حتى لا يخلصون بأعمالهم إلى جنة ولا نار، فلا هم من أهل هذه وحدها، ولا أهل تلك على حدة، فاختلط نفس الجنة بزفير النار، وامتزجا حرا يستوقد الضلوع ببرد تثلج عليه الصدور، واجتمعا نعيما ببؤس، وراحة بتعب، وسرورا بهم، ثم وقعا في القلوب معا، فإذا هما الحب!
كذلك توحي إلي روح الشيخ.
أنت يا هذا إن أحببت امرأة فهي كما تثير كل ما فيك من الكمال تنبه كل ما فيك من النقص، بيد أنها تجعل هذا النقص علويا، وهو أفسد له، كالزوبعة إذ ترتفع من الأرض خلقا ماردا من الغبار ملتفا بالنور، ذاهبا إلى السماء، فيكون ارتفاع الغبار شرا طائرا لم يكن في الغبار الساكن ... أفتحسب أن حبك إياها هو الحب؟ كلا بل هو بادئ الأمر حبك أن تعجب بك، ثم بزيد فإذا هو الحب أن تميل إليك، ثم يبلغ فإذا هو حبك أن تخضع لك؛ هذه ثلاث كلهن مفسدة، فإن هي أدت في رجل واحد من الإنسان إلى فضيلة واحدة أدت إلى ألف رذيلة في ألف رجل من هذا الحيوان.
13
كل شيء يمكنك أن تضع ضميرك في أوله فتمضي فيه على بصيرة، إلا هذا الحب؛ فإن ضميرك لا يأتي موضعه فيه إلا آخرا، فإذا أنت أردت أن يحكم قلبك على من تحبها، وأن تأخذ عليها حكم قلبها،
14
فإنما تريد بنفسك الألم لا الحب، تريد أن تستوحي الدموع، وتخرج منها كلاما يبكي، تريد أن تزدرع شجرة الجنون التي ينبت فيها زهر الشعر ... وهذا لا يسمى حبا لحبيبة، ولا يؤمن إلا على كبار الحكماء، كما لا يؤمن فحص الآلة المهلكة ... إلا على كبار العلماء والمخترعين!
أنت يا هذا إن أحببت خاضع لقلبك، ولكنك أنت وقلبك سائران في طريق قلبها ... يقول كل محب في حبيبته: لا هي إلا هي ، أفلا يدل ذلك على ضلال الحب، وإفساده ملكة التمييز، وأنه شيء من الخبل يعتري فكرة بعينها في العقل، ويخرجها إلى الهوج والبله؟ وإذا ساغ لكل محب أن يقول في صاحبته: لا هي إلا هي؛ فمعنى ذلك أن (الهيات) ... كلهن عبث وباطل، وتكون الحقيقة الطبيعية التي يصرح عنها هذا القياس، أن كل (هي) مثل كل (هي) في الواقع، ولا انفراد لها إلا في عقل مجنون لا مساك له من المنطق، ولا عبرة به في القياس.
من أعجب الأمور أن الصفات التي يعد بها الإنسان إنسانا تخضع كلها أحيانا لصفة واحدة من تلك الصفات التي يعد بها الإنسان حيوانا، فإن خدعك بائع مثلا في دراهم معدودات، لا تمض الأمر على أنه خدعك، بل تعرف أنه غشك، ثم لا ترى أنه غشك، بل ازدراك، ثم لا تقول إنه ازدراك، بل تهزأ بك، وهذه حركة للنفس في اندفاعها إذا تركت تندفع، وتركت المعاني الغضبية تخوض في دمها.
ومن ثم فلا يكون البائع في رأي نفسك قد سلبك بعض الدراهم، بل شيئا من القوة التي بها حولك وحيلتك، ومن الذكاء الذي تعامل الناس عليه، وسلبك بعض الشأن الذي يجعلك رجلا ذا بصر ومعرفة، وعلى قدر ما يتحرك من ذلك في نفسك يتحرك من الغيظ والحقد إن كنت رجلا داهية ذكيا، وبخاصة إذا رأيت البائع لا يبالي أن تعرف أنه تغفلك، بل يجعل من همه أن تعرف ذلك؛ فلا تعود الدراهم أشياء كما هي في نفسها من ضعف الخطر والقيمة، بل كما هي في نفسك مما وضع أمرها عليه؛ فلا تنحط قيمتها إلا بانحطاط قيمة النفس، وتلتحق بمعاني القهر والغلبة، وما كانت إلا من بعض معاني الربح والخسارة.
Halaman tidak diketahui