Siddiqa Bint Siddiq
الصديقة بنت الصديق
Genre-genre
المرأة العربية
المرأة المسلمة
المرأة الخالدة
عائشة
زوج النبي
حديث الإفك
بعد النبي
في السياسة العامة
حقوق المرأة
المرأة العربية
Halaman tidak diketahui
المرأة المسلمة
المرأة الخالدة
عائشة
زوج النبي
حديث الإفك
بعد النبي
في السياسة العامة
حقوق المرأة
الصديقة بنت الصديق
الصديقة بنت الصديق
Halaman tidak diketahui
تأليف
عباس محمود العقاد
المرأة العربية
كانت نظرة العرب إلى المرأة نظرة طبيعية مرتجلة.
ونعني بالنظرة الطبيعية المرتجلة أنها النظرة التي لا يشوبها إحساس دخيل من وهم العقائد أو حكم التشريع، ولكنها تمضي على الفطرة التي توحيها ضرورة الساعة أو ضرورة البيئة، وتختلف على حسب اختلاف هذه الضرورات.
فالعرب لم يضربوا اللعنة قط على المرأة في جاهليتهم الأولى؛ لأن اللعنة التي ضربت على المرأة في القرون الأولى وامتدت إلى القرون الوسطى، إنما جاءت من الإيمان بالخطيئة التي انحدرت بآدم وحواء من نعيم الفردوس، وأصبحت المرأة ملعونة موصومة بالنجاسة والشر عند بعض الناس؛ لأنهم ألقوا عليها تبعة الشهوات التي تثيرها فيهم، وجعلوها حبالة للشيطان مذ كانوا يحسون بغوايته الخفية كلما أحسوا بغواية الشهوة الحيوانية، ومناطها المرأة قبل غيرها من هذه الأحياء.
فالعرب لم ينظروا قط إلى المرأة هذه النظرة، ولم يحكموا عليها قط بالنجاسة والأصالة في الشر والخباثة؛ لأنهم لم يعرفوا الخطيئة بهذا المعنى في عهد الجاهلية.
كذلك لم يعرفوا التشريع الموضوع الذي يحكم عليها بالاستعباد والخطة المتفق عليها في المنزلة الاجتماعية، وإنما عرف هذا وأشباهه عند الرومان قبل الإيمان بالخطيئة، وقبل الإيمان بالدين؛ لأنهم كانوا أصحاب ملك عريض لا غنى لهم فيه عن ترتيب الحقوق والمعاملات بين أبناء المجتمع وبناته كافة، فلما رتبوا هذه الحقوق نظروا إلى المرأة في زمانهم نظرتهم إلى كل ضعيف تابع لغيره، ولم يلاحظوا في ذلك عنتا خاصا بها ولا ضغينة «جنسية» موجهة إليها دون غيرها؛ لأنهم نظروا هذه النظرة بعينها إلى أبنائهم الصغار وإلى القاصرين منهم على الإجمال، فعاملوهم معاملة الضعفاء، وأعطوهم من الحقوق ما يعطاه الضعفاء، وهم مع ذلك في عزة الأقارب والأبناء.
هذه النظرة أيضا لم يعرفها العرب في جاهليتهم الأولى ؛ لأنهم لم يضطروا إلى وضع تشريع كامل لدولة كاملة، ولكنهم تركوا أنفسهم على سجيتها كما تختلف بها عاداتها ومأثوراتها، وارتجلوا معاملة المرأة ارتجالا كما تدعوهم إلى ذلك ضرورة البيئة أو ضرورة اللمحة الحاضرة؛ فربما عاملوها معاملة الرقيق المستضعف في بعض الأحيان، وربما نسبوا إليها الأبناء دون الآباء من الرجال في أحيان أخرى.
والمرجع في كل أولئك إلى أحوال المعيشة العامة في الجزيرة العربية، وخلاصتها السريعة أنها أحوال نزاع شديد على المرعى وموارد الماء لقلة المرعى وكثرة طلاب هذا وذاك.
Halaman tidak diketahui
وهذا النزاع الشديد يجعل القدرة على «حماية الذمار» مقدمة على كل قدرة؛ لأنها مسألة تتعلق بها الحياة والفناء.
وهو كذلك خليق أن يجعل المرأة في بعض الأحوال كلا ثقيلا على عواتق ذويها؛ لأنها تستنفد القوت ولا تشترك في حمايته والذود عنه.
وهذا الذي يفسر لنا كثيرا من النقائض العجيبة في الآداب العربية؛ لأنها - عند الرجوع بها إلى أسبابها - لا تحسب من النقائض، ولا تزال متشابهة متقاربة في الأصول.
فمن ذلك مثلا أن الحرب نشبت بين بني بكر وبني تغلب أربعين سنة لأن البسوس ابنة منقذ أضافت رجلا فضرب كليب ناقة ذلك الرجل وهو في ضيافة البسوس، فأقسم ابن أختها جساس لها «ليقتلن غدا جمل هو أعظم عقرا من ناقة جارك»، وقتل كليبا سيد بني تغلب في ثأر تلك الناقة، أو من أجل كرامة امرأة في ناقة جارها.
وإلى جانب ذلك يعلم القارئ أن قبائل من العرب كانت تدفن بناتها في طفولتها فرارا من عارها أو إشفاقا من نفقتها.
ويلوح أنهما نقيضان لا يلتقيان. والواقع أنهما غير نقيضين، وأن البيئة التي تدعو إلى إحدى الخصلتين حقيقة أن تدعو إلى الأخرى.
فإن آداب الحماية تجعل المرأة أحق شيء بأن يحمى، وأن يغار عليه الحماة؛ لأنها أمس بالرجل من أرض المرعى ومن ماء البئر ومن الجمل والناقة، فمن فرط فيها فما هو بقادر على حماية شيء من هذه الأشياء. ومن هنا فرط الغيرة على العرض وإيثار الموت للبنت على العار.
وإذا رجعنا إلى الأصل في «آداب الحماية» وهو النزاع الشديد الذي أوجبه شح الأرض بالري والطعام، فالحاجة إلى القوت خليقة أن تغري بالقسوة المهينة، وأن توسوس للمعوزين في سنوات الضيق بالتخلص ممن يستنفد القوت ولا يعين على تحصيله أو الذود عن موارده، ونعني بهن البنات الزائدات عن حاجة القبيلة في تلك السنوات.
وربما ظن بعضهم أن الوأد كله من مخافة العار كما قال البحتري وهو يعزي بني حميد ذلك العزاء العجيب عن فقد فتاة:
أتبكي من لا ينازل بالسي
Halaman tidak diketahui
ف مشيحا ولا يهز اللواء
ويختم عزاءه بقوله:
ولعمري ما العجز عندي إلا
أن تبيت الرجال تبكي النساء
فقد قال في تلك القصيدة:
لم يئد كثرهن قيس تميم
عيلة، بل حمية وإباء
يشير إلى قيس بن عاصم سيد بني تميم الذي أقسم ليئدن كل بنت ولدت له؛ لأن ابنته اختارت صاحبها الذي سباها على العودة إلى أهلها، فكلام البحتري إن صدق فإنما يصدق على قيس وأمثاله، ولكنه لا ينفي أن العرب وجد فيهم من يئد البنات عيلة - أي إشفاقا من النفقة - كما وجد فيهم من يئد البنات أنفة من العار، وآية ذلك أن صعصعة بن ناجية كان يشتري البنات من آبائهن ليستحييهن، فيقبلون ذلك ويبيعونهن راضين عن بيعهن، حتى قيل إنه افتدى ثمانين ومائتي وليدة بالشراء، ولو كان آباؤهن يئدونهن خشية العار وحده لما أغنى عنهم إقصاؤهن وهن في قيد الحياة، ولحق بهم في بيعهن عار لا يقبله من يأنف من العار، والقرآن الكريم يقول:
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق .
ونخرج من هذا جميعه بأن هذه النقائض الظاهرة مصدرها واحد، وهو النزاع على الرزق وما أوجبه من تقديس فضائل الحماية والدفاع عن الحرمات. فهذا المصدر يفسر لنا وأد البنات خشية الإملاق كما يفسر لنا وأدهن خشية العار، ويفسر لنا احتقار البكاء على المرأة كما يفسر لنا إعزاز جارها حتى لتنشب الحرب أربعين سنة غضبا من إصابة ناقة في جوار خالة رئيس، ويرجع كله إلى نظرة طبيعية تجري مع الحوادث في مجراها، فلا يشوبها وهم من عقيدة دينية، ولا يخالطها قيد من أحكام التشريع. •••
Halaman tidak diketahui
ومن لوازم هذا النزاع الشديد في مظهر آخر من مظاهر البادية العربية أنه جعل المرأة عاملة نافعة في حياة الأسرة وحياة القبيلة؛ لأن المعيشة الضنك التي كان يعيشها البدوي في صحرائه المجدبة تأبى عليه الترف والبذخ، ولا تتسع لإسراف المدني الذي ينفق على المرأة ولا أرب له عندها غير المتعة والمسرة، ولا عمل لها عنده غير الراحة والزينة. فكانت المرأة العربية - في البادية خاصة - تعمل كل ما تستطيع أن تعمله لخدمة أسرتها وقبيلتها، وتعلم كل ما تستطيع أن تعلمه لإتقان عملها وتجويد خدمتها؛ فكانت ترعى الإبل والشاء، وتمخض اللبن، وتغزل الصوف، وتصنع الخيام، وتضمد الجراح، وتطب لنفسها في شئون الحمل والولادة، وتحذق من هذه الشئون ما تجهله المرأة الحضرية في كثير من أمم العصر الحديث، وتعينها على ذلك حاجتها إلى تطبيب نفسها وقيامها على رعي الأحياء التي تلازمها في غدوها ورواحها وفي صحتها ومرضها وفي حملها وولادتها وفي اختيار الأصلح والأجدى لنسلها ونتاجها.
وقد رويت عن نساء العرب صفات أخرى للحمل والرضاعة تشبه هذه الصفة في جملة معناها، وهي صفات لا يشترط أن تطابق العلم الحديث في جميع تحليلاته وتفصيلاته، بل حسبها على سذاجتها أن تدل على طب معروف في علاج الحمل والولادة والرضاع، وأن الأمر في هذه الشئون لم يكن عند المرأة العربية هملا متروكا للمصادفات، كما يشاهد ذلك في بيئة الكثير من الحضريات المعاصرات. •••
إلا أن الشظف الذي كان يعم الجزيرة العربية ويذكي فيها ذلك النزاع الشديد على الرزق لم يكن خلوا من الجوانب التي يرق فيها ويلطف وتسري منها الرقة واللطف إلى العلاقة بين الرجال والنساء؛ فتنعم المرأة بالرفق الذي يرفع من مكانتها، ويهذب من معاملتها في سائر البيئات الإنسانية لا في الجزيرة العربية وحدها.
وأهم هذه الجوانب جانب النشأة في بيئة الحضارة، وجانب النشأة في بيئة السيادة.
فالحضارة تصقل الطباع، وتهذب حواشي النفوس، وتغني القبائل عن القتال وعن ثورة الغضب للذمار المهدد بالليل والنهار، وأول ما يظهر هذا الصقل والتهذيب في العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأنها العلاقة التي تمتحن بها الكياسة وآداب الخطاب.
والسيادة تعلم السادة أن يعنوا بمكان بناتهم من العزة والرخاء، فلا يسلمونهن لمن ينزل بهن عن منزلة العقائل المبجلات اللواتي يغنين في بيوتهن عن الخدمة المسفة والعيش الذليل.
ولهذا كان سادة العرب يختارون الأزواج لبناتهم، ثم لا يكتفون باختيارهم حتى يشركوهن في الرأي ويدخلوهن في المشورة، ومن أنباء ذلك التي استفاضت في الأدب العربي أن الحارث بن عوف المري قدم على أوس بن حارثة الطائي خاطبا، فدخل أوس على زوجته ودعا ببنته الكبرى، فقال لها: يا بنية! هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب قد جاءني طالبا خاطبا، وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض العهدة، ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي وعليك من ذلك ما فيه.
فصرفها ودعا بابنته الوسطى، وعرض عليها ما عرضه على الكبرى، فقالت: إني خرقاء، وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني!
فلما دعا بأختهما الصغرى قالت: «... ولكنني والله الجميلة وجها، الصناع يدا، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير!»
وهذه الفتاة الصغرى - واسمها بهيسة - هي التي تزوجها الحارث وزفت إليه، فأنكرت منه أنه يدخل عليها في ثياب العرس والحرب قائمة بين عبس وذبيان فلا يشغله عن الطيب والزفاف أن يصلح بينهما ... فأكبر منها زوجها هذه الحكمة، وسعى في الصلح بين الحيين حتى استجيب إليه.
Halaman tidak diketahui
وممن جاءت الأنباء على اختلاف الروايات باستشارتهن في الزواج: هند بنت عقبة أم معاوية بن أبي سفيان، وقد خطبها سيدان من قومها، فاستخبرت أباها عنهما، فقال يصفهما: «أما أحدهما ففي ثروة وسعة من العيش، إن تابعته تابعك، وإن ملت عنه حط إليك، تحكمين عليه في أهله وماله. وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه في الحسب الحسيب والرأي الأريب، مدره أرومته وعز عشيرته، شديد الغيرة لا ينام على ضعة ولا يرفع عصاه عن أهله.»
فقالت: «يا أبت! الأول سيد مضياع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جناحه، إذا تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت؟ ساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فمن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عني ولا تسمه علي بعد! وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العقلية، وإني لأخلاق مثل هذا لموافقة، فزوجنيه.»
ويلوح من تكرار هذه الأنباء أن استشارة البنات في أمر زواجهن كان سنة من السنن المرعية بين سادات العرب، لا يشذ عنها إلا القليل. •••
ومن البديه أن هذه العادات والآداب التي تنشأ من بيئة الوطن ومناخه تعم الأمة برمتها، ولا يقع فيها التفاوت إلا ما لا بد منه بين فرد وفرد، أو بين طبقة وطبقة، على المثال الذي قدمناه.
بيد أنك قد ترى في الأمة طائفة من عليتها أو بيتا من بيوتها يخيل إليك أنهم خصوا من دونها بصفوة هذه الآداب ونقاوة هذه العادات.
أو يخيل إليك أن آداب الأمة كلها إنما كانت تحضيرا مقصودا لهذه الطائفة أو لهذا البيت، يأخذون منه بالخلاصة المصفاة واللباب المختار.
فإذا صح هذا الوصف في قبيلة من قبائل العرب فهو أصح ما يكون في قبيلة بني تيم، ثم في بيت أبي بكر الصديق الذي كان في موضع الذؤابة من هذه القبيلة.
فقد اجتمعت لبني تيم خلاصة الآداب التي نجمت من فرائض الحماية والذود عن الذمار، ثم تناولتها بالصقل والتهذيب بيئة السيادة وبيئة الحضارة.
وكان بيت الصديق على التخصيص مثلا في هذه الآداب جميعها يحتذى به بين الحواضر العربية.
لأن سيادة هذا البيت لم تكن سيادة طغيان وقتال، ولكنها كانت سيادة شرف وأمانة، وكانت حصته في الجاهلية من مقاوم الشرف حصة الوفاء بالمغارم وضمان الديون، وعمله الأكبر في الجاهلية يدور على التجارة ومعاملة الناس، ولا يدور على البأس والإكراه.
Halaman tidak diketahui
فنشأ البيت كله على الرفق والدماثة ورقة الحاشية ، واشتهر بتدليل نسائه وبناته حتى قيل - كما جاء في الأغاني - إنهن كن أحظى خلق الله عند أزواجهن، وكانت عند الحسين بن علي - رضوان الله عليهما - أم إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: «والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني.»
وندر من أبناء الصديق - رضي الله عنه - من لم يكن له مع امرأته شأن يذكر في باب المحبة بين الأزواج.
فعبد الله أكبر أولاده بنى بعاتكة بنت زيد العدوية فهام بها وشغل عن خاصة أمره وعامته، حتى نصح له أبوه بطلاقها فطلقها وهو كاره، ثم أدركه الندم فنظم فيها القصائد، ومنها:
أعاتك لا أنساك ما ذر شارق
وما لاح نجم في السماء محلق
أعاتك قلبي كل يوم وليلة
لديك بما تخفي النفوس معلق
ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء تطلق
وأخوه عبد الرحمن نفله عمر بن الخطاب ليلى بنة الجودي من حسان غسان الموصوفات بالقسامة والجمال فلازمها، ولم يفارقها فترة إلا نظم الشعر في الحنين إليها، ومن قوله فيها:
Halaman tidak diketahui
تذكرت ليلى والسماوة بيننا
فما لابنة الجودي ليلى وما ليا
وأنى نلاقيها! بلى، ولعلها
إذا الناس حجوا قابلا أن توافيا
وأفرط في التعلق بها حتى لامته شقيقته السيدة عائشة - رضي الله عنها - وما زالت به حتى جفاها، فعادت تلومه في جفائها، وتقول له: «أفرطت في الأمرين، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها» فجهزها إلى أهلها.
ومن ذرية الصديق «ابن أبي عتيق» صاحب عمر بن أبي ربيعة شاعر الغزل المشهور، وكان يسمع بالجفاء بينه وبين الثريا، فيركب من مدينة إلى مدينة ليصلح بينهما، ولا يترجل عن مطيته حتى يتم الصلح على ما يرومه.
وهو مع هذا كان يتحرج من نزوات عمر ويسأله: ألم تخبرني أنك ما أتيت حراما قط؟ فيقول: بلى! فيستخبره عن قوله:
وما نلت منها محرما غير أننا
كلانا من الثوب المورد لابس
ثم لا يتركه حتى يجيبه بما يدفع شكه، ويرده إلى حسن ظنه. •••
Halaman tidak diketahui
فآداب الرجال والنساء في بني تيم كانت مثالا للرعاية التي تظفر بها المرأة العربية في بيئة السيادة وبيئة الحضارة.
ولكنها لم تزل عربية في قرارها، ولم تنقطع عن آداب الأمة التي جعلت عرضها أحق شيء بالحماية، وأقمن حصن أن تمنعه وتغار عليه.
فكان أبو بكر نفسه مثلا من أمثلة الغيرة بين أهله وقومه، وقد قال ابن سيرين: كان أغير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن نفرا من بني هاشم دخلوا على زوجته أسماء بنت عميس، فكره دخولهم عليها، وشكاهم إلى النبي - عليه السلام - فقام على المنبر فقال: لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا أن يكون معه رجل أو اثنان.
ولما شبب عمر بن أبي ربيعة بعائشة بنت طلحة التيمية تجمع فتيان تيم فأنذروه لئن تعرض لها بعد ذلك ليقتلنه شر قتلة، فأقسم لا عاد.
وعائشة هي التي كانت تعاتب في كشف وجهها فتقول: «إن الله وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.»
فهو دلال لا ينسى الصيانة، ورفق لا ينسى الغيرة، وآداب سيادة وحضارة لا تنسى الأصول المعروفة في آداب البداوة.
وفي هذه البيئة التي تحوطها الحمية والرعاية نشأت ربة هذه الدراسة وموضوع هذا الكتاب: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها.
ولكنها تفردت برعاية لم تشركها فيها ولائد هذه البيئة؛ فقد تربت على النعمة والخير، وتدربت على العزة والكرامة، وتعلمت القراءة التي لم يكن يتعلمها من نجباء الأبناء في بيوت السادة إلا القلة المعدودة.
فصح أن يقال إن الرعاية التي ظفرت بها ربة هذه الدراسة كانت هي خلاصة الكرامة التي هيأتها لبناتها حمية البداوة، وصقلتها مع الزمن شمائل الحضر ومآثر الشرف والسيادة.
المرأة المسلمة
Halaman tidak diketahui
جاء الإسلام فبدأ من النهاية التي انتهت إليها آداب الحضارة والسيادة، وهي خلاصة العرف الذي تعارف عليه سادة الحضر في معاملة المرأة العربية.
إلا أنه جعل هذا العرف حقا مكتوبا على الرجال لكل امرأة من كل طبقة ، ولم يقصره على عقائل البيوتات كما كان مقصورا عليهن في آداب الجاهلية بحكم الاصطلاح والعادة، يتبعه من يرضاه ويهمله من يأباه.
ثم زاد على هذا العرف منزلة من الرعاية لم تصل إليها أرفع النساء في أرفع البيوتات قبل الدعوة المحمدية؛ لأنه جعلها مناط التكليف، ووجه إليها الخطاب في كل شيء كما وجهه إلى الرجال، إلا ما هو من خصائص عمل الرجال في العرف المستقيم.
فالمرأة في شريعة الإسلام إنسان مرعي الحقوق والواجبات ...
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة .
وكل امرأة أو فتاة - من العلية أو السوقة - لا يصح زواجها حتى يرجع إليها فيه، «فلا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن» وعلامة إذنها السكوت، كما جاء في بعض الأحاديث.
ولها أن تملك ما تشاء وأن تبيع وتشتري ما تشاء، وأن تشترك في الإرث وكان حراما عليها؛ لأنها لا تحمل الدرع ولا تضرب بالسيف. بل كان من حق الرجل أن يتخذها هي ميراثا ينتقل إليه كرها كما يرث الخيل والإبل والحطام، فأبطل الإسلام ذلك حيث جاء في القرآن الكريم:
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها .
وقضى بأن تبايع النساء كما بايع الرجال، فلا تغني عن مبايعتهن مبايعة آبائهن وأزواجهن وأوليائهن، ونص القرآن الكريم على ذلك حيث جاء في سورة الممتحنة:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم .
Halaman tidak diketahui
وأبى الإسلام إلا أن يكفل لها حسن المودة كما كفل لها حسن المعاملة، وأن يوسع لها من حقوق البر والعطف كما وسع لها من حكم الشريعة؛ فأوصى المسلمين أن يستقبلوا ولادتها بالرضى، وزجر الذين يستقبلونها على غيظ وحرد:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .
ومن الآداب القرآنية أن يغالب الرجل كراهتها إذا تغير قلبه من نحوها عسى أن يثوب إلى حبها أو يكون في احتمالها خير له ولها:
وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا .
وكانت وصايا النبي
صلى الله عليه وسلم
على منهاج أوامر القرآن في إنصاف المرأة ورعايتها، فكان - عليه السلام - يقول: «خيركم خيركم للنساء ...» و«... ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم».
وأسند الوصاة بها في بعض الأحاديث إلى وحي جبريل حيث قال: «ما زال جبريل يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه يحرم طلاقهن.»
والتعليم الذي كان في بيوت السادة فلتة لا يقاس عليها بين الرجال فضلا عن النساء، جاء الإسلام فجعل «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» واستحبه - عليه السلام - حتى للإماء؛ حيث قال: «أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران.» •••
هذه هي المنزلة التي تبوأتها المرأة في الشريعة الإسلامية، وهذه هي المعاملة التي أوجبتها آداب الإسلام على المسلمين كافة، وهي أرفع من كل أدب ترقت إليه الجاهلية في الجوانب التي تهذبت فيها معاملة المرأة بين ذوي السيادة والحضارة من أهلها، وأضيفت إليها على عهد الإسلام جوانب شتى لم يكن للمرأة فيها أيسر نصيب من رعاية أو إنصاف.
Halaman tidak diketahui
ومهما يكن من الرأي في موقف العصور الحديثة من المرأة - وهو ما نعرض له في ختام هذا الكتاب - فالذي لا ريب فيه أن الإسلام قد رفعها درجات فوق أرفع منزلة بلغتها بين العرب أو بين الأمم الأخرى، وأن المسلم الذي يعمل بدينه يوليها من البر فوق ما طلبته لنفسها، لو أنها كانت في زمان يطلب فيه النساء لأنفسهن حقا من الحقوق. •••
ولم تكن تلك غاية المرتقى، فإن الفرائض الدينية تطاع ولا تطاع، وهي على هذه موكلة بالتعميم الذي يستوي فيه جميع المسلمين المخاطبين بالتكليف، وإنما طاعة التكليف فضيلة تعلوها فضائل الاختيار والرغبة والاشتياق إلى الإنجاز، كأن الإنجاز هو المثوبة التي تغني عن المثوبة الموعودة، وها هنا تتفاوت المراتب، وتترقى الفضائل من التعميم الشائع إلى الامتياز والرجحان، وتستبق النفوس حتى يكون العمل المفروض أمنية محبوبة يؤلم النفس أن تعاق دونها، ولا تبلغ الغاية منها.
وتلك عليا مراتب الأنبياء، وهي المرتبة التي سما إليها صاحب الدعوة الإسلامية بما تهيأ له من تمام الأريحية الإنسانية، وملاك الفطرة النبوية.
فالحق أن محمدا - عليه السلام - لم يفرض على نفسه الشريفة محاسنة المرأة كما تفرض الأوامر السماوية على من يطيعها ولا مسرة له في طاعتها، ولكنه حاسنها فطرة كما حاسن كل مخلوق حي ولا سيما الضعفاء، وجعل البر بها مقياس المفاضلة بين أخلاق الرجال، وعنوان المنافسة في طلب الخير والكمال، فقال غير مرة: «خيركم خيركم للنساء.»
وبلغ من ذلك أنه يأوي إلى البيت «فيكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة»، وأنه استحب خدمة الزوجة في منزلها فقال: «خدمتك زوجتك صدقة» وكان أكيس رجل في معاملة أهل بيته، يشفق أن يرينه غير باسم في وجوههن، ويزورهن جميعا في الصباح والمساء، وإذا خلا بهن «كان ألين الناس، ضحاكا بساما» كما قالت عائشة رضي الله عنها.
ومن المبالغات المألوفة في تناهي الرحمة أن يقال: «إنه أرحم به من أمه وأبيه».
لكنه - عليه السلام - كان حقا أرحم بأهله من آبائهن وأمهاتهن حتى الذين اشتهروا بالحدب الشديد على ذوي الرحم كأبي بكر الصديق رضوان الله عليه.
ففي الأحاديث عن عائشة أنها قالت: «كان بيني وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كلام. فقال: من ترضين أن يكون بيني وبينك؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟ قلت: لا، ذلك رجل هين لين يقضي لك. قال: أترضين بأبيك؟ قلت: نعم. فأرسل إلى أبي بكر فجاء، فقال: اقصصي! فقلت: بل اقصص أنت ... فقال: هي كذا وكذا ... فقلت: اقصد! فرفع أبو بكر يده فلطمني، وقال: تقولين يا بنت أم رومان: اقصد؟ من يقصد إذا لم يقصد رسول الله؟ فجعل الدم يسيل من أنفي، وقال رسول الله
Halaman tidak diketahui
صلى الله عليه وسلم : إنا لم نرد هذا ... وجعل يغسل الدم بيده من ثيابي، ويقول: رأيت كيف أبعدك الله منه ...»
وكان بره بمن مات من أزواجه أكرم من بره بمن يعشن معه ويراهن كل يوم. فلما ماتت زوجته الأولى خديجة - رضي الله عنها - حزن عليها، وسمى العام الذي قبضت فيه «عام الحزن» ووفى لذكراها طوال حياته، حتى لقد كانت عائشة تغار منها وهي في قبرها أشد من غيرتها من زوجاته اللواتي يعشن معها في كنفه، وقالت له يوما: هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها؟ فقال لها مغضبا: «لا والله! ما أبدلني الله خيرا منها. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.»
وإن هذا الوفاء لذكرى الزوجة الغابرة لخليق أن يرضي المرأة - حين تنسى غيرتها - أشد من رضاها عن مكاشفتها بالتفضيل في حياتها لجمالها وشبابها ونعيم عشرتها وصفائها. •••
ونحن لا نعتسف التوفيق والترتيب حين نقول عن ربة هذا الكتاب - عائشة بنت الصديق - إنها لوحظت في آداب العرب والإسلام كأنها الوجهة التي اتجهت إليها هذه الآداب في طريق الارتقاء والتهذيب.
فمن قسمتها في آداب العرب النسائية أنها نشأت في خلاصة تيم الذين اشتهروا بظرف الرجال وتدليل النساء.
من قسمتها في الإسلام أنها ملكت حقوق المرأة المسلمة وتجاوزتها؛ فملكت الحظوة التي يضفيها على نسائه نبي كريم، يتجاوز الحقوق المفروضة صعدا في معارج الكمال، وكانت هي بعد هذا صاحبة الحظوة الأولى بين هؤلاء النساء.
إنها لمجدودة من بنات حواء، ولهذا الجد السعيد شأن أي شأن في تاريخها الذي اتصل بتاريخ الإسلام.
المرأة الخالدة
إن المرأة التي اجتمعت لها خلاصة الرعاية في آداب أمة من الأمم لذات شأن في تاريخ قومها لا يسهو عنه باحث موكل بدراسة التاريخ أو دراسة الآداب.
وأعظم من ذلك شأن المرأة التي كتبت لها خلاصة الرعاية في دين من الأديان، والتي اشتركت في سيرة النبي المرسل بذلك الدين، ونقلت أحاديثه في أحكام شريعته وخطرات ضميره، ولقيت عنده الحظوة التي لم تلقها واحدة من النساء.
Halaman tidak diketahui
والسيدة عائشة - رضي الله عنها - هي هذه، وهي تلك.
هي المرأة التي لوحظت في آداب الأمة العربية كأنما استخلصت لها هذه الآداب لتظفر منها بالرعاية الأولى.
وهي المرأة التي قال عنها النبي - عليه السلام - إنها أحب الناس إليه، وتلقى الأعقاب عنها مئات الأحاديث التي عرفوه بها في دينه ودنياه.
وكلاهما شأن عظيم يبوئ الإنسان بين قومه مكانا ملحوظا من جوانب التاريخ ...
ولكن السيدة عائشة مع هذا وذاك تهم الباحثين والمؤرخين لسبب آخر غير هذين السببين، أو للسبب الآخر المتمم لهذين السببين؛ لأنها المرأة في تكوينها الأصيل الذي خلقه الله منذ خلق حواء، أو هي المرأة التي تتمثل فيها الأنثى الخالدة التي لا تحتويها أمة واحدة، ولا يستأثر بها زمان واحد؛ لأنها استمدت من طبائع الإنسانية كل ما قدر لها من دوام.
وهذا هو جانب الاهتمام الصميم بكل عظيمة وكل عظيم.
فمهما يقل القائلون في غرض المؤرخ من سير العظماء، فالحقيقة التي لا ريب فيها عندنا هي أن الغرض الأول أو الغرض الذي تنتهي إليه جميع الأغراض هو توثيق الصلة بين الإنسانية وبين عظمائها وعظيماتها، والنفاذ إلى الجانب الإنساني من كل نفس تستحق التنويه والدراسة.
وما من علامة هي أصدق دلالة على السيرة الناجحة من هذه العلامة.
فنحن نعلم أننا سائرون على الجادة في التعريف بصاحب السيرة أو صاحبتها إذا نظرنا فرأينا أننا قد وصلنا من تلك السيرة إلى صميم الإنسان.
ونحن نعلم أننا تائهون في الطريق إذا نظرنا فلم نجد بين أيدينا إلا سرابيل العظمة، وأقواس النصر، ومواكب الرهبة والخشوع.
Halaman tidak diketahui
نحن إذا فهمنا النبي نبيا وكفى فإنما وصلنا بين ضميره وضمائرنا، وبين محراب العبادة عنده ومحراب العبادة عندنا.
ونحن إذا فهمنا البطل بطلا وكفى فإنما وصلنا بين قدرته وقدرتنا، وبين ضخامته بالقياس إلينا وضآلتنا بالقياس إليه.
ونحن إذا فهمنا الرئيس رئيسا وكفى فإنما وصلنا بين مركزه في الأمة ومركزنا، وبين الحقوق التي له والواجبات التي عليه، والحقوق التي لنا والواجبات التي علينا.
ولكننا إذا فهمنا النبي إنسانا فقد فهمناه كله، وفهمناه على حقيقته التي تعنينا، وتعقد له أواصر القرابة فيما بينه وبيننا؛ لأننا وصلنا بين الإنسان فيه والإنسان فينا.
وكذلك البطل، وكذلك الرئيس، وكذلك كل ذي شأن يستحق البحث فيه.
هم غرباء حتى يقال: هذا هو الإنسان! فإذا هم الأقربون الذين ترضينا عظمتهم؛ لأنهم منا ونحن منهم، ولأنهم خالدون خلود الإنسان من وراء الأقوام والأزمان.
والسيدة عائشة - رضي الله عنها - مثل من أمثلة الأنوثة الخالدة في جميع أقوامها وجميع عصورها.
فضلها في الكتابة عنها أنها كتابة عن تلك الأنوثة التي نلمحها حولنا ونلمحها من قبلنا في كل أنثى.
وأنها ترينا النبي في بيته فترينا الرجل الذي ارتفع بالنبوة إلى عليا مراتب الإنسانية، ولكنه مع هذا هو الرجل في بيته كما يكون الرجال بين النساء على سنة الفطرة المعهودة من آدم وحواء.
وفضلها على الجملة أنك تقرأ من أخبارها ما تقرأ فلا تزال تقول بعد كل خبر ترويه أو يرويه غيرها: أجل، هذه هي الأنثى الخالدة في كل سمة من سماتها.
Halaman tidak diketahui
هذه هي الأنثى الخالدة في غيرتها، وهذه هي الأنثى الخالدة في دلالها، وهذه هي الأنثى الخالدة في كل ما عرفت به الأنثى من حب الزينة وحب التدليل والتصغير وحب التطلع وحب المكايدة والمناوشة، ومكاتمة الشعور والتعريض بالقول، وهي قادرة على التصريح.
وكل لون من ألوان الغيرة التي تتراءى في طبيعة المرأة فهو باد في خبر من أخبار السيدة عائشة كأوضح ما يبدو، وأصدق ما يكون في طبائع النساء.
والغيرة في طبائع النساء ألوان:
تغار المرأة على قلب الرجل الذي تحبه ولو شغلته الذكرى ولم تشغله المودة الحاضرة؛ لأنها تعلم من هذا أنها لم تشغل قلبه كله، وهي تأسى على كل ما يفوتها من شواغل ذلك القلب، ولو لم تكن ثمة منافسة محذورة.
وتغار المرأة من المرأة الجميلة، وإن لم تنافسها على رجل تحبه، وتغار من شريكتها في رجلها كائنا ما كان حظها من الجمال، وتغار من كل مزية غير الجمال ما كان فيها سبيل إلى الحظوة في القلب الذي تريده لها، ولا تطيق المزاحمة عليه.
و«الأنثى الغيرى» في جميع هذه الألوان من الغيرة النسائية ماثلة هنالك في سيرة عائشة، كما روتها هي وكما رواها غيرها، ما من فارق بينها وبين سائر النساء إلا الأدب الذي ينبغي لها، والحق النبوي الذي هي جاهدة جهدها أن توفره وترعاه.
كانت السيدة خديجة متوفاة منذ سنوات يوم بنى النبي بالسيدة عائشة، لكن السيدة عائشة كانت تغار منها غيرة لم تنطو على مثلها لشريكاتها اللواتي يعشن معها؛ لأنها شغلت قلب النبي بعد وفاتها، فلم يزل يذكرها، ويحب لحبها من كان يزورها أو يراها.
وكان - عليه السلام - يبر بعض العجائز، فسألته السيدة عائشة في ذلك فقال: إن خديجة أوصتني بها ... فقالت مغضبة: خديجة، خديجة ... لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة!
وعلى حلم رسول الله ربما غضب أحيانا من ثورتها على ذكرى خديجة. فغضب في هذه المرة وتركها فترة، ثم عاد وأمها - أم رومان - عندها فقالت له أمها: يا رسول الله! ما لك ولعائشة؟ إنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها؛ فلم يدعها حتى أخذ بشدقها معاتبا وهو يقول لها: ألست القائلة: كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة؟!
وسألته مرة: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيرا منها؟ فأسكتها قائلا: «والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها.»
Halaman tidak diketahui
أما شريكاتها اللواتي كن يعايشنها في بيت النبي، فربما كانت تغار من إحداهن لطعام يستطيبه النبي عندها فضلا عن الغيرة من الجمال أو الملاحة.
تعود - عليه السلام - أن يستطيب العسل الذي تهيئه له «زينب بنت جحش» من أجمل أمهات المؤمنين وأحظاهن عنده، فأجمعت رأيها مع صديقتها «حفصة بنت عمر» أن يبغضاه في عسلها، وقالت فيما روته عن نفسها: «... فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟ وهي طعام من صمغ حلو ولكنه كريه الرائحة، ولم يكن أبغض إلى النبي - عليه السلام - من رائحة كريهة ... فلما دخل عندها رسول الله قالت: إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود إليه!»
وقد عرفت زميلتها السيدة صفية بجودة الطهي، وهي في الأصل إسرائيلية من أهل خيبر؛ فنفست عليها السيدة عائشة هذه الإجادة ولم تكتم منها، بل هي التي روتها، ومن حديثها عنها عرفناها. قالت: «ما رأيت صانعة طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله طعاما وهو في بيتي فأخذني أفكل - أي قشعريرة - فارتعدت من شدة الغيرة فكسرت الإناء ثم ندمت، فقلت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام.»
وهذه غيرتها من زميلات لم يجهرن بالمنافسة والمغايظة، وهي بالبداهة دون غيرتها من الزميلات اللواتي كن ينافسنها جهرة ويكاشفن النبي - عليه السلام - بالشكوى عن تفضيلها عليهن في المودة والحظوة، وعلى رأسهن أم سلمة التي شهدت على نفسها والنبي يخطبها أنها غيور لا تطيق المنافسة، فكان - عليه السلام - يجاملها ليذهب غيرتها، وتغضب عائشة من هذه المجاملة على علمها بمكانتها عنده، قالت: دخل علي يوما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقلت: أين كنت منذ اليوم؟
قال: يا حميراء كنت عند أم سلمة.
قلت: ما تشبع من أم سلمة؟
فتبسم. ثم قلت: يا رسول الله، ألا تخبرني عنك لو أنك نزلت بعدوتين إحداهما لم ترع والأخرى قد رعيت، أيهما كنت ترعى؟
قال: التي لم ترع!
Halaman tidak diketahui
قلت: فأنا ليس كأحد من نسائك، كل امرأة من نسائك قد كانت عند رجل، غيري ...
فتبسم عليه السلام.
وإذا كانت أكلة أو شربة عسل تستطاب عند إحدى الزميلات أو مجاملة لإحداهن جبرا لخاطر ومداراة لغيرة، تثير هذه المنافسة وتغري بهذه المؤامرة، فليس من العسير أن نفهم كيف تكون الغيرة التي تثيرها الذرية المحبوبة المرقوبة حين يرزقها النبي من إحدى زوجاته، وقد حرمها من سائرهن سنوات، وهو شديد الكلف بها والتطلع إليها. تلك إذن غيرة لا تمسكها الحدود ولا تكبحها المجاملات.
وقد ثارت ثائرتها يوم ولد له - عليه السلام - ابنه إبراهيم من مارية القبطية، وكانت على هذه المزية التي امتازت بها جميلة بيضاء، تغار منها الزميلة لجمالها وصباحتها فوق غيرتها منها لهذه الأمومة التي تفردت بها بين تسع نظيرات.
قالت كتب السير: وغارت زوجات النبي ولا كعائشة.
لأن عائشة - رضي الله عنها - كانت صاحبة المكانة الأولى التي ترفعت إليها «مارية» بأمومتها، فهي أحق بالغيرة على تلك المكانة من سواها.
ولا ريب في حب عائشة للنبي ولا في سرورها ورضاها بما يسره ويرضيه، ولكننا نطالب الطبيعة الإنسانية - والطبيعة النسوية - بما يرهقها إذا نحن ترقبنا منها أن تسر بما يثير غيرتها، وأن تحب الرجل ثم تسر بما عسى أن يصرف حبها عنه، أو ينقص سهمها فيه.
فمن الطبيعي أن تسر المرأة بسرور الرجل؛ لأنها تحبه.
ومن الطبيعي كذلك أن تغار من السرور الذي يحببه إلى غيرها؛ لأنها تحبه.
وقد يفترق القلبان في لحظة من اللحظات؛ لأنهما مقتربان أشد اقتراب.
Halaman tidak diketahui
وهذا الذي حدث عند مولد إبراهيم من مارية القبطية - وهي فتية جميلة رضية - يدنيها من قلب النبي شتى المزايا، وأولاها هذه المزية التي تربى على كل مزية.
فلما رأت عائشة فرح النبي بالوليد المرموق، وأحست شغف النبي به جاهدت نفسها أن تغالب غيرتها فلم تقو على هذه المغالبة، وقال لها يوما: انظري إلى شبهه! فلم تملك لسانها أن تقول: ما أرى شيئا ... وربما أعجبه نمو الوليد ولفتها إلى بياضه ولحمه وترعرع جسمه، فيعز عليها أن تعجب مثل عجبه؛ لأنه هكذا كل طفل يشرب من اللبن ما يشرب إبراهيم!
وكان غضب النبي من غيرتها غضب تأديب وتهذيب، لا غضب سخط وتأنيب. فكان يعذرها فيما يمسه ولا يعذرها فيما ينبغي لها أن تتوخاه أو تتحراه، أو فيما يحسن بالمرأة التي أحبها هذا الحب أن تقلع عنه وتعرف موضع الملامة فيه.
فقلما لامها في شيء يمسه من غيرتها، ولكنه كان لا يسكت مرة عن مؤاخذتها على فلتات هذه الغيرة التي تمس بها أناسا آخرين، فيؤاخذ مؤاخذة المؤدب الرفيق، ولا يدع لها أن تعيد ما آخذها عليه.
عابت أمامه زوجته السيدة صفية فذكرت من عيوبها أنها قصيرة، فكره أن تمضي في حديثها، وقال: «يا عائشة! لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته.»
وحكت أمامه إنسانا فلم يعجبه ما يعجب الزوج المحب من هذه الفكاهة التي تسوغ وتستملح في ذوق كثيرين، ونهاها أن تحكي الناس حكاية استهزاء. •••
ومن «الأنثويات» الخالدة في طبيعة المرأة دلالها ومغاضبتها وهي أشوق ما تكون إلى المصالحة وتقصير أمد المغاضبة.
وللسيدة عائشة نوادر شتى في هذا الدلال الذي شابهت به كرائم قومها، وزادت عليهن بما بلغته من المنزلة التي لم يبلغنها.
غضب النبي من نسائه لكثرة منازعاتهن، وإلحافهن عليه بطلب المزيد من النفقة والزينة، فأقسم ليهجرهن شهرا، وشاع بين المسلمين أنه طلقهن جميعا!
وكان لهذه الإشاعة بين المسلمين رجة أي رجة؛ لأن تطليق النبي زوجاته جميعا هو أكبر طارق يتعرض له - عليه السلام - في بيته، ويمتد أثره إلى القبائل والبيوت التي كانت تجمعه بها صلة المصاهرة. وفي وسعنا أن نتخيل تلك الرجة بين الصحابة إذا علمنا أن صاحبا لعمر بن الخطاب سمع بالنبأ ليلا فأسرع إلى بابه يدقه دقا شديدا، ويسأل عنه في فزع: أثم هو؟ فلما خرج إليه قال صاحبه: حدث أمر عظيم. قال عمر: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق النبي
Halaman tidak diketahui