن يستعد للذهاب إلى استعراض حربي، فاستدعى إليه الحلاق لتزيينه، وأثناء ذلك دار بينهما الحديث على فيدور، فغالى جريجوار في مدحه ووصف خلاله حتى تعجب الجنرال لتذكره أن فيدور كان المكلف بمباشرة عقاب الخادم، فأراد أن يسبر غور أفكاره فسأله قائلا: أراك جعلت فيدور مثالا للكمالات، فهلا تجد فيه عيبا أو نقيصة بجانب كل هذه الفضائل؟
قال الخادم: مولاي، لولا أن قليلا من الكبرياء يشمخ بأنف سيدي فيدور لكان أكمل الناس بلا مراء.
فصاح الجنرال متعجبا قائلا: الكبرياء! لعمري إن أبعد الصفات عن فيدور تلك الصفة.
فأجابه جيريجوار: عفوا يا مولاي، إنما أردت أن أقول الطمع.
فقال الجنرال: الطمع! ما عهدت فيدور إلا قنوعا متواضعا؛ فقد ارتضى بإقامته في قصري، وتحت إمرتي على أن لديه من شواهد أعماله الجليلة التي أتاها في التجريدة الأخيرة ما يؤهله إلى مركز سام في البلاط القيصري.
Halaman tidak diketahui