الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكرى ﵀: الحمد لله حمدًا يقتضي رضاه، ولا ينقضي مداه، وصلى الله على محمد نبيّه الذي اصطفاه. واختاره لرسالته واجتباه. وسلم تسليمًا.
هذا كتاب شرحت فيه من النوادر التي أملّها أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي ما أغفل، وبيّنت من معاني منظومها ومنثورها ما أشكل، ووصلت من شواهدها وسائر أشعارها ما قطع، ونسبت من ذلك إلى قائليه ما أهمل، وكثيرًا ما يرد البيت المفرد، والشعر الغفل المجرّد، على ما ذكرت في صدر كتابي المؤلف، في أبيات الغريب المصنّف، وذكرت اختلاف الروايات فيما نقله أبو علي ذكر مرجّح ناقد، ونبّهت على ما وهم فيه تنبيه منصف لا متعسّف ولا معاند، محتجّ على جميع ذلك بالدليل والشاهد، والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما بنا من نعمة فمن الله.
1 / 3
ع في صدر الكتاب حرفان من الغريب أحدهما " إذا أعطى أسنع والسنيع الحسن يقال امرأة سنيعة وقد سنعت وهي الجميلة اللينة المفاصل في كمال. وقال أبو عبيد عن أبي عمرو: السنيع الحسن. والسنع أيضًا الطول يقال رجل أسنع أي طويل وشرف أسنع أي مرتفع نباه. ويروي وإذا أعطى أشبع.
والثاني قوله: " مذلت بما كنت عليه شحيحًا يقال مذل فلان بسرّه إذا قلق ومذل بماله إذا جاد، قال الأسود بن يعفر:
ولقد أروح على التجار مرجلًا ... مذلًا بمالي ليّنًا أجيادي
ويقال مذل ومذل بالفتح والكسر إذا لم يستقرّ في مكان.
قال أبو علي وهو إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سامان مولى عبد الملك بن مروان، مولده بمنازجرد من ديار بكر سنة ٢٨٨ هذا وتوفي
1 / 4
بقرطبة في جمادى الأولى سنة ٣٥٦ هـ: " قرأ أبو عمرو ما ننسخ من آية أو ننسأها إلى آخر ما ذكر في هذه الآية قال المؤلف: قرأ ابن كثير كما قرأ أبو عمرو وهي رواية مجاهد وعطاء، وقرأ الباقون من السبعة أو ننسها بضم النون وكسر السين وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وابن المسيّب والضحّاك. وهي في قراءة أبيّ ما ننسخ من آية أو ننسك بضم النون وبالكاف وفي قراءة سعيد أو ننسها بفتح النون. وكلهم قرأ ما ننسخ من آية بفتح النون من ننسخ إلا ابن عامر فإنه قرأ ما ننسخ بضم النون وكسر السين. واختلف المفسرون في معنى النسخ هنا. فقال السدّي هو قبضها وهو مثل قوله تعالى: " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " أي يذهب به كما روى حمّاد بن سلمة عن داود ابن أبي هند عن أبي حرب ابن أبي الأسود عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة كنا
1 / 5
نشبّهها في الطول ببراءة فرفعت وحفظ منها " لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، ويتوب الله على من تاب ". وكما روى أصحاب الزهري عن الزهري عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف أن رهطًا من الأنصار من أصحاب النبيّ ﵇ أخبروه أن رجلًا قام في جوف الليل يريد أن يفتتح سورة قد كان وعاها فلم يقدر منها على شيء فأتى باب النبي صلى الله عليه حين أصبح يسأله عن ذلك ثم جاء آخر وآخر حتى اجتمعوا فسأل بعضهم بعضًا ما جمعهم فأخبر بعضهم بعضًا بشأن تلك السورة ثم أذن لهم النبي ﵇ فأخبروه وسألوه عن السورة فقال: نسخت البارحة، فنسخت من صدورهم ومن كل شئ كانت فيه. وقال آخرون منهم عطاء وغيره: ما ننسخ أي ما نكتبه لمحمد من اللوح ويقوّي هذا التأويل قراءة ابن عامر ما ننسخ أي ما ننسخك يا محمد. واختلفوا في قوله تعالى أو ننسها فقال الحسن وغيره هو من النسيان الذي يذهب بقراءتها من أصلها وبعملها فهو كالنسخ في أحد القولين. وقال السدّي معنى أو ننسها أي نتركها محكمة لا نبدّل حكمها ولغيّر فرضها وهو مروي عن ابن عباس، ويقوّي هذا التأويل قراءة من قرأ أو ننسها بفتح النون ومنه قوله سبحانه " نسوا الله فنسيهم " أي تركوه فتركهم لأن الله ﷿ لا يضلّ ولا ينسى. وقد أنكر قوم أن يكون الله ﷿ ينسى نبيّه شيئًا مما أوحى إليه واحتج بقوله " ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك " فلم يشإ الله أن يذهب منه بشيء. واحتج آخرون في جواز ذلك بقوله تعالى " سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ". والآيتان محكمتان إخبار خرج مخرج العموم إلا ما خصّ منه الاستثناء في الواحدة ويقوّي هذا أن عائشة قد روت أن النبي ﷺ مرّ برجل يقرأ القرآن فقال: رحم الله هذا أذكرني آية كنت أنسيتها وأنه صلّى
1 / 6
الغداة فترك آية وفي القوم أبيّ بن كعب فقال يا رسول الله أنسخت آية كذا أم نسيتها؟ فضحك ثم قال بل نسيتها. وقول النبيّ ﷺ من سرّه النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه ع هو مثل قوله في حديث آخر رواه البخاري قال أخبرنا إبراهيم ابن المنذر أخبرني محمد بن معن حدثني أبي عن سعيد ابن أبي سعيد عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: من سرّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه. وروى سفيان عن عبد الله بن يحيى عن عبد الله ابن أبي الجعد عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ لا يزيد في العمر إلاّ البرّ، ولا يردّ القدر إلاّ الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه. ورواه القاسم بن يحيى عن سليمان بن أرقم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن ثوبان وزاد " ثم تلا رسول الله ﷺ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين ". وقال ابن الأعرابي تذاكروا صلة الرحم وأعرابيّ حاضر فقال منسأة للعمر مرضاة للربّ محبّة في الأهل. وروى ابن أبي مليكة عن أبي سعيد الأنصاري أن رسول الله ﷺ قال: البرّ والصلة وحسن الجوار عمارة للدنيا وزيادة في الأعمار. وقد ورد في بعض الحديث: أن الله يكتب لابن آدم أجلين إن وضل رحمه عمّر إلى أطول وإن لم يصل عمر إلى أقصرهما. وروى المدائني
عن بعض الصالحين أنه قال ما أشاء أن أصيب رزقًا إلاّ أصبته قال وكيف ذلك؟ قال أصل رحمي قال القتبي إن اعترض معترض على حديث النبي ﷺ بقول الله ﷿ " فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " قيل له إن أهل النظر يذهبون في زيادة العمر إلى معنيين أحدهما السعة والزيادة في الرزق واحتجوا بأنه قد قيل الفقر هو الموت الأكبر، وجاء في بعض الحديث أن الله ﷿ أعلم موسى ﵇ أنّه يميت عدوّه ثم رآه بعد يسدّ الخوص، فقال يا ربّ وعدتني أن تميته فقال قد فعلت قد أفقرته، وقالوا للمفلس ميّت الأحياء قال الشاعر: ن بعض الصالحين أنه قال ما أشاء أن أصيب رزقًا إلاّ أصبته قال وكيف ذلك؟ قال أصل رحمي قال القتبي إن اعترض معترض على حديث النبي ﷺ بقول الله ﷿ " فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " قيل له إن أهل النظر يذهبون في زيادة العمر إلى معنيين أحدهما السعة والزيادة في الرزق واحتجوا بأنه قد
1 / 7
قيل الفقر هو الموت الأكبر، وجاء في بعض الحديث أن الله ﷿ أعلم موسى ﵇ أنّه يميت عدوّه ثم رآه بعد يسدّ الخوص، فقال يا ربّ وعدتني أن تميته فقال قد فعلت قد أفقرته، وقالوا للمفلس ميّت الأحياء قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبًا ... كاسفا باله قليل الرجاء
وهذان البيتان لابن الرعلاء الغسّاني، فلما جاز أن يسمّي الفقر موتًا ويجعل نقصًا من الحياة جاز أن يسمّي الغنى حياة ويجعل زيادة في العمر. والمعنى الآخر أن الله يكتب أجل
1 / 8
العبد عنده مائة سنة ويجعل تركيبه وبنيته لتعمير ثمانين سنة فإذا وصل رحمه زاد الله في ذلك التركيب وتلك البنية ووصل ذلك النقص حتى يبلغ المائة وهي الأجل الذي لا مستأخر " عنه " ولا متقدّم. قال وهذا أعجب القولين إليّ لأن الله ﷿ قد فرغ من الرزق كما فرغ من الأجل فليس الزيادة في أحدهما بأعجب من الزيادة في الآخر. وقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: الصدقة تدفع القضاء المبرم. وقال بعض المفسرين في قول الله ﷿: " ما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب " أنه يكتب للإنسان أن يعمّر مائة سنة إن أطاع وتسعين إن عصى فأيّهما بلغ فهو في كتاب، نقل ذلك أبو جعفر ابن النحّاس. وقد قال كعب: لو دعا الله عمر لأخّر في أجله فانما يتوجّه قوله على هذا التأويل، والأكثر في تأويل الآية غير هذا وهو أن المعنى ولا ينقص من عمره بما يمضي من أجله لأن ذلك مكتوب بالساعة واليوم والشهر والسنة إلى آخر عمره. وقال بعضهم إن الهاء في عمره لمعمّر آخر. قال يحيى بن زياد: وهذا كما تقول عندي درهم ونصفه أي ونصف آخر.
وقال أبو علي قال الله ﷿: " إنما النسيء زيادة في الكفر " وأورد معناه على ما ذكر أبو بكر. قال المؤلف لم يبيّن أبو بكر في روايته مذهب العرب في النسيء على حقيقته وذكر محمد بن حبيب البصري أن أول من نسأ حذيفة بن عبد بن
1 / 9
فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم أبناؤه بعده توارثا أوّلهم قلع بن حذيفة، وآخرهم جنادة بن أميّة بن عوف بن قلع نسأ حتى جاء الإسلام وهم القلامس وكانوا يحسبون ما بين السنة الشمسية والقمرية فيكون عشرة أيام وعشرين ساعة فيجعلون النسيء بقدر ذلك فلا تختلف سنوهم. وقال الليثي: كان الذي انبرى للنسيء القلمّس وهو صفوان بن محرّث أحد بني مالك بن كنانة وكان له بذلك بملكة وأكل وتوارثه بنوه إلى الإسلام. وقال أبو جعفر الطبريّ: النسيء فعيل بمعنى مفعول أي المنسوء المؤخّر. وقال النحويون: هو مصدر كالنذير والنكير والنجيّ للمناجاة. قال الراعي:
طاوعته بعد ما طال النجيّ بنا ... وظنّ أنّي عليه غير منعاج
وهذا هو الصحيح.
وأنشد أبو علي أيضًا
ألسنا الناسئين على معد
1 / 10
ع هو لابن جذل الطعان عمير بن قيس الكناني يكنى أبا وافر شاعر جاهلي، وصلته:
لقد علمت معدّ أن قومي ... كرام الناس إنّ لهم كراما
ونحن الناسؤون على معدّ ... شهور الحلّ نجعلها حراما
وأيّ الناس فاتونا بوتر ... وأيّ الناس لم نعلك لجاما
يقول نمنعهم من الغيّ كما يمنع اللّجام الدابة من الجماح: وأنشد أبو علي أيضًا
وكنا الناسئين على معد
ع هو للكميت بن زيد بن الأخنس الأسدي يكنى أبا المستهلّ شاعر إسلامي، وصلته:
لنا حوض الحجيج وساقياه ... وموضع أرجل الركب النزول
ومطّرد الدماء وحيث يلقى ... من الشعر المضفّر والفليل
وكنا الناسئين على معدّ ... شهورهم الحرام إلى الحليل
نحرّم تارة ونحلّ أخرى ... وكان لنا الممرّ من السحيل
1 / 11
أسد: أسد كنانة فلذلك فخر الكميت بالنسيء وهو عمّ النضر بن كنانة الذي هو أبو قريش فلذلك فخر بالسقي والإطعام ومشاعر الحج. والفليلة الشعر المجتمع. والسحيل الخيط الذي يفتل فتلًا رخوًا. والممرّ المبرم الشديد الفتل قال زهير:
على كل حال من سحيل ومبرم
وأنشد أبو علي:
نسأوا الشهور بها وكانوا أهلها
قال المؤلف هو لأميّة بن الأسكر الليثي شاعر جاهلي إسلامي قال يخاطب وهب بن معتب الثقفي، وقيل إنه للشويعر ربيعة بن عبس الليثي
أغضبت أن حلّت كنانة مغزلًا ... منعت به مجد الحلال الأوّل
نسأوا الشهور بها وكانوا أهلها ... من قبلكم والعزّ لم يتحوّل
وقوله بها: يعني بمكة. وقوله مجد الحلال يعني أنهم كانوا يحلّون ويحرّمون بالنسيء.
قال أبو علي وذكر اللحن فأنشد شاهدا على لحن القول في قوله سبحانه:
" ولتعرفنهم في لحن القول ": ... ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا
قال المؤلف: هو للقتّال الكلابي واسمه عبيد الله وقيل عبيد بن مجيب بن المضرحيّ
1 / 12
من أبي بكر ابن كلاب يكنى أبا المسيّب وغلب عليه هذا اللقب لتمرّده وفتكه. وزعم أبو زيد أنه جاهلي والصحيح أنه مخضرم لأن مروان بن الحكم أمر بحدّه وذكر ذلك أبو عبيدة وصدر البيت:
هل من معاشر غيركم أدعوهمو ... فلقد سئمت دعاء يال كلاب
ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا ... ووحيت وحيا ليس بالمرتاب
وأنشد أبو علي أيضًا في ذلك الباب للبيد:
متعوّد لحن يعيد بكفّه
هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب يكنى أبا عقيل مخضرم، وصلة البيت:
درس المنا بمتالع فأبان ... فتقادمت بالحبس فالسوبان
فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زبر يرجعّها وليد يمان
متعوّد لحن يعيد بكفّه ... قاما على عسب ذبلن وبان
المنا: أراد المنازل وقد تكلّم فيه النحاة بما يغني عن الإعادة ومثله في الحذف قول علقمة:
كأن إبريقهم ظبي على شرفمفدّم بسبا الكتّان ملثوم
1 / 13
أراد بسبائب الكتان فحذف. وقال أبو زياد: المنى الحذاء يقال داري بمنى دار فلان فكأنه قال درس المحاذي لمتالع، وأنشد المفضّل شاهدا على أن المنا المنازل:
ليست مناها بأرض كان يبلغها ... بصاحب الهمّ إلا الناقة الأجد
ومتالع جبل لغنيّ وقيل متالع والحبس وأبان جبال بالبادية. والسوبان واد لبني تميم. والنعاف جمع نعف وهو ما انحدر عن سفح الجبل وارتفع عن المسيل. وصارة والقنان جبلان لبني فقعس ومن روى القنان بكسر القاف فهو جمع قنّة وهي الأكمة. والزبر الكتب وشبّه آثار الديار بكتب يعاد على كتابتها لتتبيّن وقال يمان لأن اليمن ريف وبه الكتّاب وليس بالبدو كتّاب. والعسب عسب النخل وهو سعفهًا وكانوا يكتبون فيها والذابل اليابس وفيه ندوّة. قال أبو حاتم عن الأصمعي: وكانوا يكتبون في العسب والبان والعرعر. والعسب جريد النخل الرطب فلذلك قال ذبلن.
قال أبو علي ومن اللحن الحديث الذي يروي عن النبي ﷺ إلى آخر ما ذكر فيه.
قال المؤلف هذا الحديث مسند رواه مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي ﷺ أن النبي قال: إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فيه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا فانما أقطع له قطعة من النار انتهى الحديث في رواية مالك وباقي الحديث لم يروه مالك ورواه سفيان عن
1 / 14
أسامة بن زيد بن عبد الله بن رافع عن أم سلمة قال: اختصم إلى رسول الله ﷺ رجلان في أرض قد هلك وذهب من يعلمها فقال رسول الله ﷺ إنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجّته من الآخر: وذكر الحديث إلى آخره. والتوخّي لا يكون إلا في الخير، لا يقال توخيت شرّه، وهو التحرّي أي طلب الأحرى في الخير. وقال بعض اللغويين هو من الوخى والوخى الطريق الجادّة أي اقصدا طريق الحق. وقوله ﷺ: إنما أنا بشر، هذا فيما لم يطلعه الله عليه فأما ما أعلمه الله إياه فهو فيه مباين لسائر البشر. وفيه أن الحكم لا يحلّ حرامًا ولا يحرّم حلالًا لأن حكمه على الظاهر وحقيقة الأمور الباطنة إلى الله سبحانه قال تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ". وقال النبي ﷺ إن أبغض الرجال إلى الله الخصم الألدّ. وقال: من خاصم فجر ومن فجر كفر.
وأنشد أبو علي بعد هذا:
وحديث ألذّه هو مما
قال المؤلف هذا البيت هو لمالك بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة الفزاري من شعراء الدولة الأموية يكنى أبا سعد. روى حماد عن أحمد بن داود السمني قال: ورد عليّ كتاب المتوكل وأنا على سواد الكوفة أن ابتع لي تلّ بونّي بما بلغت فأتيتها فإذا هي
1 / 15
قرية صغيرة على تلّ قد خرب ما حولها من الضياع فاتبعتها بعشرة آلاف درهم ولم أدر ما حمله على ذلك حتى بلغني أنه غنّي بشعر مالك بن أسماء فحرّكه لما كتب به. والشعر:
حبّذا ليلتي بتلّ بونّي ... إذ نسقّي شرابنا ونغنّي
من شراب كأنه دم جوف ... يترك الشيخ والفتى مرجحنا
ومررنا بنسوة عطرات ... وسماع وقرقف فنزلنا
وحديث ألذّه هو ممّا ... تشتهيه النفوس يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا
أمغطّي مني على بصري لل ... حبّ أم أنت أكمل الناس حسنا
وهذا البيت من قول الحكم الخضري خضر محارب
تقاسم ثوباها ففي الدرع رأدة ... وفي المرط لفّاوان ردفهما عبل
فوالله ما أدري أزيدت ملاحة ... وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل
قوله يوزن وزنًا أي ليس فيه إكثار. وقال عمرو بن بحر هذا الشعر لمالك بن أسماء
1 / 16
يقوله في استملاح اللحن في الكلام من بعض جواريه. وهذا من أوهام أبي عثمان المعدودة قال علي بن الحسين أخبرني يحيى بن علي المنجّم قال حدثني أبي قال قلت للجاحظ إني قرأت في فصل من كتابك المسمى كتاب البيان: أن مما يستحسن من النساء اللحن في الكلام وأنشدت بيتي مالك بن أسماء، قال هو كذلك. قلت أما سمعت بخبر هند بنت أسماء مع الحجاج حين لحنت في كلامها فعاب ذلك عليها فاحتجّت ببيتي أخيها فقال لها إنما أراد أخوك أن المرأة فطنة فهي تلحن بالكلام إلى غير المعنى في الظاهر لتورّي عنه ويفهمه من أرادت بالتعريض كما قال الله سبحانه " ولتعرفنهم في لحن القول " ولم يرد أخوك الخطأ في الكلام والخطأ لا يستحسن من أحد. فوجم الجاحظ وقال لو سقط إليّ هذا الخبر ما قلت ما تقدّم. قال فقلت له أصلحه قال الآن وقد سار الكتاب في الآفاق. وإنما أراد مالك بن أسماء معنى قول القطاميّ:
1 / 17
يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتّقين ولا مكنونه باد
فهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلّة الصادي
وهو الذي ذهب إليه أبو الطيب في قوله:
وإذا الفتى ألقى الكلام معرّضًا ... في مجلس أخذ الكلام اللّذعني
قال أبو عليّ، ومنه قول عمر بن الخطاب تعلّموا الفرائض والسنّة واللحن.
قال المؤلف: مرّ عمر بن الخطّاب بقوم يتناضلون فقال لهم انتسئوا عن البيوت فإنّ للنّضال كلامًا لا يصلح أن يسمعه النساء قال ورمى أحدهم فأخطأ فقال له عمر أخطأت. فقال يا أمير المؤمنين نحن متعلّمين، فقال والله لخطأك في كلامك أشدّ عليّ من خطأك في نضالك احفظوا القرآن وتفقهوا في الدين وتعلّموا اللحن. هكذا رواه أبو عمر في كتاب الياقوت. وقوله العرم المسنّاة بلحن اليمن. المسنّاة السكر وهو السدّ وواحد العرم عرمة. وقال أبو حاتم هو جمع لا واحد له من لفظه قال الجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سليه العرما
1 / 18
والعرم فيما ذكر مما بنت بلقيس صاحبة سليمان، وقد نسب الأعشى بنيانه إلى حمير فقال:
ففي ذاك للمؤتسى أسوة ... ومأرب عفّى عليه العرم
رخام بناه لهم حمير ... إذا جاء موّارهم لم يرم
والمسنّاة في غير هذا الموضع ماء لبني شيبان قال الأعشى:
دعا قومه حولي فجاءوا لنصره ... وناديت قومًا بالمسنّاة غيّبا
وقال أبو عمر عن ثعلب عن ابن الأعرابي: العرم: الفأرة وأنشد أبو علي بعد هذا:
وما هاج هذا الشوق إلاّ حمامة ... تغنّت على خضراء سمر قيودها
قال المؤلف ع هذا الشعر لعليّ بن عميرة الجرميّ وبعد البيتين:
جزوع جمود العين دائمة البكا ... وكيف بكا ذي مقلة وجمودها
مطوّقة لم يضرب القين فضّة ... عليها ولم يعطل من الطوق جيدها
ولم تختلف الرواية عن أبي علي في خفض سمر قيودها فهو على ظاهره نعت لخضراء التي يعني بها الشجرة. وقيودها: أصولها. وهم يصفون ما كان متمكّن الريّ من الشجر بالحوّة والسواد قال الله تعالى في صفة الجنّتين " مدهامّتان " وقال اللغويون العمور والقيود ما بين الأسنان من اللثات كالشرف وأنشدوا للحسين بن مطير:
1 / 19
لمرتجّة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها لطاف قيودها
والقيود ما حوالي منقار الطائر أيضًا قاله ابن الأعرابي. ويحتمل أن يريد موضع قيودها بمعنى ساقيها فحذف فيكون خفض سمر على الجوار في هذا التأويل. والضمير في قيودها راجع على الحمامة وإن كان المخفوض على الجواب لا يكون إلاّ متّصلًا بمخفوض ظاهر. وقوله على خضراء منصوب الظاهر. وفيه أيضًا اعتراض آخر: وذلك أنك لو قلت مررت برجال قائمين آباؤهم لم يجز إلا على لغة من قال أكلوني البراغيث لأنه قد جرى مجرى الفعل المقدّم إلا أنه أجوز وأسوغ إذا كان النعت مكسّرًا لأن المكسّر كالواحد.
وقد روى بعضهم سمر قيودها بالرفع. وقوله: تقود الهوى من مسعد ويقودها: يريد تقود هوى مسعدها ويقودها مسعدها هذا إن كان أراد بالمسعد طائرًا فإن كان أراد إنسانًا فإن الضمير الفاعل في يقودها للهوى أي يقود الحمامة الهوى الذي بها إلى البكاء وأنشد أبو علي بعد هذا
لقد تركت فؤادك مستجنًّا ... مطوّقة على فنن تغنّى
قال المؤلف: هذا الشعر لبريه بن النعمان الأشعري مولى لهم ومعناه واضح.
وأنشد أبو عليّ:
وهاتفين بشجو بعد ما سجعت ... ورق الحمام بترجيع وإرنان
1 / 20
وفسر جميع ما ورد في هذه الأشعار الثلاثة من ألحان الحمام أن المراد بها اللغات.
ع وهذا وهم من أبي علي وإنما المراد به اللحن الذي هو ضرب من الأصوات المصوغة للتغّني، والدليل على ذلك قوله: مطوّقة على فنن تغنّى: وقول الآخر:
يردّدان لحونًا ذات ألوان
" إنما أراد ذات ألوان " من الترجيع كما قال في البيت قبله بترجيع وإرنان قال أبو علي " ١ - ٨، ٦ " وأصل اللحن أن تريد الشيء فتورّي عنه بقول آخر كقول رجل من بني العنبر وذكر الخبر بطوله.
ع هذا الأعور هو ناشب بن بشامة العنبري والذي كان في أيدي بني تميم من بني بكر الذي كنى عنه بقوله ليكرموا فلانًاهو حنظلة بن الطفيل المرثدي. وزاد غير أبي علي في آخره، وليرعوا حاجتي في ابني مالك بن حنظلة، وليعصوا همّام بن بشامة فإنه مشئوم، وليطيعوا هذيل بن الأخنس. ولم يرو " واسألوا الحارث عن خبري " فأبلغهم الرسالة فقالوا جنّ الأعور ولم يفهموا حتى سألوا هذيلًا فقال هذيل للرسول أخبرني بأوّل قصصه ففعل فقال: أمّا الرمل فقد أخبركم أنه أتاكم مالًا يحصى وكذلك النجوم والنيران، ثم فسّر سائر ما لحن به على ما ذكر أبو علي. قال وابنا مالك يأمركم أن تنذروهم فركبت بنو عمرو من الدهناء وأنذروا بني مالك فقالوا ما ندري ما تقول بنو الجعراء، والجعراء لقب بني
1 / 21
العنبر بن عمرو بن تميم فصبّحت اللهازم من بني بكر بني حنظلة وعلى الجيش أبجر بن جابر فهزمت بنو حنظلة، وأسر ضرار بن القعقاع فجزّوا ناصيته وخلّوه. وهذا اليوم هو الوقيط وهذه رواية أبي عبيد " ة ".
وفسّر أبو علي " ١ - ٨، ٧ " ما يحتاج إلى تفسيره في الخبر إلى قوله يريد بقوله إن العرفج قد أدبى أي أن الرجال قد استلأموا أي لبسوا الدروع.
ع ليس في قوله إن العرفج قد أدبى دليل على ما ذكره أبو علي عن الحرب ولا من عادة العرب أن يلبسوا الدروع إلا في حال الحرب وأما في بيوتها قبل الغزو فذلك غير معروف، وإنما أراد بذلك أن يؤذنهم بوقت الغزو وينبّههم على التيقّظ والحذر. قال أبو نصر إدباء العرفج أن يتّسق نبته ويتأزّر وإذا اتّسق النبت وتأزّر أمكن الغزو. وقال أبو زياد والعرفج نبت طيب الريح أغبر إلى الخضرة له زهرة صفراء ولا شوك له، ويقال له إذا اسودّ عوده حتى يستبين فيه النبات قد أقمل، فإذا زاد قليلًا قليلًا قيل قد ارقاطّ
1 / 22