الفصل السابع
رذيلة صحفية: تملق الجماهير
يقرأ أفراد الجمهور الصحف كي يستنيروا بالأخبار ويسترشدوا بالمقالات ويستمتعوا بالصور والطرف، فالصحيفة إرشاد وتربية إمتاع.
ولكن إذا كانت الصحيفة تعمد إلى التضليل بدلا من الإرشاد فإن حقها في البقاء يسقط، ويجب أن تجد الصدود الذي يؤدي إلى سقوطها.
والصحافة في يد الكاتب الصحفي العظيم ترتفع إلى مقام الأدب، بحيث تهدف في أخبارها ومقالاتها وسائر وسائلها إلى الإنسانية، فلا تدعو إلى البغض، ولا تحرك حوافز الحرب، ولا تقول بتعصب عنصري أو ديني، ولا تغري القراء بمخاطبة غرائزهم السفلى.
ولكن هناك رذائل كثيرا ما يقع فيها الصحفي أو بالأحرى ينزلق إليها؛ فإنه - لحرصه على أن يصل إلى أكبر عدد من القراء - يميل بسليقته الصحفية إلى أن يقول ما يرضيهم ويتجنب ما يكرهون من الأخبار، بل هو قد يسرف في هذا الاتجاه حتى ليتملق الجماهير، فيطبخ الأخبار الكاذبة وينشرها كما لو كانت حقائق، وهنا الضرر العظيم.
وبكلمة أخرى نقول إن هذا الصحفي، بدلا من أن يربي الجماهير، ويرتفع بهم، ويصلح نفوسهم ويرشدهم، بدلا من هذا يعمد إلى تملقهم ويكذب عليهم ويضللهم.
وقد رأينا كثيرا من هذا التضليل في الصحف المصرية في السنوات القليلة الماضية، فإني ما زلت أذكر تلك الأضاليل التي كانت تنشر على القراء في صحف يومية كبيرة بشأن الحرب بين إيطاليا وإثيوبيا قبل الحرب الكبرى الثانية؛ فإن بعض الصحفيين أحسوا بأن جمهورنا يستنكر العدوان الإيطالي - أيام موسوليني - على هذه الدولة الصغيرة، وكان بالطبع يحزن لكل خبر يصدم إحساسه وحبه لإثيوبيا؛ وعندئذ شرعت بعض الصحف تغذو هذا الإحساس بأكاذيب مخترعة تقول فيها إن الإثيوبيين قد هزموا الإيطاليين، وإن عدد القتلى من الإيطاليين يعد بالمئات والألوف بينما عدد القتلى من الإثيوبيين لا يزيد على الآحاد والعشرات ، وكان القراء المساكين يصدقون هذا القول وينخدعون.
وبالطبع كان هناك من القراء من يعرف أن دولة عصرية، بل فاشية حربية، مثل إيطاليا لها من الطائرات والدبابات ووسائل النقل والقنابل والجنود المنظمين، لا يمكن أن تنهزم أمام دولة بدائية لا تزال تفهم الشجاعة والانتصار على أنهما يقتضيان المهارة في الفروسية، كما كانت الحال في إثيوبيا حوالي 1936، حتى ولو كانت إثيوبيا على حق وإيطاليا على باطل، ثم جاءت النهاية المحزنة بالهزيمة المنكرة التي أدهشت القراء الواهمين المخدوعين، وكان يجب على هذه الصحف التي تملقت الجماهير وخادعتها أن تصرح بالحقائق، وأن تنذر وتحذر وتوضح العبرة لنا من الهجوم الإيطالي على إثيوبيا، وأعظم العبر لنا في مصر من هذه الحرب أن الشجاعة والوطنية والفروسية والتضحية ليست لها قيمة كبيرة في الحروب العصرية، إزاء الاستعداد بالطائرات والدبابات والمدافع والأساطيل وإيجاد المصانع التي تصنع هذه الأسلحة والأعتدة، بحيث لا تحتاج الدولة المحاربة إلى أن «تتسول» وتتضرع في أسواق العالم كي تشتري ما تحتاج إليه منها، وقد تتعرض للرفض.
وحدث بعد ذلك شيء قريب من هذا، ولكنه كان أكبر خطورة علينا، ذلك أننا في عام 1948، عندما دفعنا فاروق المجرم إلى حرب فلسطين بلا أدنى استعداد، ودون أن يستشير حتى وزراء الدولة وقتئذ، ولا نذكر البرلمان، وعندما انهزمنا في هذه الحرب، بقيت الصحف توهم الجمهور أننا منتصرون، واتفقت على أن تصف إسرائيل بأنها الدولة «المزعومة»؛ أي إنها بدلا من أن تصارح الجمهور بالحقائق، وأن توضح لنا أننا انهزمنا لأننا كنا غير مستعدين للحرب، وأن فاروق وطغمته الفاسقة كانت تتجر بالأسلحة الفاسدة وتسلمها لأبنائنا فيقتلون، أصرت على أن توهم الجمهور بأننا انتصرنا.
Halaman tidak diketahui