سمع الفاتح هذا التعريض، وأجاب عن الأول بجواب كان فصل الخطاب إذ قال: «إن محاولة حماية الدين المبين أكثر من شارعه العظيم
صلى الله عليه وسلم
يعد مروقا عن الصدد وزيغا من الحق.» وأما الثاني قد أثبت الاختبار صحته؛ لأن وجهاء الروم عقدوا اتفاقا تحت رعاية نوتارون من وزراء قسطنطين الإمبراطور، وقرروا استحثاث مسيحيي أوروبا وإثارة خواطرهم ضد العثمانيين، وكانت مقابلتهم هذه سيئة كبيرة وذلة لا تغتفر في جنب عفو السلطان عنهم وانعطافه عليهم؛ ولذلك لقوا ما جنت أيديهم وذهبوا للنطع ضحية نكرانهم الجميل.
وقد أدى سقوط إمبراطورية القسطنطينية تلك السقطة الهائلة التي رن صداها في مشارق الأرض ومغاربها، وسارت بذكرها الركبان إلى زعزعة أركان حكومة المورة التي كانت بيد أخي الإمبراطور، فحمل عليها الألبانيون، وتوسل الأهلون بالفاتح الذي كان يتوقع بنافد الصبر مثل هذه الفرصة لكي يوسع حدوده في الروملي ويضرب بعرضها، فأمدهم بطرخان بك نائبه في منع اليونانيين عن إمداد القسطنطينية إبان حصارها، وطرد هذا القائد الألبانيين من شبه جزيرة المورة، ودخلت تحت سلطان الدولة العثمانية على أن تحفظ لنفسها أميرها واستقلالها الداخلي وتدفع الجزية.
ومما يذكر للفاتح فيشكر، فتحه جهات أينوس وطاشوس وسمندرك؛ لأن أهليها الذين لم يدخلوا في كنف السلطان عاثوا في الأرض فسادا وعبثوا بجيرانهم المسلمين، مما دعا قاضي فراجك إلى رفع الشكوى عن أعمالهم البربرية، فسافر الفاتح بنفسه وقضى على هذه المغارم والمظالم ومكن عروة حدوده الطبيعية.
ومن بعد هذا كله أخذت مقدمات حرب السرب بالظهور، ولا يخفى أن هذا الجهاد الشريف كان درة في تاج أعمال الفاتح وبيت قصيد أفعاله الكبرى، وذلك أن وجه القرابة الموجودة بين آل عثمان وعائلة الملك في سربيا تخول العثمانيين الجلوس على منصات أحكامها وفقا للقواعد المألوفة إذ ذاك، وقد رأى الفاتح أنه أمن الغوائل فأوفد إلى غوركي المكنى بالتواريخ العثمانية ب «ويليق أوغلي» سفيرا بمهلة خمسة وعشرين يوما طالبا منه التنازل عن تلك البلاد، أو بالحري عن ذلك التراث المأكول.
فلم يرجع السفير في خلال الأجل المضروب، وغوركي نفسه ذهب إلى بلاد المجر يستجيرها ويستفزها، فقام الفاتح بأسرع من لمح البصر وقصد صوفية ليعرقل مساعي عدوه، وهناك علم أن المجريين قطعوا نهر الدانوب من جهة طرنوي، فترك جيشه وتوجه ومعه عشرون ألف فارس إلى سربيا.
ومن حسن الحظ أن المجريين أخذتهم صيحة السلطان، فصعقوا وانقلبوا إلى أهلهم، والسربيون رجعوا أدراجهم إلى الحصون والمعاقل، فلم يجد السلطان في كلتا طريقيه منازعا ينفث في وجهه سمه، وأخذته سورة الانفعال فبعث فريقا من جيشه على سمندرة وأوستريجا، وقضى على أسوار الأولى الخارجية وافتتح الثانية بعد حصار عنيف دام أياما قليلة، وأفلت الفرسان في عرض البيداء فأسروا خمسين ألفا، ولما بدأت طلائع موسم الشتاء عاد الفاتح إلى أدرنة وترك فيروز بك من أمرائه مع 32 ألف جندي على حصار موراويا.
علم بذلك جان هونياد القائد المجري الشهير، فتحين فرصة رجوع الفاتح وهجم على جيش فيروز بك مبادرة وفرقه أيدي سبأ، وخرب مايلي ويدين حتى إنه لم يسع الفاتح عند سماع هذا الخبر إلا السفر غير مبال باختلاف الطقس وصبارة القر، وما كاد يصل إلى صوفية إلا وسلم له ملك السرب على أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر؛ لعلمه أنه ومعاونيه المجريين لا يتمكنون من الوقوف أمام العثمانيين، فلم يبق ثم حاجة لحرب أو خصام.
ثم توفي الملك المشار إليه بعد مضي وقت قليل، فانفتح له باب ثان لطلب الميراث، وجدد الفاتح تجريدته على الشمال عن طريق أسكوب، وحاصر نواوره فما قاومت معداته التي أتمها في معامله قبلا وسلمت بعد أسبوع فقط، كما سلمت له تريجا وطاش حصار وتوجه إلى سلانيك توا. أما سبب ذهابه إلى سلانيك فهو مراقبة أعمال أسطوله وحث رجاله على الثبات في مواقف الدفاع، وعلة تمرين الأسطول هي إصلاح الحالة المختلة في الأرخبيل؛ حيث إن زعيم الشفالية القائم في رودوس تمرد على أداء الجزية قبل سفر سربيا، وبعض أهل الجزر تمنعوا عن دفع مطاليب العثمانيين وتعرضوا للسفن التي تخفق عليها رايتهم، وهاته الأحوال على بساطتها لها عند الفاتح شأن مذكور، فهو يعتبر إثارة الحرب أهون من شق عصا طاعته، ويعد مساس حق فرد من رعاياه بمثابة الاستيلاء على كل مملكته. هذا ما دعاه إلى الاهتمام بحالة الجزر وإرسال أسطول ضخم لا يقل عن مائة وخمسين سفينة.
Halaman tidak diketahui