فلما انتهى (رحمه الله) في التجارة على هذه الصفة المحمودة، والسيرة المنقودة، وجمع مع علمه مالا من حله، وعاد به على إخوانه وأهله، بقصده الحسن وبركة البيت العتيق الراحض (1) للفقر والمحن، لحظته عين الرحمة من رب العباد، وأدركته عناية القرب والوداد، وقرأ كتاب الله بالتدبر والخشوع والتفكر [والخضوع](2)، فتنبه من قبل أن الاشتغال بغير هذا أجل وقد كفيناك، فتوكل بلسان حاله، أيها الإخوان فعند ذلك وجل قلبه فطرقه دمع ، ولبس سرابيل أهل الورع، وخالط أهل الخوف والعبادة، وغفل عن إخوانه أهل الشريعة والإفادة، وقلق منه الوضين، واستوحش من كل صديق أمين، ونظر بعين قلبه ولبابه [لبه](3) إلى كتاب ربه، فوجد(4) فيه البغية المقصودة والضالة المنشودة، فاقتبس من قبس نار الكليم نورا، ونظر(5) في الكتاب مسطورا:{إنك بالوادي المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى، إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري، إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى}الآية[طه:12-16] فأخذ رحمه الله تعالى عصى غنم الهوى وهرول، واتكل على الله عز وجل، وهش بها على غنم هواه، ودافع بها عداه، واتخذها سترة في قبلة الصلاة، وثعبان حفظ في النوم والانتباه، وظلا في الحرور، ودثارا في اليوم المقرور، ورزقا يقتطف به من ثمراتها، ويستخرج الماء المعين من شعباتها، فتارة هي في يده عصا، وتارة تكون حوله أربعين ذراعا، هذه مئارب إبراهيم في عصا غنم هواه، وعصا موسى الكليم آية من آيات الله تعالى، ونظر إلى قول الله تعالى لنبيه(6) (بالقول الحازم)(1)، والحتم اللازم:{فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}[الحجر: 98، 99] ونظر إلى قوله تعالى:{المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا}[الكهف:46] وفكر في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي التام، (والزجر)(2) العام:{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى}[طه:131، 132] ونظر إلى قول الله تبارك وتعالى بجامع الأمر الكامل، والقول الفاصل{واصبر} يا محمد {نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}[الكهف: 28] ذكر في تأويلها: أن كبراء(3) قريش، قالوا: يا محمد، إذا أردت نقف في مقامك، ونسمع كلامك هذا أخرت عنا هولاء الذين ريحهم ريح الضأن، يعنون أهل الصفة، فهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتألف بذلك(4) قريشا فنزل هذا الوعيد في(5) الأمر الشديد ، مثل قوله [تعالى](6) في قصة ابن أم مكتوم:{عبس وتولى، أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى (يا محمد) فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى}[عبس:1-7]. وأهل الصفة رضي الله عنهم زهاء ثلاثمائه، منهم: عمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، وصهيب، وبلال، وابن مسعود، وأبو ذر، وأبو هريرة، قيل: كان العشرة منهم يتداولون الثوب الواحد للصلاة الواحدة وما كان بين أحدهم وبين الأرض فراشا قط. وكان عندهم أن نعمة الله فيما صرف عنهم من الدنيا أعظم مما صرف اليهم منها.
Halaman 75