وكان ظهور الجريدة التي أنشأها أحمد لطفي السيد للدفاع عن هذه البديهة في سنة 1907، وقد ربت الرأي العام تربية جديدة. وحاولت أن توجد في مصر اتجاها في السياسة والاجتماع يشبه ذلك الاتجاه الذي قام به الحريون في أوروبا في القرن التاسع عشر، أي الحكم الدستوري ونشر التعليم العام وحرية الضمير وسفور المرأة، وهذا المذهب هو وسط بين المحافظين والاشتراكيين.
ولكن «الجريدة» ماتت في سنة 1915 ليس لأنها كان ينقصها القراء، ولكن لأن الأحكام العرفية جعلت بقاءها محالا، وهنا يجب أن أقول إنه من سنة 1914 إلى الآن خضعت الصحف المصرية للرقابة التي كانت تمنع نشر سطر واحد غير مصدق عليه، ست عشرة سنة كانت فيها سجينة، بل كان الذكاء المصري فيها مقيدا، وذلك في أثناء الحرب الكبرى الأولى والحرب الكبرى الثانية اللتين خيمت فيهما الأحكام العرفية على بلادنا.
وبالطبع لا يمكن أن ينتظر للصحافة تطور أو ارتقاء وهي خاضعة للرقابة قد أصلت على رأسها سيف الأحكام العرفية؛ ولذلك يجب أن تقتطع هذه السنين من عمرها كأنها لم تعش فيها، بل يجب أن تقتطع من عمرنا نحن رجال الذهن، وفي الحرب الأولى الكبرى ظهرت أولى المجلات المصورة، وهي «اللطائف» للأستاذ إسكندر مكاريوس، وربما كانت هي الأولى في اتخاذ الفن الصحفي وحده أساسا لنجاح الصحيفة؛ إذ لم تتخذ دعاية معينة بل كان كل اهتمامها محصورا في نشر الأخبار والمقالات المصورة.
وأدخل أصحاب «الهلال» آلات الروتوغرافور لأول مرة في مصر حوالي 1923، فأحدثوا بذلك نهضة بل وثبة في الطباعة أدت إلى نهضة عامة في الصحافة؛ فإن الارتقاء الفني شرع يجذب إليه جميع الصحفيين، وكان لهذا أثر كبير في توجيه الصحفي وتكوين ثقافته، فإن المقالة غابت عن أنظار القراء وأخذ مكانها الخبر الساذج أو الخبر المصور، بل إن ألوف القراء الذين جذبتهم هذه المجلات المصورة الجديدة لم يكونوا قبل ذلك من قراء الصحف، ولم تكن لهم ألفة بالمناقشات الصحفية والخصومات السياسية؛ ولذلك قنعوا من المجلة المصورة بالصور والتافه من الأخبار، وظهرت عقب ذلك صحف الطرائف التي تنشر خبر الذي يعض الكلب بدلا من الكلب الذي يعض الرجل.
وهذا عامل آخر لا نستطيع إهماله فإن الدور السينمائية التي جذبت ألوف الأفراد من الشعب، أميين وعاميين وقارئين، هذه الدور بما لها من قوة مالية بالإعلان في الصحف ومن إغراء جنسي لا يمكن التغاضي عنه، هذه الدور السينيمائية قد أثرت في الصحف تطورا وارتقاء، وقد يكون هناك من يقول عكس ذلك.
فإن الصحف شرعت تجاري الفن السينمائي بنشر الصور الرائعة للممثلات والتحدث عن التمثيل، وليس شيء يساعد على نشر المجلة مثل صورة بالروتوغرافور لإحدى الممثلات المحبوبات التي تجمع بين جمال الوجه وبراعة التمثيل.
والحق أن اعتماد الصحف على الصورة الجميلة قد جعل الكاتب العظيم في المكانة الثانوية، بل أصبح الشاب الذي يرشح نفسه للصحافة ويبغي احترامها يقنع بدراسة موجزة ولا يتعب نفسه بالعمق الثقافي؛ لأنه يعرف أن صاحب المجلة لن يطلبه ولن يكافئه بأكبر الأجر لأنه مثقف وإنما لأنه قادر على جذب القراء وبيع أكبر عدد ممكن من المجلة باختيار الصور المشرقة والأخبار المقلقلة.
وهنا أستطيع أن أذكر - للمقارنة - أن العتبة الأولى التي وضعت قدمي عليها كي أحترف الصحافة كانت مقالا فلسفيا في المقتطف عن «نيتشه وابن الإنسان» في سنة 1909، وإني واثق أن هناك عشرات من الصحفيين في المجلات الأسبوعية المصورة، بل من رؤساء التحرير لهذه المجلات، لا يدرون شيئا عن هذا الموضوع الذي كتبت عنه قبل أربعين سنة وجعلته مدخلا في الصحافة المصرية.
وليس شك في أن الارتقاء الفني في الطباعة بالروتوغرافور قد أحدث إهمالا إلى حد بعيد للتحرير، وقد تقهقرت مجلة المقتطف، وتغير الهلال من مجلة جديدة لا تبالي أن يبلغ المقال فيها خمس عشرة صفحة من القطع الكبير إلى مجلة مصورة لا يزيد المقال فيها على ثلاث أو أربع صفحات، وماتت مجلة المصري، ومن قبل ذلك ماتت المجلة الجديدة.
وكل هذا لأن هذا الاتجاه الذي ذكرت بشأن الارتقاء الفني قد جعل العناية بالتحرير الذي لا يتصل بالصورة معدوم القيمة، كما أن المقالة قد ألغيت أو أوشكت على الإلغاء من الميدان الصحفي كله، على أنه تلقاء هذا التقهقر في التحرير قد تحققت ميزات جديدة للصحافة المصرية غير ما أشرت إليه من الارتقاء الفني في الطبع، فمن ذلك مثلا العناية الكبيرة بأنباء العالم، والفضل في ذلك للحربين الأخيرتين؛ فإنهما أثارتا الاستطلاع وأصبحت أخبارهما مقدمة على الأخبار الداخلية، وثبتت من ذلك عادة جديدة عند القراء هي الاهتمام بأخبار العالم، وأصبح الاستقلال أو رقينا السياسي والاجتماعي ينظر إليهما في ضوء هذه الأخبار العالمية، ولم ينقص هذا من روح الكفاح للاستقلال، ولكن الصحيفة القديرة مثل اللواء أو المقطم أو المقطم أو المؤيد قبل سنة 1910 كانت تعد قروية محلية بالمقارنة إلى جرائدنا اليومية الكبرى هذه الأيام.
Halaman tidak diketahui