رفع الملك يده إلى عينيه لظنه أن الغشاء عليهما لا على ما حوله، وأن هناك غشاء ولكنه تحت الجفون فلا تصل إليه يد بشرية. ادلهم المكان فهم الملك بالخروج، فأحس أن في رجليه أصفادا من الحديد، ولا أصفاد هناك غير الخوف والذعر، فهل تسربت إليه سموم تفلاط؟ هل سرت في عروقه السموم التي قتلت في بالادان الحواس؟ إن الآلهة لأعلم بذلك، ونحن لا نعلم إلا أن نبوخذنصر هو الآن من أشد الناس غما وبلاء، وأن بالادان من السعداء المحبورين.
والدهر في الناس قلب. أجل، وقد دارت على الباغي الدوائر؛ كان في نفس نبوخذنصر من الغم والغضب أضعاف ما كان فيها ليلة كان يتمشى في البستان ساعة علم بما اقترفه بالادان.
وفي فجر اليوم التالي، بينما الطيور تسبح في الأفنان بحمد ربة النور والحياة، وبينما ربة النور والحياة ترسل على الأرض فيضا من بركاتها السماوية، كان نبوخذنصر واقفا في شرفة القصر يتأمل الأحداث المفجعة التي حدثت في الأسبوع الغابر، وكان تفلاط خارجا من بابل وهو آسف عليها وعلى مليكها، وكان بالادان قد أسلم الروح وعلى شفتيه الذابلتين الرضى والحبور.
ومما يجب علينا تسجيله من حقائق هذه القصة: أن وجه بالادان كان يزداد بهاء وجلاء بعد أن ماتت فيه الحواس الثلاث، كأن القوة في تلك الحواس تتحول ولا تموت، فتجري في البواطن مجراها، فتزيد بقوة ذاك الحس الخفي السري الذي لا يذكره علماء الفيزيولوجيا في كتبهم، والذي بواسطته نرى ما لا تراه العين المجردة، ونسمع ما لا تسمعه الأذن.
وكأن بالادان بعد أن تجرد بعض التجرد من المادة صار يرى معشوقته زبيبة رؤية البصر، ويسمع وهي في عالم الأرواح صوت حبها ووفائها؛ أوليس الحبور الذي يغير وجهه نتيجة ظاهرة لتلك الكلمات الذهبية التي كانت تقع من شفتي نفس بعيدة على أذن هذه النفس الواقفة في باب قفصها المادي وهي على وشك الخروج منه؟ ليس من ريب إذن أن بالادان مات سعيدا، وليس من ريب أنه في الأقل نجا من انتقام نبوخذنصر. إن أطباء القصر وعبيده يشهدون على ذلك، وهم يشهدون أيضا أنه مات وعلى شفتيه بسمة الرضى والحبور. أما القصد من التأكيد في تسجيل هذه الحقيقة فسيظهر فيما بعد.
نعم، قد مات بالادان، وقد خرج من هذا العالم مثلما خرج تفلاط من بابل، كلاهما آسف عليها وعلى مليكها العظيم. وقد جيء بالخبر؛ خبر خروج الاثنين إلى الملك وهو في شرفة القصر، فاقتبله ساكتا هادئ البال، وظل كل ذاك اليوم وقد خلا بنفسه مثلما كان في الصباح، فلم يأمر حتى بدفن بالادان، ولم يقابل رئيس الكهنة الذي جاء يخاطبه بشأن تفلاط، ولم يأذن لأحد من وزرائه بالمثول بين يديه. ولنا أن نقول: إذا كان بالادان قد نجا من انتقام نبوخذنصر، وتفلاط من غضبه، وزبيبة من شهواته، فالنفس في نبوخذنصر لم تنج من الغم والهواجس والأوهام.
إنك تعلم، أيها القارئ، بأن نبوخذنصر لا يزال أسير الغم والغضب، ولكنك لا تعلم بأنه أمسى كذلك فريسة للأوهام والأباطيل، فلا تظنه محزونا مضطربا لأنه نادم على طرد وزيره الأكبر من بابل، أو لأن ذاك الشاب الفلاح مات موتا سعيدا. لا، لا، فقد أمست جميع هذه الأمور عنده في خبر كان.
إنما الذي يقلق نبوخذنصر الآن ويشغل أفكاره ويعذبها هو شيء صغير يتعلق به وبالآلهة؛ أوليس هو القائل أن لا قوة فوق قوته؟ فلا ملوك الأرض ولا آلهة السماء تقوى على نبوخذنصر!
أما إذا قال هذا القول الآن، فالسموم تكذبه، ويكذبه كذلك الموت، فكيف تتدخل الآلهة في شئونه وتعترض مشيئته الملكية؟ كيف يغمضون جفن وزيره ويرجعون فوق البوتقة يديه؟ وما هي قوة الآلهة؟ وبأية طريقة يتدخلون في شئون الدنيا؟ ... هي الأفكار التي شغلت قلبه وذهنه كل ذاك اليوم فسلبته شهوة الأكل ولذة الرقاد.
وظل كذلك إلى أن أشعل الليل مصابيحه في السماء، فدخل إذ ذاك مخدعه ورمى بنفسه على السرير، ثم أمر الخدم بإطفاء الأنوار والانصراف. وما كانت الظلمة لتعين نبوخذنصر على الأرق، فظل يتقلب على فراش الهواجس حتى الهجعة الرابعة من الليل.
Halaman tidak diketahui